سلّ الوالد غصنها الفتي من حديقة التربية والتدريس، وكبّلها في سن مبكرة إكراها بقيد زواج، تجهل معه تماما معنى مسؤولية العش الزوجي، ولا لها معلومة عن لبناته، أو شروطه؛ قرار مفاجئ اتخذه دون سابق إنذار، خشية أن تأتيَه بكارثة، وتلطخ الشرف حسب ما ترجحه العقول الحجرية البالية، وتلوكه الألسنة المضمخة بالأمية والجهل...
على مضض، عانقت الصغيرة بسواعد من ألم، مصيرها المُرّ المرفوض، وتأقلمت مرغمة مع الوضع الجديد الذي يفوق طاقتها، تُقدم الخدمات لمن في البيت، وتهتم بأشغاله كما في اعتقاد البعض، أن مكان المرأة المطبخ، ومهامها الكنس والتنظيف ولا شيء أخر، تحت لافتة بالبنط العريض ((خادمة باسم الزواج،)) تلبي الطلبات في صمت، على نفس وتيرة أمها وجدتها الممتدة في سلسلة غابرة عابرة؛ لا حق لها في الرفض أو الاحتجاج، حالما تعرضت لإهانة، أو تحقير، أو ظلم، وإن فعلت فهي قليلة الحياء، ومحرومة من رضا الزوج..
اهتزت العائلتان طربا، لما علما بمولود ذكر سيزدان به الفراش ، الابن المنتظر من سيحمل اسم العائلة، الامتداد الأُسُري والسُّري على قاعدة مؤسسة بتمييز حاد، يوشح الأنثى باحتقار لئيم، النظرة الدونية الشرسة، التي مازال البعض يغذّيها بوعي جاحد، رغم أنه لا فرق في المشاعر والإحساس، اللهم الفارق الفزيولوجي...
((جاءت العروسة تفرح مالقات لها مطرح )) على حد قول المصريين، فشوكة الفرح انكسرت، لما خطف المنون بسرعة البرق أباه، ورماه فريسة لكلاب اليتم برعما طريا، صاعقة نزلت بداهيتها على جمجمة أمه، فلاموردَ ماديا، ولا حرفة أو صنعة تقتات منها؛ شقت المنكوبة لِحافَ الزمن تائهة في بحثها الشاق عن قطعة رغيف، فلما سُدت الطريقُ في وجهها، قفلت راجعة إلى بيت والدها، لينتشلها من الشدائد، فيفك أسرها ويشد أزرها؛ غير أن الأمل تحطم في بدايته، حين لبّ والدها داعي ربه إثر نوبة مفاجئة، والبيت الذي وسِعَ الجميع فقَدَ توازنه، فسادت البلبلة، وبدأ الكره يحتل منصبا من المشاعر، والاحتقان يدب بين أفراد الأسرة عملاقا، تضايقت معه الأنفس، واضطربت المشاعر، وأصبحت الملاسنات تشب، والمعارك تضطرم لأتفه الأسباب، والأعين تجحظ بنظرات التجهَّم والاستياء وعدم الرِّضا؛ الشيء الذي أزعج الأرملة، لم تعد معه تطيق الوضع الجهنمي؛ ولتضع حدا للمشكل حاولت انتزاع نصيبها من الميراث، وتستقل (ويهنأ سعيد بسعيدة ) فينطفئ سعير الغل، وتعود البحيرة إلى هدوئها؛ كان الطلب نَشازا، نزل شرارة لهب على المهجة، وألبس الأرملة قماش عدم الاحترام وقلة الحياء؛ والمطلوب قد يُقلِعها من القائمة، أو يأتيها فتاتا حسب المزاج، هذا إن بقيَ في القلوب بعض من الرحمة... تكرر الطلب، وتكرر معه الرفض بإجحاف حاد، ليختتم نهاية المطا ف بطردها قسرا إلى بقاع المجهول في ذل وانكسار، حيث لا بحبوحة في دعة تلملم أشلاءها المبعثرة، ولا سقيفة هادئة تستظل بها في أمن وسلام.. أدت الأرملة طواف الإفاضة بين الإدارات المقاهي والمطاعم، تتجرع سم التحقير والإهانة، وبعد تعب مضنٍ، لاح بريق بفرصة عمل لدى أسرة تتحلى بالنبل الإنساني، وكرم الأخلاق، انتشلتها من ضنك الشوارع، وساهمت في سدّ ثغرة عميقة في القلب، وترميم ما بالنفس من خدوش.. تسلحت الأم مع ابنها بعظمة الجَلَد، لمواجهة جيوش الزمن المتوحشة، وتجاوزِ عقبات الانهزام، منخرطيْن في دواهي الدهر ونوائبه، فبدأت كسور النفس تتجبر، والضيم يتلاشي، والمثابرة في العمل تفتح لهما أبواب ادخار ما فاض من المكاسب ..
أشرقت شمس الأمل في الأفق، لتبدد ما تراكم من الغياهب بالتخطيط للمستقبل بكل ما أوتيا من قوة، وما كسباه من حنكة ومراس، استهلاه على مهل بمشاريع تجارية صغرى؛ فبدأ الحظ يطرق بابهما مبتسما، ليحتويَهما بجوانب مزهرة، تتضوع بالقبض على المأمول المحلوم به؛ فشقّت الأرصدة البنوك بعملات مختلفة، تناسلت من بطونها الشركات، وتكاثر العمال، فلم يعد بطلنا يكتفي بتوسيع الثروة بالإسمنت والحديد، بل قفز بفكره إلى الطبيعة /إلى الحقول والأراضي، ليخيط جرحَ اغتصاب حق ما زال يحفر، وتحت الضلوع يختمر، ولم يندمل بعد، ويطفئ لهب حنين إلى بيت جده، يغلي بحدة في الشرايين ... لم تكن فكرة شراء الأراضي عن اختيار مطلق، ولا طموحا في توسيع الثروة ، وإنما استعادةً لكرامة أمه المهدورة ، وإسعادها بتعويض ما انتزع منها غصبا واغتصابا .. اشتعلت الفكرة ببريق شاهق، وازدادت، لما أنهيَ إليه أن أملاك جده تباع بالتقسيط، فانقض الشاب على فريسته بإبراز أنيابه، وإخراج مخالبه، ليفوز بحصة الأسد دون أن يكشف عن هويته، أو يعلن عن اسمه، فأصبح ما لملمه جده طيلة عمره في حوزته ـــ ما عدا السكن ـــ بتوثيق مكتمل.... والطامة الكبرى نزلت بشهقتها القاتلة، لما أدرك أصحابها أن المشتري لم يكن إلا ابن عمتهم، ذاك الصبي اليتيم الذي طرده أخواله مع أمه، حين طالبتهم بحقها في الميراث...
مالكة عسال