كان هنا بالأمس القريب يداعبني، يلاعبني، يشاغب كي لا يفرض الصمت سلطته على فناء الدار، وفي زوايا الغرف الثلاثة.
بهي الطلعة حين يباغتني وهو يصيح : بابا.. بابا.. جئت من مدرستي "الحلوة" يفاجئني وأنا تائه بين السطور، التفت بغتة تحت تأثير صوته الرنان متسائلا: وأخوك أينه؟ !
يصافحني مقبلا بحرارة وابتسامته تعلو شفتيه: أخي هاها! أخي اليوم كان عريس الدرس لما فك لغزا عجزنا جميعا أن نجد له حلا. صفقوا له، صفق له الجميع...
غاب فجأة ليتركني ألوك الألم والسهو والتيه عبر ذاكرتي التي تخصصت في جمع كل ملامحه، واستجلاء كل قسماته التي نسيها في دواخلي وأعصابي وكل أماكني السرية. أحن إليك، لقد نسيت بين يديك الصغيرتين بصماتي، ونسيت بين شفتيك قبلاتي وأنا أحضنك كلما عدت من "حلو" مدرستك كل ظهيرة وعشية ونسيت ... ونسيت...
أراك من خلف المسافات وقد اشتد عودك، وسما فرعك الذي فاجأتني به بعد عودتك وأنا أراك تسلم الكرة في السلة بالطريقة الأمريكية الاستعراضية. كم من الوقت الذي انساب بسرعة بين هيئتك الصغيرة وأنت تحضن أخاك التوأم في أعياد ميلادكما بشقة عبد المومن وبين الآن وقد شط بك المزار لتحل بأرض الإفرنج مبعدا بمسافة ساعتين ونصف طيرانا.
هو الزمن هذا الذي نجني سنابله ونحن نرى كيف يباعد بيننا، فصمم العزم على ألا يباغتك مستقبلا لتركب رياحه الهوجاء دون هدى.
إنا ها هنا نترقب اليوم الذي يضمنا، فلا تضع البوصلة لتضل طريق عشك الذي لا تزال حرارته مبعثرة في كل أثاث بيتك الصغير الذي يحاصرنا بكل زاوية من زواياه.
طفلي، عذرا فراسي الذي راهنت على جسارته واختراقه للمتربصين اختراق الحمداني لفلول الطامعين في مناعة آل حمدان. طفلي، لا تزال وكذا وطني الذي صافحه الخوف بعيون من شوك الطامعين.
بيني وبينك جبار، هو البحر المكابر، كلما حدقت في أمواجه انتابتني ذكرى كنا فيها رهائن تحت رحمتها أنا وأنت وفارس. كم كنا مغرورين بقدراتنا على مصارعتها حين ألقينا جميعا ذات ظهيرة أبريل حارقة أجسامنا في خضمها، كم كنا واثقين من قدراتنا على خوض غمارها مزهوين بفتوة عضلاتنا التي ما كنا نتخيل أنها ستخذلنا حين حاصرتها قوة جزر الأمواج العاتية، وأمكما على قمة تل الشاطئ تتنسم عبير الرياح غير آبهة بما كان القدر اللئيم يهيئ لها من مفاجأة.
البحر جبروت مدى يكبر في عيني الرائي كلما حدق في عبابه، لكنه كان أصغر من تشبثنا بالبقاء ونحن نصارع عتو أمواجه، غير منصاعين لرغبتها في أن نسكن بقاعها السفلى.
كيف ننصاع ونحن من أنصار الطفو المدمنين على الرنو لضوء الشمس وهي تحدج باقي الملكوت من قلب عنان السماء.
بين البحر والشمس مدى وفضاء ، وبين الموت والحياة قشة بعير .
فالفراشة تحيى برشاقتها، وحمر الوحش تفنى بضخامة جثثها.