المؤمنون ـ قصة : عبد الرحيم اجليلي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse29054- هل نحن كفار يا أمي؟
نظرت إليه بحنو و عبرات الأسى تنضح من عينيها، يكاد قلبها ينفطر من شدة الرعب. تلك الرايات الحمراء التي تتوسطها مربعات بيضاء و سوداء، كقطعة شطرنج ضخمة، تلاعبها الرياح على الهضبة المقابلة لحصن تاكرارات، أولئك الجنود المدججون بالدروع و السيوف و المتأهبون للانقضاض على المدينة و زرع الموت بين سكانها و الخراب في عمرانها.
- لا أدري يا بني عما يتحدثون، حروب الرجال يخلعون عليها لباس الكفر و الإيمان،  هؤلاء مجسمة و هؤلاء خوارج.  لا هم لهم سوى المال و الذهب، لا يبتغون سوى السلطة و الجاه. نحن غنائم جنونهم يا بني، رحماك يا رب.
لم يكونا الوحيدين اللذين اعتلا سطح البيت لينظرا من بعيد إلى جنود الموحدين، تتربص بمكناسة، تحاصرها، و تتحين فرصة الهجوم النهائي. امتلأت أسطح المنازل بالعيون المترقبة، أكف ترفع للسماء و حناجر تلهج بالدعاء.
- فاطمة، يا فاطمة، علينا أن نذهب للسوق، اقترب وقت الضحى، و المؤن شحيحة و التجارة كاسدة

يهيم الرجل و زوجته و ولده، في سوق الغبار،  بين بعض الغنيمات الهزيلة هنا و هناك،  حزم من الخضر شحب لونها، و نتف من البضائع  فقدت نضارتها.  الباعة أكثر من المبتاعين، و جنود الوالي يتطلعون في الوجوه و يبحثون عن الغرباء، فلو عرف جيش الموحدين قدر الوهن الذي أصاب مكناسة، لدخلوها و ما أبطؤوا.
- هل نحن كفار يا أبي؟
تحسس الرجل سيفه، دون أن يلتفت لولده، أجال ناظريه حول أرجاء المدينة و أرخى العنان لسهوة تجلو أفق السماء، دربته الطويلة في المعارك جعلت لسمعه شأوا في رصد أصوات الجلبة و لو بعدت المسافات. خيل و رجل على أبواب المدينة، يتقدمون بلا مقاومة، بل بالأفراح و الزغاريد. إنه مدد أمير المسلمين، جنود الله الذين سينقذون مكناسة من خوارج المعصوم الأشر. لباسهم و مهاريسهم، خيولهم الموشاة وتمايلهم على صهواتها، وجوههم الملثمة و بريق عيونهم.
 ترك الناس قفافهم و زنابيلهم، و هرولوا كالمهابيل للقيا جيش المرابطين و الترحيب به. نزلت الجموع من فوق الكدية مهللين و مكبرين، تتطاير عمائم الرجال و أكسية رؤوس النساء، و لا يبالون.  سبق الصبية و الغلمان الجمع  لخفتهم و رشاقتهم، و رأوا قبل غيرهم، قطع الرقاب و إعمال السيوف. إنقلب الملثمون ضواري متوحشة،  ضبحت أفراسهم و استحالت زغاريد النساء صراخا و عويلا.
- لا تتحركي من هنا، سأبحث عن أحمد، لقد خدعنا خوارج المعصوم الكذاب، و خليفته المجرم
استل الزوج سيفه، و نزل الكدية كالطود، كل الناس صعودا، هربا من بأس الحديد، إلا صاحبنا المكلوم، هزه فرق الوالد على ولده، و انطلق إلى الموت لا مباليا، كلما رأى جثمان طفل، نظر إلى وجهه مرتجيا ألا يكون أحمده.
أذن مؤذنهم للصلاة، و رفع إمامهم صوته مبشرا: أيها المجاهدون، أشكروا الله في سجودكم على هذا النصر المبين، على الكفرة أعداء الدين. سمعت فاطمة هراءه و ابتسمت ساخرة، حدقت في أقدام الجنود الذين يحرسون الأسرى و السبايا، ثم راحت تنظر إلى جهة بيتها، حيث كانت على السطح صباحا، تبصر محل سبيها مساء، مالت برأسها جهة وادي أبي الخيار، بحارة تاورة القديمة، هناك يرقد ولدها و زوجها، مع ما لا يعلمه إلا الله من شهداء الغدر و الخديعة. نزلت دمعة تتشبث بأستار الخد، بعد أن عزت الدموع، و تورمت الجفون.
طفل أسير يربت على كتف فاطمة، و بيده، يدير وجهها لتشاهد اللواء المرابطي الأبيض المرصع بشعار التوحيد، يرفرف على مئذنة جامع النجارين. إتسعت حدقاتها، مسحت دمعتها، أفردت طولها، و بكل ما أوتيت من قوة، أطلقت زغرودة، إرتجت لها كل أركان المدينة.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟