آخر مقالات الفلسفة والتربية
المزيد
قصة ودراسات أدبية
ٱلأَنَا وَظِلُّهَا:
-1-
قُبَيل الفَجْر دَاهَمَتْني مَنَامَة.
فقد رَأَيتُ فِي مَا يَرَى النَّائِم أَضْغَاثَ أَحْلاَمٍ لمْ أعْهَدْ مِثْلها مِنْ قَبْلُ..
عَلَى إِثْرِهَا صَحَوْتُ مَذْعُورًا وَالظَّمَأُ ينالُ منِّي إذ أَحْسَسْتُ بِتَجَفُّفِ حَلْقِي. أَطْفَأتُ غُّلَّتِي بِمَاءٍ معْدني فَٱبْتَلَّتْ أَحْشَائِي.
ٱجْتَاحَنِي عَرَقٌ غزيرٌ وأنا أَتَفَكَّرُ في صُوَرِ رُؤْيَايَ، وَأُقَلِّبُ رُمُوزَها الَّتِي تُقْتُ قَدْرَ مُكْنَتِي إلى ٱلتِقاطِ بعض مَعَانِيهَا وَتَفَهُّمِ قَدْرٍ مِنْ دَلاَلاتِها.
-2-
فِي كُلِّ صباح، ألْبَثُ مُسْتلْقِيًّا، لِوقْتٍ قَدْ يَطُول أويَقْصُر، كَدَيْدَنِ "روني ديكارت" وهو تلميذٌ في مدرسة "لاَفْلِيشْ" ٱلْيَسُوعِيَّة. على سَرِيرِي أَظَلُّ أتأرْجَحُ بين خَدَرِالكَرَى وٱستشباحاتِ يَقَظَتِي. وفي مَضْجَعِي أيضًا أسْعَى جَاهِداً إلى ضَبْطِ بَوْصَلتي المُرْتَجَّة ٱلَّتِي تَجْعَلُنِي، على النَّقِيضِ مِنْ "يُوهَان غُوتُه"، أَرَى الشَّرقَ غَرْبًا، والغَرْبَ شَرْقاً..
يَا لَأَوْهَامِي
مَنْ أُصَدِّق يَاإلَهِي فِي غَمْرَة تَيْهِي وَجُنُونِي؟!
أَنَايَ المُمَزَّقة بَيْنَ الأَحلاَمِ وَاليَقَظَة، أمْ آخَرُهَا المُضَاعَف الَّذِي يُكَابِدُ كَ "الفَتَى فِيرْترْ" وَاقِعاّ شِرِّيراً هَشَّمَ حَيَاتَهُ فَحَوَّلَهَا إلى مَأسَاةٍ خَالِصَة ؟..
يَالَهَلْوَسَات سَمْعِي!
أغلقت باب بيتها، وسدت نوافذه بإحكام، ثم تحصنت بالداخل وقد اطمأن قلبها إلى أن الموت لن يصل إليها، ولن يستطيع أن يفاجئها. الكثير من معارفها رحلوا على امتداد السنوات الماضية، أغلبهم اِقْتَنَصَهُ الموت في غفلة منه وهي لا تريد أَنْ تُفاجَأَ مثلهم. لهذا ملأتْ كَرَار بَيتها بكل الموادِّ الغذائية التي تَحتاجها، وقَرَّرت أن لا تغادره البَتَّة. منذ أسْبوع طرق باب بيتها مُوظفون حُكوميون تابعون للبلدية وأخبرُوها بضرورة إخلاء مسكنها لأنه آيل للسقوط، لكنها واجهتم بشراسة:
-لن تنطلي عليّ حِيّلكم أيّها اللُّؤماء أنتم رُسلُ الموت تُحاولون جَرّ رِجْلي لِمغادرة بيتي فيَصطَادني.
-أَغلب السُّكان رَحلوا يا حَاجّة، بُيوتُ هذا الحي ستنهار لأن الشُّقوق تعتري كل الأبْنِيّة.
-تَكذبون! أنتم تريدون بِي شَرّا
-ذَنبك على نفسك، نَحن قمنا بِواجبنا
للموت أعوانٌ، وعيون ترصد الضَّحايا وتُعِدّهم لليَوم المَوْعود، وهِي لن تَنْخدعَ بهذه السُّهُولة وتُصبح لقمة سَائِغة للموت يقتنصُ روحها ويحْرِمها من نعمة الحياة على حين غَرّة. هِي فعلا بَلغتْ من العُمر عتيّاً، وَتُعانِي مِن ضَغط الدّم، واِرتفاع نسبة السُّكري، وآلَام مرضِ النَّقرس، لكن هذا ليس مبررا يَشفعُ للمَوت فَعْلتَهُ.
أفاقت من سَحائِب أفكارها على صُراخ وضَجيج قَوِي بالخارج، تَردّدتْ لحظةً ثمّ اِقتربتْ من الباب الخَشبي المَتِين، ووضعت عَينَها على العَين السِّحرية، رأت شَابّا ملقى على الأَرضِ وهو يَنزِف دَماً.
كانت ملامح وَجْهِه تنِمُّ عن معاناة فَظيعة من الآلام. وكان يَصْدرُ عنه صَوتُ أنينٍ مُمِضّ. عَادت أدراجها وجلستْ على الأريكة الوحيدة التي تملك." لَا شأن لها به، هناك رِجال أمن وإسعاف بالبلد وهم المسؤولون عن حماية أرواح المواطنين ورعاية الجرحى والمُصابين منهم، هِيَ مُجرد سيِّدةٍ عَجوز، مِنَ الأفضَل لها أن تَبتعدَ عن المشاكلِ ".
زادت حِدّةُ الأنين، أصْبحتْ تَطرقُ أسماعَها بقوة وهي جالسة في مكانها، تَقَطّع من الزمن رَدحٌ، وهِي ساكنة تُفكّر، لَكنها في أخر المطاف قامت من مكانها واتجهت مرة أخرى نحو البَاب، نظرتْ عبر العين السحرية، كان الشاب ما يزال مُمدّدا في مكانه وهو يَتَوجّع، لم تتردد هذه المرة، فَتحت البَاب واقتربتْ منه، سالته بصوت أجش :
يداه مغموستان في الطين اللزج تقلبانه برشاقة وخفة ودراية. وقامته المديدة تستوي تارة وتنحني أخرى في لعبة لا يتقنها غيره. شمر قندورته وربط طرفها إلى زناره فانكشفت ساقان رقيقتان معروقتان غطاهما الشعر والطين. تعلوهما ركبتان حادتان مدببتان تحملان فخذين مقوّسين قليلا إلى الخارج محدثين فتحة يتدلى في وسطها طرف القندورة. ذراعاه طويلتان مشعرتان وساعداه مفتولان من عرْك الطين وعجنه. أعلى وجهه الذي يميل إلى طول غير معيب ينبت شعر مجعد وَخَطَه الشيب وتناثر على ما بقي من خصلاته الطين.
يحدق دائما إلى الأمام، كأنما يرسم لنفسه دروبا لا يخط حدودها أحد سواه، ترحل به مرة إلى تخوم ملغومة، وتطوِّح به أخرى في فيافي كثبانها عالية ومسالكها متشعبة لا يتقن السير فيها إلا خرِّيت متمرِّس. وقد تقوده أحايين أخرى إلى حافات مهاوٍ سحيقة لا قرار لها. يخيل لمن يراه أول مرة أنه يراقب الطريق منتظرا قادما لا يأتي.
لا يريد أن يلتفت خلفه. لا يرغب في رؤية تلك الكومة من السنوات الجاثمة وراءه، تلك السنوات التي أفناها من عمره متأبطا محفظة جلدية خضراء جلبها له والده إحدى أوباته من ليبيا. هذا البلد الذي كم قد أغدق على والده وأمثاله من أموال وبضائع، يذهبون إليه بجيوب خاوية ويعودون بها ضاجة بالأوراق النقدية ومحملين بشتى أنواع البضائع والأطايب. يذهبون خِماصا ويعودون بطانا. لم تكن محفظة عادية، كانت بطعم جذوة الأمل التي أوقدها والده في قلبه وأوكل إليه أمانة إضرامها ورعايتها. رافقته تلك المحفظة الأثيلة إلى قلبه سنوات ست في مسيرة تعلم شاقة. رُتقت مرات كثيرة حتى استبدل خيطها الأصلي بخيوط أخرى ذات ألوان متداخلة. في عامه الأخير اتسعت ثقوبها وعِوض حملها على ظهره صار يتأبطها خشية أن تتمزق وتتبعثر أحلامه وآماله وأدواته الهندسية وأقلامه وقطع الطبشور.
عندما عَادَ من مِيلانو كانت ذَاكرتُه لا تزال تَختزن تلك المشاهد التي عَبَرتْ إلى وجدانه مباشرة وأرضتْ ذائقته الفَنِّية ونزعتْ بها نحو رِحاب الجمال وسحر الإبداع الانساني في أروع تجلياته، وحَقَّقتْ له درجة قُصوى من الاسْتِمتاع بِجَماليات يَعزُّ وُجُودَ مَثيلٍ لها في هذا الزَّمن الذي تلوّثَ بالغُبار والإسْمنتِ واعْتَرتْه مَثالب القُبح والسوداوية، لقد وقف مُتهيِّبا أمام لوحة العشاء الأخير الجِدَاريّة لليوناردُو دافنشِي بِدِير سانتا مَاريّا، يتأمل تعبيرات وجوه المسيح وحوارييه الاثني عشر، وجوه كان بعضها كان يحمل ملامح بريئة كَوَجْه يُوحنا، ووجوه البعض الأَخر كانت ترتسمُ عليها علامات الغدرِ كَوجه يهوذَا الإسخريوطي خائن يسوع، الذي باعه لبيلاطس البَنطي الحاكم الروماني، وكان سببا في صلبه(أو من يشبهه) بالقدس، وعندما غادر الدير كانت أصداءُ المَاضي تَحُفُّ خُطاه وروحه تحلّق في رحابه متماهية مع عِبقِه الذي كان يتنسَّمه في الهواء، فتسري في جسده رعشة انتشاء وشعور بالسعادة، ظلت ترافقه حتى وَجدَ نفسه أمام تمثال ليوناردو دافينشي الشامخ مُحاطا بتلاميذه الأربعة يتوسّط ساحة ديلا سكالا ، وجموع الزوار الحاضرين مأخوذين مثله بجمالية المنظر الذي يسافر بهم إلى الثُّلث الأخير من القرن التاسع عشر عندما أزاح ملك إيطاليا فِيتُوريو إيمانويل الثاني سِتار تدشين هذه التحفة الفنية، تكريما لدافينشي عبقريِّ عصر النهضة الذي جاء لِيطوي صفحة العصور الوسطى المُظلمة، ويفسح المجال لإحياء الفكر الكلاسيكيِّ للإغريق والرومان، وترسيخ مفاهيم جديدة مثل الانسانية والإصلاح الديني والواقعية في الفن، كل هذا مرّ بخاطره وهو يجلس على واحد من المقاعد الرُّخامية المنتشرة في محيط الصرح السَّامق الذي يَحتضن التمثال، تساءَل :" هل حقا عُمْرُ هذه التُّحفة قرن ونصف، وكيف تَأتَّى لها أنْ تصمد أمام عوادي الزمن وتقلّبات الطبيعة؟ " تَذكَّر فجأة عملية تدمير تماثيل بوذا بوادي باميان بأفغانستان بمعاول ومتفجرات طالبان، ماذا كان يَحُلُّ بتمثال دافينشي لو كان الحل والعقد بيد المُلّا عمر؟ تَجاوز هذه الفكرة ، وقام من مكانه وأجنحة الأفكار المُتهاطلةِ على دماغه تُحلِّق به بين الأَزمنة المُتَواترة ومواطن الخيال الخلّاقِ، قادته قدماه إلى 1824 MARCHESI PASTICCERIA لتناول وجبةِ إفطار بصالون الشاي بالطابق العلوي، مستمتعا بعبق القرن الثامن عشر الميلادي . ومُتِلذّذا بوجبة تقليدية إيطالية أصيلة، بدا له العالم بشكل مختلف وأحس بأنه يتجاوز ثقل السنين واحباطات الأيام الماضية، اتصل بزوجته وأخبرها بأنه قادم في اليوم الموالي ، وأنه كان يتمنى حضورها معه، وردَّت عليه بأنّ ظروف عملها حَرمتْها من مُتْعة الوُجود صُحبته ولقاء ابْنهما المقيم بمدينة "كومو" صُحبة زوجته، أنهى المكالمة ثم غادر المكانَ.
تَوَقّع أن تقع أشياء كثيرة خلال الأيام القادمة تُغيّر مسار حياته ومسار محيطه، بل مسار العالم، لكن " الأيام القادمة " جاءت دون أن يقع أيُّ تغيير، بل ظل كل شيء على حاله، وربما زاد سوءً.
لقد ظل حبيس هذا الإحساس منذ أزمنة بعيدة، دون أن ينتبه إلى أنّ التغيير الوحيد الذي يحدث كان يمس مُورفولوجيا جسده فقط، فوزنه يزداد، وشعره يشتعل شيبا، ووجهه تمسه الغضون والتجاعيد، وحركاته تُصبحُ أقل نشاطا.
حتى زوجته التي كان يَجد عندها السُّلْوَة والمودة الزائدة ودفق المشاعر الذي يُسرّي عنه، أصابها برود رهِيب مُذْ داهمها المرض وصار كل هَمّها أن تَسْتفتيه في موضوع العلاج، وطريقة استعمال الدواء، ومواقيت التحاليل والأشّعة، أما زملاؤه في العمل فأحاديثهم كانت مَلاحم شجنٍ، وبكائيات لا تنتهي وسردا بئيسا لأحداث بعضها مَحلّيُّ، وبعضها يهم ربوع الوطن، أو أرض الله الواسعة، كانت هذه الأحداث تبدو له بَالِغة الفَظَاظِة تَبثُّهُ بالطاقة السلبية، وتُلقي به نَحو دَوّامة الهواجسِ وبواعثِ القلق. وَلَعَلّ هذا ما كان يدفعه في كثير من الأحيان إلى تجنّب تجمعاتهم، وإن قُدّر عليه التواجد بَينهم فإنه يلتزم الصّمتَ ويتسلح بالانطواء. مِمّا جعلهم يلقبونه بالغراب "الأعصم"، لِفرادته في السلوك والمعاملة.
سأل زوجته ذات مرة: " ما بك يا امرأة؟ وماذا أصابك حتى صِرت على هذا الحال من البرود وضيق الخاطر؟"
نظرت إليه مستغربة، وقالت :" لستُ مسؤولة عمَّا تراه أنت تَغيُّراً، وأراه أنا تَطوّرا طبيعيّا ، وجزءً من قواعد اللعبة المفروضة علينا قَسراً ودون رضانا، والتي تنتهي بحتمية لا نستطيع الوُقوف في وجهها"
ارتسم في كينونته على حين غرة وهو في طريقه الغائم معنى لطالما وفد عليه فجأة دون استعداد وتقدير، والواقع أن هذا المعنى منه يُعرف صاحبه بشكل دقيق، وهو حكم منطقي يجري على ألسن الناس؛ مفاده: "كل شيء يدخل في نطاق الوجود فهو متغير"، "وحال الإنسان داخلٌ في هذا النطاق"؛ "فحال الإنسان في تغير دائم".
لم أجد مثل هذا الوصف والتحديد الذي قاله صديقي "عبد الله" يصدق عن صديقنا "حميد"، الذي أعرفه شخصيا معرفة تحقيق، وقد كان آخر مرة التقيت به الإثنين الماضي، وبدا لي من خلال تبادل أطراف الحديث أن نفسه قد نزعت إلى تغيير موضعه الذي لبث فيه زمنا ليس بالقليل، وطال مكوته فيه، وسعى فيه سعيا، كما كابد من أجله مكابدة، حتى إن من يراه في وضعه ذاك لن يخطر على باله في يوم ما أن يفكر في الانتقال منه، وقد كان قبل ذلك يحمد الله على تلك النعمة، ويجد فيها نفسه، ويرنو البقاء فيه طويلا طويلا. لا أدري ما الذي حدا به إلى الرغبة العارمة في التحرك من مكانه.. لا أدري، لا أدري. غير أن المحقق عندي أن هناك شيئا ما، وليس بالتأكيد شيئا عاديا مما يمكن أن يقبله المرء دون مواربة، فأنا أعرف الرجل، فليس من عادته أن يقع في هذا المأزق الذي يحرضه على الانصراف عن المقام الذي لطالما حدثني بكل فرح بحبه له وأنه لا يجد راحته إلا فيه، ولم يقع على فؤاده في وقت من الأوقات –وأنا أعي ما أقول- أنه سيأتي تاريخ يسمح فيه عن تلك الجلسة الملائكية أمام بستانه العقلي الحالم.
وصحيح أنه لا يكاد يخلو طريق شخص من أمور تظهر أحيانا على شكل أطياف من التيه والضلال، وبمقدورها في زمن غير محدد أن تتحول إلى أزهار تضفي على الأيام رونقا بهيا ينسي المارّ من الحجيم ما قاسى من ألم وما لحقه من تعب، ولكنها تظل بالقياس إلى غيرها من الأيام كاوية للخواطر التي لا يتوقف سيلان حركات الذهن من إنتاجها؛ ذلك أنه عادة ما يبلغ به الأمر أن يستسلم لتلك الأطياف بالنزوع إلى أي رصيف يتمطاه، دون أن يسأل إلى أين سوف يصل به، ومع ذلك ينازعها ويتولى استشفاف كل ما هو جدير باستمداد ما يمكن أن يجعله مفعما بالذوق المحرك للمياه الراكدة في مخيلته.
بلغت المأساة، بلغ الحزن والأسى المبلغ الذي تسقط معه كل الشعرية. هذه اللية الأولى بعد الفاجعة، استلقي في الفراغ، السماء بعيدة جدا، كم هي بعيدة سماء الجنوب، كم هي مليئة بالنجوم، لكن ما أبعدها. استلقي تحت شجرة زيتون، لا حرية في الأمر أبدا، على مبعدة من منزل لم يعد قابلا لأن يسكن، المسكن الذي كان يوما، قبل اليوم، الحضن والوطن، أصبح بعد الليلة المشؤومة مصدر الخوف واللاطمأنينة. الصغار يغطون في نوم عميق، ليس لهم بعدُ من علم الحياة ما يفسد عليهم نومتهم، لم يربوا بداخلهم بعد فكرة المنزل بالقدر الكافي، صغار يغطون في حضن الأمهات، وصغار يغطون في نومتهم الأخيرة، وقد حضنتهم الأم الرؤوم الأرض، واطفال يغطون في النوم لكن دون أم ما، وأم تنام بغير اطفالها.
في مجرد ليلة واحدة تغير كل شيء، تغير التاريخ، توقفت الحياة هناك وانتهت. الناس، من تمكن من عبور هذه الليلة، عبروها وهم فارغين، فارغين من كل شيء، وانكسرت الذاكرة، واختلطت على الناس كل الاتجاهات.
كان منظر الندى على الأشجار مليئا بالشاعرية، قبل اليوم كنت أخرج من البيت إلى البَحيرة، املأ نفسي ببعض جمالها، واليوم استيقظ وأنا الندي، قد سقتني الطبيعة نداها بنفسها، وقد سقاني غمام الصباح برده، أقسم أن لا شاعرية في المسألة أبدا.
أما مشهد الهروب من السكن الوطن لم يغادرني أبدا، صراخ الأمهات، والاباء، صياحهم في الأبناء، رعب اللاقدرة على رد الهول، معزوفة لا تغادر الأذن. لكن كل شيء بخير، وإن لم يعد أي شيء يشبه أي شيء.
انقسم الفؤاد بين قريتي المنسية في الزمن، وبين البلدة هناك، النائمة عند قدم الأطلس، حيث قضيت أيام فتوتي، ذاكرة مكان آخر خالط وجداني، وهو يكبر معي، المدرسة الإعدادية، المدرسة الثانوية، دار الطالب، وأزقة البلدة المنسية أبدا، البلدة التي لا يعرفها إلا ابناؤها، والأصدقاء.
البلدة التي فيها صَدَرَ لأول مرة الغطاء عن بئر لغتي، البلدة التي ما أكتب نصا إلا محاكاة لنص ما ولدته فيّ، في وجداني، هناك حيث حكاياتي مع أشجار التوت، وأشجار اللوز، حكاياتي مع ليالي نوفمبر الباردة، وربات شعري، وحبيباتي السبع، أقلامي، خطواتي ولعابي على أرصفة هذه البلدة النائمة عند قدم الأطلس.
"ارتَدّ إلي طرفي وهو حسير، وقد صدمه قبح ما رأى، واقع أليم، وزمن ساخر يتسلى بأوجاع من طالهم جُورَه وَجُورَ بني جلدَتهم من علية القوم
ونخبة النخبة، ممن يستنكفون إلقاء نظرة على من هم دونهم في الوضع والحال، ويسرفون في ذمهم و تحقيرهم دون أن يرِف لهم جفن، أو تتحرك في قلوبهم رجفة رحمة"
دَاهمهُ هذا الشعور الغريب وهو يلج مقهى " برغواطة" كما كان يحلو له أن يسميه هو لاعتبارات يراها موضوعية وتاريخية، أو "تامسنا" كما سَمّاهُ مالكوه وهم جاهلون –حسب منطقه- أنّ برغواطة وتامسنا صنوان لا يجوز ذكر أحدهما دون الأخر.
جلس في ركن قصي بمواجهة فسيقة المياه المزدانة بفسيفساء من زليج فاس، وضع رجلا على أخرى، وطلب كأس شاي كبيرٍ على الطريقة الشمالية، تلذذ برشف جرعاته، وهو يتنقل عبر الصفحات الفاسبوكية ،
مُستجليا أخبار فيضانات شرق البلاد، وأنباء الهروب الكبير لأهل شمال إفريقيا وجنوبها نحو الثغور المغربية المحتلة من طرف الإسبان، بحثا عن الفردوس المنشود، و الحياة الكريمة.
اقترب منه النادل فجأة ووضع أمامه كوبا من عصير الفواكه المشكلة،
نظر إليه مستغربا وقال : " أنا لم أطلب شيئا يا بُنيّ" ابتسم النادل ورفع يده مشيرا إلى شاب تجاوز الأربعين بشارب أسود وملامح مستبشرة، يرتدي بذلة رسمية لرجال الأمن وقال: " الطلب مُوجّه من الضابط "
خارج الوقت..
"الوقت كالسيف، كالسهم، إن لم تنتبه قطعك"، بمعنى آخر، الوقت سيف مسلّطٌ على أعناقنا، إن لم نستغلّ دقائقه وساعاته، سيُجهز علينا ويجتزُّ رقابنا دون رحمة، فهل نحن، العرب، من قال هذه القولة ومقصودها؟ وهل قلناها في زمن كان للوقت ثمنه، أم قلناها لأُناسٍ غيرنا؟ هل نسينا أن التّاريخ يُسجّل، فأخلفنا وعدنا وموعدنا؟
فاض الوقت بنا، وعنّا، وأصبحنا خلف الرّكْب نتفرّج وقد تاهت بنا السُّبُل والدّروب والمسافات والطُّرق، وأصبحنا فائض الإنسانية، وانتهت صلاحيتنا حين انتهى وقتنا وانقضى، واصح الوقت عندنا فراغا وثالثا ودون قيمة.
قَطَعَنا السّيف أشلاء، وأصابنا السهم في مقتل، حين صنعنا لأنفسنا، نحن الّذين نُحسن الفُرجة والتّصفيق والضّحك لأتفه السباب، وقتاً للفراغ ووقتا ثالثا، كأنّنا أنهينا الوقت الأول بما يفيد الإنسانية ويُطوّرها، ولم يتبقّ لنا منه إلاّ ثالثا نستريح فيه من تعب ما لم نفْعلْ، ووقتاً للفراغ أفرغنا فيه كل ذرة كبرياء إنساني زَرَعَها فينا الأولون الذين كان وقتهم من ذهب، فأقاموا له محاريب للاعتكاف لتُزهر الإنسانية وتسير واقفة شامخة في شتّى المعارف والعلوم.
لنا من الوقت الفائض وما يفيض عن حاجتنا، لدرجة أننا لم نعد نعرف ماذا نفعل فيه أو به، أوقفنا حركته، ووقفنا حيث نحن، لا نزيد خطوة، بل نتقهقر خطوات، حين سار الآخرون مسرعين إلى الأمام، لا وقت لهم للوقوف والنّظر إلى الوراء ولا إلى من تخلّف عن الرّكب، ونحن في وقتنا نغوص حد النُّخاع في مستنقع الانتظار والتواكل والضحك البليد، والتّمايل المجنون مع الأرداف حين تتمايل، ومع البطون حين تهتزُّ، نجمع ما لا يُجمع، ونكتنز ما عافته الإنسانية ومجّتْه، لا نتذكّر أمسنا، ولا نتأمل يومنا وحاضرنا، ولا نتوقّع مستقبلنا، بل ننتظر دائما، نعيد اجترار أيامنا كذلك العُجل المقزّز الذي يمضي يومه كاملا يدفع كرة الرّوث، ولا يُحسن صنعَ شيء غير ذلك، إلى أن "ينتهي بنا الأمر إلى أن نُصبح مخلوقات من نوع آخر كان اسمه "الإنسان"، أو كان يطمح إلى أن يكون إنسانا، ومن دون أن يعي هذا، بالضّرورة، تغيَّر في شكله. إن التّغيّر الأكثر خطورة هو الذي جرى(ويجري) في بنيته الداخلية العقلية والنفسية"[1]
من الوقت ما قتل، وهذا ينطبق علينا، نحن العرب، حين اعتقدنا، بل آمنّا، أن الوقت ليس لنا، بل للآخر يكتشف لنا ويخترع، ونحن في زمننا العربي البئيس، نعيش على هامش الوقت، وهامش الإنسانية نضحك للقمر، ونردّد قولا فهمناه بطريقتنا، "ما فاز إلاّ النّوَّمُ"، فزنا انحطاطا وتخلُّفاً حين انْفَلَتَ من بين أيدينا الوقت الثّمين، وتركناه يسيح غير مأسوف عليه، لأنّ لنا من الوقت ما يسع النّائمين منّا، ويزيد عن حاجتنا، لنفعل كل شيء، إلا التّأثير في العالم، والمساهمة في بناء معارفه، وتغيير ما نحن فيه من ذل وتراجع وعبودية.
يحتدم رأيان في قضية تذوق الأعمال الأدبية، سعيا لتحديد المسافة بين النص وقارئه. هل يتعلق الأمر بمتعة وجدانية متحررة من أي استدلال عقلي أو مسبقات لغوية وبلاغية؟ أم هي ملكة لا تستوعب جمالية قول شعري أو نثري، إلا باستيفائها شرط الإلمام بمعارف تساعد على الإيضاح وتبديد الغموض؟
إلا أن كلا الرأيين يتفقان على أن التذوق في مجال الآداب لا يتحقق بدون فهم. فالمتذوق في عالم الإحساس الجسمي يكفيه جزء يسير لبلوغ الإحساس المطلوب، سواء تلذذا أو نفورا، بينما يحتاج متذوق الأدب إلى وقت طويل، ينتهي خلاله من قراءة النص أو استماعه إلى نهايته.
تكمن خصوصية الأدب في كونه يتطلب إلماما بنظام رموزه، حيث الكتابة رمز ننفذ من خلاله إلى شيء كامن خلفها. ولذا يتوجب على كل قارئ أن يفك شفرات النص أولا، ثم يحدد مدلول كل كلمة في نفسها أولا، ثم بوضعها داخل سياق تعبيري وتركيبي متعدد بتعدد النصوص الأدبية زمانا ومكانا. وهو الجهد الذي لا تتطلبه التعبيرات الفنية الأخرى، من تشكيل وموسيقى وغيرها.
كل تذوق إذن يشتمل على معرفة في حدها الأدنى بلغة النص الأدبي وأسلوبه، والقواعد التي تحكم جنسه، ثم الاتجاهات التي ينحاز إليها كاتبه، اجتماعية كانت أم سياسية أم غيرها. وهذا يعني أنه لا يوجد قارئ يبدأ من نقطة الصفر كما يؤكد الدكتور إبراهيم عوض (1)، وأن الملكة النفسية التي تدرك نواحي الجمال لابد أن تسبقها عملية الفهم.
تلهمنا قراءة النصوص الأدبية شعورا مكثفا بالنشوة والامتلاء، لأنها استنطاق لما تحمله الرموز من صور خيالية، ورؤى ومشاعر وجدانية. وهو الشعور الذي لا يتحقق إلا بشكل مضطرب ومشوش في باقي الإبداعات الفنية، حيث اللوحة أو المعزوفة الموسيقية حاضرة أمام المتلقي يعاينها ويسمعها. أما النص الأدبي فلا يُقيد القارئ بهذا الحضور المادي، بل يحرره معتمدا على الخيال الذي لا يلتزم سوى بالخطوط العامة للنص.
هذه الحرية تتيح للمتذوق أن يخلق للنص الأدبي أوضاعا وأشكالا لا حد لها، وأن يستغرق فيه لدرجة الفناء، بحيث يصبح شخصا من شخوصه وليس مجرد متابع. وهي السمة التي يشير إليها أوسكار وايلد في قوله: " تتلخص السمة الوحيدة المميزة للشكل الرائع في أن باستطاعة أي واحد أن يُضمنه ما يخطر على باله، أن يرى فيه ما يريد أو يرغب".
1ــ مدخل إلى عامل
الرواية رسالة لغوية تحمل عالماً متخيلاً من الحوادث، التي تشكّل مبنى روائياً بشكل واسع على شريطي الزمان والمكان، والتعدد في الشخصيات بما فيها الرئيسية /البطلة، والثانوية كفروع مكملة، والوقائع والأحداث التي تتعاقب أو تتزامن؛ والسارد الذي يحكي لنا بالتفصيل؛ فهي تشتغل كالقصة على الحدث أو الأحداث، وكيفية بنائها داخل تقنيات الأزمنة وأنواع الأمكنة، وتحريك الشخصيات حسب الوقائع... ومبدعنا دخل غمارها متسلحا بثلاثة أعمدة لا يمكن استثناء أحد منها عن الآخر، أولها الأفكار التي لملمها من الواقع المعيش، وخصّبها في دنّ المخيلة بالإضافات والحذف والتوليد.. ثانيها اللغة التي جمع قاموسها من تجارب متنوعة من محيطه عن طريق الاطلاع والتلاقح ، وخزانه المعرفي الموروث عن الأجداد والأسلاف.. ثالثها الحبكة السردية التي مكنت مبدعنا من توظيف هذه العناصر، وتركيبها في بناء سردي /حكائي ... فهذه فالعوامل مجتمعة، كانت حافزا بليغا على الزج بمبدعنا في عالم الرواية ...
2ــ ملخص حول محتوى الرواية
كان لمكتبتي احتضان المنجز الأدبي، حين تسلمته شخصيا من صاحبه بإهداء محترم سرّني ، تحت عنوان :(جراح غائرة ) من الحجم المتوسط 196 صفحة، مجزأة إلى 43 جزءا، ممكن اعتبارها فصولا، ولو ليست مقيدة بعناوين تثبت ذلك.. تحكي الرواية عن قرية صغيرة تقطنها السيدة عائشة، اختطفت ابنتها زينب من باب المدرسة، وبحثت عنها، ولم تجدها، فاختفت هي الأخرى.. وأصبحت القرية تعيش فوضى باجتياح اختطاف التلاميذ من المدرسة، وهينمة أخطبوط العقارات، وأصحاب المصالح الشخصية وإفراغ الساكنة من بيوتهم ، ومزارعهم ، واجتياح المباني الإسمنتية؛ فتحولت من قرية جميلة بأغراسها وحقولها إلى قرية ملوثة، تتراكم فيها الأزبال، وتتناسل الأحداث؛ وتتفشى فيها ظواهر مقلقة كالفقر والبؤس والدعارة، والسرقة والقتل، وتطال يد الإفراغ عبد المالك زوج عائشة وأبا زينب هو الآخر .. وتتوالى الاحتجاجات.. أخيرا تعود عائشة فتجد مكان مسكنها خرابا ....
والقرية دون منازع هي رمز وإشارة حقيقية إلى الوطن ، وما يجري فيه اليوم من أحداث مؤسفة وقاتلة ، تشمئز منها النفوس ...
صدرت الرواية في حلة أنيقة عن مطبعة النورس زرار /الطبعة الأولى، تخلو من أي تقديم ، تاركا مبدعنا بوشعيب الإدريسي المجال ، ليقدم الإبداع نفسه بنفسه ..
3ـــ العتبات النصية كبوابة لاقتحام المضمومة
أي كتاب يلمسه القارئ، لابد وأن يقلبه بين يديه، قبل بدء قراءته، يتفحصه، ويطلع على عتباته النصية التي تقوده إلى المحتوى، لتساعده على فهم المقروء: كالغلاف، والعنوان، واللوحة، والألوان وما جاور ذلك.. ولقد أسهم الوعي النقدي الجديد في إثارة علاقة العتبات والنصوص المحيطة، أو المجاورة بالموضوع الأساسي، فأضحى مفهوم العتبة ، مكونا نصيا جوهريا له خصائصه الشكلية، ووظائفه الدلالية التي تؤهله للانخراط في مساءلة ومحاورة بنيات دالة، لها نفس الدرجة من التعقيد من بنية النص وأفق التوقع... وبدوري قمت كقارئة بنفس الفعل.. أسائل العتبات النصية عنصرا عنصرا بشكل متواضع قبل اقتحامي المحتوى ...
إذا أحصينا ما يُستعصى على النّسيان ليعشّش في الذّاكرة ويصبح وكرًا ثابتًا ومستقرًّا نأوي إليه في كل موسم يحضن أفكارنا كي نزوّد العالم بما يتناساه الإنسان عمدًا من شدة ألم فوات مطلوب، نعثر في قائمة المنقوش على جبين أحجار جبال خمير والمحفور على جذوع شجر الفلين والزّان والمطبوع على ثرى طرق البداوة والقرى الرّيفية النائمة بين أحضان جبال خمير، تحاكي في جمالية اختبائها أعشاشًا بحثنا عنها في لحظات الطّفولة، نعثر على رواية "ورقات من تباريح الأيام" لكاتبها عبد الرزّاق السّومري ابن مدينة عين دراهم الواقعة شمال غرب البلاد التونسية أين ولد وتعلم من قمم الجبال وقساوة الطّبيعة فنّ التّحليق بواسطة الرّيح ضد الرّيح مسكونًا بهاجس الإشراف من علوّ شاهق على ما لا تراه عيون العابرين في الطّرق المتعرجة. أين يمكن لشجرة واحدة أن تُخفيَ الحقيقة؟ وأين يمكن لمنعرج واحد أن يجعلنا نتخفّى عن أنظار من يلاحقوننا؟ كي يسدّوا علينا منافذ العبور الى جمال المنسيّ والمهمّش والمقصيّ والمتروك لأقداره تعبث بوحدته وتفرّده لتسكن كأرواحٍ شرّيرة بيوتًا مهجورة أو مقابر منسيّة أو نفوسًا طيّبة جرحت قساوة الزّمن لحمها الطّريّ وأنهكها المسير، لكن خطواتها رسمت للقارئ طُرقا نعبر منها السّبيل إلى ولادة المعنى وسكينة الرّوح حين يأخذنا الكاتبُ الى عوالم ليس لنا بها عهد، تختزن جمال المحكيّ وتروي تفاصيل الآلام، لا لكيْ ينتشل تلك العوالم من النّسيان والتّلاشي فقط، بل لينبّهنا أيضًا إلى إمكانية الإحساس بأنّنا أحياء، وأنه ثمة فرق بين أن نعيش كالعُميان أو أن نشعر بالحياة ونتملّى التّفاصيل. أحيانًا ينتابك شعورٌ وأنت تقرأ نصّ التّباريح، أنّه من جنس رواية التّفاصيل، وبالتّفاصيل يرأب الكاتب شروخ الذّاكرة ويحاول لملمة النّسيان وإعادة الهامشيّ والمنسيّ والمقصيّ إلى حرم الذّاكرة الجماعيّة تفصيل نقرأها في تاريخ هروب المعارضين السياسيين عبر الوادي الكبير إلى الجزائر، في ليالي السّمر والحكايات والمواويل القديمة، في مواسم الغجر وبدايات الخريف، في ليالي الأنفاق في باريس، في تلك الرخامة المنقوشة على بيت "إديث بياف" في "بال فيل" والتي تحكي كيف ولدت على الرصيف ثمّ هزّ صوتها العالم.
تمثل رواية "متاهة الأشباح" لبرهان شاوي إحدى الأعمال الأدبية المميزة التي تجمع بين العمق الفلسفي والغموض الأدبي. الرواية هي جزء من سلسلة "المتاهة"، التي تركت بصمة خاصة في الأدب العربي المعاصر. في "متاهة الأشباح"، نجد أنفسنا في عالم معقد مليء بالصراعات الداخلية والتشظي النفسي، حيث تعيش الشخصيات في حالة وجودية غامضة تتأرجح بين الحياة والموت، بين الماضي والحاضر، وبين الحقيقة والوهم. تعد هذه الرواية مرآة تعكس التحديات التي يواجهها الإنسان المعاصر في رحلته للبحث عن ذاته وهويته وسط ضجيج العالم الخارجي وتناقضاته. من خلال شخصيات معقدة ورمزية، يقدم شاوي تجربة سردية غنية بالمعاني التي تتناول أبعادًا نفسية وفلسفية، تتخطى الحدود التقليدية للسرد الروائي، وتفتح الباب أمام تأملات عميقة حول طبيعة الوجود الإنساني.
في "متاهة الأشباح"، يعتمد برهان شاوي على بناء شخصيات تحمل أبعادًا نفسية وفلسفية متداخلة، تعكس التوترات والصراعات الداخلية التي يعيشها الإنسان في مواجهة ذاته ومجتمعه. الشخصيات في الرواية ليست مجرد أدوات روائية تحركها حبكة معينة، بل هي تجسيدات حية لمفاهيم فلسفية ونفسية تتعلق بالوجود والهوية والصراع الذاتي. غالبًا ما نجد هذه الشخصيات عالقة في حالة من التعليق بين عوالم مختلفة، وكأنها تعيش في فراغ لا ينتمي إلى مكان محدد أو زمن معين. هذا التعليق بين الحياة والموت، بين الماضي والمستقبل، وبين الواقع والخيال، يعكس الصراع النفسي العميق الذي تواجهه الشخصيات وهي تحاول فهم موقعها في هذا العالم المعقد. تعيش الشخصيات في حالة دائمة من الاغتراب، حيث تبدو غريبة عن نفسها ومحيطها، مما يجعلها تدور في دوامة لا تنتهي من التساؤلات حول هويتها ومعنى حياتها. إحدى السمات البارزة لهذه الشخصيات هي أنها تحمل بداخلها شظايا من الذكريات والأحداث المؤلمة التي لم تتمكن من تجاوزها، مما يدفعها إلى البحث عن خلاص ذاتي قد لا يكون موجودًا. تتصارع الشخصيات مع أشباح الماضي التي تعيد إحياء الصدمات النفسية والأحداث المؤلمة التي أثرت على حياتها. هذه الأشباح ليست مجرد تجسيد لذكريات ماضية، بل هي قوة فعالة تؤثر بشكل مستمر على الحاضر والمستقبل، مما يضع الشخصيات في مواجهة دائمة مع ماضيها.
يتناول إليوت أكيرمان في روايته "في انتظار إيدين" المشاعر الملتبسة التي تجمع ثلاث شخصيات، إيدين الرقيب في الجيش الأمريكي، وصديقه الذي هو بنفس الوقت الراوي الذي لا اسم له، وماري زوجة إيدين.
يُصاب إيدين في العراق، تنقله طائرة نقل عسكرية عملاقة سي ١٧، وبعدها مروحية إلى مشفى سان أنطونيو بعد إصابته في الحرب بجروح وحروق يصفها الراوي بأنها الأكبر في التاريخ لمقاتل!
يبقى إيدين في المشفى معلَّقا بين الحياة والموت لمدة ثلاث سنوات، تلازمه زوجته ماري التي كانت حاملا عندما عاد من مهمته الكارثية، وتضع ابنة تطلق عليها اسم أندي اختصارا لأندروميدا.
رغم إصرار أقرباء إيدين ووالدة ماري لكنها ترفض التسريع بموته، وفي ليلة عيد الميلاد توافق على اقتراح أمِّها بالذهاب معها، ولكنها ما تلبث أن تعود بسرعة إلى المشفى بعد أن أصيب إيدين بأزمة قلبية و دماغية تفاقم وضعه ليفقد السمع والبصر.
قبل أن يداهم القارئ الذهول بإخلاص الزوجة، يكتشف خيانة مزدوجة قامت بها مع صديقه المقرَّب عندما كان إيدين في دورة تدريبية استعدادا للذهاب إلى الحرب، تؤدي هذه العلاقة إلى حمل ماري ويكتشف إيدين خيانتها لأنهما ببساطة لم يمارسا العلاقة الحميمة ولا مرَّة واحدة لأسباب مجهولة، ولكنه مع ذلك يريد الاحتفاظ بالطفلة!
يقصُّ الراوي ببساطة وجمال وتفصيل غير ممل أحداث الرواية، ويُعرِّج على الظروف المحيطة بها في بلد يمتلك إمكانات اقتصادية وعلمية هائلة تمكِّنه من نقل مصابي الحرب من أرض المعركة بطائرات عملاقة توصلهم بعد طيران قارب الستة عشر ساعة إلى مشافي متخصصة في أمريكا، ولكنه بنفس الوقت يجهد على إخفاء أعداد القتلى في حربي أفغانستان والعراق.
يبرعُ الكاتب في عرض مشاعر الشخصيات ووصف تصرفاتها، ويضع نفسها داخل روح إيدين وجسده ليصف اتجاه نظره، ويتحدَّث عن أفكاره البسيطة، ومنها استمرار رؤيته لحشرات وصراصير أثناء غيبوبته محتفظا بالفوبيا التي عانى منها حقيقة في حياته، و تعلقه بما اسماه برائحة الماء والصابون التي وصف بها رائحة زوجته ماري، وهي ذات الرائحة التي انجذب إليها الصديق الخائن!
إن مفهوم النص، المستعمل على نطاق واسع في مجال اللسانيات والدراسات الأدبية، نادرا ما يتم تحديده بطريقة واضحة: فالبعض يقصرون تطبيقه على الخطاب المكتوب، بل على العمل الأدبي؛ والبعض الآخر يرى فيه مرادفا للخطاب؛ والبعض في الأخير يعطيه امتدادا سيميائيا واسعا، يشمل النص السينمائي أو الموسيقي، الخ. تماشيا مع الاستعمال الشائع في التداولية النصية ، سوف نحدد النص هنا كسلسلة لسانية منطوقة أو مكتوبة تشكل وحدة تواصلية، ولا يهم هنا أن يتعلق الأمر بجملة واحدة أو بمتوالية من الجمل. إن مفهوم النص لا يوضع على نفس المستوى مع مفهوم الجملة ( أو الحمل أو المركب، الخ). إن البنيات النصية ، ورغم أنها تتحقق من خلال وحدات لسانية، تشكل وحدات تواصلية: " إن النص ليس بنية نسقية محايثة، بل وحدة وظيفية ذات طابع تواصلي (هـ. ف. بليت 1975). أما في ما يخص العلاقة بين النص والخطاب، فإنها رهينة طبعا بالتعريف الذي نعطيه لمفهوم الخطاب. فإذا عرفناه باعتباره كل مجموعة من الملفوظات الصادرة عن مصدر تلفظي يتسم بوحدة تيماتية شمولية، سنقول في هذه الحالة إنه إما أن يتطابق مع نص ( كما في حالة التواصل المكتوب، حيث تتطابق الوحدة التواصلية مع الوحدة التيماتية بصفة عامة)، وإما أن يتشكل من عدة نصوص، ( في الحوار هناك تفاعل بين خطابين أو أكثر، حيث يتشكل كل خطاب عموما من عدة نصوص، لآن كل رد حواري يشكل وحدة تواصلية ، وبالتالي فإنه يشكل نصا خاصا).
النص ولسانيات الجملة
خلال مدة طويلة ، توقف التحليل اللساني عند حدود الجملة التي نظر إليها كإطار شامل لكل الوحدات اللسانية الملائمة، دون الاهتمام بمستويات التنظيم العليا المحتملة. فحتى الجملة بالنسبة لسوسير ـ ما لم يتعلق الأمر بجمل جاهزة ـ لا تدخل ضمن لسانيات اللغة، ولكن ضمن لسانيات الكلام: " تشكل الجملة نموذجا ممتازا للمركب. ولكنها تنتمي للكلام وليس للغة". ويرفض بلومفيلد من جهته أن يهتم بوحدات خطابية أكثر امتدادا من الجملة. ويبدو أن كلوسيماتية هيلمسليف تمثل استثناء، لأنها تقدم النص كمعطى يشكل نقطة انطلاق للتحليل، ولكن، ورغم هذا المبدأ، فإن التحليلات المنجزة عمليا ضمن إطار الكلوسيماتية قد ظلت بصفة عامة حبيسة نحو الجملة.
تتميز انشغالات الدكتور مصطفى محسن بثراء مواضيعها، وغنى أجناسها، وتنوع مسألياتها على اعتبار أنه:
-يَنْهَلُ من معين الفلسفة بما هي تساؤلات منظمة/مُبنْيَنَة، واستراتيجية للتفكير قُصودها إخصاب منظوره العلمي حُيال الأنساق الثقافية، والإيديولوجية والتربوية، والاقتراب أكثر فأكثر من ظواهر المجتمع المغربي لأجل فهمها؛ وغاية في تقليبها في كل أوجهها لإبراز دلالاتها العميقة، والكشف عن غوامضها، وهدفا أيضا إلى تفسير سيرورات التحول التي تعتري منظومة القيم، والمقومات، والنظم فضلاً عن التنظيمات، والتبادلات فالعلاقات الإنسانية...وذلك بالارتكاز على منظور نقدي تكاملي وسمه الأستاذ مصطفى محسن في أكثر من عمل ب"النقد المتعدد الأبعاد" الذي تنهض حيثياثه على"نقد إبستيمولوجي وسوسيولوجي وحواري تكاملي منفتح للذات والآخر"(محسن:2022، ص:11-12) وعلى المجتمع في شموليته، بنيات وهياكل، ونظما، ومؤسسات، وعلاقات، وتوجهات، وأنماط تفكير، ومجالات مادية ورمزية متعددة..
- ويَمْتَحُ في الآن نفسه من عيون الأدب، وصهيل القصيد العربي على وجه الخصوص الذي افتتن به منذ طفولته، مرورا بفورة المراهقة، فمرحلة الشباب في "مدرسة النهضة" و"ثانوية الهداية الإسلامية" بآسفي مسقط رأسه حيث بداية تجربته مع شغف القراءة، وتَخَلُّق مغامرته مع أسرار اللغة. هكذا عكف على قراءة القريض، وهكذا عَمَدَ إلى تعميق ممارسته للكتابة الشعرية سَاوَقَتْ الممارسة السوسيولوجية والفلسفية لديه؛ وهذا ما وضحه حين كتب: "إن انشغالي بحقل الفلسفة والعلوم الإنسانية عامة. ومنذ هذه الفترة المبكرة من مسيرتي الدراسية والثقافية، قد ساهم، بشكل رائع كبير، في تعميق فهمي للأدب والفكر، وفي توسيع نظرتي إلى أبعادهما الفلسفية والسيكولوجية والسوسيولوجية...وإلى كل مايرتبط بذلك من قضايا الإبداع، والالتزام، والدور الاجتماعي والسياسي للأدب والثقافة والفن، ومناهج النقد والدراسات الأدبية، وآليات اشتغال الخطاب الأدبي لغةً وأسلوباً ومضامين ومرجعيات نظرية فنية وفكرية وثقافية وبراديغمات وتوجهات وخلفيات معرفية وثقافية واجتماعية مختلفة ومتعددة...مما كان له بلاريب، أثرٌ في كل كتبتُ من أعمالٍ فكرية وإبداعية"(تجليات،ص: 17).ويَسْتَطْرِدُ مصطفى محسن فيقول: "غير أن ما يجدر بي التنويه به في هذا المَسَاق هو أن عِشْقِي للفلسفة قد ظل يَصُبُّ، على العموم، في صميم وَلَهِي وحُبِّي للشعر والأدب." (تجليات، ص:17-18)
"النساء يكتبن أحسن" هو كتابُ مختارات قصصيّة لكاتبات من أمريكا اللاتينية ترجمها الكاتب المغربي محمد صوف، صدر سنة 2000. وقد استقى محمد صوف عنوان كتابه هذا من عنوان مقال للكاتبة الأرجنتينية "آنّا ماريا شوا" (1951)، ورد ضمن المختارات كالتالي: "لماذا تكتب النساء أحسن من الرجال؟"
تطرح الكاتبة في هذا المقال مسألة علاقة النساء بالكتابة انطلاقا من فرضيّة أنهنّ الأحقّ بامتلاكها موهبة وممارسة من الرجال بناء على عدّة حجج هي في الواقع مواقف الآخر/ الرجل- الكاتب من اشتغالها بفنّ الكتابة الإبداعيّة، حجج تستعرضها الكاتبة في أسلوب تهكّميّ لذيذ بعبارة محمّد صوف. وفي هذا المقال، سنحاول التوسّل ببعض الاقتباسات التي عن آنّا ماريا شوا لتحليل "الفرضيّات" المطروحة وبيان حدودها التي تتوارى بالنسبة إلى القراءة السطحية تحت نبرة ساخرة تعيد بناء العلاقة بين المرأة والكتابة من جهة، وبين الإبداع في شتّى الفنون وخاصة منها الكتابة الإبداعية شعرا وسردا والإنسانيّ في الإنسان وهو في محلّ إقامته المشترك من هذا العالم.
تقول آنّا: "الرجال الحقيقيّون لا يكتبون. لا يحْكون. يروج في الأيام الأخيرة في أوساط النقاد وهواة الأدب أن الأدب مهنة نسائية. إنه فنّ يشبه فنّ النسج والطرز "
هناك ارتباط وثيق بين المرأة والنسيج والتطّريز، ارتباط قديم قدم الوجود البشري على سطح الأرض، في مختلف الحضارات، وعبر العصور. آدم كان أوّل من مارس النسج في التراث العربي الإسلامي، فحالما نزل إلى الأرض ذبح كبشا وأخذ صوفه فغزلته حوّاء ونسجه آدم فعمل لنفسه جبّة ولحوّاء درعا وخمارا" ( ابن الأثير). وكانت عشتار آلهة الخصب والجمال في حضارة ما بين الرافدين تدعى بالربّة النسّاجة، وعُرفت أثينا آلهة اليونان بمهارتها في النسج والطّرز، وكانت أراكني فتاة من أثينا تميّزت ببراعتها الفائقة في النسيج ، تذهل منسوجاتها الجميع بشرا وحوريّات وآلهة. وكانت قد تحدّت الربّة أثينا في هذا الفنّ وتفوّقت على الربّ، لكنّ مسألة التفوّق البشريّ التي تمسّ جوهر التفوّق المطلق للآلهة ووجودهم المتعالي أدّت في النهاية إلى أن غضبت أثينا على أراكني فحوّلتها إلى عنكبوت وحكمت عليها أن تظلّ معلّقة إلى مكان منزو بعيد عن الأنظار هي وبناتها من بعدها، إلى كان هشّ سريع العطب، حسيرة النظر وضئيلة الجسد، ليس لها من طريقة للعيش سوى أن تدع الخيط الرقيق ينسل من بطنها إلى الأبد.
حذار، من يرَ منكم عنكبوتا في الركن المهجور فليذكر أنّها حفيدة تلك المرأة المبدعة أراكني، جدّة كلّ العناكب النسّاجات بما فيهنّ تلك التي خلّدت الصحراء العربيّة حكايتها لمّا حاكت شبكتها الدائريّة على فوهة غار حراء فضلّلت قُفاة الأثر عن النبيّ وصاحبه "إذ هما في الغار" ( قرآن كريم) مختبئين.
المستقبلية futurismo حركة فنية تأسست في إيطاليا في بداية القرن العشرين، إذ عرفت أوج نفوذها بين عامي 1909 و1944. وتعني المستقبلية نبذ كل ما يتعلق بالماضي وبدأ ثقافة جديدة، وينشط المستقبليون في كل فروع الوسط الفني بما في ذلك الرسم والنحت والتصميم الجرافيكي، والتصميم الصناعي، والأزياء، والمنسوجات، والأدب، والموسيقى والهندسة المعمارية، وحتى الطبخ لم يسلم منهم. إن المستقبلية، بشكل عام، تبتعد عن كل ماهو ماضوي قديم هادئ، وقد عبر مارينيتي هن هذا الابتعاد بقوله "إن سيارة السباق أجمل من تمثال ساموثراس".
انطلقت المستقبلية من الأدب نحو فنون أخرى، حيث قام الأديب ورجل القانون فيليبو توماسو مارينيتي Filippo Tommaso Marinetti بإصدار بيان سمي بالبيان المستقبلي Manifesto del Futurismo، الذي نشر لأول مرة في الجريدة البولندية Gazzeta dell'Emilia في 05 فبراير 1909، ثم تلقفته الجرائد الإيطالية تباعا؛ حيث نشر بجريدة Il Pongolo di Napoli في 06 فبراير 1909ن وبجريدة la Gazzetta di mantova وl'Arena di verona في 09 فبراير 1909، ثم توالى نشره في الجرائد المحلية والعالمية، إلى أن وصل إلى جريدة Le Figaro الفرنسية في 20 فبراير 1909 وأعطته شهرة منقطعة النظير. يشجع البيان في مجمله على تبني السرعة والحركة والعنف وقطع دابر الماضي، لأنه لا يساعد نهائيا في بناء المستقبل والنهوض به. ويأتي هذا البيان في إحدى عشرة نقطة أساسية هي كالتالي:
- Noi vogliamo cantare l'amor del pericolo, l'abitudine all'energia e alla temerità.
-1 نريد الغناء لحب الخطر وروح النشاط والجسارة المندفعة.
- Il coraggio, l'audacia, la ribellione, saranno elementi essenziali della nostra poesia.
-2 ستصبح الشجاعة والإقدام والتمرد العناصر الجوهرية لشعرنا.
- La letteratura esaltò fino ad oggi l'immobilità pensosa, l'estasi ed il sonno. Noi vogliamo esaltare il movimento aggressivo, l'insonnia febbrile, il passo di corsa, il salto mortale, lo schiaffo ed il pugno.