الآن عنّ لك أن تعودي بعد كل هذا الغياب وتطرقي بابي وتَنْبُتِي من ركام السنين مسربلة بأردية الموت يلفك الكفن حتى التراقي، وأنت تنظرين بعين إلى الرمس المُعَدِّ ليحويك جسدا بلا روح، وبعينك الأخرى تتنقلين بين هذه الوجوه الكالحة الجاثمة حولك لا تملك إلا أن تطلب لك الشفاء. الآن حمَلَتْك إليّ صفحات الفايسبوك اللعينة وأنت مسجّاة على سرير الموت تتأرجحين بين أنّة وأنّة تطوّح بك الملائكة من وطن إلى وطن تبحثين عن قطعة ترممين بها جسدك الذي يتربص به الفناء ويخاتله ملك الموت.
الآن بعد كل هذا الغياب آن لك أن تضيفي إلى همومي هما آخر فأظل متأرجحا كسفّود بين نار ولظى فلا أملك إلا أن أرسمك نصفين، نصف قابع في ركن قصي من الذاكرة لم تطُلْه يد الزمان فتَمْحُه، وقاوم معلنا التمرد على كل النواميس، كما كُنْتِ دوما، ظل جرحا فاغرا فاه لم يلتئم رغم كل المراهم والمطهرات التي سكبت عليه، قرر البقاء متشبثا كجذوع نخلة هرمة ألِفَت تربتها فخارت أمامها فؤوس كل الذين حاولوا انتزاعها. وشطر آخر أراه الآن على شاشة هاتفي، وجه بنظراته الذابلة المنكسرة الكسيحة الهائمة المستنجدة. أحاول رتق الشطرين فلا أفلح. أحاول في بحث عبثي عنك بشعرك الخرنوبي الطويل المرسل على كتفيك الهائم كأمواج محيط مضطربة لا يهدأ ولايستكين، متمرد مثلك وثائر مثلك. أراك بعينيك المتوثبتين الطافحتين حدة وذكاء. أراك بأهدابك الناعسة وبدموعك التي كثيرا ما خضّبتْ كفيَّ. ومن بين حطام روحي ونواح السنين يصلني صوتك العذب المنساب تنسجين من يوميِّنا حكايات لا تنضب.
الآن قررتِ أن تطلي عليّ عبر شاشة الهاتف لتنغِّصي عيشي وتقلبي دنياي سافلها على عاقِبها وتفتحي بابا كلما أردت أن أوصده انفتحت ضلفتاه بعنف وقوة.
يا أنتِ يا ذكرى استعصت عن النسيان، ذكرى موشومة ترفض التلاشي تسكن بين الجوانح، ترفرف حائمة كملاك. تغوص ذكراك إلى الأعماق حينا فتختفي ملامحك، لكنها سرعان ما تطفو على السطح معلنة حضورك الآسر العنيف في عناد وتحدٍّ.
اليوم قررتِ أن تعودي بعد أن بحثتُ عنك طويلا وأدمت قدماي الأشواك المزروعة في حقولك عندما كنت أحاول السيرا إليك. لكن المتاريس التي تحصنت بها منعتني من التقدم. كم قد سألت عنك ولم أظفر بجواب. تقيحت أصابعي وأنا أخط إليك رسائل الشوق أنظم فيك قصائد وأشعارا.
اليوم قررتِ أن تعودي نصف ميِّتة تطوح بك الأقدار من وطن إلى وطن، تسري بك الملائكة بين طيات السحاب لتقرّبك خطوة إلى الملإ الأعلى. عنَّ لك الآن أن تمرقي من بين رماد العمر مثل طائر الفينيق الأسطوري الذي لا يحيى ولا يموت يتلجلج بين الحياة والموت. مثل ذلك الطائر العنيد ظللت متأرجحة بين الحياة والموت، فلا العيش شدك إليه فأبقاك، ولا الفناء سحبك إليه فالتهمك. ظللتِ لعبة بينهما تتجاذبانك حتى تكاد أوصالك تتمزق وأنت لا تقوين على الصمود بينهما.
ذاكرتي الحبلى بك لا تفرغ منك. ذاكرتي المحتفية بك لا تحزن أبدا لفراقك. أَلَمْ تكوني ترددي دوما على لسان إلياس أبي شبكة أن الزواج يقتل الحب، لذلك ترانا اتفقنا على أن لا يربط بيننا ذلك الرباط الاجتماعي البائس، واخترنا أن نظل روحين هائمتين تلتقيان مع كل نسمة تسري ومع كل كوكب يسطع، فرحلتِ ورحلتُ وسرنا في اتجاهين متعاكسين، وجدّف كل منا في بحر، وخاض كل منا غمار عباب لا يدري هوْلَهُ إلا الله. كم بلغ حجم نسيانك؟ لست أردي. وكم بلغ حجم عذابك؟ لست والله أردي. وكم بلغ حجم حبك للحياة واحتفاؤك بها. آه لو كنت أدري.
أراكِ الآن بعد كل هذه السنين من الغياب والبعد تطِلِّين عبر شاشة هاتفي، تمرقين من سَمِّ إبرة، تتعثرين بين شوق وشوق، تائهة في فيافي قاحلة وخلفك أولئك الزغاليل الذين لم تكتس أجسادهم بالريش، يبحثون عن حضن يأويهم، يلصقون أجسادهم بعضها ببعض بحثا عن الدفء الذي كنتِ تغمرينهم به.
اليوم تأتين ماشية على نعش تحدقين في عينيّ بعينين ترقرق في مآقيهما الدمع والجزع والتهيب من المجهول الذي ينتظرك، فتعسا لدنيا تحمل لنا الفرح في كف وفي الكف الأخرى تحمل لنا البؤس والحزن. تعسا لدنيا تفتح لنا ذراعيها لنرتمي بينهما ثم تغرز بين أضلعنا المِدى الحادة لتخترق الفرح والشوق والجسد والروح.