محاكمة الأفكار ـ هادي معزوز

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

abstract-wallpapers 2560x1920هل يمكن الاعتقاد بأفكار صائبة لا يمسها الخطأ، ولا تسقط طريحة المعاودة وإعادة الترتيب؟ وهل بإمكان الإنسان تحقيق التطور والسمو بنفسه وبالعالم وهو الراكن إلى أفكار يظن أنها ليست من التغير بشيء؟ هل تعتبر الأفكار بريئة بحق، أم أنها أفكار مجردة عن كل حكم أخلاقي محض؟
    عندما نعود لتاريخ الإنسان ومعه تاريخ العالم بصفة عامة سنلاحظ أنه تاريخ تَخَبُّطٍ وَتَيْهٍ، تاريخ البحث على الحقيقة ليس لفحصها وإنما لامتلاكها، الإنسان كائن فضولي بطبعه لا تستوي لديه إرادة الحياة إلا بالبحث عن الحقائق، وبما أننا فقدنا الأمل في هذا البحث الأجوف ومنه قد تنهار المنظومة الإنسانية عن بكرة أبيها، فقد تمكنت الميتافيزيقا من إيجاد شيء ينتفي وطابع التغير والذي ليس إلا الهوية، أي تلك الفكرة التي تحتضن مبدأً ما كي يصبح قاعدة لا تؤمن بسيرورة الزمن ولا بصيرورته، والحال أن الميتافيزيقا وبفضل جنوحها للطمأنينة ساهمت في ظهور الأفكار الثابتة المبنية أساسا على الهوية وطرد الاختلاف.

    إذا تأملنا في هاته المعادلة سنجد أن الأفكار تبقى دوما بمعزل عن كل حكم جمالي أو أخلاقي أو إبستيمولوجي، لا توجد فكرة خاطئة كما لا توجد فكرة صحيحة، بقدر ما توجد أفكار كاذبة تُزَيِّفُ الواقع بفضل من يمتلك القوة والسيطرة، وكما نعلم فإن إرادة الحياة هي إرادة القوة في نهاية الأمر والعكس بالعكس، خذ بنا مثلا إلى فكرة دوران الأرض حول الشمس، هاته الفكرة لم تكن مقبولة بتاتا قبل الثورة الكوبرنيكية ــ وإن جاء بها شخص قبل هذا العالم البولوني بكثير ألا وهو الفيلسوف اليوناني أرسطوخارس ــ لكن وبفضل تراكم المعرفة الإنسانية لم تعد فكرة مجنونة بقدر ما أصبحت عين الصواب، لقد قلبت ذلك المثل الفقهي الشهير حيث أصبح الشاذ هو من يقاس عليه وليس العكس، إنه انتصار لفكرة على حساب أخرى والتي باتت مهددة اليوم بفضل مجموع الأبحاث الفلكية...
    الأفكار تموت دوما لصالح أفكار أخرى، والواقع أن الإنسان لو آمن بهذا القول لتفادينا حروبا عديدة لأن الإنسان ومنذ أول جريمة إلى حد الساعة يقتل باسم فكرة ما، معتقدا أن فكرته صائبة وفكرة الآخر خاطئة، جاعلا من منطلقه معيارا غير قابل للجدال، متجاهلا في الآن نفسه أن الإنسان مقياس الأشياء جميعها، هو مقياس وجود ما يوجد منها، ومقياس لاوجود ما لا يوجد كما قال بروتاغوراس، وبما أن الأمور تسير على هاته الشاكلة فإن ما قد يراه الأول عين الحقيقة، قد يراه الثاني مصدر الشرور ومنبع الأخطاء.
    عندما نعود إلى أهم التغيرات التي لحقت بالإنسان نجد أن الأفكار هي من كانت تحركه، إذ عندما نشبت الحروب السياسية انطلقت أولا من فكرة ما، والقوي هو من يجبر الضعيف على اعتناق فكرته في مشهد مثير للسخرية والتأسف في آن واحد، نفس الأمر أيضا مع الحروب الدينية حيث أُزيل من الشخص اعتقادا دينيا ما لصالح آخر، مؤمنا أشد الإيمان أن ما أحمله في ذهني هو القوي، وأن المختلف عني لازال ضالا طريقه واعتقاده، التاريخ يشهد على هذا القول من خلال كبريات الغزوات والحملات وأشنع أنواع التقتيل بين الناس، الفكرة إذن هي المنطلق وهي المنتهى.
    عندما انتصر العقل في أوربا على حساب الكنيسة تمكن فلاسفة وأدباء عديدون من إماطة اللثام على خطورة الركون لفكرة على حساب أخرى، وهو ما جعلهم يعملون على تبديد هذا المعتقد الخاطئ ابتداءً من ديكارت التي أرسى دعائم الشك في المسلمات الدوغمائية، إلى كانط الذي أطلق صرخته المدوية في مقاله الشهير ما الأنوار؟ عندما دعا الإنسان إلى الخروج من حالة النوم، إلى العودة لذاته ولو مرة واحدة، آنذاك سيتخلص كل فرد منا من أفكاره الثابتة ومن تبعيته المطلقة، نحو الإحساس بوجوده المستقل عن وجود الآخر، لينهي فلسفته في هذا الأمر بكتابه المعروف : نحو سلام دائم، وهو الذي تنبأ بأن الصراع حول الأفكار وأحقيتها من ضعفها قد يأتي على الأخضر واليابس.
    في عالمنا العربي لا زلنا بحاجة كبيرة للعودة إلى الشك في بعض البديهيات التي جمدت تاريخنا، والتي صنعت ولا تزال تصنع منا أشخاصا ننتج نفس الفكرة، هذا وإذا أضفنا عليها شيئا، فإنه يتنافى وأصلها، أما إذا غيرناها فإننا لا نغيرها بفكرة خلاقة تنشد الاختلاف، وإنما بفكرة أكثر جذرية من الأولى، كلنا نحمل أفكارا ونؤمن بها، بل ونتمنى أن تصبح معيارا يحتدى به، صحيح أن الأفكار التي تدعو للاختلاف والنقاش وطرح السؤال على كل الأشياء، تبدو مقبولة وإن قليلا بفكرة تكفر وتطرد باقي الأفكار، لكن الغريب كل الغرابة هو عندما نؤمن إيمانا متطرفا بما نعتقد به لدرجة أننا نحاكم الآخرين، حيث يصبح المشهد أكثر سريالية عندما نحمي هاته المحاكمات باسم القانون، فنُجَرِّمُ الذي يعتنق ديانة غير ديانتنا، ونعتقل الذي يشكك في بعض ممارساتنا، ونعتبر شاذا من يدعو لتجديد بعض مسلماتنا وفق بنية العصر، والحق أنه لغير منطقي أن نحكم على الآخر بفكرته لدرجة وضع الحد عليه، صحيح أن الفيلسوفة الألمانية حنا أرندت قد اعتبرت محاكمة الأفكار جريمة في ذاتها لا يقبلها لا العقل ولا المنطق خلال خمسينيات القرن الفائت، بيد أننا نعيد هذا النقاش للمرة المائة وإن مرت عليه عقود من الزمن مادمنا نحاكم الأشخاص انطلاقا من أفكارهم، ومادام الآخر يعتبرنا أمة جاهلة وهمجية لأنها لا تقبل من يخالفها لدرجة سفك دمائه والتشنيع بذلك بل والافتخار به، فهل يحق لنا الآن أن نعيد هذا النقاش كي نصنع مجتمعا قائما على الأفكار وليس على توتاليتارية فكرية محضة.   
              

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟