حتى قبل أن ينبلج الصبح، تسلل من فراشه بانسيابية كما لو كان شعرة انسلت من عجين. كان عليه قطع المسافة التي تفصله عن باب الكوخ في غفلة من الجميع. بدت له المهمة في غاية الصعوبة؛ فأن تتخطى جسد حادة وأبنائها الستة، من دون أن يستفيق أحد منهم، لم يكن بالأمر اليسير ولا الهين؛ كان يتطلب لياقة استثنائية و رشاقة خاصة. ظل يمشي على أطراف أصابع رجليه متأبطا صندله البلاستيكي، يتخطى المطبات واحدا تلو الآخر...بدت له تلك المسافة على قصرها كصراط مستقيم. لم يعد يفصل بينه وبين باب الكوخ سوى جسد أكبر أبنائه، كان ذاك أصعب ما في العملية كلها؛ فبوشعيب ابنه البكر، لم يكن ينام على جنبه كما بقية إخوته، كان يتمدد على ظهره، بل ويرمي برجليه الطويلتين إلى حدود "البراكة"، حتى أن إخوته تقدموا بالعديد من الشكايات، بشأن ما كانت تحدثه رجلاه من ضوضاء، وهي تلتطم بالجدار القصديري للكوخ فيما هم نيام. تمعن جيدا جسم بوشعيب الممدد كجثة، وأدخل إحداثياته إلى قاعدة البيانات، واحتسب بكل دقة واحترافية شكل وحدود آخر خطوة تفصله عن الخلاص. ما كاد يمد رجله، حتى اهتزت طبلة أذنه بصوت حادة الأجش:
" أي نذل أنت؟...تتسحب كقط من دون أن تترك لي مصروف البيت. بماذا تريدني أن أواجه هذا الجيش من الجراد الذي لا يعرف الشبع إلى معدته طريقا؟ "
التفت جهتها وهو في حالة من الذهول والصدمة، ارتسمت على محياه ابتسامة صفراء باهتة. ود لو توجه لحادة بتحية الصباح، كان من الممكن جدا لتلك التحية أن تجعل من الوضع ينفرج وإن قليلا، لكن الصدمة كانت من القوة ما جعل صوته ينحسب بحلقه. بلع ريقه بمشقة حتى كاد أن يسحب معه بلعومه، أمعن النظر جيدا، بدت له حادة منفوشة الشعر، كما وأن مقلاة كانت بيدها اليسرى. حدق أكثر، كانت الرؤية ضعيفة والصبح لم ينبلج بعد، لكن وعلى الرغم من ذلك؛ تأكد له أن ما كان بيد حادة لم تكن إلا مقلاة وجدة. آه من تلك المقلاة وكم هي ثقيلة؟ كم تمنى أن يتعرف إلى صاحب المصنع الذي ينتج هذا النوع من المقال، ود لو توجه إليه بنصيحة ثمينة ستكسبه أرباحا أكبر. لا تحتاج في العادة المقال إلى كل ذلك الوزن الثقيل، إنه مجرد تبذير لا طائل منه.
عيب حادة الكبير؛ أنه متى كانت عصبية؛ متى شكلت خطورة من المستوى الأصفر. وتبلغ تلك الخطورة مستواها البرتقالي متى تحوزت على مقلاة عادية. لكن؛ وما أن تمتد يدها اليسرى إلى مقلاة وجدة، حتى يقفز بسرعة البرق مؤشر الخطورة إلى اللون الأحمر، بل؛ ويبلغ المستوى الأحمر الداكن متى لم تتناول وجبة فطورها. في العادة؛ لا يسترجع مزاج حادة عافيته، قبل أن تحتسي على الأقل إبريقا من الشاي المحلى الثقيل، وتلتهم خبزتين من فئة مائتي غرام بالتمام والكمال.
ظل متسمرا مكانه، يحدق في حادة والمقلاة تتأرجح في يدها ذات اليمين وذات الشمال. امتدت يده بشكل لا إرادي إلى رأسه، تحسس جهته الشمالية الشرقية، كان لا يزال هناك مقعر بحجم عروة مقلاة وجدة في طور الاندمال. الحقيقة؛ أنه ما كان لدرجة خطورة حادة أن تبلغ المستوى الأحمر الداكن، لولا عيوب التصنيع الكثيرة والعديدة التي تشوب مقلاة وجدة؛ فهي ثقيلة بشكل مبالغ فيه، كما وأن أطرافها حادة لأسباب تبقى مجهولة.
يومها؛ كان حظه سيئا أشد ما يكون السوء؛ فقد تلقفته حادة على بعد خطوة واحدة فقط من الخلاص. لولا أن كان بوشعيب هو من يرقد جهة الباب، لما كان لخطته أن تفشل. حينها فقط؛ أدرك حكمة حادة في توزيع أماكن النوم وفق ذلك المخطط، بل ولم كانت تصر على أن ينام بوشعيب كظهير أيمن، فيما هو؛ تحشره في الزاوية المقابلة كظهير أيسر. فشلت الخطة " أ " إذن.
لم يكن من نوع البشر الذي يترك شيئا للصدف، علمته الحياة أن النجاح يتطلب التخطيط الجيد، كما وأن التخطيط الجيد يستلزم التوفر على أكثر من خطة واحدة. كان قد أعد خطة بديلة متى فشلت الخطة الأصلية. قوام الخطة "ب" هو الجلوس إلى طاولة الحوار. ليس هناك أسلوب أفضل من الحوار الحضاري لفض النزاعات المستعصية؛ حتى إن الكثير من الحروب الدامية، ما كان لها أن تنتهي لولا أن جمعت أطرافها طاولة الحوار تلك.
قضى جزءا من الليل وهو منهمك في إعداد أرضية للحوار المرتقب. متى كانت الأرضية محبوكة بشكل جيد، متى تعددت فرص الوصول إلى تسويات. اختار لأرضية الحوار تلك أن تتخذ شكل خطبة عاطفية مؤثرة، لم يكن اختياره اعتباطيا؛ كان يستهدف الجانب الرومانسي الكامن في أعماق حادة. تنبأ أن يكون لخطبته تلك، مفعول السحر في أن يجعل منها سيدة شاعرية، رقيقة ومتفهمة.
" يؤسفني عزيزتي حادة أن أبلغكم؛ أنه وعلى مدى أسبوع كامل، لم تختنق أي من قنوات الصرف الصحي في الحي كله، وهو ما يعني؛ أن جيبي المنحوس هذا، لم يستقبل ولو فلسا واحدا طيلة تلك المدة. وإذا ما نحن حاولنا إيجاد تفسيرعلمي لهذه الظاهرة الغريبة، فسيتبين لنا حتما؛ أن ذلك مرتبط ارتباطا وثيقا، بانخفاض حاد لزيارات المراحيض من لدن سكان الحي؛ فالغلاء الفاحش للمواد الغذائية، دفعهم دفعا لأن يأكلوا أقل بكثير مما اعتادوه، وهو ما كان من انعكاساته المباشرة، أن خُفف الضغط على قنوات الصرف الصحي، ولم تعد بالتالي تختنق كما السابق.
وبناء على كل ما سبق؛ وحيث أن الأمر مرتبط أساسا بموانع موضوعية، فإني ألتمس منكم زوجتي العزيزة، أن ترأفي لحالي، وتتدبري أمرك حالما يجود علينا القدر باختناق إحدى القنوات. وإذ أخبركم بكل ما سبق؛ فإني ألتمس منكم زوجتي الغالية، أن ترفعي وأبناؤك هؤلاء، أكف الضراعة للمولى عز وجل، أن تختنق مواسير الحي كلها، حتى يكون بمقدوري تلبية طلباتكم جميعها."
استقام في مقامه وقد ارتفع منسوب ثقته بنفسه، لم يعد من داع إذن أن يظل مطأطا الرأس، رفعه عاليا وتوجه لحادة وجها لوجه، أخد نفسا عميقا، نحنح حتى اهتزت جدران الكوخ. المشكل؛ أنه متى انتصبت حادة أمامه وهي تحمل بيدها مقلاة، متى انحبست الكلمات في حلقه. استعاذ وحوقل بداخله أكثر من مرة، من دون أن تنفك عقدة لسانه. كم هو نذل وجبان صوته ابن الحرام ذاك، دائما ما يخذله في المواقف الصعبة. ظل متسمرا مكانه يبتسم كأبله، طأطأ رأسه من جديد، استرق النظر بطرف عينه اليمنى، بدت له حادة منفوشة الشعر كجنية، وكانت تحمل مقلاة وجدة في يدها اليسرى، وكانت المقلاة تتأرجح في يدها ذات اليمين وذات الشمال. تأكد له حينها؛ أن مستوى الخطورة قد بلغ الأحمرالداكن. لم يكن أمامه من خيار والحالة تلك؛ سوى الانتقال إلى الخطة " ج " بأسرع ما يكون. كانت الخطة البديلة تقضي؛ بأن يطلق ساقيه للريح ولا يعود إلى الكوخ ثانية، قبل أن يتدبر أمر قفة كبيرة من الصنف الذي تشتهيه حادة. وبسرعة البرق؛ انطلق كسهم جهة الزقاق. كم كان صوت المقلاة قويا وهي تلتطم بشيء ما؛ طنينها كان حادا وقويا، يكاد يفجر طبلة الأذن. انطفأت مصابيح الزقاق على حين غرة، وحتى قبل أن ينبلج الصبح، لا بد أن عطبا أصاب شبكة الإنارة العمومية.
في العادة؛ لا تشتد الأزمات إلا لتنفرج، دائما ما يحل اليسر بعد العسر، وهذا ما كان يجب على تلك الغبية حادة أن تستوعبه جيدا. يومها؛ انسدت كل مجاري الصرف الصحي، وتحول الحي بأكمله إلى بركة من المياه العادمة. حل رئيس البلدية بشخصه أمام كوخه، وظل يستجديه للإسراع بفك العزلة عن الحي، فيما هو ظل يفاوض على أتعابه من موقع قوة. استجاب الرئيس من دون تردد لكل مطالبه، وكانت رزمة من الأوراق المالية تلمع بيده. لم تكن تلك الرزمة إلا جزء من الأجر السمين المتفق عليه، مده إليه وهو يحثه على الإسراع بإنجاز المهمة. ما كاد يسحبه منه؛ حتى غمرت الحي كله رائحة بصل قوية. لا يتفائل في العادة برائحة البصل، له العديد من الذكريات المؤلمة مع رائحته البغيضة المقرفة.
بدأ ضوء الزقاق يسترجع عافيته تدريجيا، وكانت المصابيح تشتعل وتنطفئ مرة بعد مرة. وكمن نام تحت تأثير منوم شديد المفعول؛ كان يجد صعوبة في فتح عينيه، ما أن يتمكن من فتح واحدة حتى تغمض الأخرى، فيما رائحة البصل تشتد. ظل يقاوم حتى تمكن من فتح كلتيهما، وجد نفسه بالزقاق ممددا على الأرض والمقلاة مطروحة جانبه، وكانت حادة واقفة على رأسه وشعرها لا يزال منفوشا.
أحس بألم حاد برأسه، امتدت يده إلى مصدره بالجهة الشمالية الغربية، كان هناك مقعر بحجم عروة مقلاة وجدة حديث التشكل. الحقيقة؛ أن ما يجعل خطورة حادة تبلغ المستوى الآحمر الداكن، لم يكن إلا يسراها، فهي لم يسبق لها يوما أن أخطأت هدفا.
ركز النظر جيدا، كانت الرؤية ضعيفة والمصابيح لم تسترجع عافيتها كليا، حدق أكثر فيما كانت تحمله حادة في يدها. انفرجت أساريره وعادت الطمأنينة إلى قلبه؛ فهي لم تكن تحمل مقلاة، بل مجرد بصلة مشقوقة.