" إلى المؤمنين بالواقع: أيتها السذاجة المقدّسة! يا له من تبسيط وتزييف غريب يعيش فيه الانسان! فما إن يفتح المرء عينيه ليبصر هذه الأعجوبة حتى لا يعود للعجب من نهاية! كم جعلنا كل شيء من حولنا باهرا وحرا، خفيفا وبسيطا! وكم برعنا في إفلات حواسنا على كل ما هو سطحي وفي تزويد فكرنا برغبة إلهية في البهلوة وفساد الاستدلال! "
ف. نيتشه، ما وراء الخير والشر(ص:51)
طرح هوكينغ نموذجا آخر للواقع البديل نجده في فيلم ماتريكس The Matrix أو المصفوفة، مفاده أن "البشر يعيشون في واقع خيالي بدون أن يعرفوا ذلك، واقع تمت محاكاته بواسطة كمبيوترات ذكية كي تحافظ عليهم مسالمين وقانعين، بينما تمتص الكمبيوترات طاقتهم البيو-كهربائية".
وهذه رؤية مجازية، للنظرية التي عرضها جان بودريار في الكثير من كتبه، والقائمة على كون الواقع أصبح مشبعا بنقائضه، إذ اتسعت رقعته ليشمل ما اعتبرناه ليس واقعيا، وهذا ما عرضه في نظريته عن الواقع-الفائق.
وتستند نظرية بودريار عن الواقع الفائق، إلى أساسين: الأول فلسفي صرف، والثاني يتعلّق بنتائج التقدم العلمي خصوصا في مجالات تطبيقات العلم.
بخصوص الأساس الفلسفي، فهو مرتبط بالسيرورة النظرية لتطور إشكالية الواقع، وبالخصوص كل من هيجل ونيتشه، بخصوص هيجل فإن بودريار استطاع أن يستثمر مفهوم الواقع عند هيجل باعتباره مطابقا للمطلق ومتماهٍ معه، ومن ثمّ تصبح جميع الأحلام اليوتوبيات متحقّقة على أرض الواقع، وهذا ما يحيلنا إلى الحديث عن ماوراء النهاية(...) أما بخصوص نيتشه فقد أحدث ثورة كبرى في الفلسفة، إذ بقلبه للأفلاطونية، استطاع أن يوحّد الذهن البشري مثلما وحّد غاليلي العالم، إذ أنهى التراتبية التفاضلية في الذهن بين الحقيقة والخطأ من جهة، وبين الحقيقة والوهم والخيال من جهة أخرى، وهكذا فإذا كنّا قد نظرنا منذ غاليلي إلى العالم كوحدة، فمنذ نيتشه بدأت بوادر النظر إلى الذهن البشري كوحدة كذلك.
مع نيتشه إذا، تضخّم مفهوم الحقيقة ليشمل الوهم والخيال وكذا الاستعارات...، نفس الشيء بالنسبة للواقع، فقد اتسع مجاله ليشمل هذه العناصر، بل إنه أكثر من ذلك، أصبح المستقبل قطبا من أقطابه، وهذا المدلول النتشي للواقع باعتباره جريانا وتدفقا لا متناهيا، سيكون له تأثير كبير على رؤية جان بودريار وفي بلورته لنظريته عن الواقعية-المفرطة.
أما الأساس الثاني، فقد مثّلته نتائج التقدم العلمي وبالخصوص الثورة التكنولوجية والتقنية التي لحقت مجالات تطبيقات العلوم كما أسلفنا، إذ أصبحت الحياة البشرية تُنْتَجُ في العالم الافتراضي ومُتَحَكّم فيها من طرف الصورة عبر وسائل الميديا، "ليس هذا بعيد الاحتمال، طالما أن أغلبية الناس – حسب هوكينغ-يفضلون قضاء وقتهم في واقع محاكي في مواقع الانترنت مثل Second Life".
هذه البوفارية الجديدة أو ما يمكن تسميته بالبوفارية الواقعية المتسمة بالحلول المطلق للإنسان في العالم الافتراضي، دفعت بودريار إلى طرح هذه السؤال: " هل هي فعلا نهاية الانسان ككائن واقعي؟" ويرد بقوله: "حتى نجيب على السؤال المطروح باعتماد معناه المناقض تماما، بالإمكان القول، إننا أصبحنا واقعيين أكثر فأكثر، بل إننا نعاني من قدر زائل ومبالغ فيه من الواقع".
بهذا المعنى نفهم بأن القول بموت الواقع ليس إلغاءا له، بل هو توسيع لدلالته لتشمل الوهم والزيف والافتراضي والمصطنع...، وهذا ما أدى إلى انهيار مبدأ الواقعية المبني على فصل هذه العناصر وعزلها عن الواقع.
وإذا كان ستيفن هوكينغ، قد حاول أن يجيب عن إشكال ما هو الواقع؟ من زاوية علمية خالصة اعتمادا على الفلك والفيزياء، فإنه بذلك لم يستطع أن يقدم وجهة نظر شاملة تحيط بكل جوانب مفهوم الواقع بقدر ما اكتفى بإسقاط التصورات الفلكية-الفيزيائية على باقي العناصر التي يشير إليها هذا المفهوم، فإن بودريار قد انتبه لهذا الأمر فقدم بذلك تصورا مركبا يأخذ بعين الاعتبار كُلا من الدلالة العلمية التي تنظر للواقع من زاوية كوسمو-فيزيائية وكذا الدلالة العملية التي تنظر للواقع بوصفه موضوعا للاستهلاك إلى جانب الدلالة النظرية الخالصة التي تحاول أن تقدم إجابة شاملة للمفهوم بكل مستوياته وإحالاته. وهنا إذا يضع جون بودريار القارئ والمهتم في متاهة مفاهيمية، فعلى هذا الأخير أن يجمع بين السوسيولوجيا والعلوم الفلكية-الفيزيائية وتطبيقات العلم التقنية والفلسفة، في سبيل مسايرة الدروب المنهجية والمعرفية لصاحب الجريمة الكاملة وهو يحاول الإجابة عن سؤال ما هو الواقع؟
الواقع من وجهة نظر جون بودريار:
1-الأصول الفلسفية لمفهوم الواقع لدى جون بودريار
إن المفهوم الذي يعطيه بودريار للواقع له جذور فلسفية عريقة في تاريخ الفلسفة بحيث يمكن الصعود بهذا الموقف إلى الفلسفة ما قبل السقراطية وبالتحديد إلى فلسفة هرقليط، فلسفة التغير التي تعلي من شأن الحركة والدينامية، فالوجود عند فيلسوف "النار" متغير باستمرار، ولا شيء عنده ثابت، لا شيء ساكن كل شيء يتبدل. كل شيء يتغير إلا قانون التغير ذاته "فأنت لا تستطيع أن تنزل نفس النهر مرتين. لأن المياه التي ستجري عليك في المرة الأولى لن تجري عليك مرة أخرى".
هرقليط إذا يمكن اعتباره الجد الفلسفي لبودريار، فالوجود عنده صيرورة وإمكانات متعددة للتغير والتبدل، وبالتالي فكل الفلسفات التي آمنت بالتغير وبالتحول وبالطابع الصيروري للوجود لها مكانة في تاريخ هذا الموقف الفلسفي الذي فجـّره بودريار في أبلغ لحظاته.
وهذا المفهوم أو الموقف الفلسفي للوجود يأتي مناقضا بشكل جذري للنزعة البارمينيدية في الفلسفة التي تؤمن بالثبات والسكون، ومحاولتها لتثبيت الواقع وشل حركة الوجود ما هي إلا ذريعة فقط قصد ضبط الواقع وتوليف الوجود لعملية المعرفة لأنها لا تتم من منظور بارمينيدي إلا بما هو ثابت وساكن وفي طموح أنصاره لتثبيت الوجود يتعسفون على حيويته وصيرورته، يقول بودريار "مازال وهم القبض على الواقع الحي مستمرا منذ نرسيس Narcisse المنحني فوق نبعه، إنه وهم مفاجأة الواقع بغية تجميده"( ) ووقف حركته.
هذا ما سيتنبه له صاحب الكتاب الذي كتب للجميع ولم يكتب لأحد بنقده لنظرية المعرفة الحديثة وطابعها المنطقي التثبيتي الذي يقصي إرادة القوة بما هي إرادة تحول وتبدل، فحتى البذرة تنمو لكي تصبح نبتة.
إرادة الحياة النيتشوية ليست إرادة البقاء الداروينية، إنها إرادة التحول والتغير والتبدل صوب اختراق إمكانيات جديدة للحياة وملئ كل احتمالات الوجود.
الموقف النيتشوي إذا من الوجود قريب جدا من حيث فرضياته الفلسفية من المفهوم البودرياري للواقع، فصاحب الجريمة الكاملة ينظر إلى الواقع باعتباره جريانا بلا حدود وتدفقا لا متناهيا ( )، وهذا الطابع الجرياني والتدفقي الدائم والدائب للواقع يجعله غير قابل للضبط أو الإمساك به، ويجعله ينفلت باستمرار من أي محاولة للذات للهيمنة عليه والسيطرة على صيرورته.
لذلك فلا توجد إمكانية لقيام نظرية في المعرفة أو أطروحة أنطولوجية أو تصور قيمي على أساس الثبات طالما أن الواقع لا يكف عن الجريان والتدفق المستمر.
الفرضيات التي ينطلق منها بودريار إذا هي في الأصل وفي العمق فرضيات هرقليطية-نيتشوية، تعطي الأولوية للواقع وللوجود وتستمع لنبضه أكثر مما تحاول التعسف عليه من خلال الإسقاط المنطقي لمقولات الذات على الواقع بما هو موضوع في نظرها.
ولكن مع ذلك لا يجب فهم هذا الموقف الفلسفي من الواقع والوجود على أنه يكرس تلك الواقعية الساذجة المنحدرة من التصور الكلاسيكي الأرسطي للمعرفة، الذي يعلي من شأن الواقع.
وبودريار ظل دائما ينتقد كل الذين يؤمنون بثبات الواقع وسكونـه، ففـي "le crime parfait" يصرح بقوله: "يشكل الاعتقاد (= الإيمان) بالواقع شكل من الأشكال الدينية البدائية، وضعف كبير في فهم وإدراك العالم (...) ويمثل في نفس الوقت، المأوى الأخير le dernier retranchement لحراس الأخلاق وأنبياء العقلانية "( ).
فالمواقف التي تتمسك بالمفهوم الكلاسيكي للواقع هي بتعبير بودريار نيات حسنة لكن يتستر وراءها خبث عميق يتمثل في جعل الواقع نوعا من التأمين الدائم للحياة une sorte d’assurance-vie أو حقا من حقوق الإنسان comme une sorte de droit de l’homme أو موضوعا استهلاكيا مباشرا consommation courante ( ).
هكذا إذا تتبين لنا المسافة الهائلة بين تصور بودريار للواقع والموقف الواقعي الساذج.
بل أكثر من ذلك يصل به مفهومه الانسيابي للواقع إلى التساؤل بهذا الشكل لماذا لا يمكن أن توجد عوالم واقعية بنفس عدد العوالم المتخيلة؟ Pourquoi n’y aurait-il pas autant de mondes réels que de mondes imaginaires ? ( ).
ولماذا فقط عالم واقعي واحد؟ Pourquoi un seul monde réel ? ( ).
ويجيب بقوله: "في الحقيقة، العالم الواقعي le monde réel بين كل العوالم الممكنة هو العالم الوحيد الذي لا يقبل التفكير فيه إلا بوصفه خرافة خطيرة، وعلينا الانفصال عن الواقع إذا بشكل جذري كما سبق أن انفصل الفكر النقدي la pensée critique يوما باسم الواقع (au nom du réel) عن الخرافة الدينية La superstition religieuse"( ).
هذا ما دفع جون بودريار إلى القول بموت الواقع. فماذا يقصد بذلك؟
2-أطروحة موت الواقع
لاشك في أن أطروحة موت الواقع ستكتمل مع بودريار لتصبح إبادته للتصور الكلاسيكي للواقع إبادة جذرية، لكن هذا لا يعني أنها ولدت مكتملة معه، صحيح كذلك أن بودريار كما يعلم الجميع هو الذي منح لهذه الأطروحة اسمها ولقبها ونمّاها وخاض بها سجالات ساخنة، لكن هذا لا يعني أنها أطروحة لقيطة بلا جذور، صحيح أنها أطروحة أصيلة وفريدة من نوعها، لكن لا يجب إنكار أن هذه الأطروحة فيما يخص المفهوم الذي تعطيه للواقع، تستلهم توجها فلسفيا أصيلا آمن بحيوية الواقع وفاعليته، منذ هيرقليط وصولا إلى نيتشه وكواين والفلسفة البرجماتية مع وليم جيمس بالخصوص... إلخ.
كما لا يمكن التغاضي عن أن الإشكالية التي تنطلق منها هذه الأطروحة قد سبق أن تم تناولها ولو بشكل جزئي، فلقد سبق أن تم خلخلة مفهوم الواقع قبله، ولكن السمة المميزة لهذه الخلخلة أنها كانت مختصرة على المجال العلمي ولم تكن عامة وشمولية، بمعنى أنها لم تضرب في فكرة الواقع عموما بل شككت فقط في مصداقية مفهوم الواقع العلمي.
وهذه الزلزلة التي تعرض لها مفهوم الواقع العلمي جاءت بفعل تنامي حجم الأزمة البنيوية التي وقعت فيها العلوم الحقة، التي تمثلت في أزمة الأسس التي قامت عليها، والأساس الجوهري الذي تعرض لأزمة عنيفة وعميقة هو الأساس المتمثل في "فكرة الواقع" أي بعبارة أخرى الواقع الذي يفترضه العلم وانطلاقا منه يطرح أسئلته وإشكالاته ومن خلاله يبني نظرياته وتصوراته.
لذلك فالعلوم وخاصة الرياضيات والفيزياء وجدت نفسها في أزمة خانقة حينما تم خلخلة هذا الطابع اليقيني الموضوعي الذي ساد تصورنا العلمي لمفهوم الواقع وتم التسليم به والتواضع عليه، إذ بينت لنا الثورة العلمية المعاصرة أن هذا الواقع الذي شيدت عليه كل النظريات والتصورات العلمية وكانت الأسئلة العلمية نفسها تتكئ عليه باعتباره الواقع الموضوعي الوحيد، ما هو إلا مجرد افتراض فقط.
بحيث أن بروز الهندسة اللاأقليدية مع كل من ريمان ولوبا تشوفسكي، تبين أن العلم لم يكن يدرس الواقع – كما هو كائن عليه – ويتحدث عنه. بل كان يدرس الواقع الذي افترضه هو وسلم به، معتقدا أنه يدرس الواقع الموضوعي اليقيني والحقيقي.
لذلك فحينما كتب ريمان لأول مرة عن هندسته الجديدة – التي ستعرف فيما بعد بالهندسة اللاأقليدية – التي تحاول أن تنطلق من واقع آخر غير الواقع الذي تكرس منذ أقليدس عنون ما كتبه ب "الرياضيات الخيالية Mathématique Imaginaire" أي أنه كان متيقنا من أن خرقه لقواعد الواقع كما تبلور منذ زمن بعيد سيعتبر ضربا من الخيال واللاواقع.
لماذا؟ لأن الواقع الذي يفترضه ريمان وكذلك لوبا تشوفسكي واقع لا يؤمن بأن الواقع أو الفضاء أو المكان المسطح هو الواقع الممكن والوحيد، فكل المسلمات الضمنية والصريحة عند أقليدس التي قامت عليها الهندسة تفترض وجود واقع هندسي واحد هو الواقع الرياضي المستوي والمسطح، في حين أن الهندسة اللاأقليدية خلخلت هذا التصور العلمي الكلاسيكي للواقع، وبالأحرى هذا التصور الواقعاني للعلم وخاصة الهندسة.
ونفس الشيء بالنسبة للفيزياء بحيث أن علاقات الارتياب مثلا عند شرودنجر وهيزنبرج شككت في واقعية الواقع الفيزيائي ويقينيته وفي وجوده المضبوط وأقرت بطابعه الاحتمالي فقط. لهذا الثورة العلمية المعاصرة ضربت في مفهوم الواقع العلمي وأسقطت عنه طابع اليقين والحقيقة والموضوعية.
والفرق بين هاته الخلخلة التي تعرض لها مفهوم الواقع العلمي وأطروحة موت الواقع عند بودريار علاوة على كون الأولى جزئية والثانية شاملة وجذرية. أن موت الواقع هو إبادة لتصور معين بصفة نهائية، في حين أن الخلخلة الابستمولوجية لمفهوم الواقع وخاصة في شقها المواضعاتي آمنت بصلاحية كل النظريات العلمية شرط أن تكون مخلصة لافتراضات الواقع الذي تنطلق منه وأن تكون منسجمة معها.
موت الواقع إذا خلخلة جذرية لمفهوم الواقع، فما القصد من وراء هذا الإعلان الجنائزي؟
3-استراتيجية الواقع
إن لفظ simulation الذي يوظفه جان بودريار ويقابله في اللغة العربية لفظ الاصطناع ( ) أو التصنع أو التمويه ( ) أو الإيهام ( ) أو التصاور ( )؛ مفهوم أساسي وجوهري في المتن البودرياري ومفتاح مهم وضروري لفك ألغاز أطروحة موت الواقع عند بودريار.
ولقد استعار بودريار في مؤلفه «Simulacres et simulation» حكاية لخورخي بورخيس وهي خرائطيو الإمبراطورية، معتبرا إياها "أجمل محاكاة ساخرة للتصنع"( ) ومضمون هذه الحكاية أن أحد الأباطرة أمر بأن ترسم خريطة مفصّلة لإمبراطوريته "تغطي مجموع مجالها الترابي بدقة كبيرة"( ) فكانت النتيجة أن جاءت الخريطة، بقدر مساحة الإمبراطورية تماما.
حيث أصبحت الخريطة هي الأرض وحلت محلها، فأصبحت النسخة الشبيهة هي الأصل ذلك أن "السيمولاكر لا يخفي الحقيقي أبدا بل إن الحقيقي هو الذي يخفي واقع عدم وجود شيء حقيقي، إن السيمولاكر هو الحقيقي"( )، لقد انمحى الاختلاف الكامن بين الأرض والخريطة بين الأصل والنسخة، بين الأيقونة والسيمولاكر.
بل أكثر من هذا صارت الخريطة تسبق الأرض بعدما كانت الأرض هي التي تسبق الخريطة وترممها وتولدها، ومع أفول الإمبراطورية (الأرض) بدأت "خريطتها تتفتت شيئا فشيئا، كما بدأت بعض الثغور التي لازال بالإمكان تحديد مواقعها في قلب الصحاري تتفتت هي أيضا، لقد حذت الخريطة حذو الأرض كما لو تعلق الأمر بلحم فاسد محكوم عليه بالتفتت والعودة إلى مادته الأصلية"( ).
ويرى بودريار أن المجتمعات ما بعد الحداثية أو ما بعد الصناعية نموذج حي لهذه الحكاية، إن لم نقل إنها وصلت إلى عكسها ونهايتها، لقد انهارت الخريطة حسب بودريار كتجريد وكموضوع مضاعف وكبديل وكمرآة للأرض بحيث أنها لم تعد تصنعا أو محاكاة لأرض أو لكائن مرجعي أو لمادة معينة "لقد تحولت إلى استراتيجية للتوليد بواسطة نماذج لواقع بلا أصل وبلا هوية"( ). لقد غذت واقعا فائقا أو واقعية مفرطة.
موت الواقع إذا ليس موتا أنطولوجيا ومطلقا لـ "الواقع" إنه موت لتصور معين عنه، ويتعلق الأمر بالتصور العقلاني الموضوعي الحديث، وهذا ما يستدعي إعادة النظر في تصوراتنا وأفكارنا ومقولاتنا التي كنا نظن الواقع يعمل بها ويحتكم لها.
لقد تمزقت الخريطة وبدأت تتحلل حسب بورخيس والسبب في ذلك لا يعود إلى الخريطة بل إلى الواقع (الأرض)، بمعنى أن تحلل وأفول الواقع لا يتحمل فيه التصور العقلاني الحديث مسؤوليته المباشرة. وإنما السبب يعود إلى "الواقع" الذي استحال إلى واقع فائق واقع مصطنع ومفبرك.
ولتسليط الضوء على مفهوم الاصطناع Simulation يضع بودريار فرقا مهما بينه وبين مفاهيم أخرى منها مفهوم الإخفاء dissimulation، فإذا كان هذا الأخير يعني "التظاهر بعدم امتلاك ما نملك"( ) وهو موجه دائما صوب ما نملك، فنحن لا نخفي شيئا ليس بحوزتنا، لأنه لا يمكن إخفاء اللاشيء أو العدم، كما أنه ليس بمقدورنا حجبه طالما أنه غير موجود.
فإن الاصطناع هو "التظاهر بامتلاك ما لا نملك"( )، أي أن الاصطناع يشتغل دوما على ما لا نملك، ويدعي باستمرار امتلاكه، وبالتالي فإن المرجعية الأساسية للاصطناع هي الغياب، لأن موضوعاته مفبركة وليست طبيعية، أشياء وعناصر واقعية وغير حقيقية يتم إنتاجها كوقائع طبيعية وحقائق ثابتة، في حين أن مرجعية الإخفاء هي الحضور، لأن موضوعاته حاضرة وموجودة وطبيعية وبالتالي فمكانة الغياب في استراتيجية الإخفاء ثانوية لأنها فقط مجرد نتيجة وتجلي، بينما نجد بأن مكانة الغياب في الاصطناع كاستراتيجية تمويهية، أساسية، لأن الغياب يدخل في بنية الاصطناع وفي (عمق) تكوينه.
لكن مع ذلك فالاصطناع ليس بهذه البساطة والوضوح والتميز – إن شئنا توظيف مفاهيم ديكارتية-فيدجنشتاينية – لأنه أكثر تعقيدا وتركيبا وتضليلا، ذلك "لأن الاصطناع غير التظاهر"( )، فالتظاهر بالشيء لا يعني اصطناعه فمن يتظاهر بالمرض – كما يقول صاحب المصطنع والاصطناع – يمكنه ببساطة أن يستلقي على سريره ليوهم الآخرين بأنه مريض، أما من يصطنع المرض فإنه يعمل على أن يعين في ذاته بعض الأعراض.
لهذا فلا التظاهر أو الادعاء ولا الإخفاء يعبران عن حقيقة الاصطناع، لأن الاختلافات التي يطرحها التظاهر أو الإخفاء مقنعة masqué أي أن كليهما مجرد قناع يتظاهر بشيء ما أو يخفيه، علاوة على أنهما لا يخلخلان بأي معنى من المعاني توازن الواقع، فهذا الأخير بهما أو بدونهما يبقى ثابتا ومتوازنا، لأنهما (أي التظاهر والإخفاء) يتركان الواقع سليما لا يشوبه النقص ( ).
في حين أن الاصطناع simulation يشوه الواقع ويمزق مبادئه، فالإخفاء أو التظاهر كما قلنا لا يتركان أي أثر في الواقع، ولا يغيران فيه أي شيء، لأنهما يتركان الواقع كما هو، يطفوان على سطحه ولما تنتهي مدة صلاحيتهما يختلفان لأنهما بكل بساطة عابران ( ).
أما الاصطناع فإنه لا يعبُر ثم يمضي ويزول، لأنه ليس استراتيجية سطحية ثانوية وإنما موجه بالضرورة ضد مبادئ الواقع ومقولاته، الاصطناع إذا يضع الواقع في زلزلة قوية مفادها فقدان ثنائياته وتناقضاته وأقطاب معناه، فالاصطناع يجدّر من هشاشة مبدأ الواقعية ويظلل أي إمكانية للتمييز بين الحقيقة والزيف والصدق والكذب، الخير والشر، بين الواقع والخيال... إلخ وبالتالي يشكك في الاختلافات التي تميز كل قطب من هذه الأقطاب عن نظيراتها، إلى درجة أن المقارنة بين هذه الثنائيات فقدت أهميتها، ذلك أن الاصطناع لكونه موجه بالضرورة ضد مبادئ الواقع، يسعى إلى إقامة ابستمولوجية فوضوية جرثومية أساسها التمويه والتضليل واللاتدقيق واللاضبط وانعدام الشفافية والصفاء.
فلم تعد هناك مثلا أية إمكانية للتمييز بين الواقعي والخيالي بين الحقيقي والزائف، لأننا أصبحنا بفعل الاصطناع نحيى خارج أسوار هذه الثنائيات، بحيث لم يعد هناك بعد خيالي مستقل عن الواقع ( ) ولا زيف منفصل عن الحقيقة، لقد اختلطت الأوراق والعناصر والأشياء، وفي هذا المستوى نلمس تشابها بين النظرة البودريارية للعالم والنظرة الديريدية للعالم كنص، فدريدا كذلك يقر بالطابع "المتردد واللايقيني indécidable" للعالم.
ففيما مضى خاصة في عهد الحداثة الفكرية كان للواقع معنى واضح ونفس الشيء بالنسبة للخيال والحقيقة والزيف... وسائر المفاهيم الأخرى غير أنه الآن انهارت معاني هذه المفاهيم بحيث لم نعد نعرف بدقة ما الواقعي؟ وما الخيالي؟ ما الحقيقي؟ وما الزائف؟
اصطناع الواقع إذا تماما كاصطناع المرض، وهنا يتساءل بودريار: "وبما أن المصطنع يخلق أعراضا "حقيقية" فهل هو مريض أم لا؟" ويجيب بقوله: "لا نستطيع أن نتعامل معه موضوعيا لا كمريض ولا كسليم هنا يتوقف الطب وعلم النفس أمام حقيقة مرض صارت غير معروفة"( ).
نفس الشيء بالنسبة لاصطناع الواقع، فالواقع المصطَنع ينفلت من أي إمكانية للتعامل معه موضوعيا كواقع أو كخيال، كحقيقة أو كزيف... إلخ. فكما أنه إذا كان ممكنا إنتاج أو صناعة أو بالأحرى تصنع أعراض كما لو أنها أعراض واقعية وحقيقية رغم أنها ليست طبيعية، فإنه يمكن اعتبار كل مرض قابل للتصنع والاصطناع، وبالتالي يفقد الطب معناه لأنه لا يعرف معالجة غير الأمراض الحقيقية من خلال أسبابها الموضوعية ( ).
والنتيجة أن الواقع بعدما أصبح مصطنعا ومفبركا أصبح عصيا عن الفهم ما دمنا لا نستطيع تمييز مظاهره الحقيقية عن المصطنعة.
وكل هذا لأن استراتيجية التصنع تعمل على "جعل الواقع والوهم شيئا واحدا"( ). وهذه هي الجريمة الكاملة "le crime parfait" جريمة قتل الواقع وإبادة الوهم، وهي الجريمة الأكثر خطورة مادامت تلغي الاختلاف الذي هو بمثابة حجر الزاوية والعصب الذي يبنى عليه القانون "لأن التصنع استراتيجية تتعالى على التناقضات والاختلافات والتمييزات العقلية التي تؤسس للاجتماعي والسلطة"( )، الاصطناع إذا يلغي الاختلاف والتمايز والمباينة la différence، ويرسخ النمنمة أو التصغير والنمذجة والتنميط... إلخ.
وكل هذه الفاعليات تشكل تهديدا "عقليا" لنا فـ"لقد تم في كل مكان وصل وتذويب المسافات والاختلافات بين الأجناس والأقطاب المتفارقة، وبين القاعة والمشهد، والواقع وضعفه، والذات والموضوع، وهو ما أدى إلى خلط جذري في المصطلحات وإلى اصطدام هائل بين الأقطاب جعل من المستحيل الاستمرار في لعبة إقامة التمييزات والحدود وإصدار الأحكام سواء في الفن أو الأخلاق أو السياسة"( ).
فالتصنع كاستراتيجية للتضليل يجعل إمكانية التمييز في الفن مثلا بين الجميل والقبيح والجيد والبذيء أمرا مستعصيا، وفي هذا الصدد يقدم بودريار في مؤلفه القيّم "مؤامرة الفن" تشخيصا محكما لحالة الفن في اللحظة الراهنة.
ويرى أن الاصطناع جعل من الفن المعاصر مجرد آلة "تحويل الابتذالية والسطحية والتفاهة إلى استراتيجية بقاء"( ) فبودريار يؤكد لنا أنه يجب أن نعلم أنه فيما وراء كل التناقضات الفنية المعاصرة توجد أو تكمن لعبة تضليلية واحدة هي الاعتراف بالتفاهة والسطحية ثم تحويلها إلى قيمة أساسية واعتبارها متعة جمالية.
يقول بودريار "بطبيعة الحال تدعي هذه التفاهة السمو بذاتها بالانتقال إلى المستوى الثاني والساخر للفن، ومع ذلك، فهذه اللعبة لا تجدي شيئا، بل تتحول هي ذاتها إلى رداءة مضاعفة، ذلك أن الفن يدعي التفاهة: "إنه تافه، إنه تافه" وهو حقا تافه"( ).
إذا فالتمييز الجمالي في الفن بين الجميل والقبيح والجيد والرديء لم يعد ممكنا لأن القيمة الجمالية الفنية انهارت، فالفن المعاصر قطع مع الإستيتيقا لأنه لم يعد ينتج معاني جمالية بل فقط جمالية مصطنعة تتحلل إلى تفاهة أساسها الشفافية.
ويتساءل بودريار "ما الذي تم إخفاؤه في قلب العالم الشفاف ويجيب على هذا النحو "لقد تمكن الفن المعاصر من التحول إلى جهة الهامشي والبذيء بأن شكّل بديلا دراميا عن الواقع وعبر نقل وضخ بنية اللاواقع"( ).
لكن ما الذي يمكن أن يدل عليه الفن المعاصر إذا في عالم التصنع الفائق عالم كله شفافية "عالم إشهاري"؟ إنها: السخرية ولكن "السخرية هنا ليست استراتيجية هامشية ولكنها وليدة التواطؤ السري للفنان مع الجماهير المذهولة والمخدوعة في هذا الوضع الذي يوجد عليه الفن"( ).
وحالة السياسة والأخلاق ليست غريبة عن حالة الفن، ذلك أن السياسة مثلا لم تعد استراتيجية إيديولوجية بقدر ما أنها دخلت في معمعة الاصطناع "لقد انخرط الجميع في اللعبة" لعبة الإيهام، لدرجة أن التمايزات السياسية لم تعد واضحة فلا مجال الآن للتمييز بين اليساري واليميني مثلا لأن الحدود التي صنعتها الإيديولوجيا أتلفتها وهدمتها استراتيجية التصنع والاصطناع، والأخلاق كذلك غدت اصطناعية وعلى العموم فالاصطناع جعلنا "لم نعد نتوفر على معيار أو مقياس أو إطار أو مرجع أنطولوجي أو قاعدة ابستمولوجية أو ضوابط أخلاقية نهائية أو يقينيات دينية تصلح للتمييز بين الأشياء ورسم الحدود وتحديد المسارات وتثبيت الأسماء وضبط الآفاق وطرد الأشباح والأوهام والتناقضات"( ).
بهذا المعنى نفهم لماذا دعا بودريار في إحدى مقالاته النارية إلى تحليل وتفسير أو التفكير في أحداث 11 سبتمبر فيما وراء الخير والشر، أي فيما وراء النزعة الأخلاقية الكلاسيكية، والنظر إليها من جهة "النظام le système" الذي أثرت عليه هاته الأحداث، بحيث خلخلت قطبية رمزية معنية. ويعيد بودريار هاته الضربة الرمزية كما يسميها هو، إلى نفس المنظومة التي أنتجتها، وكأنه يريد أن يكرر قول هيجل بأنه من القضية يتولد نقيضها.
الواقع إذا فقد الاختلاف بين أشيائه والتمييز بين عناصره لأن مبادئه انهارت، ومبادئه ارتبطت بمرحلة معينة هي مرحلة قانون القيمة، حينما كانت هناك علاقة بين الدال والمدلول، أما اليوم فقد انقلب النظام بأكمله في اتجاه الفوضى" وتم "امتصاص الواقع من قبل واقع فائق، هو واقع السنن والتضليل" لذلك فما يحكمنا اليوم هو مبدأ التضليل وليس مبدأ الواقع القديم، لقد انهارت تلك الثوابت الكبرى للواقع التي وضعناها في الواقع وقيدناه بها بوصفه موضوعا.
في حين أن استراتيجية الاصطناع استراتيجية غاوية؛ فاستراتيجية الاغواء أو الإغراء هدفها ومسعاها خلق موضوع سلطوي "يعيد إنتاج الفوضى الأصلية داخلنا ويعمل دائما على مباغتتنا" هذه المباغتة هي مصدر افتناننا بالواقع ولكن ليس الواقع الطبيعي لأنه فقد مصداقيته وأهميته، بل الواقع المصطنع أو المفبرك الذي احتكر كامل المصداقية ومطلق الاهتمام.
وبالتالي فافتتاننا بالواقع ثمرة استراتيجية الغواية والإغراء الذي يفرضه الموضوع على الذات وبالتالي يصبح الموضوع مغريا "تماما كما هي غاوية ممارسة لعبة مجهولة". فالواقع أصبحت له رغبة عارمة في الظهور داخل الحسابات كمعادلة ساخرة وترك الحسابات تختبر ذاتها تتحقق ذاتيا، وقاعدة اللغة وشروطها مبهمة ولا أحد بقادر على إدراكها، لأنها ليست ثابتة فبإمكانها أن تتغير في أي لحظة.
والمثال الذي يشرح ويوضح به بودريار "الاصطناع Simulation" هو مثال ديزني لاند Disney Land وفي حوار معه سئل "ألا يسير العالم في نظرك ليصبح عبارة عن ديزني لاند؟"( ) أجاب بالإيجاب مؤكدا أنه حتى الأماكن التي لها فرادة خاصة لن تستطيع مقاومة هذه الظاهرة؛ ظاهرة ديزني لاند، ظاهرة الاصطناع، وبودريار يقر بأن مقصوده من ديزني لاند ليس هو التمثيل الخاطئ للواقع "بل إخفاء حقيقة أن الواقع ليس واقعا وبالتالي إنقاذ مبدأ الواقع"( ).
كما يؤكد أيضا أن ظاهرة ديزني لاند ليست حقيقية وليست بالمزيفة كذلك، إنها آلة تعمية (حجب، إخفاء...) غرضها الأساسي إعادة توليد وهم الواقع.
ومن هنا – يقول بودريار – هزال التخيّل وسخريته وانحطاطه، ذلك أن عالم ديزني لاند يريد أن يكون طفوليا "ليوهم الناس أن عالم الكبار هو في مكان آخر – أي– في العالم الواقعي"( ) وأن هذا العالم هو مجرد عالم ديزني لاند، ليخفي حقيقة أن الطفولة الفعلية هي في كل مكان، وأنه لا فرق بين ديزني لاند والعالم "الواقعي"، واقع الولايات المتحدة الأمريكية بالخصوص، ديزني لاند هي طفولة الكبار بأنفسهم الذين يلعبون هنا دور الأطفال لخداع الناس وتوهيمهم وإخفاء طفولتهم الواقعية ( ).
ديزني لاند نموذج مقولب Stérétype يعبر عن الواقع الأمريكي دون التعبير عنه، وأساس هذه الصورة المقلوبة هي النمنمة أو التصغير miniaturisation ولا شك في ذلك طالما أن عصر الاصطناع هو عصر النمنمة بامتياز "حيث يكتسح التصنع كل الأبعاد الجغرافية والطوبولوجية للكائن"( ).
3-الواقعية المفرطة
اعتمادا على ما سبق يتساءل بودريار «هل هي نهاية الإنسان ككائن واقعي؟"( ) ويردّ بقوله "حتى نجيب عن السؤال المطروح باعتماد معناه المناقض تماما بالإمكان القول، إننا أصبحنا واقعيين أكثر فأكثر، بل إننا نعاني من قدر زائد ومبالغ فيه من الواقع"( )، بهذا المعنى نفهم بأن موت الواقع ليس موتا مطلقا له، بل هو توسيع لمفهوم الواقع ليشمل الوهم والزيف والافتراضي والمصطنع ...إلخ. وهذا ما أدى إلى انهيار مبدأ الواقعية القائم على فصل هذه العناصر وعزلها عن الواقع.
لقد شرعنا – حسب بودريار-في عملية جماعية ضخمة قائمة على إضفاء الطابع الواقعي على العالم إلى حد أن الواقع اتسعت دائرته لتشمل كل شيء تقريبا تماما كمعقولية المطلق عند هيجل التي تجسدت في كل الأشياء بحيث تم "تحويل اليوتوبيات والأحلام والأوهام إلى واقع"( )، عبر التكنولوجيات الصناعية الجديدة وبالخصوص تكنولوجيا الافتراضي.
عالمنا إذا هو عالم الواقعية المفرطة أو الواقع الفائق، الذي هدم حدود الواقع لينفتح على أضداده وتصبح هذه الأضداد مندغمة فيه، فاستراتيجية الاصطناع كما سبق أن تحدثنا عنها تلغي الاختلاف بين الحقيقي والمزيف فمن منا سيقول مثلا بأن الورود الاصطناعية غير واقعية؟ أو أن الصور المنقولة على شاشة القنوات الإخبارية بالخصوص غير واقعية أيضا؟ صحيح أنها نسخ عن الواقع، لكنها استطاعت أن تحل محله من حيث القيمة وأصبحت أكثر واقعية منه.
لذلك لا ينبغي النظر إلى الافتراضي والاصطناعي من جهة أخرى "كشيئين متعارضين أو كقطبين متناقضين"( )، ذلك أن الافتراضي والاصطناعي هما بالفعل أكثر واقعية من الواقعي ذاته.
موت الواقع إذا إفراط في الواقع حدّ التخمة، وتأكيد على أن الواقع لم يعد يحده أي شيء، بحيث لم يعد هناك خيال في مقابل الواقع ولا الزيف والوهم في مقابل الحقيقة، ما دام أنه لم يعد هناك متخيل يقابله أو يحيط به، فلا شيء خارج الواقع كما أنه لا شيء خارج النص بتعبير جاك دريدا.
هكذا إذا يمكن القول بأن بودريار فتح في الفلسفة فتحا جديدا إن لم نقل بأن أطروحته الموسومة بموت الواقع تشكل ثورة فلكية في الفلسفة بامتياز، فإذا كانت الثورة العلمية الفلكية الحديثة استطاعت أن تقضي على ثنائية الفوق والتحت، الأعلى والأدنى... فإن أطروحة موت الواقع كذلك أصرت على أن العالم واحد أيضا، من خلال كشفها عن حقيقة أن الكون واحد لا متناهي ولا محدود، لا فوق فيه ولا تحت، فلا مجال للفصل فيه بين الواقع والخيال أو بين الحقيقة والوهم لأن كل شيء أصبح واقعيا.
العالم المعاصر إذا "عالم أحادي خالٍ كليا من الضدية"( ) والتناقض والاختلاف والمباينة... وهلم جرا، وهذا ما يؤكد أن إمكانية التبادل مستحيلة ( ).
4-السيمولاكر وموت الأصل:
السيمولاكر هو المصطنع، وخاصيته الأساسية أنه فرع بدون أصل، والأصل هنا قد يشير إلى المرجع أو المنبع أو المصدر أو الغاية... إلخ. لذلك فعبارة "موت الأصل" تشير بشدة إلى انهيار المرجعيات الكبرى والغايات المثلى والإيديولوجيات أو الميتاحكايات بلغة جون فرنسوا ليوتار. فالإيهام أو الاصطناع أو التصاور Simulation إن شئنا توظيف ترجمة سعيد بنكراد يعمل على "صناعة واقع مجثت عن أصوله، واقع يعبر عن لاواقعيته بتعاليه عن الزمن والحدث التاريخي"( ).
الاصطناع إذا كاستراتيجية للتضليل والتمويه يعمل على اصطناع واقع لقيط لا أصول له، واقع بلا مصادر، واقع مجثت عن منابعه ومرجعياته هذا الواقع هو ما يدعوه بودريار بالواقع – الفائق hyper réalité الذي يشتغل على نفسه، بحيث لا توجد مرجعيات أو مصادر ينطلق منها وإن كانت فهي مكوناته الداخلية التي يعيد إنتاجها، ولا ينشد غايات أو طوباويات توجهه وتقوده.
فالحدث العظيم في هذه المرحلة كما يقول بودريار، مرحلة الصدمة الكبرى (ويقصد بها طور عدمية الشفافية) هو احتضار المرجعيات الأساسية، احتضار الواقع والعقلانية وكل القيم التي أصبحت تشتغل خارج أسوار "القيمة" بمفهومها الكلاسيكي، بل فيما وراء الخير والشر.
وعليه يعتبر بودريار أن العالم "أصبح مجرد صورة نقلا عن صورة...، وأصبح مجموعة عمليات الاصطناع أو صورة بدون صلة أو علاقة مرجعية مع أصل محدد في الواقع، بل تكون هذه المصطنعات هي المهيمنة والواقع محجوب ومختفي"( ).
السيمولاكر إذا صورة لقيطة، غير أن بودريار يميز بين النسخة copie والسيمولاكر simulacre، من حيث أن النسخة تحافظ على علاقة مرجعية مع الأصل "نسخة اللوحة(مثلا)لا تأخذ معناها إلا من اللوحة" بينما المصطنع لا يفعل غير اصطناع مصطنعات أخرى. وهنا يلتقي الفكر الجذري بالجنيالوجيا لكون هذه الأخيرة آمنت بأن العلاقة الطبيعية بين الأصل والفرع ليست خالدة ولا ثابتة بل بإمكان الفرع أن يتحول إلى أصل فيصبح أصلا لفرع آخر فيستقل عن الأصل الأول وهكذا دوليك.
وهنا يختفي كل مفهوم للأصل، لحدث أصلي، لحقيقة أولى بحيث لا يبقى أي مجال لغير المصطنعات وهنا ينضم بودريار حسب جوزيف عبد الله إلى تحليل نيتشه للحقيقة كقناع تماما كحشمة النساء، كمجموعة من الأقنعة يحجب بعضها بعضا، وعندما ننزع كل الأقنعة لا يبقى شيء ( ).
السيمولاكر كما يتحدث عنه بودريار شبيهٌ أيضا بمفهوم الجذمور Rhizome الدولوزي لكونهما معا يشتركان في خاصية الانفصال الدائم عن الأصول، فلا مصادر ثابتة وخالدة لهما. إنهما سواء السيمولاكر أو الجذمور ينموان في جميع الاتجاهات، فكل منهما ينموا بدون جذر ولا ساق، لا طرف ينطلق منه ولا طرف يبلغه أو يجب أن يبلغه.
5-الدلالات الفلسفية لموت الواقع:
أ-الاستراتيجية القدرية
من أبرز الدلالات الفلسفية لأطروحة موت الواقع: "الابستمولوجية الصدفوية والفوضوية الجرثومية التي أصبح ينتجها العالم "le monde"، أساسها التضليل والزيف والاختلاط والتلفيق واللايقين واستحالة الفصل وتدمير المعنى وإسقاط التأويل... إلخ. ابستمولوجية لا ديكارتية لا علاقة لها بالوضوح والبساطة والتميز كما كان يتصورها ديكارت لذلك فالفكر الآن لا يمكن أن يكون تحليليا –نسبة إلى الفلسفة التحليلية-لأنه لا يمكن بتاتا تبخير العالم في قوالب ومقولات منطقية، فلا شيء واضح ولا شيء بسيط، الكل يتخبط في العماء والفوضى"( ).
وبالتالي فمهمة الفلسفة لا يمكن أن تكون هي التحليل أو التوضيح المنطقي للواقع أو اللغة أو الخطاب، لأن الواقع خطى خطوة هامة في اتجاه الواقعية المفرطة وبالتالي تنصّل من الثوابت والمقولات(...)التي كنا نظنه قائما عليها، وما علينا إلا أن نواكب تطوره هذا وأن ننسلخ وننفصل عن كل التحليلات العقلانية والمنطقية التي فرضتها وضعية معنية للواقع في ظرفية تاريخية محددة.
وهذا ما سبقنا أن أشرنا إليه سالفا، باعتباره – أي الواقع-غذا منتجا لإبستمولوجية فوضوية، وبالتالي فأي تعامل معه بمقولات وأفكار وتصورات نظرية المعرفة الحديثة بأشكالها المختلفة (ديكارت، لوك، كانط...)، سيعدّ سوء فهم لهذا الواقع الذي كسر شوكة المعرفة الحديثة وهدم أسسها وثوابتها، ولعل أبزر ثابت أو اساس معرفي حديث قد أسقطته استراتيجية الواقع هو مبدأ ثنائية الذات والموضوع.
لقد كان الإنسان دائما كما يؤكد ذلك بودريار ذا ميول ونزوع قويين للسيطرة على الواقع وضبطه، وبالتالي فكل الإشكالات المرتبطة بالواقع كانت منفعية بالأساس تقودها إرادة الهيمنة بتعبير هايدجر، ففيما يخص مثلا الإشكال المعرفي نجده مجر تعبير عن محاولة تقليدية لضبط الموضوع والسيطرة عليه من قبل الذات.
وموت الواقع له دلالة إبستمولوجية أساسية تتمثل في نهاية واختفاء "الموضوع" الكلاسيكي الذي تصورته الفلسفة الحديثة.
وفي مؤلف "stratégies fatales" حاول بودريار أن يبرهن على قيمة الانقلاب الجذري الذي طال ثنائية الذات والموضوع بفعل تحلل مفهوم الواقع.
فإذا كانت الميتافيزيقا قد هدفت إلى "تحويل العالم إلى مرآة للذات وإلى أشكال متناثرة ومفصولة عن بعضها البعض وعن نسخها وظلالها وصورها"( ) أي أنها كانت تبحث عن الموضوع الخالص الذي تدركه الذات وتفهمه وتضبطه وتهيمن عليه.
فهذا المسعى، جذوره نزعة إنسانية ميتافيزيقية وأخلاقية، غرضها القبض على موضوع خير، يعطي إجابات تترقبها الذات وهذا ما يسميه بودريار "بمبدأ الخير"( )، في حين أن الموضوع هو على العكس من ذلك ليس مرآة للذات إنه بالمقابل "بنيةٌ للزيف والتضليل" وعصارةُ اختلاطه بنسخه السحرية وظلاله وصوره المصطنعة، وهذه الاستراتيجية؛ استراتيجية الاختلاط، هي ما يسميه بودريار "بمبدأ الشر"( ).
ومبدأ الشر كما يقول بودريار: "ليس (...) محفلا صوفيا أو فكرة متعالية، إنه حجب واغتصاب للنظام الرمزي"( ) وخيبة أمل للذات، وكأن الموضوع يبوح بما لا تريد الذات أن تعرفه.
هذه الابستمولوجية ليست بنية صوفية ولا بنيوية: إنها قدرية ( )، وفي علاقة الإنسان بالواقع "لا توجد سوى استراتيجية قدرية واحدة"( ) وهي النظرية بمعنى أن الرابط الوحيد الذي يربط بين الذات والموضوع هو رابط النظرية، لكن حسبه هناك نوعين منها:
الأول يدعوه بالنظرية العادية أو التافهة فيها "تعتقد الذات أنها أكثر ذكاءا من الموضوع" ( ).
الثاني يدعوه بالنظرية القدرية، يكون فيها الموضوع أكثر ذكاءا ودهاءا من الذات، إنها نظرية تؤمن بأن حيل الموضوع واستراتيجياته تفوق بكثير قدرة الذات على فهمها واستيعابها.
النظرية القدرية لا تعتبر الموضوع نسخة للذات ولا كبتا أو استيهاما لها، كما لا تعده هلوسة أو مرآة أو انعكاسا لها، بل تقر بحقيقة أن للموضوع استراتيجيته الخاصة وأنه "حامل لقاعدة لعب لا تدركها الذات"( ).
وعجز الذات عن إدراك قواعد لعب الموضوع ليس ناتج عن غموضه وإنما عن سخريته الجذرية، فإذا كانت الذات تستمد قوتها وتستلهمها من وعدها بالتحقق، فإن الموضوع هو ما هو متحقق أصلا، لهذا لا يمكن الانفلات من قبضته.
وهنا يتساءل بودريار قائلا: "إذا كان الموضوع بهذا الدهاء الخارق؟ وإذا كان استراتيجية قدرية على الدوام فماذا عسانا أن نفعل"( ). وجوابه: أننا وبعد فترة طويلة ونحن نمارس استراتيجية البقاء على قيد الحياة دخلنا الآن طورا آخر يدعوه بمرحلة ممارسة الاستراتيجية الساخرة للغياب، هذا الغياب الذي ظل الإنسان دوما يحلم به ضدا على رغبته المعلنة في وجود وحضور كلي.
والاستراتيجية القدرية تفرض علينا نظرية قدرية أساسها غياب الضبط والتدقيق فـ"لا أحد يعلم ما تكون عليه الاستراتيجية"( ) لأنه لا توجد أدوات كافية لتحقيق أهداف دقيقة ومضبوطة.
وبالتالي فموت الواقع إشارة أيضا إلى موت كل فلسفة تسعى إلى ضبط الواقع وإبرازه بشكل واضح، كما أن هذه الأطروحة دقت آخر مسمار في نعش فلسفة التاريخ "فلا أحد بقادر على وضع العالم داخل مسار واضح ونهائي"( ).
هكذا إذا انهارت ثنائية الذات والموضوع، لأن الأساس الذي قامت عليه وهو مفهوم "التمثل Représentation" قد انهار، هذا المفهوم الذي جعل من الذات فاعلة وذات وصاية على الموضوع، وهذا الأخير ما عليه إلا أن يكتفي بالانفعال فهو ليس في نظر الذات سوى "مادة عاطلة عن الفعل" تتأثر ولا تؤثر، وبالتالي فالموضوع كان مجرد تصور من تصورات الذات وبمجرد ما انتهى أقنوم الذات وتلاشى، كان من الطبيعي أن ينتهي مفهوم الموضوع ويتحلل طالما أن الأساس الذي توسد عليه قد انتهت مدة صلاحيته بتحلل مبادئه.
لم تعد الذات في اللحظة الراهنة إذا بقادرة على تمثل الموضوع (الواقع) نظرا للطبيعة اللانسقية والكارثية والجرثومية التي استحال إليها.
لقد كان الموضوع فيما قبل – إبان سيادة أو وهم سيادة الذات-قائما على الثنائيات الابستمولوجية والأنطولوجية (وجود/عدم، معنى/لا معنى، حقيقة/خطأ...) في حين لم تعد هناك قدرة على الفصل بين هذه الأزواج، وكما يقول بودريار "لقد اختفى شيء ما من ساحة المعنى، هذا الشيء هو الاختلاف الذي يسمح بالتمييز بين الأشياء ويبرر وجود التجريد والخريطة والأرض والواقع والمفهوم"( )، لقد تم ضرب ميتافيزيقا الحداثة عرض الحائط ( ) ذلك أن الموضوع انسلخ من وصاية الذات وتمثلها له.
فقد كان مفهوم التمثل يُرغم الموضوع على الحضور أمام الذات بوصفه موضوعا ذا معنى، لذلك كان للمعنى مكانة هامة في عملية التمثّل هاته، وبموت الواقع تم الإعلان بشكل ساخر عن نهاية المعنى، بهذا الشكل نفهم قول بودريار بأن السؤال الفلسفي التقليدي كان هو "لماذا ثمة شيء عوض لا شيء:
« La grande question philosophique était : « pour quoi y a-t-il quelque chose plutôt que rien ? »( ).
أما الآن وقد تبين زيف المعنى أصبح السؤال الفلسفي الذي يجب أن يطرح بجد هو لماذا ثمة لا شيء عوض شيء:
« Aujourd’hui, la véritable question est : « pourquoi y a-t-il rien plutôt que quelque chose ? » ( ).
موت الواقع إذا ليس سوى اضمحلالا لتصورنا التقليدي عن الواقع، وحينما ستتحلل مقولة الإنسان/الذات ويتم فضحها وكشف وهمها سيلقى الواقع/الموضوع حتفه لأنه كذلك سيتحلل ويتلاشى.
فكيف لنا أن نتحدث عن الواقع أو عن الموضوع طالما أن الخداع أو التضليل أصبح هو الحقيقة كما ذهب إلى ذلك نيتشه فـ"في فضاء الواقع الفائق يختفي كل تمثل أو قصور أو مفهمة لأن منطق الواقع الفائق هو اختزال كل عقلنة للواقع وتدمير كل معقولية لأجزائه ومكوناته، في هذا الواقع الفائق نحن أمام نماذج مقولبة ووقائع منمذجة ومحنطة وإيهامات منتَجة وموَزَّعة"( ).
أطروحة موت الواقع إذا ضربة قاضية لمفهوم التمثل ولتصورنا الكلاسيكي الحديث عن الموضوع/الواقع، وهدم مفهوم التمثل هو بالأساس هدم لنظرية المعرفة الحديثة بأكملها سواء في صيغتها الديكارتية أو الكانطية، أو حتى الهيجيلية، بحيث أن الذات كانت مركزية وكانت النظرية تتأسس على قدرة الذات على تمثل الموضوع.
وموت الواقع عند بودريار إشارة إلى أننا لم نعد نحيى الواقع لأنه لم تعد هناك أحلام توجهنا ولا مرجعيات تقودنا ولا غايات ننشدها، لم نعد نعيش الواقع لأنه لم يعد هناك شيء غير واقعي (غاية، يوتوبيا...) نحلم به.
وهنا كثيرا ما تحضر فينومينولوجيا الروح في أطروحة موت الواقع ولو بشكل مقلوب، فإذا كان هيجل يؤكد على أن التاريخ هو مسيرة تحقق الحرية ( )، وبالتالي فهو يضع غاية مسبقة للتاريخ وهي الحرية المطلقة بما هي التجلي الأكبر والأوسع بل والمطلق للواقع، والحرية المطلقة تتحقق حينما يحقق الإنسان كل شيء وتصبح كل أحلامه وآماله واقعية وينهار مفهوم الممكن والمايجب أن يكون... وحين توحّد الواقع بالمطلق يفقد التقدم معناه، لأن الروح تحققت ولن يبقى لها أي ضرورة مستقبلية وبالتالي نكون أمام نهاية التاريخ.
وبودريار يرى أن الواقع لم يعد واقعيا لأنه لم يعد هناك شيء آخر غيره، أي لم يعد له نقيض، لم يعد هناك ما يجب أن يكون لأن هذا العالم الأخير ‘الفائق' يفتح كل الإمكانات لتحقيق كل شيء افتراضيا.
إننا حسب بودريار فيما وراء النهاية "فيما وراء الصحيح والخاطئ أو الصادق والكاذب أو الخير أو الشر بمعنى في فضاء متردد indécidable يتجاوز هذه الثنائيات المتطاحنة في الجلاء والملتحمة في الخفاء إننا فيما وراء النهاية أي أصبح من العسير الرجوع إلى الوراء (حنينا إلى البدايات أو المضي قدما) اختراقا للمجهولات"( ).
ب-تجاوز النهاية أو فيما وراء وهم النهاية
من الدلالات الفلسفية لموت الواقع كذلك خلخلة مفهوم التاريخ ومفهوم النهاية معا. فبالنسبة للتاريخ لا يقدم بودريار نظرية حوله بل يطرح فقط فرضيات، وفيما يخص مفهوم النهاية (نهاية التاريخ) فإن بودريار يربط نهاية التاريخ بنهاية الإيديولوجيا تبعا لتصور إلياس كانيتي Elias Caneetti والفلاسفة ما بعد الماركسيين كديبور وليوتار وغيرهم ( )... إلخ.
والفرضيات التي يقدمها بودريار متعارضة بإطلاق مع فلسفة التاريخ بكل تلاوينها سواء المثالية أو المادية (هيجل، ماركس، إنجلز...) رافضا كما يقول جوزيف عبد الله فكرة السببية والتطور الخطي ( ) وهنا يلتقي شيئا ما بودريار بدولوز وبالخصوص فيما يتعلق بمفهوم الصيرورة Le Devenir عند صاحب "الاختلاف والتكرار" فالتاريخ معهما ليس تتابعا مستمرا ومتعاقبا لوقائع وأحداث قابلة لتعيين زمانها "ليست هناك بداية ونهاية للتاريخ" بل التطور يكون في البداية والنهاية معا ويسيران بالتوازي ( ). فالعالم المعاصر يعيش على إيقاع احتمالية الواقعة والحدث وافتراضية الواقع، هاته العناصر جعلت من السذاجة الحديث عن غائية للتاريخ وبالتالي نهايته وانغلاقه وانفكاكه وتحلله.
إننا حسب بودريار "نحيى في وهم النهاية وبالتالي خرافة تمفصل البداية والنهاية في شكل دوري لأنه في الدائرة نقطة البداية هي نقطة النهاية عينها، ليس هناك دورية أو حلقية للأشياء والأفكار لتفتتح ببداية وتختتم بنهاية وإنما مجرد احتمالية وكاوسية الظواهر والعالم"( ).
وبالتالي لم يعد هناك من إمكانية حسب بودريار نقلا عن كانيتي للرجوع إلى نقطة بإمكانها التمييز بين الخيّر والشرير، الحقيقي والزائف... أي العودة إلى حيثيات الممارسة العقلانية والتقليدية للتفكير.
وهنا يتجلى الطابع الكارثي للتصور البودرياري، ولكن ليس بمعنى القيامة كما يقول بل بمعنى الثورة أو التغيّر الجذري للعالم، وهذا التغيير نجم عن التسريع؛ (أي) عن محاولة السير بسرعة أكثر فأكثر، بحيث وصلت الأمور إلى النهاية افتراضيا ( ).
يقول بودريار "لطالما كان هناك أمل ورجاء ورؤية بأن للأمور غاية وللتاريخ غاية، والتقدم وكل القيم تدفع بنا نحو المستقبل، هنا نوع من الطوبى الحية في الثقافة الغربية، ويبدو لي أن كل هذه الغايات وهذه القيم قد تم تجاوزها. وتم تجاوز النهاية إلى ما بعدها".
بهذا الشكل إذا يبين بودريار الدلالة الفلسفية العميقة لموت الواقع المتجلية في بروز وهم النهاية بل تجاوز فكرة النهاية أصلا، وهنا نتلمس نوعا من التأثير الذي يمارسه فيلسوف الروح على المتن البودرياري.
والاختلاف الذي قد نستشعره ونحن بصدد علاقة بودريار بهيجل، أن هيجل يتحدث عن الصيرورة المطلقة للروح أي تاريخ الروح بشكل عام، في حين أن بودريار يصف ويضطلع ويقر ( ) – كما يقول – بالانقلاب الجذري في الكينونة المعاصرة – إنسانا وواقعا – وبالتالي فأطروحاته عن تجاوز النهاية مرتبطة باللحظة الراهنة وفقط، باعتبارها لحظة تفكك المرجعيات والإيديولوجيات ( ) والغايات الكبرى.
ج-التبادل المستحيل:
لكي نفهم طبيعة هذه الوضعية، وضعية الواقع الفائق، يجب اللجوء إلى مفهوم "التبادل المستحيل" ومسلمته الأساسية كما يقول بودريار: هي "لا يمكن استبدال العالم بأي شيء"( )، ذلك لأنه من الدلالات الفلسفية الأساسية لأطروحة موت الواقع نجد نهاية ثنائية الواقع ومقابلاته، فمع انهيار مبدأ الواقعية، تأكد أنه "ليس للعالم أي معادل عام أو مرجع أو قصدية خارجية أو سابقة عنه بإمكانه الاختفاء داخلها "( ). وبالتالي "فإن العالم محكوم عليه بالتبادل المستحيل"( ).
وهذا التبادل المستحيل يولّد فوضى جذرية، نتيجة لأنه لا يمكن منح أي معنى نهائي للعالم، مادام لا يخوله أي واقع خارجي"( )، لذلك فالقول بالتبادل المستحيل تعميمٌ لللايقين المطلق والجذري، وخاصيته الأساسية انعدام المعنى لأن وضعية الواقع المعاصر كسيمولاكر بدون أصل ولا مرجع وبلا مقابل "يصبح من المستحيل فيه على الواقع كيف ما كان أن يكون له معنى ما"( )، والحال أن هذه الوضعية، وضعية اللامعنى واللايقين بدأت تكتسح الوجود الفردي للإنسان الغربي.
علي الحسن أوعبيشة
أستاذ الفلسفة بثانوية أم الربيع التأهيلية بمريرت.
الهوامش:
- جان بودريار، المصطنع والاصطناع، ترجمة جوزيف عبد الله، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى. ص 117.
2- انظر بهذا الصدد مؤلف دوكلاس كلينر.
3- Jean Baudrillard، Le crime parfait، p 140.
4- Idem، p 140.
5- Idem، p 143.
6- Idem، p 143.
7- Jean Baudrillard، Le crime parfait، p 143.
8-الاصطناع هو المصطلح الذي يقترحه جوزيف عبد الله ترجمة للفظ الفرنسي simulation بحيث اعتمد عبارة (المصطنع والاصطناع) ترجمة لعنوان مؤلف بودريار "simulacres et simulation".
9- التمويه هو المصطلح الذي يفضله المفكر المغربي عبد السلام بنعبد العالي ترجمة لنفس اللفظ السالف الذكر. وهو بذلك يرفض الترجمات المبتذلة الأخرى كـ "المحاكاة" أو "التشبيه...إلخ"
0- الإيهام : مصطلح يفضله كذلك مجموعة من الباحثين المتخصصين في الفكر المعاصر من بينهم محمد شوقي الزين صاحب كتاب "تأويلات وتفكيكات".
1 - التصاور هو المصطلح الذي يفضله السيميائي المغربي سعيد بنكراد ترجمة لـ simulation ويقول بأن المقصود به هو "الصورة الوهمية أو الظل أو الشبح وفي جميع الحالات فإن الأمر لا يتعلق بصورة حقيقية بل بما يمكن أن تسقطه الذات لحظة إصابتها بالهوى كما هو حال الغيور عندما يتصور فرجة تجمع بين غريمه وبين محبوبه".
ويؤكد على أنه تردد كثيرا في ترجمتها بالمصوّرة لإمكانية اختلاطها مع الصورة إلا أنه عثر "في لسان العرب على مدخل أباح له ترجمتها بالتصاور (جمع تصاورات) فالعرب تقول تصورت الشيء إذا توهمته والتصاوير هي التماثيل، فكان أن اختار التصاور ترجمةً للفظ الفرنسي.
انظر سيميائيات الأهواء، غريماس وجاك غونتيني: ترجمة وتقديم وتعليق سعيد بنكراد، الكتاب الجديد ط 1، 2010، هامش ص 54."
12- جان بودريار، الفكر الجذري، ترجمة الحجوجي وأحمد القصوار، ص 37.
13- ن.م، ص37.
14- Jean Baudrillard، Simulacres and simulation، p 5.
15-ن.م، ص37.
16-
17-جان بودريار، المصطنع والاصطناع، المنظمة العربية للترجمة، ص 47.
18- ن.م، ن.ص.
19- ن.م، ص 48.
20- محمد شوقي الزين، تأويلات وتفكيك، المركز الثقافي العربي، ص 214.
2 - الفكر الجذري، ص 38.
22- الفكر الجذري، ص 38.
23- المصطنع والاصطناع، ص 47.
24- ن.م.، ص 47.
25- الفكر الجذري، ص 42.
26- ن.م، ن.ص.
27- ن.م، ص 69.
28-ن.م، ص 33.
29- ن.م، ص 33.
30- ن.م، ن.ص.
3 - ن.م. ن.ص، والفن المعاصر حقا تحول إلى جهة الهامشي والبدني كالجنس مثلا ولكنه حوله إلى عبر جنسي يقول بودريار : "في الواقع لم تعد هناك أية مشاهد إباحية بوصفها كذلك، ومرد ذلك أن الخلاعة كامنة في كل مكان بشكل افتراضي بما في ذلك في قلبت تقنيات المرئي والتلفزي"، ن.م، ص. 32.
32-ن.م، ص 8.
33- الفكر الجذري، ص 83 عن 2001 Construire n° 46 novembre.
34- المصطنع والاصطناع، ص 61.
35- ن.م.، ن.ص.
36- ن.م.، ن.ص.
37- تأويلات وتفكيكات، ص.
38- الفكر الجذري، ص 78
39- ن. م، ن ص
40- ن. م، ن ص
41- م.س، ص 78
42- ن.م، ن ص
43- ن.م، ن ص
44-محمد شوقي الزين، تأويلات وتفكيكات، ص 211.
45- جان بودريار، المصطنع والاصطناع، ص 18.
46 -مترجم كتاب 'المصطنع والاصطناع".
47-م.س، ص 26.
48- جان بودريار، الفكر الجذري، ص 29.
49-جان بودريار، الفكر الجذري، ص 54.
50- ن.م، ن.ص.
51- ن.م، ن.ص.
52- ن.م، ن.ص.
53- ن.م.، ص 25.
54-ن.م.، ص 53.
55- ن.م.، ن.ص
56- ن.م.، ن.ص
57- ن.م.، ص 54.
58- ن.م.، ص 55.
59- ن.م.، ص 55.
60- ن.م.، ص 38.
61- ن.م.، ص 38.
62-Jean Baudrillard، le crime parfait، Galilée, 1995، p 16.
63-Idem، p 16.
46-محمد شوقي الزين، تأويلات وتفكيكات، ص 213.
65- فريدريك هيجل، علم ظهور العقل، ترجمة مصطفى صفوان، دار الطليعة، بيروت، ط 2، 1994.
66- محمد شوقي الزين، تأويلات وتفكيكات.
67- جان بودريار، المصطنع والاصطناع، ص 19.
68- ن.م، ص 19.
69- ن.م. ص.
70- محمد شوقي الزين، تأويلات وتفكيكات ص : 214.
71- جان بودريار، المصطنع والاصطناع، ص : 20.
72- ن.م. ن.ص.
73- أو الميتاحكايات بلغة فرنسوا ليوتار.
74- الفكر الجذري، ص 79.
75- ن.م، ن.ص
76- ن.م ن.ص
77- ن.م ن.ص
78- ن.م ن.ص