يوماً ما، قرر الأكسجين أن يشترك مع الهيدروجين في تكوين الماء. كان مشروعاً واعداً، وقصة نجاح تلمع في الأذهان، ستكون كل الكائنات الحية بحاجة إلى لمركّب الجديد. وسيصبحان معاً جزءًا من السائل الأهم في العالم. هذه أيضاً مغامرة رائعة، سيطيران معاً في غيوم عالية تجوب البلدان دون تأشيرات، سيهبطان كل مرة في بقعة مختلفة من العالم، سيجريان في الأنهار الطويلة والجداول الضيقة. سيتعرجان أودية بين حقول القطن في إفريقيا عاماً كاملاً، وسيرسمان قطرات الندى فوق أزهار التوليب ذات صباح في أوروبا. سيشاركان في تنظيم مسابقات المراكب الشراعية، وسيحملان فوق رؤوسهما عمالقة السفن البحرية يراقصانها دونما رهبة. سيشاهدان عن قرب أروع أسراب الأسماك الملونة وأكثرها غرابة. ما أروع أن تكون ماءً.
لكن ذلك لم يكن قراراً سهلاً، إذ أن تكوين الماء يتطلب أن يتخلى كل منهما عن خصائصه الأصلية كاملاً، أن ينسى اسمه، لونه وطعمه ورائحته، وأن يكتسب خصائص المركب الجديد، والتي قد يوافق أو لا يوافق بعضها ما كان عليه سابقاً، الغاز يصبح سائلاً، القابل للاشتعال يصبح مادة شائعة في إطفاء الحرائق، السام يصبح ضرورياً للحياة. قرار شجاع فعلاً أن تسلب نفسك من نفسك، وتضعها أمام شخص آخر في دورق واحد. هو أيضاً وضع نفسه بنفسه في ذات الدورق لتكونا معاً شيئاً آخراً مختلفاً، ليس أياً منكما ولكن كليكما معاً.
عندما اتحدا، نظرا إلى ذاتهما الجديدة، كانت سائلاً نقياً صافياً، مذهل أن تكون غازياً لسنوات لا يشعر بوجودك أحد، ولفترة طويلة يشكّون بوجودك أصلاً، ثم تجد نفسك سائلاً، الآن أصبح بإمكان البشر أن يشيروا إليك، أن يطلبوك باسمك، أن يلمسوك بأيديهم، أن يعرفوا إن كنت ساخناً أم بارداً. من الآن أصبح لك وزن، ولك حيز وكثافة.
وجدا نفسهما فجأةً فوق موجة عالية في المحيط الأطلسي، صاحا فزعاً ومرحاً، أطاحت بهما الموجة في قاع المحيط، دخلا جوف حوت أزرق، زفرهما عالياً مرة أخرى، حلقا في الجو ثم تناثرا على صفحة الماء وراحا في نوم عميق. عندما حل الضحى استيقظا على تحول عكسي في شكلهما، إنهما يغادران الحالة السائلة تدريجياً إلى أثير، تساءلا إن كانت هذه نهاية الرحلة. عندما اكتملت عملية التحول لم ينفصلا، ما زالا ماءً واحداً لكنه بخار. رائع! باستطاعة الماء أن يطير إذن، وها هي صفة من صفاتهما السابقة تعود، لكن إليهما معاً.
كان المشهد رائعاً من فوق غيمة داكنة تسابق الريح، لقد رأى كل منهما هذا المشهد كثيراً من قبل، لكنهما يشاهدانه هذه المرة وأيديهما متشابكة. هناك فرق! الألوان أصبحت أزهى والأضواء أكثر سطوعاً. كل الأشياء العادية أصبحت جميلة، حتى الصخور الرمادية غدا لها دور مهم في تلك اللوحة الزيتية الشاسعة.
لم تمهلما الغيمة طويلاً، ألقت بهما بقوة نحو الأرض مرة أخرى. لسوء الحظ، سقطا في مستنقع آسن في نيجيريا. أوراق الأشجار الضخمة كانت تحجب ضوء الشمس، صوت الضفادع كان مزعجاً، التماسيح الراقدة في القاع ليست مرحة كالدلافين. ظلّا صامتين أياماً. الصباح كان كالمساء، الرائحة النتنة لا تتغير، طنين البعوض يملأ المكان. شعرا بالضجر، ظلا صامتين أشهراً. الربيع كالخريف، والصيف كالشتاء. كانت الأمطار لا تتوقف، ونسبة الرطوبة لا تسمح بالتبخر، والرقود سيد الزمان. أحس الأكسجين برغبة كبيرة في الطيران، أن تأخذه الريح، أن يتسرب في الأمكنة التي لا يصلها أحد، أن يدخل رئتي طفل مولود للتو فيبعث فيه الشهيق والزفير. ما العمل؟ لم تكن هذه الحالة في الحسبان. هل كان قرار الاندماج متسرعاً؟ هل نستطيع فعلاً أن نتخلى عن صفاتنا لنصبح شيئاً آخر؟ كان شريكه الهيدروجين يشاركه التفكير لكن لا يقاسمه الكلام. أومأ كل منهما بالرغبة بالانفصال.
للمرة الأولى منذ عام، شعرا بحركة غريبة في الماء الراكد، وجدا نفسهما بعد لحظات في أنبوب اختبار مغلق. كانا ضمن عينة من الماء أخذها باحث فرنسي. في مختبره أجرى عليهما تجارب لم يسبق لهما أن سمعا بها. أدخل عليهما الأحماض والأملاح، دخلا في معادلات كيميائية معقدة. كانت آخرها هي الأشد ألماً، والأطول زمناً، تعرضا فيها لكمية هائلة من الضغط والحرارة، فقدا فيها كمية كبيرة من الطاقة، أدت في النهاية إلى انفاصالهما.
شعر الأكسجين برعشة حادة، أصابت جميع ذراته. عندما وجد نفسه حراً مرة أخرى صاح مرحاً وقفز في الهواء. لا شيء يعدل الحرية. ها هو يستعيد ذاته، يعود الغاز الأهم في العالم من جديد، الشخص الذي لا يستغني أحد عن استنشاقه وإن لم يكن يراه. ها هو يستعيد دوره في إشعال المدفأة، وفي دوران محركات الوقود، وفي تنفس الأشجار. لا يبالي ما يفعل الهيدروجين من بعده فقد تخلص أخيراً من رائحته العفنة. بعد أيام تخلص أيضاً من وخزة في ضميره، فقد تخيل أنه بانفصاله سيختل توازن الكون، وأن الطبيعة ستغضب منه، وأن الأرض ستعاقبه. لكن شيئاً من ذلك لم يحدث، فها هي الشمس تشرق من مكانها، عادي! لم تتوقف الأرض عن الدوران. ها هي الريح تحمل الغيوم وها هي الأمطار تتساقط كعادتها وها هم البشر يشربون والأمواج لا تفتأ تتلاحق، والسفن كلها تجد ما تجري عليه، الحقول والأودية والندى والفراشات. كل شيء عادي!
العادي هو الصفة المرادفة لكل شيء ممل. الأكسجين مثلنا، لا يحب الملل، لذلك فهو دائم البحث عن أي شيء يؤكسده. الأكسدة هي الحياة. وحدها العناصر التي تظن أنها نبيلة استطاعت الهرب من سحر الأكسدة، لكنها عاشت في عزلة مملة.