فلسفـة و تربية

مِهَادٌ إِشْكَالِيٌّ:
يعتبر أوليفيي روبول (1925-1992)، من فلاسفة التربية الفرنسيين المعاصرين، والذي سيعمل على نقد البِيدَاغُوجِيَتَيْنِ التَّلْقِينِيَّةُ والوَظِيفِيَّةِ، هذه الأخيرة الجنيسة بمقاربة التدريس بواسطة الأهداف، كما أنه ينتقد بشدة جميع أنماط الخطاب البيداغوجي التي كانت سائدة، أقصد هنا الخطاب الرافض، والمجدد، والوظيفي، والرسمي، وذلك من خلال موقعه كَمُحَلِّلَ خطاب بيداغوجي، حيث يستعمل المنهج الفلسفي التحليلي في حقل التربية والتعليم، وكل هذا كان بغرض مجاوزة الخطب التربوية التي كانت سائدة، واقتراح خطاب تربوي حديث، قائم على الحرية، لهذا سينادي بالتعليم الحقيقي، بدل التعليم الذي كان سائدا آنذاك في فرنسا والذي يستند على المقاربتين التلقينية والوظيفية، أي تلك التي ترتكز على مقاربة التدريس بواسطة الأهداف. وهذا ما سنتعرف عليه في هذا المقال.

نمر الآن لطرح مجموعة من الأسئلة المنظمة الموجهة للتحليل والمناقشة النقدية والتي تعبر عن إشكالات فلسفية كبرى عرضها أوليفيي روبول أثناء نقده التحليلي للخطابات البيداغوجية، وهي كالآتي:

  • ماذا يقصد روبول بالتربية ؟
  • ماهي النقود التي وجهها أوليفيي روبول للأنماط التعليمية ؟
  • ما الذي يقترحه روبول كتعليم حقيقي بديل عن التعليم السائد ؟
  • ما هي السلطة التي وجب فرضها على المتعلم إذا كان التعليم يفرض سلطة ؟

              عندما نتحدث عن التربية والتعليم لدى أوليفيي روبول، أول ما يجب علينا معرفته عنه، أنه يقدم تعريفات خاصة به للتربية، ذلك أن لكل فيلسوف تعريفه الخاص، واستعمالاته الخاصة به للمفاهيم، حيث لا نجد فيلسوفا عبر تاريخ الفلسفة اعتمد على تعريف من سبقوه خاصة عندما يرغب في التأسيس أو المساهمة في تشييد وبناء حقل فلسفي معين، والحقل الذي قصده روبول بهدف التشييد والبناء والنقد والهدم وإعادة المراجعة هو حقل التربية، فيقدم تعريفا خاصا به لها بقوله :

"ينبغي أن نفهم من التربية التكوين الشامل للإنسان، والذي لا يعتبر التكوين المختص والتعليم ذاته سوى أجزاء منه. فالتربية هي مجموع السيرورات والأساليب التي تسمح للطفل البشري بالوصول إلى حالة الثقافة، الثقافة بإعتبارها ما يميز الإنسان عن الحيوان" [1]، تجذر الإشارة هنا إلى أن هذا التعريف هو آخر تعريف توقفت عنده فلسفة التربية، وهو تعريف شهير جدا، يعتمد عليه حتى في الحقول المعرفية الأخرى، حيث أنه يجعل من التربية سيرورة إنسانية غرضها نقل الإنسان من الطبيعة إلى الثقافة، وما يميز هذا التعريف أيضًا هو جعله من التربية دو شأن إنساني، وهذا يؤكد قول كانط بأن الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يجب تربيته، حيث لا يمكننا أن نعلم الحيوان اللغات والعلوم والأخلاق والقيم، فالإنسان هو من يجوز تربيته وفقط، ذلك أنه "يمكن بدون شك تعليم الحصان في السرك [مثلاً]، بأن إثنان زائد إثنان تساوي خمسة، لكن لا يمكن أبدا تعليمها لإنسان" [2]، كما أن روبول يؤكد كثيرا على مسألة الثقافة الإنسانية الكونية، أي المشتركة بين جميع البشر، من هنا تتضح نزعته الإنسانية، حيث أن تعليم المرء ثقافة إنسانية مشتركة بين جميع أنواع البشر تحميه من السقوط في المذهبة.

" كما أن لهذه الدنيا شمساً يستضاء بها ويـُعرف بها الليل من النهار والأوقات والأشخاص والأجرام فكذلك للنفس نور تميز به بين الخير والشر وهو أشد ضياءً من الشمس ” أفلاطون .

مقدمة:

هو أفلاطون (427- 347) عنوان الفلسفة المثالية وملهمها، وهو من أكثر عقول الإنسانية في العصر القديم نبوغاً وإبداعاً وإشراقاً وعبقرية، ولا ريب أن نظريته تشكل منعطفا تاريخيا في الفلسفة الإنسانية، ولا غضاضة إذ يشار إليه إجماعاً بأنه المؤسس الأول للخط المثالي في الفلسفة، وقد قدّر للمثالية أن ترتفع على يديه إلى مستوى المذهب الفلسفي الشامل، فطرحت نفسها اتجاها معارضا للفلسفة المادية الممثلة بخط ديمقريطس وطاليس وهيرقليطس. وقد عرفت مدرسته الفلسفية التي أطلق عليها "الأكاديمية" بأنها أهم جامعة تنويرية في العصور القديمة، وهي التي استمرت تومض وتشعّ بأنوارها فلسفة وعلماً وعطاءً فكرياً في أثينا مدة تسعة قرون، وكانت لتبقى لو لم يصدر الإمبراطور جستنيان الروماني قرارا بإغلاقها وطرد فلاسفتها. وقد قيل في أفلاطون "إن الفلسفة نبتت على يديه واكتملت في حياته"([1]).

يتحدّر أفلاطون من أسرة أثينية عريقة في المجد، ولد في أثينا عام 427 ق. م وعاش حتى بلغ الثمانين من العمر، إذ توفي سنة 347 ([2]). كان أبوه يدعى أرستون وأمه فريقونية. ويقال بأن الاسم الأصلي لأفلاطون هو أرستوقلس، ولقب أفلاطون لسعة في جبهته واتساع في منكبيه، كان رجلاً وسيماً وشجاعاً فاز في حلقات السباق وفي حلبات والمصارعة. تتلمذ مدة ثماني سنوات على يد أستاذه سقراط، وكان يقول حباً فيه: "أحمد الله الذي خلقني يونانياً لا بربرياً، وحراً لا عبداً، ورجلاً لا امرأة، ولكن فوق ذلك كله أنني ولدت في عهد سقراط"([3]). وكان لعبقرية ذلك الرجل أن تتألق في كل العصور التاريخية، حتى قيل فيه "إن أفلاطون هو الفلسفة وإن الفلسفة أفلاطون".

 كان أفلاطون واعظاً وكاهناً وفيلسوفاً ، أسس "الأكاديمية" في 388 ق.م، وسميت هكذا لأنها أقيمت بالقرب من ضريح أكاديموس البطل الأسطوري اليوناني، وكتب على بوابتها "لا يدخل هذه الأكاديمية من لم يكن رياضيا".

كان عصر أفلاطون عصر حروب ومؤامرات ودسائس سياسية، الحرب بين الفرس والإغريق، الحرب بين أثينا وإسبرطة، المؤامرات بين الأحزاب والأرستقراطية والديمقراطية. وتحت تأثير تلك الظروف وعلى أثر مقتل سقراط قرر أفلاطون الترحّل في بلدان واسعة كإيطاليا ومصر وصقلية، وكات للأنظمة السياسية في تلك البلدان تأثير واضح على نمط تفكيره السياسي. وكان لإعدام أستاذه سقراط أثر كبير في توجهه نحو العمل السياسي في عصره، إذ كان حاقداً على الديمقراطية الأثينية التي أدت إلى مقتل العقل.

تمهيد:
أصبحت ظاهرة العنف تكتسي أهمية كبرى في السنوات الأخيرة، بحيث صارت موضوعا محوريا ومركزيا في النقاشات السوسيولوجية والسيكولوجية والأنتروبولوجية وكذلك عند مختلف الفاعلين والمختصين في العلوم الإنسانية والاجتماعية، أو حتى عند عامة الناس بمختلف مستوياتهم، سواء أكان العنف الممارس عنفا أسريا أو مجتمعيا أو مدرسيا أو مؤسساتيا أو غير ذلك من انواع العنف، وكذلك بشتى أشكاله وتلاوينه سواء أكان العنف عنفا نفسيا أو جسديا أو رمزيا أو لفظيا أو جنسيا أو غير ذلك. ومن هنا نطرح التساؤل التالي، لماذا أصبح العنف موضوعا مهيمنا في جل النقاشات التربوية والتعليمية والبيداغوجية والسوسيولوجية والأنثروبولوجية فالسنوات الاخيرة؟ أليست هناك مواضيع ومشاكل أخرى تعيشها المدرسة المغربية يتوجب علينا الإلتفات إليها من قبيل الاكتظاظ، وضعف التحصيل الدراسي، وعدم ملاءمة المناهج، وتغيير البرامج والمقررات في كل مرة، وقلة الموارد البشرية المؤهلة، إلى غير ذلك من الموضوعات العديدة والمتعددة، والتي لم تنل حظها من العناية والاهتمام بالدراسة والتحليل.

  إن ظاهرة العنف تكتسي أهمية خاصة، نظرا للعلاقة المباشرة التي تربط بين ممارسة العنف وبين طريقة تشكل شخصية الإنسان بصفة عامة والطفل بصفة خاصة، سواء تم ذلك داخل المدرسة أو المجتمع أو الأسرة. إن البحث في موضوع العنف يجيب عن أسئلة عميقة شغلت بال العديد من المفكرين والباحثين التربويين والمحللين النفسانيين حول مفهوم الشخصية وطبيعة تشكلها لدى الأطفال، وبالخصوص في السنوات المبكرة، وبالضبط في المجتمعات العربية ذات البنية الذكورية المحافظة أو ما يسمى بالمجتمعات البطريكية، والتي في الغالب ترسخ سلوكات خاطئة ومدمرة عند الأطفال ذكورا كانوا أو إناثا، هذه المجتمعات التي تعلي من سلطة الذكر على حساب الأنثى، ومن سلطة الكبير على حساب الصغير، ومن سلطة الشيخ على حساب الشاب، ومن سلطة الرجل على حساب المرأة، إلى غير ذلك من التراتبيات المجتمعية، مما يولد مع هذا النوع من السلط تجاوزات وخروقات تتجلى في ممارسة أشكال من العنف المادي والرمزي.

 وتعد هذه إحدى خصوصيات البيئة العربية، رغم ما تزخر به من قيم ومبادئ إسلامية تحث على تجنب ممارسة العنف بحق الأطفال وتؤكد على إعطاء قيمة كبرى لشخصية الطفل، لكي ينضج في بيئة سليمة، كما ورد ذلك في القران الكريم، يقول تعالى: (أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون)[1]، بمعنى أن حق اللعب لدى الأطفال مهم للغاية، ومقرر بنص قرآني صريح، إذ يسهم اللعب في تطوير شخصياتهم، ويمنحهم الاتزان النفسي الضروري، وذلك بعكس من حرموا منه، وهذا ما يقره مضمون الآية القرآنية منذ آلاف السنين، قبل أن تظهر المواثق الدولية التي تحث على احترام حقوق الأطفال وبالخصوص حق اللعب، وفي المقابل لم يلتزم إخوة يوسف بهذا الإقرار الصريح منهم بحق اللعب، وقاموا بإلقاء أخيهم في البئر، وهو نوع خطير من العنف الجسدي والنفسي ارتكب بحق أخيهم الطفل يوسف وهو ما يزال صغير.

1.تأثيرات التربية العنيفة على الأطفال.

إن ممارسة العنف على الأطفال تؤدي لا محالة إلى عواقب وخيمة على نبوغهم وعلى مستقبلهم وعلى تشكل شخصياتهم، من هنا يتبين لنا مدى أهمية دراسة العنف وتحليل عواقبه على الفرد ، ومدى الخطورة التي قد تسببها ممارسته على الأطفال بالخصوص، فالحصول على أطفال معنفين من قبل أسرهم أو مجتمعهم أو في مدارسهم ، يعيق تطور ونمو شخصياتهم بشكل سلس، ويعيق كذلك تحصيلهم الدراسي وتطوير مستواهم التعليمي، فرغم كم الأبحاث والدراسات العديدة التي أنجزت حول موضوع العنف عند الأطفال، مازال البحث في الموضوع يغري الباحثين والدارسين والمختصين، لأن مقاربته تتيح لنا فهم أبعاد أخرى للشخصية الإنسانية بصفة عامة وشخصية الطفل بصفة خاصة، إن جل الأطفال المعنفين أو الذين سبق وتعرضوا للعنف بأنواعه وأشكاله لا يتمتعون في الغالب بشخصية قوية وسوية، ويفتقدون في الغالب لعامل الثقة بالنفس، وجلهم لا يتمتعون بروح معنوية عالية وثقة تامة بالذات، تمكنهم من الاندماج السريع في مجتمعاتهم وفي أوساطهم الأسرية عن طريق الانخراط في مجموعة من الأنشطة الحياتية والمجتمعية سواء العادية أو التي تتطلب استخدام ذكاء معين.

 إن ممارسة العنف بأنواعه المختلفة تقمع كيان الطفل و تحقر ذاتيته الخاصة وتشل تطوره الطبيعي والسلس في المجتمع وتكبح نبوغه، وتعيق تبلور وتشكل شخصية مبدعة ومنتجة ومنفتحة على المجتمع، فالطفل المعنف بهذا المعنى السالف الذكر يرفع من نسبة الحصول على أطفال مسالمين، اتكاليين ، خنوعين يتملكهم الخجل، وعدمي الثقة بأنفسهم، إنهم تجسيد لعلاقة القهر والرضوخ التي يعاني منها الانسان المقهور، الذي لا يجد له من مكانة في علاقة التسلط العنفي هذه، سوى الرضوخ والتبعية، سوى الوقوع في الدونية لقدر مفروض[2]، فلا مناص إذن من إعادة النظر في طرق تفكيرنا وأساليبنا التربوية والبيداغوجية للحد من انتشار هذه الآفة المجتمعية، لأن معظم الأدبيات التربوية تتفق على أن كسب رهان الجودة داخل المنظومة التربوية مرتبط بتوفر شروط بيداغوجية ملائمة وتبني مقاربة نسقية تستحضر مجمل العوامل الكفيلة بدعم نجاعة المنظومة التربوية والرفع من أدائها[3]، والتي من بينها التخلي عن الممارسات الغير تربوية في تدريس الأطفال.

فلسفة التربية هي فرع من الفلسفة التطبيقية أو العملية التي تهتم بطبيعة التربية وأهدافها والمشكلات الفلسفية الناشئة عن النظرية والممارسة التربوية. ونظرا لأن هذه الممارسة منتشرة في كل مكان لدى المجتمعات البشرية وعبرها، ولأن مظاهرها الاجتماعية والفردية متنوعة جدا، وتأثيرها عميق للغاية، فإن الموضوع واسع النطاق، ويتضمن قضايا في الأخلاق والفلسفة الاجتماعية/السياسية، والإبيستيمولوجيا، والميتافيزيقا، وفلسفة العقل واللغة وغيرها من مجالات الفلسفة.

ونظرا لأنها تتطلع في الداخل إلى نظام الوالدية وفي الخارج إلى الممارسة التربوية والسياقات الاجتماعية والقانونية والمؤسسية التي تحدث فيها، فإن فلسفة التربية تهتم بكلا جانبي الفجوة التقليدية بين النظرية والممارسة. ويشمل موضوعها كلا من القضايا الفلسفية الأساسية (مثلا، طبيعة المعرفة التي تستحق التدريس، وطبيعة المساواة والعدالة التعليمية، إلخ..) والمشاكل المتعلقة بالسياسات والممارسات التربوية المحددة (مثلا، جاذبية المناهج والاختبارات الموحدة، الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والقانونية والأخلاقية لترتيبات التمويل المحددة، وتبرير قرارات المناهج الدراسية، إلخ). في كل هذا، يقدّر فيلسوف التربية الوضوح المفاهيمي، والصرامة الجدلية، والنظر العادل لمصالح جميع المشاركين في الجهود والترتيبات التربوية أو المتأثرين بها، والتقييم المستنير والمدروس للأهداف والتدخلات التعليمية.

لفلسفة التربية تاريخ طويل ومتميز في التقليد الفلسفي الغربي، منذ معارك سقراط مع السفسطائيين حتى يومنا هذا. قام العديد من الشخصيات الأكثر تميزا في هذا التقليد بدمج الاهتمامات التربوية ضمن أجنداتهم الفلسفية الأوسع (Curren 2000, 2018 Rorty 1998). وإذل لم يكن التاريخ محور التركيز هنا، فمن الجدير بالذكر أن مُثُل البحث المنطقي التي دافع عنها سقراط وأحفاده قد أبلغت منذ فترة طويلة وجهة النظر القائلة بأن التربية يجب أن تعزز لدى جميع الطلاب، قدر الإمكان، الاستعداد للبحث عن الأسباب والتفكير المنطقي والقدرة على تقييمها بشكل مقنع، والاسترشاد بتقييماتهم في مسائل الاعتقاد، العمل والحكم. هذا الرأي القائل بأن التربية تتضمن بشكل مركزي تعزيز العقل أو العقلانية، قد تم تبنيه بعبارات ومؤهلات مختلفة من قبل معظم تلك الشخصيات التاريخية؛ ولا يزال فلاسفة التربية المعاصرون يدافعون عنها أيضا (Scheffler 1973 [1989] Siegel 1988, 1997, 2007, 2017).

تقديم عام :
   يولد الإنسان ضعيفا لا يفصله عن عالم البهيمية إلا خيط هزيل، لكن التربية تسمو به و ترفعه الى مراتب الإنسانية، فما كان الإنسان ليكون إنسانا لولا التربية، و لو جاز لنا أن نحده بحدود تسيج كيانه فلن نقول إنه كائن عاقل أو ناطق، بل سنقول أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يربي و يربى، و الدليل على ذلك هو استحالة تصوره خارج إطار التربية، بل قد نغالي و نشاكس الفلسفات التي مجدت الإنسان باسم العقل و اللغة و الأخلاق أن هذه الأشياء كلها لا تحصل إلا بالرعاية، و الرعاية ليست شيئا أكثر من التربية، فالعقل يحتاج الى تهذيب إذا ما كان فطريا، و يحتاج الى تشذيب إذا ما كان مكتسبا، و اللغة لن تتجاوز حدود المحاكاة الطبيعية إذا لم يتم تطويرها عبر التربية انطلاقا من تجسير علاقتها بالثقافة، و ستبقى مهلهلة مفككة مفتقرة للنظام و الانسجام ما إن لم تتخذ التربية طريقا لها لتغتني و تتقوى، و أمارة ذلك أن لغة الشعوب البدائية التي تعيش نمط حياة أقرب الى الحيوانية لا تتعدى أن تكون لغة عيش فقط، لا لغة ثقافة و حضارة، و ليس ذلك قدحا و احتقارا لهذه الشعوب بقدر ما هو تشخيص واقعي حي لما هو حال الشعوب التي لا تتبع سبلا في التربية تستهدف الإبداع الفردي و الارتقاء بالمجتمع الى مستوى من التلاحم و التناغم  . أما الأخلاق فحسبنا أن لا شيء يصنعها إلا التربية، حتى و لو استغرقنا في التفكير في الأخلاق المجردة فإننا نغرق في المثالية، وكما تصنع التربية الأخلاق المثيرة للاستحسان تصنع أخلاقا جالبة للاستهجان، فبقدر ما تستطيع أن ترسخ الأخلاق الإنسانية تستطيع أن توسخها، و بقدر ما تستطيع أن ترصن العقل تستطيع أن تذلل عمله و تقوض رجاحته، و بقدر ما تستطيع أن تثري اللغة و تنمي من قدرات التواصل تستطيع أن تضعفها و تبددها، لذلك، لا يجب أن ننساق مع التصورات التي تلمع من صورة التربية و تعتبرها أساس إبداع الفرد و ازدهار المجتمعات، اللهم إذا ارتبطت بمنظور معين يحدد ما يجب أن تكون عليه، أي الغايات التي نسترعيها منها، و غايات التربية لا تخرج عن نطاق فلسفة التربية، صحيح أن هذه الأخيرة تنتهج نمطا من التفكير ينصب على ما ينبغي أن يكون، إلا أنها لا تكتفي بمهمة التعيير ( وضع معايير ) و إنما تفحص و تشخص ما هو كائن في حقل التربية إن قصد النقد و إن قصد التدخل، و قد يقول قائل أن البحث في التربية انطلاقا من الفحص و التشخيص اعتمادا على الاستقراء هو من اختصاص علوم التربية، و بالأخص السوسيولوجيا و السيكولوجيا و أن الفلسفة هي مجال التنظير فقط و لا يسعها أن تقوم بفعل التدخل لأن ذلك لا يتناسب مع طبيعتها، و الحق أن هذا القول لا يخلو من الصواب، لكن في جزء منه فقط، فعلوم التربية تقتصر على معاينة الفعل التربوي و ما يحيق به من ظواهر بغية حياكة شبكة من البيانات و المعطيات التي تكمم الواقع من أجل تفسير الظواهر التي تتشابك داخله، لكنها لا تتدخل في تغييره، أما الفلسفة فحسبها أن تحمل مشعل التغيير عملا بالأمر الماركسي الذي يقول أن الفلسفة قد اكتفت بتأويل العالم و التفكير فيه و آن أوان تغييره "، إذن، تضطلع فلسفة التربية بثلاثة وظائف : الأولى فحصية تسعى الى تفسير و فهم الفعل التربوي، الثانية تغييرية همها تغيير هذا الفعل مما هو كائن إلى ما يجب أن يكون، و الثالثة نقدية بمعنيين : المعنى الأول هو  نقد الفعل التربوي و فضح العيوب التي تتستر خلف الانطباع المسبق عن التربية، المعنى الثاني هو نقد جينالوجي يستهدف إذابة المحددات الأخلاقية و الضوابط الاجتماعية و السياسية التي تضفي على التربية طابعا ثقافيا، أي نزع ثوب الأخلاقية منها و العودة الى أصولها قبل أن تختلط بالثقافة و المجتمع و تتحول الى مجموعة من المعايير . و الأسئلة التي تخامرنا هنا هي: هل تحتاج التربية الى علومها أم الى فلسفتها ؟ و كيف يمكن للفلسفة أن تبلور تصورا عاما للتربية ينفذ من ضيق المحلية الثقافية الى أفق الكونية الإنسانية؟ و هل ما ينبغي أن يكون في التربية قد ينقلب الى ما هو كائن بفضل الفلسفة أم أن ما ستقدمه الفلسفة للتربية لن يكون إلا نماذج مثالية بعيدة المنال و مخيبة للآمال ؟ و ما الذي جعل التربية موضوعا للفلسفة ؟ و هل يمكن أن نربي بدون فلسفة ؟ هل من الضروري أن نفلسف التربية أي نخرجها من طابعها المألوف الى طابعها غير المألوف ؟

هذا كتاب قرأناه فشدّنا وأجاب عمّا انتظرناه منه (..) ولا نُغالي في شيء إن ذهبنا إلى أنّ كتابا في مثل قيمة «سوسيولوجيا التّربية: إضاءات نقديّة معاصرة» يصحّ فيه قولان للأديب التّونسيّ الكبير محمود المسعدي: «وإنّ هذا الكتابَ كالصّوت أو كالصّيحة في وادٍ به حاجة إلى ما يردّد صداه ويُسري فيه خَلجة الحياة.» و «وإنّ كلّ كيان لَجَهدٌ وكسبٌ منحوت».  د. [1]خير الدين زرّوق .

مقدّمة:

إنّ مسؤوليّة المثقّف الّذي يدعوه موقعُه والتزامُه إلى أن يطرح القضايا ويوقظ وعي النّاس ويسائل معهم الواقع ويبحث عن الحلول هي مسؤوليّة كبيرة جسيمة، إذ ينبغي عليه أن يرصد تحوّلاتِ المجتمع ويتفطّن إلى ما ينشأ من صيرورات وأطوار وما يستجدّ من أوضاع تنطوي على إشكالات وتحدّيات. وهو في نشاطه المعرفيّ ذاك يستند إلى روافد فكريّة نظريّة وإلى دراية واسعة بالميدان. يستحضر باستمرار السّياقَ الحاضرَ، ولا يُغفل الالتفات إلى الماضي، وتكون له القدرة - والجرأة - ليتطلّع إلى المستقبل.

ليس لزومُ الأبراج العاجيّة للتّأمّل المجرّد والجلوسُ على الرّبوة للتّفرّج ولترقّب الانهيار القادم موقفين يناسبين المفكّر الحقّ، وليس التّسليمُ بهذه الحتميّة العدميّة وبانتفاء القدرة على منعها حلاّ يَركن إليه ويرضى به، فالمنتظرُ منه أن يشارك في الخوض في مسائل عصره وأزماته، بل أن يكون في الطّليعة والمقدّمة، فيمثّل للنّاس مرجعيّة وسلطة اعتباريّة مأتاهما حملُه لرسالة ومهمّة تاريخيّتين في التّوعية والتّحفيز والإصلاح.

ويثقُل العبء وتعظُم المسؤوليّة في العصور الّتي يَعصف بها الشّكّ وتكثر فيها الاهتزازات. فعالمنا المليء بوعود التّقدّم والازدهار والمزهوّ بما أنتجته الحداثة من وسائل مادّيّة سهّلت العيش هو كذلك محفوف بالمخاطر وتنتشر فيه الآفات. وقيمة الإنسان وإنسانيّته في تراجع وانحدار يبعثان فينا الحيرة والفزع ويدفعاننا إلى إعمال العقل والتّدبّر.

ويواجه المجتمع العربيّ، ككلّ المجتمعات السّائرة في طريق النّموّ، عولمة لا يجد فيها مكانه ولا دوره وتقضي عليه بأن يرتدّ إلى الهامش وأن يكون تابعا. إنّه يتخبّط في الأزمات وينشدّ إلى القيود والجمود، وتدلّ كلّ مؤشّرات التّنمية - في شتّى مناحي الحياة - على أنّه في أدنى التّرتيب وأنّ مساهمته في المعرفة ضئيلة لا تكاد تُذكر. وهو في الغالب محكوم عليه بمجاراة الآخرين الّذين سبَقوه إلى التّقدّم، يتلقّى بانبهار ما ينتجونه ويعجز عن التّطوير والإضافة.

وإنّ ما عليه العالم من سمات التّعقّد والتّحوّل والتّموّج والاضطراب، وما يغلب على المجتمع العربيّ من سمات الرّكود والتّخلّف والتّبعيّة، يؤكّدان مكانة التّربية ويُبرزان الحاجة إلى تعميق التّفكير وتجديد المقاربات لإدراك هويّتها الاجتماعيّة والإمكانات المتاحة لتكون دعامة أساسيّة وعاملا إيجابيّا في تحقيق التّنمية والعدالة. ويكون ذلك بتطوير الدّراسات والبحوث واتّخاذ وجهة عقلانيّة موضوعيّة في تناول المواضيع التّربويّة وشرحها للنّاس وتوعيتهم بها.

 

" إننا نواجه اختيارا يتعين علينا أن نتخذه بشكل جماعي ، فإما أن ننفق المزيد الآن على التعليم في حالات الطوارئ والأزمات ، أو ندفع ثمن جيل مفقود من الأطفال غير المتعلمين بل المحطمين " .
( أنطونيو ليك – المدير التنفيذي لصندوق الأمم المتحدة لإغاثة الأطفال " اليونيسيف " 2020 )

استهلال : ( لذة النص Le plaisir du texte  )[1]

" ما أتذوّقه في قصّة من القصص، ليس هو مضمونها مباشرة، ولا بنيتها، ولكنّي أتذوّق بالأحرى الخدوش التي أفرضها على الغلاف الجميل : إنّني أركض، وأقفز، وأرفع رأسي، وأعود للغوص ثانية ، وليس لهذا أيّة علاقة بالتمزّق العميق الذي يرسّخه نصّ المتعة في اللّغة نفسها و لا في قراءته الزمانيّة البسيطة "
( رولان بارت ، لذّة النصّ Roland Barthes, Le plaisir du texte )

قبل حوالي خمس وثلاثين سنة تقريبا وتحديدا سنة 1985 من القرن الماضي نشر الكاتب والأديب الكولومبي " غابريال غارسيا ماركيز" ( Gabriel García Márquez ) روايته الشهيرة ( الحب في زمن الكوليرا – El amor en los tiempos del colera )[2] والتي تناول فيها وقتئذ مفردات تعودنا تكرارها خلال أيامنا هذه من قبيل : الوباء والجائحة والحجر الصحي واليأس والأمل والهزيمة والانتصار والتحدي والصمود والمستحيل والممكن...

وبعيدا عن أجواء الرواية وأحداثها[3] وما اكتنفها من نبوغ في السرد القصصي وسعة الخيال وسلاسة التعبير التي عهدناها ممن حاز على جائزة نوبل للآداب ( 1982) ارتأينا استعارة عنوان الأثر الأدبي المشار إليه قصد اسقاطه على واقعنا التربوي الحالي.. لنجد أنفسنا في صميم الحقل الدلالي لتلك المفردات والمفاهيم التي غصت بها الرواية وإن كان ذلك في  سياقات أخرى وعبر مداخل وأدوات ومنهجيات مغايرة ،هاجسها تقصي الإجابة عن سؤال الكيفيات ، الحدود والإمكانات في واقع يكتنفه الغموض ويدفع دفعا في اتجاه المجهول كما سبق ودفع من قبل أبطال رائعة  " غارسيا ماركيز " : عامل التلغراف العاشق المهزوم " فلورنتينو أريثا " وحبيبته السبعينية الجميلة " فيرمينا دازا  " ، في سفينة نهرية تعبر اليم ذهابا وجيئة رافعة علم الوباء الأصفر وتأبى الرسو ، كي لا تنتهي الرحلة ويكون الفراق ..

مقدمة : ( حيرة عالمية une perplexité mondiale )

شهد العالم منذ بداية السنة وحتى يومنا هذا تحولا دراماتيكيا بسبب جائحة الكوفيد-19 التي تسببت بشكل أو بآخر في انقطاع أكثر من 1.6 مليار طفل / شاب عن التعليم في 161 بلدا، أي ما يقرب من 80 % من المقبلين على الدراسة في أنحاء العالم...

وحسب معطيات البنك الدولي فإن تلميذا من كل 10 تلاميذ قد شملته ظاهرة التسرب المدرسي (الانقطاع المبكر)..

وفي تونس تشير الأرقام ( أكتوبر 2020 ) إلى أن عدد المصابين بالكوفيد داخل المؤسسات التربوية بلغ 1390 حالة مؤكدة بينما قدر عدد الحالات المشتبه بها 3628 ..

ويبدو أن النسق التصاعدي لهذه الأرقام هو الذي حتم إيقاف الدروس أحيانا كما دفع بسلطة الاشراف إلى غلق جزئي لبعض المؤسسات وإقرار تقديم آجال عطلة نصف الثلاثي الأول مع التمديد فيها لأيام.

وما من شك في أن هذه السياقات -إن شئنا- تؤشر إلى أزمة[4] حقيقية يمر بها قطاع التربية والتعليم وهي أزمة تتجاوز في عمقها وارتداداتها ومآلاتها بقية الأزمات التي عرفتها المدرسة وأطنب في تفكيكها كل من " برنارد شارلوت " ( Bernard Charlot )[5] و" فيليب ماريو " (Philippe Meirieu)   و" فرونسوا دوربار" (François Durpaire)[6] و" كريستيان لافال " (Christian Laval )[7]...

لماذا ؟ ..  لأن هذه الأزمة محكومة إضافة إلى العوامل الداخلية المتعارف عليها في المستويين الهيكلي والوظيفي ( غياب مشروع سياسي وطني للمدرسة ، مشكل التكوين الأساسي والمستمر للمدرسين ، نظام التقييم والامتحانات ، العنف المدرسي ...) بعوامل خارجية نجد في مقدمتها العامل الصحي الذي بات يمثل متغيرا رئيسيا وإكراها حقيقيا عطل مسار العملية التربوية وأربك نظام الدراسة وكشف حدود البيداغوجيا ومقارباتها التقليدية وهو ما يدفعنا إلى تطارح جملة من الإشكاليات يمكن اختزالها في أسئلة ثلاث :

1- ما الأثر الذي خلفة الكوفيد- 19 على أداء المدرسة عموما وعلى الفعل البيداغوجي خصوصا في علاقة بالتحصيل العلمي للتلميذ أولا وعلاقته بالمعرفة ثانيا في ظل واقع محفوف بالخوف والتوجس ومحكوم بالارتباك والارتجال ؟

2- ما مدى قدرة المقاربات البيداغوجية الحالية على مسايرة الأزمات بما في ذلك الأزمة الصحية التي عنوانها فيروس كورونا المستجد ؟

3- هل من ممكنات حقيقية لتحويل الأزمة إلى فرصة حقيقية لمراجعة المنظومة التربوية والتفكير في استراتيجيات ومقاربات ملائمة لواقع الأزمات وتحدياتها ؟

ملخص:
إن الواقع اليوم يؤكد حقيقة مفادها أن الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد مؤشر على درجة الرفاه الذي وصلت إليه البشرية في هذه الألفية بقدر ما أضحى جزءا لا يتجزأ من حياة الناس وهذه الحقيقة ستنعكس بكل تأكيد على كل القطاعات تقريبا بما فيها قطاع التربية والتعليم الذي لن يكون بمعزل عما يجري حوله من طفرة تقنية وتكنولوجية هائلة وسريعة، وهو ما يستدعي منا ضرورة إعادة النظر في المنظومة التعليمية وفي المناهج الدراسية بل وفي الفلسفة التربوية نفسها بغاية الاستفادة قدر الإمكان من الفتوحات التي يبشر بها الذكاء الاصطناعي في سياق ما بات يعرف اليوم بالاستثمار في التعليم والمراهنة على العقل البشري.

غير أن التعويل على أدوات الذكاء الاصطناعي وما تتيحه من سهولة ودقة في الوصول إلى المعلومة ومعالجتها وما توفره من بيئة تفاعلية تساعد على تنمية البعد العرفاني والانتقال من باراديغم التعليم إلى باراديغم التعلم لا يجب أن يحجب عنا حجم التحديات التي ستنتج عنها وما ستنطوي عليه من سلبيات ومخاطر على وجودنا وعلى مستقبلنا كبشر.

وهو ما يدفعنا إلى طرح الإشكاليات التالية:

-  ما الذكاء الاصطناعي وما هي خصائصه ومزاياه مقارنة بما توصل إليه الانسان من اكتشافات أخرى؟

-  ما مجالات الاستفادة من أبحاث الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته لتطوير منظومة التعليم وجعلها أكثر جودة وذكاء؟

- ما أهم سلبيات الذكاء الاصطناعي في مجال التربية والتعليم وما خطورتها على المتعلمين وعلى الأنظمة التربوية ككل؟

الكلمات المفتاحية: الذكاء الاصطناعي، مجتمع المعرفة، التعلم الآلي، الثورة الرقمية، التربية المستقبلية، التعلم الإفرادي الذكاء المعزز.

استهلال:

في 17 أكتوبر 2014 وقع الإعلان عن صدور أحد أفلام الخيال العلمي المثيرة بشراكة إسبانية بلغارية وبميزانية فاقت الخمسة عشرة مليون دولار أمريكي.

عنوان الفيلم لم يخل بدوره من الإثارة إذ حمل اسم " الآلي" أو " الأوتوماتيكي" (Automata) وهو من اخراج " جابي إيبانيز" (Gabe Ibanez) الذي شارك " خافيير سانشيز دوناتي" ( Javier Sanchez Donate) في كتابة السيناريو.

بطولة الفيلم كانت من نصيب المنتج والممثل الاسباني الشهير" أنطونيو بانديراس " (Antonio Banderas) والأمريكية" ميلاني جريفيث "( Melanie Griffith) والدنماركية " بريجيت هيورت " ( Birgitte Hjort Sorensen) والممثل والموسيقي الأمريكي المعروف" روبرت فورستر"( Robert Forster) ،إضافة إلى " ديلان ماكديرموت" ( Dylan McDermott) وغيرهم من نجوم الفن في هوليود.

زمنيا، تدور أحداث الفيلم في المستقبل البعيد وتحديدا في عام 2044حيث أدى التوهج الشمسي الضخم لسنة 2030 إلى حدوث انفجارات في محطات الطاقة النووية وانتشار الاشعاعات في جميع أنحاء العالم وتحويل كوكب الأرض إلى صحراء قاحلة تنعدم فيها سبل الاتصال بين بني البشر.

 

" إن المسافة الكبيرة بين ما تظهره الرموز وما تحجبه وما تومئ إليه وما تستره ، إلا أن ذلك التباعد ذاته هو ما يجعل عملية التأويل ممكنة وتلك المسافة وما تتطلبه من عنت وجهد ومن شك وتساؤل هي التي ترفع القراءة إلى مرتبة تجعلها فناً من الفنون" ([1]).

1- مقدمة

تشكّل "التفاعليّة الرمزيّة" (symbolic-interactionist)  أحد التيّارات السوسيولوجيّة الّتي فرضت نفسها نقيضاً مناظراً للاتّجاهات الكبرى في علم الاجتماع، مثل: البنيويّة والماركسيّة. وينظر معظم النقّاد اليوم إلى التفاعليّة الرمزيّة بوصفها نظريّة سوسيولوجيّة متكاملة الأركان رغم حداثتها نسبيّاً. وقد عكف روّاد هذه النظريّة على تحليل الظواهر الاجتماعيّة الصغرى (الميكروسوسيولوجيّ) سعياً إلى فهم العلاقات التفاعليّة الرمزيّة القائمة بين الأفراد في المجتمعات الإنسانيّة، ومحاولة لإدراك معانيها ودلالاتها ومغازيها. وقد ركّزوا على دراسة معطيات الحياة اليوميّة للأفراد وفعاليّاتهم السوسيولوجيّة القائمة في مدارات اتّصالهم، ومسارات تفاعلهم، واعتمدوا منهجيّاً على تحليل الرموز والمعاني والدلالات الّتي تعطي معنى للتجارب الاجتماعيّة في الحياة اليوميّة.

ويرى علماء الاجتماع أنّ نظريّة التفاعل الرمزيّ تشكّل إطاراً عامّاً للنظريّات الّتي تبحث في المجتمع بوصفه نتاجاً للتفاعلات الاجتماعيّة اليوميّة، وتدرس الكيفيّات الّتي تتمّ فيها التفاعلات الاجتماعيّة بين الأفراد الّذين يضفون المعاني والدلالات على الأشياء المحيطة بهم في مسار تفسير تفاعلاتهم مع الآخرين. ويعتمد هذا المنظور على فكرة أساسيّة مفادها أنّ الناس يفهمون عوالمهم الاجتماعيّة من خلال التواصل والتفاعل الاجتماعيّين، أي عبر تبادل المعنى من خلال الرموز واللغة. ويرى أصحاب هذه النظريّة أنّ المعنى الّذي ننسبه إلى العالم من حولنا يعتمد على تفاعلاتنا مع الناس والأفكار والأحداث، وأنّ فهمنا للعالم وكيفيّة تفاعلنا مع مجتمعاتنا يعتمد على ما نتعلّمه من تفاعلاتنا مع الآخرين بدلاً من الحقيقة الموضوعيّة. وعلى هذا الأساس يعتقد التفاعليّون الرمزيّون أنّ مجتمعاتنا مبنيّة على المعاني الّتي نضفيها على التفاعلات والأحداث الاجتماعيّة.

 وتشكّل التفاعليّة الرمزيّة أحد أهمّ الاتّجاهات الرئيسيّة الكبرى في علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعيّ على حدّ سواء، ويشغل هذا الاتّجاه مكانة مهمّة في الفضاء الواسع للعلوم الإنسانيّة بحثاً في إشكاليّات الحياة الإنسانيّة وقضاياها الوجوديّة. ويشكل البحث في المستتر والغامض والكامن والخفيّ الرمزيّ المجال الرئيس للتفاعليّة الرمزيّة، كما أن التفاعليين الرمزيين يركزون في أبحاثهم على دراسة العلاقة الجدليّة القائمة بين المجتمع والفرد وفق معطيات الرمز والتفاعل الرمزيّ. ويتبنى أصحاب هذا الاتجاه توليفة متبلورة فكرية من العلوم الإنسانيّة في المجتمع والأدب واللغة وعلم النفس وعلم الاجتماع، ومن ثم يعتمدونها كأدوات للتحليل من أجل التوغّل في أعماق الحقيقة الاجتماعيّة وفق منهجيّات الاستقصاء الرمزيّ للوجود الاجتماعيّ، وهم في كل ذلك يركزون أهمية استكشاف الغامض والمبهم والخفيّ الرمزيّ الضارب في عمق الحياة الإنسانيّة. ويأخذ مفهوم "التفاعل الرمزيّ" صورة تواصل اجتماعيّ يقوم على التبادل التفاعليّ للرموز والدلالات والمعاني بالطريقة الّتي يتأثّر فيها الفرد، ويؤثّر في عقول الآخرين وتصوّراتهم ورغباتهم ووسائلهم في تحقيق أهدافهم، وفي ممارسة تكيّفاتهم الحيويّة داخل المجتمع([2]).

تقديم:
كان كارل بوبر مهتما بالتمييز (ترسيم الحدود) بين العلم وأشباه العلوم . تلك مسألة مهمة وما زالت ذات راهنية. بالفعل، من الواضح أن المصداقية التي تُعطى للمعرفة الناتجة عن المنهج العلمي وتلك الناتجة عن المنهج التأملي ليست هي نفسها. من أجل الإلمام بهذا الموضوع، اقترح ترجمة مقال باتريك جوينيي Patrick Juignet.
1- أصل تمشي بوبر
خلال إحدى الندوات، أشار بوبر إلى أصل تمشيه، مذكرا أنه في بداية القرن العشرين، عندما كان طالبا، رأى ظهور وفرة من "النظريات الجديدة، غير المكتملة في كثير من الأحيان" (بحث غير مكتمل، ص: 60). في ذلك الوقت، كان مهتما في نفس الوقت بنسبية أينشتاين، والتحليل النفسي الفرويدي، وعلم النفس الأدلري، والماركسية. وكانت هذه النظريات موضع نقاش حاد بين الطلاب. شعر كارل بوبر بعد ذلك بأن المذاهب الثلاثة الأخيرة “على الرغم من ادعائها العلمية، شاركت في الأساطير القديمة أكثر من العلوم” (بحث غير مكتمل، ص: 61).
بدت نظرية ألبرت أينشتاين مختلفة بالنسبة إليه. وأشار إلى أنه، وفقا لأينشتاين نفسه، لن يكون من الممكن الدفاع عن نظريته إذا فشلت في اجتياز اختبارات معينة. أعلن أينشتاين أنه “إذا لم يكن هناك انزياح أحمر للخطوط الطيفية بسبب إمكانات الجاذبية، فلن يكون من الممكن الدفاع عن النظرية النسبية العامة” (أينشتاين ألبرت، 1917، نقلا عن بوبر وترجمته، بحث غير مكتمل، ص: 49). وفقا لبوبر، فإن موقف النقد الذاتي هذا الذي يعترف بأننا نستطيع إبطال نظرية ما يعد سمة من سمات العلم.
في هذا الصدد، قال بوبر: "هكذا توصلت إلى نتيجة في نهاية عام 1919 مفادها أن الموقف العلمي هو الموقف النقدي. لم تكن تبحث عن إثباتات، بل عن تجارب حاسمة” ( نفس المرجع، ص: 49).
يتعلق الحدس الثاني لكارل بوبر بالاستقراء. لقد توصل إلى فكرة أن الكثير من المعرفة لا يتم عن طريق الاستقراء، بل عن طريق الاستنباط. ومن هذا المنظور، تناول انتقادات ديفيد هيوم الذي أظهر أن الاستقراء يكون في بعض الأحيان باطلاً، وأنه في جميع الأحوال لا يمكن التحقق منه بطريقة كونية (لأنه سيكون من الضروري معرفة كل الوقائع حتى نهاية الزمن). قام بوبر بتوسيع المشكلة وتطبيق الاستدلال على المعرفة العلمية؛ فهو، على حد تعبيره، "أعاد صياغتها بطريقة موضوعية" (نفس المرجع، ص: 115) من خلال تطبيقها على العلاقة بين النظرية والملفوظات التي تصف الوقائع المرصودة في إطار العلوم التجريبية.
وخلص من ذلك إلى أن العلم، على عكس الأفكار المتلقاة منذ بيكون، لا يتميز بتمش استقرائي، بل استنباطي. إن تصور النظريات المجردة سابق ومستقل عن الوقائع الناتجة عن الملاحظات والتجارب. وهكذا عارض دائرة فيينا التي أكدت أن الاستقراء يجعل من الممكن إيجاد قوانين علمية. إن إعادة صياغته للعلم كعملية استنباطية وفرت أساسا منطقيا لمعيار التفنيد من خلال التجربة.
على أساس هذين المبدأين، خلص إلى أن التحقق في العلم غير كاف. إن ملاحظة عدد معين من الوقائع التي تدعم نظرية ما لا تؤكدها بشكل يقيني وكوني. وهذا يترك الباب مفتوحا للتهاون، لأننا نجد دائما عددا معينا من الوقائع التي تؤكد نظرية ما، حتى لو كانت خيالية. التحقق التجريبي المباشر لا يكفي لتأكيد صحة وعلمية المعرفة.

4- التجربة، الموضوعية واشتغال مفهوم
إذا كان من الممكن تصور التاريخ الإبستيمولوجي عند كانغيلام باعتباره تفكيرا في مصير العقل وتشعباته انطلاقا من تاريخ العلوم، فإن هذه المقاربة لا تعني على الإطلاق النسبية والعدمية، كما تشير القراءات التي تدين التاريخية والجهوية للتاريخ الإبستيمولوجي. على العكس من ذلك، فبدلاً من إفراغ العقلانية من قيمتها التفسيرية والمعيارية، فإن الأمر يتعلق بفهم ولادة وتكوين هذه العقلانية نفسها انطلاقا من آخرها، انطلاقا من عدم التمييز بين العقل واللاعقل، كما يؤكد فوكو خلال قراءة استرجاعية. من حياته المهنية وخاصة من دروس معلمه كانغيلام:
"[فيما يتعلق] بتحليلات تاريخ العلوم، فإن كل هذه الأشكلة في تاريخ العلوم (التي هي بلا شك متجذرة في الفينومينولوجيا، التي اتبعت في فرنسا، من خلال كافييس، ومن خلال باشلار، ومن خلال جورج كانغيلام، تاريخا آخر بأكمله)، يبدو لي أن المشكلة التاريخي لتاريخية العلوم لا تخلو من بعض العلاقات والتشبيهات، دون أن تكون إلى حد ما صدى لمشكلة تكوين المعنى: كيف تولد هذه العقلانية، كيف تتشكل، انطلاقا من شيء ما مختلف تماما؟"
يرجع فوكو السؤال: “كيف نفكر في تشكيل العقلانية من غير العقلاني؟”، إلى سؤال أوسع بكثير، طرحته الفينومينولوجيا في فترة ما قبل الحرب والذي أصبح أيضا السؤال المركزي للبنيوية، ولكن يمكننا أن نعتبره بشكل أكثر عمومية علامة الفكر الفرنسي في القرن العشرين: "كيف يكون هناك معنى من اللامعنى؟ كيف يأتي المعنى؟" في مقدمة شهيرة للطبعة الإنجليزية من عمل كانغيليم الرئيسي «الطبيعي والمرضي» ، رسم فوكو خطا فاصلا بين الإجابات التي تم تقديمها في فرنسا على هذا السؤال: من ناحية، «فلسفة الخبرة، المعنى، والذات» (سارتر وميرلو بونتي)، من ناحية أخرى، «فلسفة المعرفة، العقلانية والمفهوم» (كافييس، باشلار، كويري، كانغيلام).
لم يبين فوكو فقط أن هوسرل قد قُرئ في السياق الفرنسي انطلاقا من هذين الخطين الفكريين "المتباينين" والمتعارضين سابقا، لكنه عندما أعاد صياغة هذا النص، بعد ست سنوات، عاد بنفس المعارضة إلى انفصال أقدم بين "بيرجسون وبوانكاريه، لاشيلييه وكوتيرا، مين دي بيران وكومت". ومع ذلك، يمكننا القول، بالتبسيط، إن هذا التعارض قد استمر بين الحيوية والوضعية، بين اللاعقلانية والعقلانية، أو بكل بساطة، حسب وجهة نظرنا المحددة، بين المقاربتين الرئيسيتين لتحليل المفاهيم الموجودة منذ ديكارت والتي تتمثل في دراسة المفهوم من ناحية حسب علاقته بالذات، كشكل من أشكال العقل الذي يدرك الأشياء، ومن ناحية أخرى وفقا لوظيفته التمثيلية، وبالتالي علاقته بالأشياء. ومع ذلك، كما أشار آلان باديو، فإن هذا التعارض بين فلسفة المفهوم وفلسفة الوعي ليس في الواقع واضحا أو محددا. إن تبسيط المشاركة الفوكوية لا يسمح لنا بأن نضع، مثلا، مفكرين مثل دولوز، وهو حيوي ولكنه عدو لكل فلسفة الوعي، أو دريدا، المفتون بمشكلة المثل الرياضية عند هوسرل وبالفكر البنيوي، ولكن في نفس الوقت ناقد عنيد للعقلانية والمفاهيمية.

لكن هذه الصعوبة تنطبق بشكل خاص على كانغيلام الذي، رغم تأكيده على التعارض بين سارتر وكافييس، وبينما كان ينتمي إلى لإطار الباشلاري للبحث الفلسفي حول المفهوم والعقلانية، فقد امضم مع ذلك إلى التيار الحيوي، من خلال إعلانه بين الأربعينيات والخمسينيات (من القرن الماضي) عن وجود استمرارية بين فلسفته البيولوجية والبرغسونية، مع دعم "مقاومة الماركسية والوجودية لتشييء الحياة ووسمها بميسم الرياضيات". والأكثر من ذلك، فإن معارضة فلسفة كانغيلام لفلسفة الذات هي التي تطرح مشكلة. لأنه إذا كان التاريخ الإبستيمولوجي يشكك في الدور التقليدي للذات المعرفة ويمحو صورة الذاتية الإبداعية لصالح تحليل الشبكات المفاهيمية، فيمكننا أن نتذكر أن كانغيلام يعتبر، من وجهة نظر فلسفته في الطب، بمثابة منظّر عدم إمكانية اختزال التجربة الذاتية للمريض في مواجهة تشييئ المعرفة الطبية. إن المبدأ الأساسي لعمل كانغيلام الأساسي، "الطبيعي والمرضي"، هو في الواقع الأولوية التي يجب أن تعطيها فلسفة الطب الجديدة للتجربة الحياتية للمريض في ما يتعلق بخطاب الطبيب اللاإنساني والمطبع، وذلك لتفادي تذويب التفرد المرضي في تباين كمي طبيعي.

تمهيد
من المعلوم أن التقدم سنة الحياة وان العقل البشري يسعى بكل جهوده الى المساهمة في التقدم بالإنسان ومن البديهي ايضا ان يتمسك كل البشر بحقهم الوجودي في التقدم من اجل الرقي والازدهار ولكن توجد عدة عراقيل خارجة عنهم تمنعهم من ذلك وتظهر عدة موانع قاهرة تحول بينهم وهذه الفضيلة الحضارية. فإذا كان التقدم المادي للغرب مجرد همجية جديدة ووهم حضاري بالنظر الى الفشل الذريع التي منيت به الرأسمالية وتحولها إلى ظاهرة امبريالية استعمارية للإنسان والطبيعة والحياة وسقوط اقنعة العولمة وتكذيب وعودها الجوفاء فإن مبدأ التقدم الروحي الذي تمسكت به الحكمة المشرقية يظهر كبديل واقعي له. لماذا تم اعتبار التقدم الغربي مجرد اسطورة؟ وكيف يمكن المراهنة على الطابع الروحي للتقدم الانساني؟

أسطورة التقدم المادي
"إن الخطوة الجماعية للنوع البشري تسمى التقدم. قال فيكتور هوغو: "ان التقدم يشتغل".
لقد كانت أسطورة التقدم مشتركة بين الجميع قبل بضعة عقود. أتذكر، في الستينيات، كان ذلك عصر طائرة الكونكورد الأسرع من الصوت، وأول تلفزيون ملون، والترانزستور، وأول أجهزة الكمبيوتر، واكتشاف خصائص الحمض النووي على يد جاك مونو وفرانسوا جاكوب وأندريه لوف (جميعهم ثلاثة فائزين بجائزة نوبل في الطب عام 1965)، وأول عملية زرع قلب أجراها كريستيان بارنار عام 1967 في جنوب أفريقيا، وأول خطوة للإنسان على القمر عام 1969، وما إلى ذلك. كان الإيمان بالتقدم عامًا، وكان مشتركًا في الاعتقاد بأن زيادة المعرفة يجب أن تساهم بطبيعة الحال في التقدم الأخلاقي للبشرية. ومن المؤكد أنه في نفس السنوات، جاء الهيبيون أولاً، ثم حركات 68 مايو، لزعزعة هذه الأفكار الراسخة لبعض الوقت. لكن هذه السنوات نفسها شهدت تطور الزراعة المكثفة، وخصخصة البذور، والاستخدام المكثف للأسمدة مثل النترات والفوسفاط، وما إلى ذلك والمبيدات الحشرية، وما إلى ذلك، دون أي ضمير.هل علمنا أن هذا يعني بداية تدمير التنوع البيولوجي؟ تعريض الظروف المعيشية على الأرض للخطر؟ وكان الاعتقاد في التقدم. . العودة بالزمن إلى نهاية القرن الثامن عشر. تراودني فكرة خاصة حول كوندورسيه، عالم رياضيات، فيلسوف، سياسي، آخر ممثلي حركة التنوير، وهنا أيضًا دوّن ملاحظات، محمولاً بإيمانه الثابت بالإنسان، رسمًا لصورة تاريخية لتقدم الروح الإنسانية:" من بين أهم التطورات في الروح الإنسانية لتحقيق السعادة العامة، يجب أن نعد التدمير الكامل للتحيزات، التي أنشأت بين الجنسين عدم مساواة في الحقوق قاتلة للشخص نفسه الذي يفضله بأسباب واهية لتبريره الاختلافات في تنظيمهم الجسدي، والتي يود المرء أن يجدها في قوة ذكائهم، وفي حساسيتهم الأخلاقية، لم يكن لها أصل آخر سوى إساءة استخدام القوة، وقد حاولنا عبثًا منذ ذلك الحين ثم نعذره بالمغالطات".

الأستاذ مراد غريبي:

 ما هو رأيك في اهم بوادر الاهتمامات الفلسفية بنشوء الاديان، وانت تناولت أفكار فيورباخ حول هذا الموضوع، نود تلخيصها لنا. وهل لا زالت الاسبقية الراجحة في الايمان الديني للفلسفة أم للاهوت؟ وهل كان للطبيعة دور ديني قامت به؟

الدكتور علي محمد اليوسف:

بداية أود التنبيه هنا الى أن افكار فيورباخ في كتابه أصل الدين هي قراءة فلسفية تعتمد الطبيعة والذات في منهج تصوفي تأملي، وما هو مستجد حديثا ظهور علم متخصص في نشأة وتطور الاديان يدعى (علم الأديان) وهو علم:

1.لا يأخذ باجتهادات التفلسف في نشأة الاديان،

2.لا يأخذ بمدونات اللاهوت الذي لا تسعف ادعاءاته اكتشافات آثارية واركيولوجيا التاريخ،

ولا يأخذ حتى بالمعجزات الدينية.

 لكن مع هذا تبقى آراء فيورباخ الفلسفية حول نشوء الاديان تمتلك من الاثارة الفلسفية الشيء الكثير الذي لا يتوفر عليه علم الاديان باعتباره علما لا يقوم على نظريات تجريدية غير تجريبية ولا على فلسفات أو تنظيرات غير مدعمة باسنادات اركيولوجية وتنقيبات حفرية. الفلسفة تقول ما تعجز عنه بقية الاجناس الفكرية قوله أو التعبير عنه لكنها ليست علما طبيعيا خاضعا للتجربة.. الفلسفة ام العلوم لكنها ليست علما.                    

الأستاذ مراد غريبي:

إذن ماذا عن الطبيعة ونزعة التدّين البدائي؟

الدكتور علي محمد اليوسف:

يقول أحد الفلاسفة المعاصرين في معرض حديثه عن تعالق الدين واللغة عند الفيلسوف بروديكوس (ان الانسان البدائي والذي بدا له أن كثيرا من الظواهر الطبيعية معادية له، ومع ذلك كان معجبا جدا بالهبات التي تزوده بها الطبيعة لتسهيل حياته ورفاهيته)، وفي تعبير ظريف ليوربيدوس قوله: أنه يتوجب على الارض أن تثمر شيئا لإطعام قطيعي سواء اكانت الطبيعة راضية أن تفعل ذلك أم لا. كانت ولازالت الى يومنا هذا الأم المرضعة لبقاء النوع البشري من الانقراض. هذه الطبيعة المادية في مجموع تكويناتها وتنوعاتها الارضية، لم تكن طبيعة جامدة (روحيا) بمعنى الثبات والسكون الفيزيقي الذي يعدم تساؤلات ما وراءها، تساؤلات الانسان الكائن النوعي في ذكائه المتفرد به عن باقي المخلوقات والكائنات، (عقليا - روحيا) خياليا تأمليا ميتافيزيقيا في ما وراء ظواهر الطبيعة المادية. كان هو الهاجس الذي لازم الانسان طيلة مساره الانثروبولوجي.

مقدمة

الحرية، إذا عرفناها بشكل عام، هي القدرة على القيام أو عدم القيام به، ونسمي هذه القوة "الإرادة الحرة"، والقدرة على أن تكون المبدأ الخاص بأفعال الفرد، دون أن تكون مقيدة بأي شيء خارجها. لكننا اعتدنا الحديث عن الحرية بعدة معانٍ، أي أن نعزو صفة الحرية بناء على اعتبارات مختلفة. فمثلاً نقول عن شخص: إنه حر لأنه لا يجبره شيء أو أحد على ذلك، أي لأنه ليس عبداً؛ نقول عن آخر، السجين مثلا، إنه حر في التفكير رغم أنه محبوس في السجن رغما عنه؛ نقول أيضًا إن الشخص حر، الذي يُمنح، داخل المجتمع، الإمكانية، ولديه القوة الفعالة، للقيام بأشياء معينة؛ أو مرة أخرى، على مستوى آخر، أن الإنسان الحكيم حر، لأنه يتحكم في أهوائه، الخ. فهل للحرية إذن درجات على المستويين الفلسفي والقانوني؟

يبدو لنا هذا واضحًا على الفور، لأننا لا نستطيع أن نقول، في الواقع، إن غير العبد، والسجين، وموضوع المجتمع، والرجل الحكيم، وما إلى ذلك، أحرار على نفس المستوى: لذلك يبدو جيدًا هناك عدة مستويات من الحرية. سيكون كل من هذه الشخصيات بعد ذلك "أكثر" أو "أقل" حرية، حتى نتمكن من تتبع مقياس الحرية، والذي سينتقل من أدنى مستوى للحرية إلى أعلى مستوى. ولكن هل يمكننا حقا أن نكون أكثر أو أقل حرية؟ ألا ينبغي بالأحرى أن نقول إن الحرية ليس لها درجات، ولا تكمن إلا فيما نعتبره أعلى درجاتها؟ وبالتالي فإن المشكلة التي تطرح هي ما إذا كان لا يزال بإمكاننا، بصرف النظر عن هذا المستوى المتطرف، أن نتحدث عن الحرية، أي ما إذا كان من المنطقي الحديث عن "حرية أقل" أو "الحرية المحتملة فقط". إذا كانت هذه المستويات الدنيا من الحرية أقل من المستوى الأعلى من المقياس، أليست إذن مجرد زائفة، أفلا ينبغي إذن أن نتحدث عنها باعتبارها حرية وهمية؟ فهل الحديث عن الحرية من حيث الدرجات معقول؟ أليست الحرية بالتعريف هي ما يفلت من كل الدرجات؟ أليست مطلقة؟

تمهيد
أظهرت الفلسفة منذ بداية ظهورها احتواءها على عنصر هدام. يبيِّن عمل أفلاطون " دفاع سقراط " كيفية اتهام مواطني أثينا لسقراط بإفساده أخلاق الشباب والتشكيك في وجود الآلهة. وكان هذا الاتهام ينطوي على شيء من الحقيقة؛ فقد شكك سقراط في المعتقدات السائدة، وأخضع اعتقادات راسخة لفترات طويلة للتدقيق العقلاني، وأعمل فكره في مسائل تتجاوز النظام القائم. وما عرف بـ: " النظرية النقدية " قام على هذا الإرث، فقد ظهر هذا الاتجاه الفلسفي الجديد في الفترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، وشن أبرز ممثليه حرباً ضروساً على الاستغلال والقمع والاغتراب التي تنطوي عليها الحضارة الغربية.

ترفض النظرية النقدية ربط الحرية بأي تنظيم مؤسسي أو منظومة فكرية محددة، إنها تبحث في الافتراضات والأغراض الخفية للنظريات المتضاربة وأشكال التطبيق القائمة. وليست هذه النظرية بحاجة إلى توظيف ما يعرف ﺑ " الفلسفة الدائمة "، إذ تصر على أن التفكير يجب أن يستجيب للمشكلات الجديدة والاحتمالات الجديدة للتحرر التي تنبثق عن تغير الظروف التاريخية. كانت النظرية النقدية - التي تتسم بأنها متعددة التخصصات، وتجريبية في جوهرها على نحو فريد، ومتشككة على نحو عميق في التقاليد والمزاعم المطلقة كافة - مهتمة دائماً، ليس فقط بالكيفية التي عليها الأمور بالفعل، وإنما أيضاً بالكيفية التي يمكن أن تكون الأمور عليها أو يجب أن تكون عليها. وقد دفع هذا الالتزام الأخلاقي مفكريها الكبار لتطوير مجموعة من الموضوعات والمحاور ومنهج نقدي جديد غير وجه فهمنا للمجتمع.

وللنظرية النقدية مصادر كثيرة، يعرف إيمانويل كانط (1727- 1804) الاستقلال الأخلاقي بأنه أسمى قيمة بالنسبة للفرد، وقد أمد كانط النظرية النقدية بتعريفها للعقلانية العلمية وهدفها المتمثل في مواجهة الواقع باحتمالات الحرية. في الوقت نفسه، رأى هيجل أن الوعي هو محرك التاريخ، وأن التفكير مرتبط بالاهتمامات العملية، وأن الفلسفة هي " المنظور الفكري الذي يُنظَر من خلاله لحقبة تاريخية معينة ". تعلم منظرو النظرية النقدية تأويل الجزء بالنظر إلى الكل. وبدت لحظة الحرية في مطالبة المستعبدين والمستغلين بالتقدير([1]).

لقد جسّد كل من كانط وهيجل الافتراضات العامة المستمدة من عصر التنوير الأوروبي خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، فقد اعتمدا على العقل لمحاربة الخرافة والانحياز والقسوة والممارسات التعسفية من جانب السلطة المؤسسية. كما وضعا افتراضات بشأن الآمال الإنسانية التي تعبر عنها الجماليات، والرغبة في الخلاص التي تنطوي عليها الأديان، وطرق التفكير الحديثة حول العلاقة بين النظرية والتطبيق. أما كارل ماركس الشاب، فقد ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك بتأملاته اليوتوبية حول التحرر الإنساني([2]).

لقد تشكلت النظرية النقدية في البوتقة الفكرية الماركسية، إلا أن ممثليها الرواد رفضوا منذ البداية الحتمية الاقتصادية، والنظرية المرحلية للتاريخ، وأي اعتقاد جبري في الانتصار (المحتوم) للاشتراكية. وكانوا أقل اهتماماً بما أطلق عليه ماركس (القاعدة) الاقتصادية منهم ﺑ (البنية الفوقية) السياسية والثقافية للمجتمع. لقد كانت ماركسيتهم بمذاق مختلف، وقد ركزوا على منهجها النقدي أكثر مما ركزوا على ادعاءاتها التنظيمية، وعلى اهتمامها بالاغتراب والتشيؤ، وعلى علاقتها المعقدة بمثل عصر التنوير، وعلى لحظتها اليوتوبية، وعلى تشديدها على دور الإيديولوجيا، وعلى التزامها بمقاومة مسخ الفرد. وتشكل هذه المجموعة من المحاور جوهر النظرية النقدية حسبما استوعبها رائدا " الماركسية الغربية " كارل كورش وجورج لوكاتش. قدم هذان المفكران إطار عمل المشروع النقدي الذي بات يعرف لاحقاً بمعهد البحوث الاجتماعية أو " مدرسة فرانكفورت ".

تقديم:
يحيل العنوان أعلاه على الفصل الأول من كتاب "تجربة المفهوم: ميشال فوكو بين الإبستيمولوجيا والتاريخ" لصاحبه لوقا بالترينيري. "تجربة المفهوم" هو الاسم الذي اطلقه الكاتب على "شكل" فكر ميشيل فوكو، بين نظرية الإبستيمولوجيا والتاريخ: شكل صندوق أدوات ذي صلة خاصة بالتحليل التاريخي لنشوء المفاهيم في المجال العملي، يرغب المؤلف في "جعل استخدامه ممكنا لنا اليوم". في ما يلي محاولة لترجمة هذا الفصل إلى العربية عبر جزأين.
إن نقطة البداية للبحث الذي يجب أن ينتقل من التاريخ الإبستيمولوجي لجورج كانغيلام إلى "أنطولوجيا ذواتنا" الفوكوية لا يمكن إلا أن تكون العلاقة بين الفلسفة وأوجه "خارجها" العديدة. سواء كان الأمر يتعلق بالطب أو العلوم البيولوجية، بالنسبة إلى كانغيلام، أو بالطب النفسي، يالأدب بالاقتصاد ولكن أيضا بالسجون والتمارين الروحية، بالنسبة إلى فوكو، كل شيء يحدث كما لو أن النشاط الفلسفي لم يعد من الممكن فهمه ببساطة من خلال تقليد يخترع نفسه ويعلن نفسه على أنه فلسفي "على نحو أصيل". لم يعد يجب على الفيلسوف، أو لم يعد يستطيع، أن يقرأ الفلاسفة الآخرين فقط: عليه أن ينغمس في الأرشيف وفي راهنية عمل لم تعد حداثته تعترف به على أنه "فلسفي".
هكذا، يرى كانغيلام أن «الفلسفة هي تفكير بالنسبة إليه كل مادة غريبة جيدة، ونقول عن طواعية، بالنسبة إليه كل مادة جيدة غريبة». هذه العبلرة ليست زائدة عن الحاجة، فهي تشير في الوقت نفسه إلى أن الفلسفة ليست تأملا، "خلف أبواب مغلقة"، إذا جاز التعبير، لا تتغذى إلا على نفسها ومفاهيمها، بل إنها منفتحة بنيويا على الخارج، الذي يضع أمامها باستمرار سلسلة من المشاكل، الأسئلة، العوائق. إذا كان هناك تحول في الفلسفة، وإذا كانت هناك إعادة صياغة متواصلة لتساؤلاتها، فلا يحدث ذلك من خلال نوع من الرحلة المستقلة والتدريجية نحو الحقيقة التي تُطرح وتُكشف، بل بسبب انفتاحها البدائي على عالم الممارسات الإنسانية العلمية، السياسية، الجمالية التي تنتج المفاهيم في كل لحظة. إن الفلسفة المنفتحة حقا على الطابع التاريخي للممارسات النظرية لا تتجه نحو ما يشبه الحقيقة المطلقة، بل تبني نفسها من إنتاج الحقيقة الذي يحدث في جميع مجالات النشاط الإنساني. يمكننا أن نجد هنا مبدأ كل الإبستيمولوجيا التاريخية.
1- الحقيقة العلمية والحقيقة الفلسفية
بيد أن انفتاح الفلسفة على ما هو خارج عنها يعني بشكل جدي مراعاة نوع معين من المفاهيم: تلك التي، وهي تظهر على شكل ملفوظات علمية، تحمل ادعاء الحقيقة. هذه هي المفاهيم التي تحدد أفق حداثتنا، أفق توجد فيه علاقة متجددة إلى حد ما بين "المعرفة" و"العلم" و"الحقيقة". خلال مقابلة مع آلان باديو، كان كانغيلام قد افترض في الواقع، بطريقة استفزازية إلى حد ما، التكافؤ بين جهات تكوين العبارات الحقيقية والخطاب العلمي، حيث أن العلم هو "المجال الوحيد الذي يمكننا فيه التحدث عن الحقيقة".
لا ينبغي فهم العبارة على أنها حكم قيمة ولا على أنها تأكيد وجودي على وجود الموضوعات العلمية باعتبارها "وقائع خارجية"، بل على أنها تحليل للشروط الصورية لاستخدام كلمة "صادق". في كتابه عن "اليقين"، أشار فيتجنشتاين إلى أننا نستخدم كلمة "صادق" في علاقة بنوع معين من العبارات: ليس تلك المتجذرة بعمق في نظام المعتقدات التي تعصب شكل حياتنا، ولكن تلك التي ما يزال الشك بشأنها ممكنا. إن حقيقة عبارة مثل "أعلم أن هذه يد" لا تقول الوجود الفعلي لليد، ولكنها تعني أن الشك الجدي في مثل هذه العبارة يعني بالفعل الشك في صرح يقينياتنا بأكمله ويجعل بأحد الأشكال من الممكن وضع شكل الحياة ككل موضع نقاش. في الواقع، وفقا لفيتجنشتاين، فإن يقين قضية تجريبية لا يعتمد على تجربتنا في العالم، ولكن على الشروط النحوية لاستخدامها؛ أي أن القضية "تنتمي إلى منظومتنا المرجعية" التي لا تكون فيها حقيقة عبارتنا ضمانة من العالم الخارجي، بل مجرد وسيلة للتحكم في فهمنا للعبارة.

في كل ثورة، يأتي وقت يبدو فيه، بعد القيام بها، أنه من الضروري، إذا جاز التعبير، "الانتهاء منها". لقد بدأ ثوار عام 1789، حتى قبل ظهور الإرهاب، يطرحون على أنفسهم هذه المشكلة: إنهاء الثورة، الخروج من الثورة، الإنهاء معها. ويواجه منظرو البنيوية العظماء مشكلة مماثلة: كيف يمكن الهروب من البنيوية؟ كيف يمكننا الانتقال إلى المرحلة التالية، دون أن نفقد مكتسبات ما قد يظل أعظم ثورة في القرن العشرين في مجال النظرية الأدبية؟

يدرس ستيفانو لازارين في هذه المحاولة حالة نموذجية، وهي حالة تزفيتان تودوروف. المنظر البنيوي للموجة الأولى، ولا سيما مع مختاراته الشهيرة من كتابات الشكلانيين الروس (1965)، مؤلف كتاب ناجح للغاية مثل "مدخل إلى الأدب العجائبي" (1970)، وهو نموذج مثالي للدراسة البنيوية لجنس ما. بدأ تودوروف، في السبعينيات في استكشاف وجهات نظر جديدة: اكتشف عدم خصوصية الخطاب الأدبي وحدود المفهوم الغائي الذاتي للأدب. الأمر الذي سيقوده، في الثمانينات، إلى منعطف حاسم، يبدو أنه تم إنجازه تحت إشارة منظر أدبي عظيم آخر، ميخائيل باختين: اكتشاف تعدد الخطابات، ومسألة الآخر"، و وفي نهاية المقال يتناول الكاتب مفهوما جديدا للأدب كمنبع للقيم الأخلاقية و"كشف عن الإنسان والعالم".

- القيام بالثورة، الخروج من الثورة

في كل ثورة، يأتي وقت يبدو فيه، بعد القيام بها، أنه من الضروري، إذا جاز التعبير، الانتهاء منها. وهذا صحيح سواء في مجال الظواهر التاريخية بالمعنى الدقيق للكلمة أو في في مجال الظواهر الكبرى في تاريخ الأدب والفنون والثقافة بشكل عام. بدأ ثوار عام 1789، حتى قبل ظهور الإرهاب، بالتفكير في هذه المشكلة: إنهاء الثورة، الخروج من الثورة، الانتهاء منها ؛ سيكون التيرميدور (Thermidor) وسيلة لوضع حد لها، وإنقاذ المكتسبات الثورية على حساب بعض التنازلات الحتمية لقصور التاريخ... "الآن هو الوقت المناسب للتوقف": بكتابة هذه الكلمات عام 1799، كان لويس سيباستيان مرسييه بدون شك بعيدا كل البعد عن تصور المعنى الذي ستأخذه يوما ما في أعين الأجيال القادمة. إنها تظهر لنا اليوم كرمز للديناميات الثورية.

ومع ذلك، فإن الثوريين في الفن والأدب، وفي نظرية الثقافة وتأويل النص الأدبي، رغم الطبيعة الأقل دموية لخياراتهم، يجدون أنفسهم بالفعل أمام بديل مماثل: الساعة تأتي، عاجلا أو لاحقا، عندما يتعين علينا أن نعرف كيفية وضع حد للدافع الثوري، لأنه أخطأ، أو قبل أن يحدث ذلك.

مثلا، واجه منظرو البنيوية العظماء سؤالا مماثلا: كيف يمكن الهروب من البنيوية؟ كيف يمكننا الانتقال إلى المرحلة التالية، دون أن نفقد مكتسبات ما قد يظل أعظم ثورة في القرن العشرين في مجال النظرية الأدبية؟ نود أن ندرس هنا حالة تزفيتان تودوروف.

وبعد الترحيب بالأفكار من دون التسليم بها إحدى أهم العلامات التي تميز العقل المثقف“ (أرسطو).
وحتماً، يمكن أن يكون العقل أي شيء... فطريقة تفكيرك هي التي تحدد شخصيتك “ (بوذا).
- تمهيد:
ما تزال الرغبة في السيطرة على أفكار الآخرين وسلوكياتهم وأفعالهم أكثر المطالب إلحاحاً منذ بزوغ فجر الإنسانية. بيد أن قلة نادرة من الناس فقط تدرك أن تقنيات السيطرة على العقل وجدت مع فجر الحضارة نفسها. وبقدر إدراكنا لما وهبنا إياه الله تعالى من عقول متنوعة وطرائق تفكير مختلفة. ندرك في الوقت نفسه تلك الشهوة العارمة للسيطرة على عقول الآخرين وطرائق تفكيرهم، بغض النظر عن الدافع أو الفائدة المبتغاة، ربما يكون السبب نابعاً من رغبتنا في فهم الطريقة التي يفكّر فيها الآخرون، وما إذا كانت تتفق مع طريقتنا أو تختلف عنها([1]).

لكن بالمقابل، يعتبر العقل ميزة الإنسان وقيمته العليا، لا بل هو والإنسان صنوان لا يفترقان وبدونه يفقد الإنسان إنسانيته. وبفضل العقل وقواه استطاع الإنسان أن يصول ويجول ويكشف الحقائق ويُخضع الأشياء لسلطانه وأن يذلل الصعاب ويبدد الظلمات وينشر النور ويتصور الأشياء ويتأمل في الوجود ويسبح في الخيال والفرضيات واللامعقول.

وعن أهمية العقل في التطور البشري يمكننا القول إن العقل هو قوة أساسية تمكن الإنسان من التطور والنمو الشخصي. بفضل العقل، يستطيع الإنسان أن يفكر ويتعلم ويتطور، ويستخدم التفكير العقلي لتحقيق أهدافه واتخاذ القرارات الصحيحة. يساعد العقل الباطن في تطوير الذات وتحقيق النجاح في الحياة([2]).

عندما يستخدم الإنسان عقله بشكل فعّال، يتمكن من استكشاف إمكاناته وتطوير مهاراته العقلية والإبداعية. يسمح له العقل بالتفكير بشكل منطقي وتحليلي، وبالتالي يزيد من فهمه للمشكلات ويتمكن من العثور على حلول إبداعية. يعمل العقل الباطن في خلفية الوعي اليومي للإنسان، وهو المسؤول عن تطوير العادات والمعتقدات وتشكيل الشخصية. لذا، يُعتبر استخدام العقل الباطن في تطوير الذات وتحقيق الأهداف أمراً ضرورياً. من خلال تنمية العقل وتعزيز التفكير المنطقي، يمكن للإنسان أن يحسن من أدائه في جميع جوانب الحياة. فالتفكير العقلي يساعد على اتخاذ القرارات الصائبة ومواجهة التحديات بثقة. كما يساعد في تحليل المعلومات والبيانات بشكل فعّال، وبالتالي يمكن للإنسان اتخاذ قرارات مدروسة والوصول إلى نتائج إيجابية([3]). ولكن قبل الخوض في تحليل ونقد ممارسات العقل الإنساني سنحاول توضيح وتعريف مفهوم العقل في محاولة لفهم جوهر هذا المفهوم لغوياً، وفلسفياً، واصطلاحياً.

- مفهوم العقل: لغوياً العَقْلُ (اسم)، الجمع عُقُولٌ. مصدر عَقَلَ. عَقَلَ: (فعل). عَقَلَ عن يَعقِل، عَقْلاً عُقُول، فهو عاقل، والمفعول معقول - للمتعدِّي. عَقَلَ الوَلَدُ: أَدْرَكَ حَقَائِقَ الأَشْيَاءِ. وأصل معنى العقل المنع والإمساك والحبس، وسمي العقل عقلاً لأنه يعقل صاحبه، أي يحبسه عن التورط في المهالك، أو لأنه يعقل حقائق الأشياء([4]). ومن المعاني الواردة، قولهم: عقل عقلاً: أي أدرك الأشياء على حقيقتها، والغلام أدرك وميّز، ويقال: ما فعلت هـذا منذ عقلت. والعاقل هـو الشخص المدرك. ومن المعاني، أن العقل هـو ما يقابل الغريزة التي لا اختيار لها. ومنه قولهم: الإنسان حيوان عاقل. ومنها ما يكون به التفكير والاستدلال، وتركيب التصورات والتصديقات. كما أن من المعاني الواردة حول موضوع العقل: إنه ما يتميز به الحسن من القبيح، والخير من الشر، والحق من الباطل.

آخر الأنشطة الثقافية والعلمية

  • ضمن فعاليات الدورة الثانية (2) لملتقى المعتمد الدولي للشعر، شعراء من خمس قارات في ضيافة دار الشعر بمراكش
    ضمن فعاليات الدورة الثانية (2) لملتقى المعتمد الدولي للشعر، شعراء من خمس قارات  في ضيافة دار الشعر بمراكش لحظة شعرية بمسيم كوني، احتضنها فضاء بيت المعتمد بن عباد بأغمات، ضمن احتفاء دار الشعر بمراكش بمرور سبع سنوات على تأسيسها. شعراء ينتمون الى خمس قارات جاؤوا من 26 بلدا ليلتقوا في فضاء الدار، دار الشعر والشعراء، والتي ازدانت بها الأيقونة الكونية مراكش، ذات خريف 2017، ضمن بروتوكول تعاون وتعزيزا للتعاون الثقافي المشترك بين وزارة الثقافة المغربية ودائرة الثقافة في حكومة الشارقة، وامتدادا لمبادرة خلاقة لتأسيس بيوت الشعر العربية. هذا الحدث الثقافي والشعري المتفرد، والذي عرف مشاركة 23 شاعرا وشاعرة، ومدراء لمهرجانات شعرية دولية ضمن تنسيق مع العديد من المؤسسات الثقافية المغربية (وزارة الشباب والثقافة والتواصل، قطاع الثقافة، منتدى المرأة الصحراوية، تنمية وديمقراطية في العيون، مؤسسة الكلمة للثقافة والفنون بأسفي، بيت الصحافة بطنجة)، وضمن تظاهرة "حوار الثقافات لشعراء من خمس…