وصلته الصور محمّضة وهو يقضي العطلة في العقبة مع زوجته. غمرت الابتسامة وجهه وهو يقلّبها بين يديه. اقترب من زوجته يريها إياها، فأمسكت تعاينها: طفل تسير فوقه دبابة أمريكية في العراق، نار مشتعلة في جثث آدميين لبنانيين، عراقيون وفلسطينيون في مجازر جماعية، ثم صورة أخرى لجثث انهالت عليها حيطان منزل هدّمته قاصفات ودبابات إسرائيلية. محمّد الدرّة وهو يموت رميًا بالرصاص.
لم تستطع رؤية المزيد من هذه الصور. أدارت وجهها متحاشية النظر إليها:
"يا إلهي، كيف التقطتَ هذه الصور؟!"
ردَّ بفراسة جندي: "هذا عملي؟ أرسلوها لي من عمّان لأراها. ليس أيُّ صحفي يستطيع التقاطها. خاطرتُ بحياتي وأنا أزجُّ نفسي في هذه المخاطر لأكون الأول فيها. دمي مُستباح ككل هؤلاء، وهم يلقون بالحجارة على الأعداء!".
"وأنتَ أيضًا كالجنود القَتَلَة. هم من يتيحون لك فرصة التقاط هذه الصور النادرة!"
همّت بالمغادرة عندما سألها بخيبة أمل:
"إلى أين؟"
"إلى البحر." ثم نظرت إليه متابعة: "إنه مُتَسعٌ كبير لموت كثير، سأكتفي بالنظر إليه من بعيد!"
اقترب منها: "لو أننا سافرنا إلى مكان آخر لا بحر فيه. البحر يعيد عليكِ ذكرى سقوط الطائرة وموت الأطفال الذين كانوا على متنها، في تلك الرحلة المشؤومة إلى أمريكا! عليك أن تحمدي الله أنك نجوتِ من الموتِ بإعجوبة!".
هزّت رأسها باستخفاف: "الأرض تسقط في البحر."
***
جلست في الاستراحة، وحيدة على كرسي من القشّ، تستعيد ماضيها. تتذكّر حين كان صديقها حليم، على عادته، يقف بانتظارها في المطار، متلهفًا لرؤيتها كلما سافرت إلى أمريكا.
قلّما تسافر استجمامًا. في أغلب الأحيان يتعلّق سبب السفر بمؤتمر تُدعى له لبحث مستجدات علميّة تتعلّق بمهنتها كطبيبة. ما إن يراها حتى يبدأ بالتلويح لتراه، ثم يصحبها إلى الفندق مصّرًا على حمل حقيبتها. وحال أن يضعها في صندوق السيارة ويجلس خلف المقود، حتى تعاتبه فيقول متفاكهاً: "لا عليك، أنا أحب حمل حقيبتك. إن شئتِ أخذتُ أنا البقشيش!"
"غدًا سأحلّقُ بالمنطاد، ما رأيكِ لو تحلّقين معي؟" اقترحَ عليها قبل أن تصعدَ إلى غرفتَها في الفندق.
"طبعًا لا، فأنا أخشى ركوب المناطيد!"
"لكنك لا تخشين ركوب الطائرة؟"
"ربما! الطائرة لها أجنحة والمنطاد لا أجنحة له!"
"حسنًا، سأكتفي بتشجيعك لي."
"حتمًا سأحضر، مشاهدة المنطاد شيء جميل."
"سآتي إلى الفندق وأصحبكِ في الساعة الثالثة، كوني مستعدة."
وقفت عن كثب بين المتفرجين ترقبه وهو ينفخ المنطاد استعدادًا للتحليق به. كان يشعل الحارق عندما انتبه إليها. اقترب يحيّيها وسألها:
"ما رأيك؟"
ابتسمت بخفتها المعهودة وردت: "بماذا؟"
"أن تجرّبي الطيران فيه؟"
أجابت بلا تردد: "لالا، قلت لك أني أخاف هذا الشيء!"
"له اسم جميل. ستحبين اسمه وركوبه وأنا معك. لا تكوني جبانة وثقي أنّ ربّانَ هذا المنطاد سيطير بك بسلام."
ثم تجرأ وأمسك بيدها يجذبها نحو المنطاد. أخذ المتفرجون يصفقون تشجيعًا لها؛ فحاصرها الخجل. رفعت كتفيها مرتبكة، فركض بها خفيفة لتضيف لمريولها الأبيض ألوان فراشة زاهية.
ساعدها بركوب السَلّة المعدة من الخوص. تمسّكت بأطرافها جيدًا أثناء تسخينه للهواء. المنطاد يرتفع عن الأرض. ارتعبت للوهلة الأولى. وعلى انشغاله بتسخين الّلهب، إلا أنه راقب ارتباكها، خاصة كلما زاد من تسخين الهواء ليرتفع المنطاد أكثر.
قال معلّقًا:
"كأننا في العالم وحدنا، حواء وآدم، لا آخرون بيننا، فقط سهول ومياه وطيور، وأفقٍ مفتوح. ياه..! كلما ركبت المنطاد ازددت إحساسًا به!"
قالت ممازحة: "أكلُّ هذا للمنطاد؟"
"لعله يستحق كل هذا. فهو يمنحُكِ فرصة امتلاك العالم! أنْ تمتلكَين العالم بعينيكِ لأمرٌ مذهل! هل شاهدت الأرض أو البحر من هذا العلوّ قبل الآن؟"
"هاك حلمًا أراه بأم عينيّ، كأنني لم أشاهد هذه الطبيعة البتّة، لكنني لا أكتمكَ أنني أخاف الطيرانَ فوق البحر، حتى وأنا في الطائرة المجنّحة؛ فالأجنحة لا تعلقُ إلا بأحلامنا!"
ضحك بينما ينعطف بمساره حيث امتداد السهول:
"على الرغم من أنك كثيرًا ما تسافرين بالطائرة؟".
لا يزال الانشداه والمفاجأة يملآنها. فَرَدَت ذراعيها بثقة أكبر، وهتفت:
"الهواء يعبرني، يعبر كلّ جزء مني. يؤججني، يوقدني كهذا الّلهب الذي يحترق ليطير بالبالون. يشعرني بخفّة طالما ظننتها حلمًا!"
"إذًا أنتِ اليوم تمتلكين العالم مثلي. لم أكن أعلم أنّ للطبيبات قلبًا رقيقًا كقلبك؟!"
ابتسمت وعيناها تلمعان: "ألسنا أرقهنّ قلبًا؟!"
"آى، لا تعبثي بالإجابة مع رجل لا يفهم إلا بالتجارة!"
"ويفهم بالتحليق أيضًا، إنك تحلّق بكل شيء!"
"يكفيني أنني اليوم أحلّق بكِ!"
"إنكَ تملؤني تحليقًا!"
ولَّدَت نظراته فيها دقّاتَ قلب عصفور.
"أخبريني؟ هل أعتبره غزلاً؟"
أربكها بسؤاله الجريء، لكنها عادت لتحلّق بالأفق الأبعد، وتناظرُ السهول الممتدة.
سألها: "إلى ستبقين في أمريكا؟"
"حتى ينتهي المؤتمر طبعًا."
"ما موضوع المؤتمر هذه المرّة؟"
"عن العوارض النفسية التي ترافق الأطفال المصابون بالسرطان؛ بما أنني طبيبة نفسية مختصّة بسرطان الطفولة."
"ماذا تفعلين عندما تمرّين كل يوم بأطفال مصابين بهذا المرض؟ ما شكل معاناتهم؟ هل تنجحينَ دومًا في إيجاد معبرٍ للأمل لهم؟ أظنهم لا يدركون تمامًا المشكلة الحقيقية لهذا المرض."
"قد تستغرب، أنا في كل مرة أمرّ بهم أتحوّلُ إلى مريضة. هم أطبائي وأنا بحاجة دائمة لهم! آه.. ليتَ كل الأطفال المصابين معي على هذا المنطاد لنصعد إلى السماء دون موت!"
"موت؟! توقفي عن الكلام!"
" قلتُ لكَ، أحتاجهم لأحيا."
"ما رأيكِ إذًا ؟"
"بماذا؟"
"لتستمرّ حياتك إلى الأبد؛ سأستضيفهم وسآخذهم برحلات متعددة بالمنطاد."
ردت بضحكة طفل: "هل أنتَ جاد؟"
"نعم، أعدكِ، سأحفظ ملامح وجوهَهُم عن ظهر قلب، بعدما كشفتِ لي عن سرِّ حياتك."
"أنا سعيدة، وموافقة بكل تأكيد."
"متى سينتهي المؤتمر؟"
"بعد ثلاثة أيام من الآن. هل ستبدأ تحضيراتك منذ الآن؟"
"كنت أود العودة معكِ إلى عمّان، قبل ولادة هذا الاقتراح الذي ألهمه لنا هذا الجمال!"
"هل تودُّ العودة زائرًا؟"
"أترغبين بأن أستقرّ هناك؟"
ردّت بعفوية:
"أنا لا أحب الغربة." ثم انتبهتْ لتهورها بهذا الرد، فقالت: "أعتذر، فهذا ليس شأني!"
"بل شأنكِ إنْ أردتِ؟"
"لم أفهم. ماذا تقصد؟"
أخذَ يهبطُ بهدوء. أصدقاؤه يمسكون بحبال التثبيت ويشدونها نحو الأسفل. قال:
"سببٌ وجيه يجعلُني أهبطُ بهدوء أكثر، فهنالك أطفال أنا الآن بحاجة إليهم ليشحذوني بالحياة أيضًا." وانشغل بتفريغ الصمام من الهواء. وما إن كاد يصل الأرض حتى باغتها: "هل تتزوجينني؟"
تفاجأت بطلبه.لم تستطع الرد بسبب دويّ التصفيق من الجمهرة المتفرجة. ابتسم لها وهو يسير بها بعيدًا عن المنطاد وعن الناس: "سأرجئ سفري حتى تأتينَ بهؤلاء الأطفال. أعدكِ برحلة مميزة لهم."
في المطار، قالت له وهو يودعها: "أأقول لك شيئًا؟"
"قولي!"
"أود لو كنتَ طبيبًا وليس رجل أعمال!"
"ألاْ نملك الإحساس بالإنسان مثلكم؟!"
"بل لأنّ في صفوفنا من هو مثلك!"
"صفوف؟ أنتم مجنَّدون فعلاً، وأنا أشكرك لأنك تجنّدينني في صفوفكم."
"هل أقول لك شيئًا آخر؟"
"أسمعكِ بإصغاء كامل."
"أحبكَ."
وغادرته كطفلة هاربة دون أن تحاول النظر إلى عينيه.
***
تبددت الذكريات حين وضع زوجها يده على كتفيها من الخلف. ما زالت جالسة في الاستراحة أمام البحر شاردة.
"بماذا تفكرين؟"
بابتسامة باردة ردت عليه: "أبدًا، أتأمل البحر فقط!"
"هل تودينَ العودة إلى الشاليه لترتاحي قليلاً؟"
"لا، لو سمحت، أريد أن أظل وحدي!"
"ولكن يا حبيبتي!"
"دعني، أريد أن أظلّ وحدي!"
"تغيرتِ!"
"بل غِشاوةٌ منعتني من الإبصار جيدًا عندما قررتُ الزواج بك بحجة أنَّ عليَّ الاستمرار؛ بحجة أنني جزء من استمرار غيري؛ غيري الذين هم عبارة عن صور وأشباح في مرآتك!".
"أليس هذا عملي؟ أنت تحكمين عليَّ بقسوة. ثم أنكِ تنظرينَ إليَّ من زاوية واحدة."
"ربما!"
سألها بتوجس: "هل نادمة لزواجك مني؟"
"كان عليَّ أن لا أتزوج بك."
"ألأنني مصوّر حرب؟".
"من أهمّ الأسباب!"
"فقط؟"
"ولأجل حليم، ولأجل الأطفال. كانوا مرضاي وكنتُ طبيبتهم، ألا ينبغي أن أكون وفيّة لهم؟!"
"لكنـ...!"
قاطعته: "اتركني، أنا لا أريدك أن تلتمس لخيانتي ذكراهم العذر!"
***
ألعاب نارية ومفرقعات تصعقُ السماء، فتعيدها إلى أرض صلبة، ومياه بحر بردت مع الليل القاني. صعدت لتركب سفينة صغيرة، وأخذت تتأمل البحر من النافذة التي تتوسطها. تنظر إلى الشُّعب المرجانية. تغيب وتزداد شرودًا محدثةً نفسها:
"ألم أخبرك يا حليم أنني أخاف الطيران بالمنطاد! خاصة فوق البحر الذي أخافه في بُعده وفي دنوّه! لو عدتَ معي ربما ظللتَ على قيد الحياة. الآن، وقد تحلّلتَ في هذا البحر، ربما تحولتَ إلى شُعب مرجانية. اتفقنا أن أعود إليك بالأطفال. ليتنا لم نبرم عهدًا أو نقطع وعدًا! هل عليَّ الآن أن أتمنى لو كنتَ مجرد رجل أعمال لا يفهم إلا بالمال؟ هل تُوَحِدُنا إنسانيتُنا لتطلقَ شرارةَ الموتِ فينا؟".
تمتتْ والدموع تملأ وجنتيها: "يا إلهي، هل كنّا نتواعد بالموت عندما سقطتَ بالمنطاد وسَقَطَتْ الطائرة التي تقلّني وتقلُّ الأطفال ونحن قادمون إليك؟! كلّهم ماتوا وبقيتُ أنا! كأنني تآمرت مع الموت لأوقع بك وبهم. كأنني أردتُ الخلاص منكم جميعكم. ثم تزوجتُ. تزوجتُ لأجل خيانتك وخيانتهم. الشهور مضت سريعة دونك. هل تعلم يا حبيبي أنني أقترف الحياة ولا أعيشها!"
***
في اليوم التالي أتى بها البحر. أصوات الطيور المحلّقة فوقها كأنها تنخر حوافّه، وتؤبن شواطئه، وتدنو واطئة، وفي فمها السماء معلّقة بها أرواحهم. أصوات الباعة المتجولين من حولها، طفل صغير يمشي حافيًا يقف أمامها، يبيع القواقعَ والصدفَ وقد صنع منها عقودًا جميلة.
حمل بيديه عقدًا من الصدف، مسحت شعره:
"لم أحمل معي نقودي لهذا اليوم!".
ابتسم الطفل. كان يُلبسها العقد حين انفرط بين يديه فحزن. قالت:
"لا عليك، سأدفع ثمنه."
"أين تسكنين؟"
"مستأجرة ذاك الشاليه"، مشيرة إليه.
"سأعود لكِ بغيره."
"أنتظركَ."
***
ليلة ناعسة أسقطتها في النوم. سمعت هدير طائرة تحلق عاليًا. ركضت منادية: "هيّا، عودوا يا أحبتي، أيها الجاثمون فوق روحي، العالقون في جلدي، الكالحون في لوني، أنا هنا لأعود بكم." اختفت الطائرة بين السحب بعيدًا عن ناظريها، وغاب عنها صوابها. صرخت، وما زال زوجها يهزها بعنف، لتستيقظ من كابوس يتكرر في أحلامها.
***
لدى عودتها من البحر في نهار بارد، قابلها زوجها بابتسامة:
"عدتِ باكرًا اليوم.".
"الطقس بارد، يبدو أن الفصول تتبدل بسرعة.".
"اتصلت المستشفى قبل ساعة، رفضوا تمديد الإجازة لإسبوع آخر".
لم ترد. وقفت على الشرفة المطلة على البحر. جسدها يرتجف من البرد. أحضر لها شالاً ورديًا وألقاه على كتفيها، وسأل: "حتى متى؟ لقد..."
"كيف تحملتني حتى الآن؟".
"كوابيسكِ هي التي لم تعد محتملة، وليس أنتِ. لم يعد محتملاً إحساسك بالذنب. هل المطلوب أن أردد عليك كل يوم أنك لم تكوني السبب في موت هؤلاء الأطفال و..."
"لماذا توقفتَ، وموت حليم أيضًا. فهو انتظرني لآتي له بهم!"
"لم تكوني كابتن الطائرة التي سقطتْ، بل كنتِ من الناجين. أُنقذتِ بإرادة الله، ولم تُسقطي المنطاد بحليم! ومن مات فقد مات أيضًا بإرادة الله!"
"أتذكره جيدًا عندما وجدت نفسي معه في منطاد. لم يكن حلمي أن أحلّق به يومًا، لكنه أصبح حلمي وحلم الأطفال. أتذكرهم، أتذكر ألعابهم، قصصهم التي كنتُ أرويها لهم، آمالهم، قلقهم الذي كنتُ أحاول صنع المعجزات لتبديده، لكنهم في كل مرة هم كانوا يصنعونني. يتحوصلون الآن ككتلة حزن، وجرعة عالية من الاكتئاب. لا يفارقني مستقبلهم الذي رسمناه سوية، أحبوا الحياة لدرجة أن بات لهم مستقبل ينتظرونه، وتحوّلوا إلى خليّة نحل. مضيتُ معهم أفتشُ عن شَعرَةٍ تنمو في رؤوسهم بعد جلساتٍ كيماوية طويلة، فأرفعُ من ضوء القنديل، وأشعلُ داخلي شمعة. حلمتُ معهم، توضأتُ لصلاتي فيهم، كانوا تَيمُمي وكنتُ قُوُتَهم. مضوا وتركوا فيّ أملهم مقتولاً مضمّخًا بدمائهم."
"تحولوا إلى لؤلؤ ومرجان وصدف ومحار، أليس هذا ما تقولين؟"
"بل إلى قوت حيتان جائعة، وطيور مفترسة. الزبد يطفو بهم، بأرواحهم، على الرغم من مرضهم."
"لكنهم ماتوا أصحاء. من يحب الحياة مثلهم تفتح لهم الحياة نافذة عليها. هل رأيتِ أحدًا مثلهم، يغنون ويرقصون، ثم يغرقون مروّضين البحر فيهم كأنهم سرّ الحياة؟".
"كان عليّ أن أموتَ معهم!"
"كفى، عليك كطبيبة أن تكوني أقوى من كل ما حدث! أنتم دائمًا ترون الموتى والدماء وتقومون بعمليات بتر الأصابع والأقدام واستئصال أجزاء من جسم الإنسان و..."
صرختْ في وجهه مستهجنة ما يقول وهو يعدد على أصابعه:
"وكأنكَ تصفُ أشرارًا، مصاصي دماء، وكأنكَ تحرّضني على نفسي وعلى مهنتي، وتحوّل إنسانيتي كطبيبة إلى هلوسات. نحن لسنا جزّارين، نحن نرى الموتى فنترحم عليهم، تنزف الدماء فنعوّضها بوحدات دم أخرى، نبتر لكي لا نذهبَ بالجسد كله. أي إنسان أنت، وأنتَ تفقدني إنسانيتي. في كل مهنة تجد استثناءات، الشرّ في مهنتنا هو الاستثناء!"
أدرك خطأه فسارع بالاعتذار: "آسف. أنا لم أقصد!"
"دعكَ من أسفك، هذا هو أنت، ذات الرجل الذي يمتهن تصوير كوارث الحروب، أنتَ ذاتكَ من سافرتَ إلى فلسطين والعراق ولبنان! هم بالنسبة لك سبْق صحفي، مجرد صورٍ ومشاهد، قلبٌ ميت إلى هذا الحد؟ كم مرةٍ صورّت شخصًا يستغيث بك، ونظرت إليه على أنه مجرد مادة للكاميرا، ومبلغًا إضافيًا، وشهرة أوسع؟"
"اهدئي، أنا...!"
"أنا وأنت نختلف في كل شيء، وكنتُ أظنّ أننا نشبه بعضنا من خلال عملي كطبيبة، ومن خلال عملك كمصوّر حرب؛ يرى يوميًا عشرات الجثث المتفحّمة. أوصال الأطفال والكبار تتساوى بالقتل والتشويه وينفطر لها القلب، لكن أنتَ قلبكَ لا ينفطر، أنتَ مهنيٌّ لا إنسانيّ، أنَت خارطةُ طريق لسجون إسرائيل السريّة، لغوانتنامو، لأسماء تحوّلت إلى أرقام هناك. سبقٌ صحفي مدجج بالصور التي لا يهنأ لك بال دون التقاطها. لا إنسانية تحول دون التقاطك لصورة ما مقابل إسعاف مصاب؟
نحن ممرضون لأجل المصابين، ومقيمون لأجل المصابين، واختصاصيون لأجل المصابين. نحن تفارقُنا أسرّتنا ونحن نتوضأ بأحلام الذين يحبّون العيش ولا نملك لهم الحياة، نحن ندخل أحلامَهم، توابيَتهم، ونعجزُ عن تخليصهم من جثامينهم!"
تركته وذهبت إلى البحر تحدّث نفسها:
"ربما تزوجَ مني لأجل الشهرة أيضًا! فأنا الطبيبة التي نجت بأعجوبة من موت محقق، وتناقلت أخبارها الصحف والتلفزة!".
رأت جسمًا ملوّنًا بعيداً تتقاذفه موجات مهادنة، ثم بدأت معالمه تتضح مع كل موجة تقرّبُهَ من الشاطئ: "إنها لعبة ذاك الطفل الأصغر بينهم. هل يحملها؟ هل هو تحتها؟". حاولت مرارًا التمعن بها، ثم مشت نحوها فغطّت المياه كاحليها ثم ساقيها وما زالت تصرُّ من الاقتراب علّها تطفو به ويطفو معها.
عَلَتْ المياه أكثر، غطًّت فخديها، بطنها، صدرها، حتى آخر رقبتها. تنفستْ الصعداء حين التقطت الدمية أخيرًا. إلا أنّ الموجة غطت جسدها بالكامل. ازرقّ وجهها. حاولتْ النجاة بنفسها، إلا أنها فقدتْ الوعي. استيقظتْ وهي تأخذُ شهيقًا عميقًا وتسعلُ بشدّه كأنها ابتلعت البحر كله، بينما يحاول المنقذ تخلّيصها من كمية الماء الذي ابتلعته.
***
قُرع الباب وهي تجهّز حقيبتها لتعود من رحلتها إلى عمّان، دون أن تخبر زوجها. فتحته. كان الطفل ذاته يحمل عقدًا من الصَدَف. انحنت وهي ترد عليه تحية الصباح. علّقه حول عنقها، مبتسمًا لها. شكرته، ورحل.
دخل زوجها الشاليه، ليجد رسالة مقتضبة تخبره فيها مغادرتها للعقبة. ذهبتْ إلى المستشفى وتقدمت باستقالتها. لم تأبه لرفضِهم. اتصلتْ بمكتب سفريات وحجزت للسفر إلى أمريكا. ذهبت إلى أصدقاء حليم ليصحبوها إلى قبره. بكت وأجهشت حتى كادت تفارق الوعي.
"أريدُ أن أطير بالمنطاد."
طلبت من صديقه الذي رتبَ لها أمر طيرانها به. كان يهمُّ بالصعود معها عندما رفضت، فقال مستنكرًا:
"ولكن...!"
"لا تقلق، لقد علّمني حليم الطيران به."
لم يكن صديق حليم راضيًا.
فتحت رافعة صمام الغاز بثقة، فبدأ المنطاد يرتفع عن الأرض. زادت من طيرانه بدفعات قوية من اللهب، ووجهته نحو البحر. نظرت إلى الأسفل، أمسكت بالحبل، فتحت الصمام طاردة الهواء الساخن مبقية عليه مفتوحًا حتى فرّغت الهواء منه دفعة واحدة؛ ليسقط وسط المحيط حيث لا يمكن لمنقذ إخراجها وهي على قيد الحياة.