كان الطاهر حجرا في جوفه قلب ، كان يكتسب قوته بالتدحرج بين الطبقات المتطاحنة ، وعندما يزداد الضغط حوله يتطاير عنه شرر سرعان ما يتلاشى ويخبو ، وقد تنز من جبينه قطرات؛ يحسبها البعض ماء؛ ويراها البعض عبرات .
تلمس و قرأ في فترة تشكله شيئا من طبائع الأشياء؛ مغتنما اختلاف نظرات الخلق إليه ، واقتناع البعض بعدم صلاحيته للبناء أو الترميم ، وولع البعض بسحر الطفولة ، جميل ولين فقير وحماه مظهره من ضعفه .
و في رحلة التحول تحمل حز المدي ، و دوران الألسنة على مختلف المواضع الملساء الظاهرة من جسمه ، وتحمل قذارة المتيممين في الكُتاب عندما حمل إليه ؛ بعدما أصاب وباء مواشي ملاك الأرض، وتعلقت آمال السادة وأحلامهم بهامات السنابل المشرئبة التي راحت تعمُر و تتذهب كي تسجد تسبيحا لربها قبل أن يفتك بأعناقها وتكون نعمة للأشرار... و للأخيار، ولأنه لم يعد يصلح لشيء بعد هلاك البهائم جيء به إلى المقام ليخدم نازليه... مطيعا ،صامتا، منصتا ، متحفزا لتلبية الأوامر، حريصا على امتصاص ما استعصى على الفناء من رحيق العقول حتى مهر في تهجية النصوص ، ثم أدمن قراءة قصاصات الجرائد المرمية التي تلف فيها حاجات الناس وأشجانهم الميتة ، ثم الرسائل ، ثم الكتب ،ثم تظاهر بأنه أدمن العطالة أقرب الصفات إليه ، وأنسبها لضعفه و وضاعة أصله، وأصبحت القراءة تفتك بجزء كبير من وقته فتزيده فقرا ، ولكنه كان يجد لذة تجعل الماء بجوفه يضطرب ، تنسيه التفكير بوضع أحسن، وتعزيه .
عد في قريته شيئا بسيطا،طيب القلب –زائدا- وقد يبدو غض العود و العاطفة ولكن حينما يهزه أمر ما هزا عنيفا ، تتحرك فيه ملامح عزة تنام دائما في الزوايا الخلفية من وجدانه،وحين تستثار ، ويشم في أمر يعنيه رائحة احتقار ، تتوثب لتعلن للناس؛ أن الضعف و الفقر والحاجة لا يمكنها أبدا أن تزيح العزة من وجدان العزيز. غير أن الطاهر كان - وبسرعة الشرر- يقمع هذا الشعور غالبا ، ينتفش، ويتخذ وضع الهجوم على المسيء متوعدا بطحنه و سحقه كما تعود سحق الصراصير التي تفسد راحته ؛ فإذا استشعر أن الأمر قد يتحول إلى شجار حقيقي ،ثبت في مكانه متخذا هيئة عنترة ضئيل الجسم مع يقينه أن مثله لا تعبأ به الطغاة ، ولا تأتم به الهداة ، فإذا أقدم العدو نحوه غير هياب ، علت وجهه ابتسامة فيها كثير من الضعف والأسى واكتفى بالسب والشتم بينه وبين ذاته.
كان ذاك في مرحلة التشكل والتكوين...
و اضطجع الطاهر على ظهره متخذا راحتيه المشبوكتين وسادا لقفاه ، وراح متأملا - مهملا عينين تحملقان في الفراغ - يمحص ما مضى من حياته، التي بدأ يكرهها، رغم أنه ما أحب فيها شيئا سوى قراءة الكتب ومداعبة الأمل في فجر جديد تبين له الآن أنه لن يأتي أبدا.
- الغريب أنني منذ أن بدأت أميز ذاتي عن بقية الذوات وأنا أشعر أنني سأعيش إلى الأبد ، وستكون قوتي وسعادتي كل يوم أفضل من سابقه ، ومع ذلك فلا أنكر أنني كنت أحزن للموتى في زاوية ما من وجداني ، وأنتشي سرورا لذلك في زوايا أخرى ،لأن موتهم وبقائي كان يعزز لدي الإحساس الغريب بأني عصي على التلاشي: عمقي حياة وماء ،وجسمي صلابة ونقاء ، وديدن الحياة عندما تتنادى أسبابها زيادة ونماء، وطيبتي وطهري لي وقاء ، فمن أين تتسرب صوبي عوامل الفناء؟ هذر ، ويبتسم ابتسامة سرعان ما تجف وتموت.
أمامي ما يكفي من الوقت وهو كفيل بإرغام هؤلاء الهمل على الاعتراف بتميزي ، برفعة أخلاقي ، بفضائلي الجمة ، لابد أن تعترف الشياطين يوما بطهر الملائكة ، ودرجات المقام ، كيف يعبرون عن اعترافهم ؟! ذاك شأنهم ، وعندئذ يبزغ نجمي ، ويمد الفجر جلاله على هذا الوادي ، وتنحني الرقاب هيبة وحبا ، لا إرهابا ولا خوفا أو رعبا، وأتملك فيه بقعة يحرم على الآخرين دخولها لأن حدودها مسيجة بالنور، حرمة لي ولذريتي من بعدي ، تمنحني فرصة النوم لفترات أطول كما يفعل السادة وأولي الأمر . هذر ، ويبتسم...
وكأن أمي وأبي ، الكائئان الغريبان اللذان لا يملكان شيئا لا في الأرض ولا في السماء ،و اللذان لا حق لهما في أن يسخطا على أي شيء سواي ، كانا يراقبان تزاحم هذه الأحلام في جمجمتي الصغيرة ، يغاران لنجاحي الباهر، فيثبتان وجودهما ويعبران عنه من خلال ضربي الذي أصبح لا يجدي ، وقد أقرا بعد ذلك - وعلى مسمع مني - بأنهما يضربان حجرا ، فأتعزى ... الفجر لابد أن يأتي، حبل متين يجدر بالمرء أن يتمسك به.
وأقر الآن لنفسي الأمارة بالسوء، أن ذلك كان خطئا فادحا ، أنامني على فراش وثير من عسل مغشوش وأوهمني بأن الحياة شيء ساحر يستحق أن يعاش بغض النظر عن أصلك ومقامه ، وأن تمسكك بحبل الرجاء ..خير.
عرس رقص فيه الكثيرون ، انفض عن زوجة في كوخ مقام على أرض الغير ، ومرت ليالي أنجبت ولدا، ثم بنتا ثم ولدا...، و كثر السائلون عني في البيت ،وبالأخص أثناء غيابي، كانت زوجتي حريصة على أن تقدم لي قائمة بأسمائهم ، مع بعض الملاحظات التي كنت أفهم مغزاها، وألوذ بالصمت لثقتي الكبيرة فيها، ولأنني كنت في أغلب المرات أرقب البيت من بعيد، وأراها تتحمل، وضاعة أقوالهم وحركاتهم ، وتردهم بلباقتها وأدبها وقوة شخصيتها .
وتكرر العرس ، تزوج أكبر أولادي، وجرته زوجته للاستقلال ببيت لها من طين وقش مقام على أرض الغير ، على مسافة لا تبعدها عنا ولا تدنيها. سمح لها أن تعيش حياتها ،تتمتع بالفرجة ، تتكئ قبالة تلفاز يعلم الفاحشة مجانا وبإتقان، و تطلق العنان لمذياع ينبح في كيس جلدي ، ،يعلن وحدتها بعد أن أرسلت الزوج الولهان ، يطارد لقمة العيش في المدينة ، وظهرت الضباع تتمطى بروائحها النتنة .
وبعد شكوك حاولت طردها بالمعوذتين ،وتكبيلها بالاستغفار ، وبلعن إبليس باذر الدمار ، تيقنت - مع الأيام- بأن الله قد أوجدني في بقعة يرتع فيها الشر خالصة له ، وأن صخرا صلدا لا قبل له بتحمل عهر خلق مثل هؤلاء دون أن يتصدع .
...و ماذا عن عالم الكتب السحري، والمدارس، والحفظ والتحفيظ والحشو ، والملائكة ، والفجر؟ .
- وهل تنفع فلاحة السبخة ؟! بياض الأصول ، وامتداد حقولها الملعونة ، غابات وأحراش ومستنقعات آسنة مكتظة بنباتات سامة وحشرات ، خضرة مغرية مؤذية ، طقوس الصلوات وتوالي الحجات ، يا وي، يا ويح من حاذاها أو ولاها.. مزارع الشياطين لا تدخلها الملائكة، ومزارع الملائكة لا تمر بمحاذاتها الشياطين. هذا ما كان يكتب بخيوط النور ، ولا يراه غيرك.
وتجمد عقل الطاهر ، في جوفه . فكرة واحدة لا يحيد عنها ،ولا تشعر حواسه بغيرها. لا بد أن يغادر ، الحبل في جميع الحالات منقذ.
جبن،كفر ، هزيمة ؛ فهل آنت متأكد أنك تنوي أن تغادر،للانتحار مقام في النار؟
- هناك ، شرطة ، ودرك ، ومحاكم ، هناك القانون .
- العلاقة بين الأخلاق والقانون كالعلاقة بيني وبين الضباع، والمكان لا يتسع، العدالة غالبا ما تكون في بيت القاضي. ونادرا ما تكون في قصرها ، و المعركة خاسرة مسبقا.
- إلى أين؟
- لا أدري؟
-.... وواصلت رجلاه نقر الأرض في تثاقل ، ودون هدف مضى يدندن بأسى قاس وساخر، ثم انهمرت الدموع من الصخر في صمت على خدين متغضنتين شق الدهر في طياتهما أخاديد.
عاد بدون قصد مع غروب الشمس إلى بيته، كآلاف المرات، نظر حوله نظرة تائهة، ودارت بذهنه أسئلة لا تنتهي ؛ ماذا تعني كلمة بيت ؟، وما الفرق بين البيت والجحر ؟، بين الجحر والإسطبل ؟، بين الإسطبل والقبو ؟ بين الإنسان والوحش؟، ثم لماذا هذه الأسماء والتصنيفات؟.
الجار الجور والجوار، ومذياع ينبح في كيس جلدي في اللابيت ؟. وابتسم.
يجلس ويستعيد البداية لعله .... ما الذي يمكن أن أفعله معها ؟ : أكسر مذياعها اللعين ، تلفازها ؟ ثم ...؟ شبقة لا ترتوي ، تترك آثارا تدل على وجودها ورغبتها ،واستعدادها،معلقة على أظلاف التين الهندي أو مرمية بين جذوعه ، وتأتي إشارات الإثم بطرق خفية لا يمكن ملاحقتها ، تبذل الجهد في أي عمل تباشره ،وأحيانا بقوة وتصميم الرجال وعنادهم ، علاقتها بهذا الابن الرخو كعلاقة الضبعة مع ضبعها مسيطرة تغضب فينكمش وينزوي في أقرب جحر إليه .
- أغرس خنجري في ظهر من وجدته معها ثم أذبحها تحته؟ ،ممكن ، لكن هناك ... شرطة ، ودرك ، ومحاكم ، هناك القانون السجن ، الأطفال؟... أتركها لأبنائها ؟ ! ؟
- هل تحب أن تخلد ؟ كان يخيل إليك أنك لن تموت ، مأساة لو يصح ما تخيلته .
وفي اليوم الموالي وجدت جثته ترقص في منعطف النهر على إيقاع الريح.