ما كنت أظن أنها ستأتي، لكنها جاءت، ضاجة بثمراتها، متفتحة كزهرة ريانة في أوج ربيعها، يفوح شذا عطرها الذي أغرقني وطوّح بي في عوالم من الرهبة والخشوع، تركتني مبعثرا أبحث عن خلاص وألملم فرحا واضطرابا، هزت الروح إلى أكوان خفية لا ترى فيها إلا أطيافا شفافة هلامية تعانق مشاعر وأحاسيس لاأرضية. جاءت أخيرها بتمردها وعنفوانها، بشعرها المتناثر على كتفيها في ثورة عارمة هازئا بتلك النسمات التي تحركه دون أن تجرؤ على لمسه.
هالة من الجمال والأنوثة كانت تتقدم نحوي، تدنو مني، جاءت فاتنتي، وقفتُ إجلالا وأنا أحاول جاهدا تعديل نبضات القلب حتى لا ترتج الدنيا من حولي مثلما حدث لي معها أثناء لقائنا الأول في إحدى المغازات الكبرى وتواعدنا خلاله على هذا اللقاء. هاهي تتقدم فتسحب معها كل ما هو جميل فيتعلق بأهدابها أو ينحني إجلالا أمامها، لوت إليها الأعناق، كدت أصرخ في هذه العيون المبحلقة وتلك الأفواه المشدوهة "إنها لي، لي وحدي، هذا الملاك الذي لا تكاد قدماه تلامسان الأرض لي، غضوا أبصاركم قبل أن تصابوا بالعمى". رغبت في احتضانها واحتواءها لأحجبها عن هؤلاء المتطفلين الذي ظلوا يلوكون الفراغ لكني لم أفعل إمعانا في قهرهم وتعميق حرمانهم، تمنيت أن تظل تمشي إلي وأنا أتأمل حسنها وقوامها وأصغي إلى وقع خطاها العمر كله. كل ما فيها كان منسجما وفاتنا ومربكا إلى أقصى حدود الإرباك. اهتزاز جسدها الضاج بالأنوثة الآسرة غيّب كل من في المقهى. وظلت وحيدة تشق هذا المدى الممتد من الباب إلى حيث كنت أنتظرها، الحسن، كل الحسن الذي تجلى في هذه الأنثى فريد، أفي الكون امرأة بهذا الجمال؟
جاءت من أزمنة بعيدة، من ليالي شهرزاد قدمت، خدرت الملك الجبار بحكايتها التي لا تنتهي وخرجت من الحكاية لتأتيني على بساط من الفرح والشوق. أتت شهرزادي أخيرا، خرجت من أعماق البحار، ازّينت بالعقيق والمرجان الذي وضعته عرائس البحر في جيدها، وتوجتها بأغلى أنواع الجواهر والياقوت. أصابني الصمم فلم أعد أسمع سوى هفهفة ثوبها وهي تدنو، كان كل ما فيها ورديا، ثوبها، حقيبة يدها حذاؤها خداها طلاء أظافرها، هكذا أرادت أن تكون ربيعا مونقا مزهرا مورّدا. أغمضت عني لا إعراضا عنها بل رغبة في الشعور بها، فليس الإحساس كالنظر. كانت المسافة التي قطعتها قصيرة، لكنها كانت بحجم الفرح المبثوث في كل الدنيا، كانت سحرا، كانت ارتباكا ورغبة ملحة في الصراخ أو الضحك.
حين دنت وكاد جسدها يلتصق بجسدي مدت يدها مصافحة، أحسست حينها أن كل العيون تخترقني، تجرحني، تصيب كل جزء من بدني. همست لها "نورتني يا خير زائرة"، فابتسمت وسحبت الكرسي وجلست بأناقة فائقة.
جلست أماي وألقت سواحلها الممتدة، وبأناقة أخرجت هاتفها ووضعته بجانب حقيبتها اليدوية الجلدية الأنيقة، وأهملته. ظللت أتأملها، جنية من أقاصيص ألف ليلة وليلة انسحبت من القمقم وجاءت تسابق الريح لترمي مرساتها على شواطئي بعد أن قطعت جبالا ووهادا وسهولا. مدت يدها نحو الكأس فخيل إليّ أن الكأس تتقدم نحوها طائعة. وظللت أحدق في موضع اللثم من شفتيها على حافة الكأس، ثم سحبتْ سيجارة وأبقتها بين سبابتها وإبهامها تداعبها وتمعن في تعذيبها لا هي أشعلتها وأحرقتها ولا هي أبقتها في العلبة قابعة بجانب صويحباتها، كانت تدنيها من شفتيها ثم تبعدها عنهما. وحين همت بإشعالها همست لها يا أميرتي حرام أن تلوثي تورد هذين الوردتين بلوثة الأعقاب، أنهما يا سيدتي ما خلقتا لهذا. أنتِ يا آسرتي ما خُلقت للاحتراق، أنت خلقت لتكوني نجمة ساطعة تنيري دروب التائهين في الليالي الحالكة، أنت خلقت لتكوني نبعا لا ينضب من الحب والحنان والود.
كنت ألمح شفتيها تتحركان، تنفرجان وتنغلقان، لكنني لم أكن أصغي لكلامها. عيناها أشاعتا على المكان بهجة فخفتت أمام بريقهما كل الأنوار الساطعة وظلت الفوانيس تنوء ببقايا ضوء خافت. لم أدر عمّا تحدثنا، قالت فأصغيت، اقترحت ووافقت، تبسمت فتراقصت الكراسي والطاولات واهتزت الكؤوس بين الأيادي.
النهار يتقدم، والمقهى يضج برواده، والروح تسبح من سماء إلى سماء، تتطهر في محراب الجمال وتتعمد وتصلي، تتلو التسابيح وتطلب الغفران. لم تتحرك فاتنتي ولم تصمت، حدثتني عنها، عن يتمها، عن تيهها ووحدتها حين وجدت نفسها فجأة بلا أبوين في مخيم للاجئين القادمين من هناك، من بعيد بعد أن دمرت الحرب مواطن الخير في بلادها. سارت مع السائرين وركبت السيارات القذرة، واجتازت الحدود في رحلة مجنونة لا تدري إلى أين ستقودها أو متى ستنتهي. هي تذكر البداية فقط، بدأت رحلة عذاباتها بصرخة من إحدى الزوايا عميقة "الله أكبر"، ثم زخات من الرصاص تتخللها صرخات متناثرة "لا إله إلا الله". لكل شق إلهه يناديه ويكبره ويوحده ويقتل باسمه ويطلب العون منه. هل كذب علينا معلمونا وأئمتنا حين أقنعونا بأن للكون إلها واحدا، فما بال كل فئة تدعو إلها. صار في كل ركن رب يعبد، وفي كل زاوية إلها يٌتوسل إليه ويعلو اسمه مع كل أزة رشاش ومع كل صرخة جريح أو أنة مصاب.
حدقت في عينيها فتراءت لي أطياف وطن مخضب بالدماء، يترنح ويتلوى، تقيحت جراحه فنز سائل مقزز من كل مسامه، رأيت أرامل وثكالى ينحن، رجالا مقطوعة أوصالهم، جثثا متناثرة على قارعات الطرق وعلى الأرصفة، معطوبين يستغيثون ويزحفون. رأيت بقايا وطن تستباح فيه الحرمات بـ"الله أكبر"، زوجات متعة ينتقلن من حضن إلى حضن بـ"الله أكبر"، ولا أحد ينبئك عن آباء المواليد الجدد. حضيرة خنازير استحال هذا الوطن، فر منه العلماء والفنانون والأطباء أو اغتيلوا في وضح النهار وأمام الجميع، طُحنت فيه الحدائق وهدمت الصوامع والجوامع. هتكوا ستره حين نبتوا فيه كالفطر، جاؤوا من كل حدب وصوب بأزيائهم الغريبة ولحاهم الاصطناعية القادمة من عواصم الحالمين بالسيطرة والنفوذ.
كانت تتحدث ولا تبكي، تحكي بحياد، تروي تفاصيل تفتت الصخر فامتزجت أحاسيسي بأحاسيسها، فأنستني بهجة الاحتفاء بها. وحدها الأقدار ترمي بنا في دروب لا نحسن الخوض في مسالكها، طرقات ملغومة لا ندري متى ينفجر تحت أقدامنا لغم يفتت أجسادنا فتتناثر أشلاؤنا وتجمع في أكياس ويرمى بها في إحدى شقوق الأرض ثم يهال عليها التراب وتترك بلا شاهدة. أردت أن أواسيها فتجمدت الكلمات في الحلق، أحسستُ بي كتلة من لحم أقبع مثل الكرسي، تحجّر فيّ القلب واللسان والعينان، تيبست اليدان، وظلت الكأس تحدق في عينيّ هازئة بعجزي وترددي. لم أدر أأبكي وطنها أم أندب حظ وطني الذي صار لا وطنا بعد أن ساد فيه سادته الجدد المتشدقين بحب الوطن ومصلحة الوطن، وهم يدبرون أمره على هواهم.
ساعتان عبرتا وأنا أتمرغ في محراب الجمال، أطهر نفسي من لوثتها. أردت أن أنعم بمجالستها لكني وجدتني أخوض في بحار ناضبة وأغوص في رمال متحركة كلما حاولت رفع إحدى قدميّ غاصت الأخرى حتى لم يبق مني سوى الرأس وما حوى.
نهضتْ متثاقلة ومدت لي يدها مودعة، أردت أن أستوقفها لكنني لم أفعل. مشت متجهة نحو الباب.
حين احتضنها الباب تقاطعت مع أحد السادة الجدد في وطني، ترجل من سيارته ببدلته المستوردة الأنيقة وربطة عنقه الحريرية. جينها كانت سيارة رباعية الدفع تعبر، ومن إحدى نوافذها تنطلق رصاصة مجنونة أخطأت هدفها لتخترق قلب فاتنتي وتصيب النادل الذي سار خلفها منتشيا برائحة عطرها، ونجا السيد الأنيق. جريت واحتضنتها قبل أن تتهاوى. ارتسمت على وجهها ابتسامة باهتة ظلت موشومة في الذاكرة، وسال دمها حتى غطى بلاد المقهى. فتذكرت حينها أن النفس لا تختار مكان موتها ولا موعده.