وقفت سعدية خلف الجدار و عيناها تدوران في محجريهما، و هي تحاول يائسة أن ترى ما يجري داخل الغرفة من خلال كوة الباب، لكن نظرها يصطدم بالعتمة في الداخل فيرتد حسيرا، فمنذ أن وصلت وزوجها مرفوقين بابنتهما، أمرهما المساعد أن ينتظرا في الخارج و أن لا ينقطعا عن التسبيح و ذكر الله. أما زوجها فقد تلا ما كان يحفظ من آيات ثم اسند ظهره للجدار و سحب مسبحته من جيب سرواله الفضفاض و راح يمرر حباتها بين أصابعه و شفتاه تنفرجان و تنطبقان في حركة متواصلة لا انقطاع فيها، و كلما تحسس الشاهد المسبحة، رفع سبابته اليمنى و تلا الشهادتين بصوت أقرب إلى الجهر و رفع بصره إلى السماء و دعا في سره.
لم يريا الشيخ الذي في الغرفة، لكن سعدية لمحت طيفه يعبر من غرفة إلى أخرى و عجاجة البخور المتصاعدة من الموقد الصغير الذي يحمله في يده اليمنى تملأ المكان، و تضفي عليه طابعا قدسيا، و تسربت رائحته من بين الفتحات التي في الباب، فتعطر الجو برائحة لم تشمها سعدية و لا زوجها من قبل رغم كثرة الأضرحة التي زاراها. و لمحت سعدية في يد الشيخ اليسرى مسبحة تتدلى حباتها العاجية البراقة المنتظمة في خيط رفيع، قيل إن عجوزا سودانية أهدتها له، و قيل أيضا إن تلك العجوز هي التي علمته كيف يفك الطلاسم و كيف يطرد الجان من الأجساد الآدمية، و علمته أيضا كيف يبطل السحر و يعقد من يشاء عن الزواج أو العمل، و وعدها مقابل ذلك بالزواج منها، لكنه لم يفعل و ظل ردحا من الزمن يعاشرها و يماطلها إلى أن ضجرت و رحلت ذات ليلة بعد أن دست له في الطعام شيئا لم يُبقِ له شعرة واحدة في كامل جسده، و لم تنفعه بعد ذلك تعويذاته التي علقها أو تمائمه التي وضعها في جيبه و لا الزيوت التي استخلصها من الأعشاب التي أمضى شهورا في جمعها من الجبل، في أن تنبت في جسده شعرة واحدة و استسلم أخيرا لقدره و لم يفكر حتى في البحث عن تلك العجوز.
كفا سعدية مرفوعتان في ضراعة، و كاد حلقها يجف من كثرة ما لهجت به من دعاء، و عيناها لا تكفان عن ذرف الدموع الحرّى، و زوجها يحدق فيها في صمت، لكنه كان يقطع سكينته ببعض الكلمات التي يحاول بها أن يهدئ زوجته، و يطمئنها بأن ابنتهما بين يدي الشيخ و أنها لن تخرج من عنده إلا سليمة معافاة، فالقروح الطافحة على وجهها و رقبتها لم تكن سوى بسبب غضب الجان الذي سكنها منذ زمن حين رآها تغتسل عارية في باحة البيت ذات صيف حين خلا المكان إلا منها، حينها عشقها و قرر الزواج منها، زارها مرتين في هيأة رجل، و عرض عليها الزواج، و عندما رفضت قرر أن ينتقم منها، فنغّص عيشها، و صد عنها كل الراغبين فيها زوجة، بدأ تحكم الجان فيها بانقطاعها عن المدرسة و انتهى بها إلى لزوم البيت و رفض رؤية البشر، و نوبات الهستيريا التي تنتابها من حين لآخر. لم يكن أحد يعلم موعد تلك النوبات، في الصباح كما في المساء، عند الفجر كما في الليل، كانت تنشب أظافرها في وجهها و تسحبها بعنف، فتكشط الجلد و يسيل الدم أحمر قان، ثم تشرع في تمزيق ثوبها، و من ثم تنغمس في بكاء سرعان ما يتحول إلى نشيج و شهيق، و تهدأ شيئا فشيئا و تستسلم للنوم، ثم تفيق بعد غفوة قصيرة كأن شيئا لم يحدث، و حين تسألها والدتها عما ألمّ بها تحدجها بنظرة عميقة و تُحجم عن الكلام و تظل صامتة اليومين و الثلاثة.
الجسد الغض بين يدي الشيخ يقلبه كيف يشاء، فما إن دخل الغرفة حتى تلا بعض الكلمات، ارتخت معها مفاصل الفتاة و انهارت، ذبلت نظرتها و لم تعد تقوى على التحديق في وجه الشيخ، ثم غابت عن الوجود تماما و انتقلت إلى عالم آخر غير مرئي. تعبق الغرفة برائحة الجاوي، و يبدأ مساعد الشيخ بضرب الدف، الجان يحبون ذلك، قيل إنهم يتعطرون بروائح البخور و ينتشون بها، و قيل أيضا إنهم يطربون لسماع صوت الدف و يرقصون عليه...ترى هل تشاهد بنت سعدية الآن الجان و هم يرقصون؟ ترى هل يشبه رقصهم رقص بني البشر؟ و هل ستتعلم الفتاة ذلك و تعلمه لوالدتها التي ستمارسه خلال مواسم الأفراح التي تحضرها؟ فليس أبرع من امرأة ترقص كما جنية، يتلوى جسده و ينثني، و يصّعد و ينخفض، يحلق في السماء و يغوص بين ثنايا الأرض.
طرقت بها والدتها كل الأبواب، و عندما أعجزها الترحال بين الأضرحة و المقامات، أسلمت أمرها لله و بقيت تنظر إلى ابنتها التي تذوي يوما بعد يوم، فلم تنفع التمائم التي علقتها في رقبتها، و لا الماء الذي رشته حول المنزل و في زوايا الغرفة، و لم تفدها صرة التراب التي جيئ بها من المغرب الأقصى، أحضر لها والدها يوما إمام المسجد، انزوى به بعد الانتهاء من صلاة المغرب و حدثه بأمر ابنته، تثاءب الإمام و استغفر ربه ثم سارا يتحادثان حتى بلغا البيت، فما إن خطا الإمام خطواته الأولى داخل الباحة الواسعة، حتى شرع يتلو آيات من الذكر الحكيم بصوت مرتجف علته حشرجة غير مألوفة في صوته العذب النقي، عندها صرخت الفتاة و هرعت من غرفتها و شعرها منفوش و ثوبها محصور إلى ما فوق ركبتيها، و وثبت على الإمام و تعلقت برقبته، و لم يتخلص من قبضتها إلا بعد أن تناثرت حبات مسبحته و حفنة البخور التي أخرجها من جيبه و لم يتمكن من وضعها في الموقد، و سقطت عمامته و تمزقت جبته، و صار في حال من الهوان، فما إن تحرر من اليدين اللتين صارتا كلابتين حتى خرج مهرولا و سابا و معرضا عن والد الفتاة الذي جرى خلفه و هو يحاول دس بعض القطع النقدية في جيبه. و أجاب سعدية حين انتظرته بعد يومين أمام المسجد بأن جان ابنتها كافر و لن يقدر على هزمه.
صوت الدف يخترق الجدار، و يبلغ مسامع سعدية، و مع كل ضربة يزداد وجيب قلبها و يرتفع نسق نبضه، حتى كادا ينسجمان تماما و يتناغمان تسارعا و تباطؤا. الأصوات تتداخل و الصرخات تعلو و تنخفض، تهتز سعدية و صرخات ابنتها تنزل مطارق على رأسها و صوت الشيخ الأجش يشتد حين يتفوه بعبارة " اُخخخخخرج و إلا أحرقتك بالنار"، فيجيبه صوت ساخر بهدوء " لن أخرج...سأقتلها". في الخارج يزداد خفقان قلب سعدية لسماع تهديد القتل، تقف، تدنو من الباب، تمد يدها إلى المقبض، و قبل أن تبلغه يصرخ زوجها " ارجعي إلى الوراء" و يقف و يدفعها فتتهاوى على الكرسي و تنخرط في بكاء و شهيق.
لا أحد يعلم ما يحدث في الداخل غير الشيخ و مساعده، المنجل المحمر بفعل النار يدنو من الأنف، و اليد المرتعشة تضغط، و الجسد الذي كان منذ لحظات في حالة استرخاء تفور منه فجأة قوة عجيبة، و تنتفض صاحبته و تدفع الشيخ و المساعد، و تنتصب واقفة كعمود، صلبة كجذع نخلة، يتطاير من العينين شرر و تصطك الأسنان و تطحن بعضها في عنف و قسوة، فإذا لهما صوت كأز الحديد على الحديد. يتراجع الشيخ، و من زاوية الغرفة يسحب عصا غليظة، يُحكم قبضته عليها، و بما بقي فيه من قوة يهوي على رأس الفتاة، فيتناثر الدم ثخنا، و تذبل النظرة الثاقبة، و يذوي الشرر المتطاير و يتهاوى الجسد المنتصب، فيرتمي الشيخ فوقه و يشرع في لطم الوجه بعنف و قسوة، و الفتاة تئن و تصرخ، و يتجدد حوار الأمر بالخروج من الجسد و الرفض، و عندما يرتفع صوت الشيخ بتلاوة القرآن في إيقاع يحرك النفوس، يرتفع الصوت المارق من الفتاة:
- سأخرج.
يرد الشيخ:
- عاهدني.
- أعاهدك.
- علامَ؟
- على أن لا أخرج.
يشتد الصفح و الضرب و ترتخي يد الفتاة التي كانت تحاول صد يد الشيخ، فيدرك المساعد أنه سيده قد أحكم قبضته على هذا الجني العنيد و أن لحظة الخلاص قد باتت وشيكة...فيحضر إناء الماء و يقف حذو قدم الفتاة منتظرا إشارة من الشيخ.
ينبجس صوت مكدود من أعماق الفتاة، و يردد كل كلمة قالها الشيخ بوضوح: " أعاهدك أن أخرج من هذا الجسد و أن لا أعود إليه أبدا"، عندها يلتفت الشيخ إلى المساعد و بإشارة من عينه يدني إناء الماء من قدم الفتاة، فتدفعه، فيراق الماء. عندها يتهاوى الجسدان، الشيخ و قد بح صوته، و الفتاة و قد صارت شلوا لا حراك فيه.
يفتح المساعد الباب، و تجري سعدية لتحتضن ابنتها و تمسح الدم المتخثر من شعرها و تكفكف دموعها، أما زوجها، فقد ظل واجما يحدق في جسد الشيخ الذي بدأ ينتفض و يهتز كأن جانا قد سكنه.