لقد قيل، بعد سقوط المعسكر الشرقي، أن النظرية الماركسية ليست إلا ذكرى قديمة، وكان انتشار هذا القول، مصحوبا قطريا وعالميا، بجملة من الأحداث التاريخية والسياسية الهامة، خاصة ما رافق عملية السقوط تلك، من إعادة دخول جديدة للرأسمالية للمعسكر الاشتراكي، وما رافق ذلك أيضا من انتعاش اقتصادي في العالم الرأسمالي جعل الجميع، حتى من كان منهم ماركسيا الى حين، يردد عنوان بحث فرانسيس فوكوياما، "المجتمع الأخير والانسان الأخير"، وكأنه اخر ما أنتجته المعرفة العلمية. الان، وبعد سنوات طويلة، يعود "شبح" ماركس من جديد، الى القراء، المثقفين، السياسيين، والفلاسفة أيضا وحتى العلماء، خاصة مع تعمق الأزمة الاقتصادية العالمية، وانفجار ثورات وانتفاضات شتى على امتداد أرض الانسان. لابد من التأكيد أولا على ان الماركسية تنظر إلى التاريخ نظرة بعيدة المدى. من وجهة النظر هذه تشكل بعض الفترات في التاريخ نقطة تحول حاسمة، مثلما كانت سنوات 1789، و1917، و1929. خلال تلك الفترات يتم تسريع السيرورة التاريخية برمتها، وخلالها تنقلب الأوضاع، التي كانت تبدو ثابتة بشكل كامل، إلى نقيضها. وإلى هذه القائمة من نقاط التحول التاريخية العظيمة علينا الآن أن نضيف سنة 2008. إن المرحلة الجديدة التي انفتحت مع أزمة عام 2008 تجد انعكاسا لها في تكثيف الصراع الطبقي، وتوتر العلاقات بين الدول، وفي الحروب والصراعات الدولية.
جاءت الأزمة الحالية لتدحض كل امال التنظيرات البرجوازية القائلة بأنه ما من تقدم تاريخي واجتماعي بإمكانه ان يتجاوز المجتمع الرأسمالي ويجبه، بحيث انهارت الاقتصادات المتقدمة والتجارة العالمية والإنتاج الصناعي بوتيرة أعلى من تلك التي سُجّلت خلال الكساد العظيم، ففي الأشهر الـ 15 الأولى من بداية شهر ابريل 2008 -وذلك حسب المقارنات التي أقامها الاقتصاديان الأميركيان أيكنغرين وأوروركه في دراستهم التي أسموها "حكاية كسادين"-. إن في هذا تأكيد نهائي على دورية وحتمية الأزمات في الاقتصاد الرأسمالي، تلك الخاصية التي اكتشفها ماركس علمياً.
من هنا سعينا في هذا المقال الى تقديم قراءة نقدية للقراءة الالثوسيرية لرأس المال، هذا الأخير الذي لا تزال الإنسانية تكتشف جديده العلمي، وتعي أهميته يوما بعد يوم، خاصة مع انشداد الازمة الاقتصادية الراهنة.
مدخل، أو عناصر لنظرية في القراءة:
تجدر الإشارة الى أن ألثوسير قد أوضح منذ الجزء الأول من بحثه «Lire le capital» أن قراءته التشخيصية المقترحة لرأس المال ليست بالقراءة الاقتصادية ولا بالقراءة التاريخية ولا بالقراءة التي تأخذ بعين الاعتبار معالجة المنطق الداخلي لرأس المال، وإنما هي قراءة فلسفية، أي أنها قراءة تطرح على رأس المال تساؤلا من نوع اخر يأخذ بعين الاعتبار الموضوع الخاص بخطاب خاص، والعلاقة الخاصة القائمة بين هذا الخطاب وموضوعه. ولكن ما الذي يميز القراءة الفلسفية عن القراءات الأخرى حسب ألثوسير؟
القراءة الاقتصادية لمؤلف كارل ماركس رأس المال تقتضي ضرورة مساءلة محتواه والقيم الاقتصادية لتحليلاته، بمعنى مقارنة خطاب رأس المال بموضوع خارجي عنه، ومحدد على نحو مسبق، دون الأخذ بعين الاعتبار ضرورة معالجة ذلك الموضوع. وهذا ينطبق أيضا على القراءة التاريخية، فهذه الأخيرة تقتضي النظر في علاقة تحليلات رأس المال التاريخية بموضوع تاريخي خارجي عنه ومحدد على نحو أولي ومسبق، دون الأخذ بجدية ضرورة معالجة ذلك الموضوع.
أما القراءة المنطقية فهي تلك التي تأخذ بعين الاعتبار المناهج البرهانية الواردة في رأس المال في المجرد، دون أدنى محاولة جدية للأخذ بعين الاعتبار الموضوع الذي من خلاله تتعلق وترتبط مناهج هذا الخطاب.
إن القراءة الفلسفية –حسب ألثوسير-هي الوحيدة القادرة على التملك المعرفي لما تتجاهله القراءات الأخرى، وهي تهتم أساسا بالموضوع الخاص بخطاب خاص، والعلاقة الخاصة القائمة بين هذا الخطاب وموضوعه، إنها إذن تضع أمام الوحدة خطاب-موضوع سؤال العناوين الابستمولوجية، التي تميز هذه الوحدة المحددة عن الاشكال الأخرى للوحدة خطاب-موضوع[1] .
ولما كان التعريف بالضرورة يقتضي كشف الاختلاف، كان من الضروري بالنسبة الى ألثوسير مساءلة رأس المال بطرح قضية الاختلاف الخاص لموضوعه وكذا لخطابه. ها هنا تبرز بقوة وجلاء ضرورة طرح قضية ما يميز موضوع رأس المال ليس فقط عن موضوع الاقتصاد السياسي الكلاسيكي (وحتى المعاصر) وإنما أيضا عن موضوع مؤلفات ماركس الشاب، خاصة موضوع مخطوطات 1844 الفلسفية والاقتصادية وموضوع العائلة المقدسة، وبالتالي طرح قضية ما الذي يجعل من خطاب رأس المال متميزا ليس فقط عن خطاب الاقتصاد السياسي الكلاسيكي وإنما أيضا عن الخطاب الفلسفي الأيديولوجي البارز على نحو واضح في مؤلفات ماركس الشاب.
إن القراءة المومأ إليها انفا، أي القراءة الفلسفية، وحدها الكفيلة بتحديد الإجابة عن المكانة الخاصة التي يحتلها مؤلف ماركس رأس المال في تاريخ المعرفة، وذلك من خلال قدرتها على اماطة اللثام عن التساؤلات الإشكالية التالية: هل يمثل رأس المال مجرد إنتاج أيديولوجي بسيط شأنه شأن مؤلفات ماركس الشاب، أي أنه فقط مجرد تطبيق للمنهج الجدلي على علم الاقتصاد السياسي الكلاسيكي؟ وهل يمثل رأس المال فقط مجرد استمرارية لعلم الاقتصاد السياسي الكلاسيكي، هذا الأخير الذي ورث ماركس مفاهيمه ومواضيعه؟ وما الذي يميز رأس المال عن باقي مؤلفات علم الاقتصاد السياسي الكلاسيكي؟ هل يتميز عنهم من حيث الموضوع والمنهج أم من حيث المنهج الجدلي المطور عن هيجل؟ ويمكننا أن نصيغ أيضا هذه التساؤلات الإشكالية أيضا بطريقة معاكسة، على سبيل المثال: أ لا يمثل رأس المال طفرة حقيقية في موضوعه، منهجه ونظريته؟ أ لا يمثل رأس المال في تكونه وتشكله بالأحرى علما جديدا، ثورة نظرية، من خلال نقضه للاقتصاد السياسي الكلاسيكي والايديولوجيات الهيجلية والفيورباخية؟
" القراءة الفلسفية لرأس المال هي إذن قراءة نقيضة لكل قراءة بريئة، إنها قراءة اثمة، إلا أنها لا تقوم بتبرئة خطأها في اعترافها. بل على العكس، إنها تدعي أن "خطأها" هو "خطأ في محله"، وتدافع عنه بتبيانها ضرورته. إنها إذن قراءة استثنائية تسوغ نفسها كقراءة، بطرحها على كل قراءة اثمة، التساؤل نفسه الذي يكشف القناع عن براءتها، هذا التساؤل البسيط لبراءتها هو: ماذا تعني القراءة؟ "[2]
إن العناصر النظرية التي من خلالها يقترح ألثوسير قراءته التشخيصية لرأس المال مستمدة من قراءته لكل من لاكان، نيتشه، سبينوزا (عوض هيجل)، ماركس وفرويد وغيرهم. فمع فرويد صرنا نشك فيما نسمع، وبالتالي فيما نقول يريد أن يقول، ذلك لأن ما يريد أن يقوله الكلام والسمع يكشف، تحت براءة الكلام والسمع عمق الإحالة الى خطاب اخر، ثان، هو خطاب اللاوعي. ومع ماركس، صرنا أكثر اندفاعا الى الشك في القراءة والكتابة على الأقل على مستوى النظرية. في حين كان سبينوزا أول من اقترح نظرية في التاريخ وفلسفة لكثافة اللامباشر، بحيث تمكن سبينوزا للمرة الأولى من ربط جوهر القراءة بجوهر التاريخ ضمن نظرية اختلاف المتخيل عن الحقيقي. من هنا نجد أن ألثوسير يرى أن ماركس ما كان ممكنا ان يصير ماركسيا لو لم يؤسس لنظرية في التاريخ وفلسفة من اجل التمييز التاريخي بين الأيديولوجيا والعلم[3].
إلا أن ما سنقوم بالتركيز عليه نحن ها هنا، يتعلق بما يسميه ألثوسير لما يمكننا ان نضبطه لدى ماركس تحت مسمى نظرية جديدة للقراءة، بحيث نجد لديه، ليس فقط فيما يعلنه ماركس، بل أيضا فيما يمارسه ويقوم به، ونعني الأفكار الأولية الضرورية لنظرية وممارسة في القراءة، ونظرية في التاريخ قادرة على تقديم نظرية جديدة في القراءة.
فمما لا شك فيه أنه حين قراءتنا لرأس المال نكون أمام قارء فذ قدم الأدوات النظرية والمعرفية الضرورية من أجل التملك المعرفي لموضوعه من خلال تأسيسه لنظرية في القراءة. ففي رأس المال، يقرأ ماركس كيسني، يقرأ سميث، يقرأ ريكاردو وغيرهم كثر. وهو إذ يقوم بذلك فإنه يقوم بذلك وفق طريقة تبدوا واضحة وشفافة، وذلك ليتسنى له الاستناد على مزايا علم الاقتصاد السياسي ونقد عيوبه في نفس الان، وبكلمة ليتسنى له أخذ موقع حيال المنظرين البارزين للاقتصاد السياسي. ومع ذلك فإن القراءة التي قام بها ماركس لكل من سميث وريكاردو ليست بالشفافة والواضحة الا من خلال قراءة أخرى لتلك القراءة، قراءة مباشرة لا تعالج ما تقرأ، وإنما تأخذ بعين الاعتبار أدلة النص المقروء. في الواقع فإن قراءة ماركس لكل من سميث وريكاردو (هذه القراءة يستند عليها ألثوسير كنموذج لتبيان وتوضيح ما يسميه بنظرية في القراءة) هي، في حال تمعناها عن قرب، قراءة استثنائية، أي أنها قراءة مزدوجة، أو لنقل على نحو أكثر من الدقة أنها قراءة تضع نصب عينيها مبدئين للقراءة مختلفين جذريا.
في القراءة الأولى التي يقوم بها ماركس لكل من سميث وريكاردو نجد أن ماركس يقرأ خطابهم من خلال خطابه الخاص. نتيجة هذه القراءة تحت المدرأة، حيث نص سميث يقارب من خلال نص ماركس، أي أن نص ماركس مسقط عليه كقياس له، وليست النتيجة هنا إلا كشفا عن التوافقات والتناقضات، بمعنى تعداد لعيوب وهفوات سميث من جهة وميزات وسمات سميث من جهة أخرى. هذه القراءة يسميها ألثوسير ب: القراءة النظرية الاستعادية «Lecture théorique rétrospective».
" إن هذا المنطق الأحادي للصواب والخطأ (عيوب وهفوات "سميث" على سبيل المثال) يكشف إذن عن منطق لتصور للمعرفة حيث كل ممارسة معرفية تختزل، من حيث مبدئها، الى الإقرار بالعلاقة البسيطة للنظر، أو حيث تختزل كل طبيعة موضوعه، الى الشرط البسيط للمعطى. إن ما لم يراه "سميث"، لعجز في النظر، يراه "ماركس"، أي أن ما لم يتمكن "سميث" من ابرازه، كان بالفعل مرئيا، وانطلاقا من كونه كذلك، فإن "سميث" لم يتمكن من ابرازه، في حين ان "ماركس" تمكن من ذلك. إننا ندور في حلقة مفرغة. ننحدر ضمن الوهم المراوي للمعرفة بما هي تمثل لموضوع معطى، أو قراءة لكتاب معترف به، أي أن المعرفة ليست شيئا سوى الشفافية نفسها، -كل خطايا العمى مثل فضائل الفطنة جميعها تنتمي بالحق الى النظر-، عند أذن الانسان. [4]"
يمكننا القول هنا أن القراءة الأولى، التي يسميها ألثوسير بالقراءة النظرية الاستعادية، هي قراءة تعكسها -كما سبق ان ذكرنا-نصوص ماركس التمثيلية، وهي النصوص التي تقر بأن المعرفة تعكس وتصور على صعيد النظرية والفكر واقعا موضوعيا مستقلا عن تلك النظرية والفكر. هذه القراءة الأولى، التي نجدها لدى ماركس يعتبرها ألثوسير أيضا قراءة اختبارية. وهي انطلاقا من كونها كذلك فإنها قراءة أيديولوجية غير علمية تنتمي الى الاشكال الأيديولوجي الاختباري الفيورباخي والهيجلي الما قبل الاشكال الماركسي العلمي.
الأمر المثير هنا في هذا التحديد هو توسيع "ألثوسير" لمفهوم الاختبارية على أوسع نطاق، وإلا فكيف يمكن اعتبار كل من فلسفة فيورباخ وفلسفة هيجل، أي المادية والمثالية الموضوعية، وما تحتويانه من فروق عظيمة، يعبران في نفس الان عن نزعة اختبارية؟ إن توسيع "ألثوسير" لمعنى الاختبارية وصل درجة ضم كل اشكال الفلسفات الواقعية إن صح التعبير (المادية، التجريبية بشتى تياراتها، المثالية الموضوعية، إلخ) مع التركيز على الواقعية المادية. ها هنا تغذوا الفلسفة الأفلاطونية نفسها شكلا من أشكال النزعة الاختبارية وذلك لإقرارها بأن موضوع المعرفة الحقيقية هو واقع قائم بصورة موضوعية ومستقلة عن الفكر والوعي، هذا الواقع هو عالم المثل الافلاطونية. من هنا يصل ألثوسير الى الإقرار بأن هيجل اختباري، وكذلك ديكارت، لكون هذا الأخير يصر على وجود واقعة أولى مستقلة تنطلق منها المعرفة العلمية وتعود اليها، وكل الفلسفة الما قبل الاشكال العلمي الماركسي، المتضمن في رأس المال واسهام في نقد الاقتصاد السياسي، تعتبر وفق منظور ألثوسير ذات نزعة اختبارية. كما نتلمس بوضوح تام على امتداد صفحات بحث ألثوسير «Lire le Capital» ادراجه تحت مفهوم الاختبارية المدارس المعروفة بهذا الاسم تقليديا، بخاصة في تواريخ الفلسفة، على سبيل المثال، اختبارية جون لوك وبركلي ودافيد هيوم وجون ديوي بالإضافة الى الظاهراتية بأشكالها كلها ونظريات المعرفة القائمة على فكرة المعطيات الحسية كوقائع أولى من الضروري ان تنطلق منها المعرفة وتعود اليها. إن هذا النمط من المقاربة والتحليل للنزعة الاختبارية لا يمكنه ان يؤدي في نهاية المطاف الا الى الرفض الصريح للمادية فلسفيا وعلميا، ولعل هذا ما جعله يقر على نحو افلاطوني أكثر مما هو ماركسي بأن عالم التجربة هو عالم الوعي الزائف وهو عالم الأيديولوجيا واصراره أيضا على القول بأن ما من علم الا ويتأسس على القطيعة الابيستيمولوجية مع التجربة والتجريب وهذا ما ينطبق أيضا على العلم الماركسي. كما يجعلنا أيضا نفهم نقضه لنقد ماركس الذي وجهه الى هيجل بخصوص قول هيجل بأولوية المجرد على العيني (المشخص)، والمعني هنا ما كتبه ماركس في العائلة المقدسة حيث اعتبر-على نحو ساخر-أن مثالية هيجل تقوم بتنصيب تصور الفاكهة التجريدي القبلي مصدرا وجوديا حقيقيا للبرتقالة والتفاحة والموزة التي نتلذذ بأكلها في حين ان العكس تماما هو الصحيح، بحيث يقوم ألثوسير بإدراج هذا النقد في عداد الأيديولوجيا الاختبارية المرفوضة لا لشيء إلا لأن التفسير الماركسي لعملية التجريد كان قد استند على أساس واقعي مادي.
والحق أن التطرق الى معالجة مفهوم الاختبارية عند ألثوسير يحيلنا مباشرة الى ضرورة تقصي أعمال ومؤلفات كل من كارل بوبر وتوماس كوهن وغاستون باشلار وغيرهم من منظري الابستيمولوجيا المعاصرة الذين قاموا-تماما على غرار ألثوسير-بتوسيع مفهوم الاختبارية ليشمل كل الفلسفات الواقعية بما في ذلك المادية الفلسفية والعلمية، مع ضرورة الأخذ بعين الاعتبار ما سبق ذكره من قبل غاستون باشلار من تأكيدات حول وجود قطيعة حادة بين العلم والحس والمشترك لدى الناس، وكذا وجود فجوة عميقة بين المعرفة النظرية التصورية والمعرفة الحسية، أضف الى ذلك ما سبق ذكره من قبل كارل بوبر حول ضرورة التمييز بين ما هو علم وبين ما هو غير علم، وذلك استنادا على مبدأ عدم إمكانية الدحض الشهير الذي قاده في نهاية الامر الى اخراج النظرية الماركسية والتحليل النفسي من دائرة العلم ! أما توماس كوهن فتكمن أهميته بالنسبة الى الراغب في تقصي التأويل الألثوسيري للنظرية الماركسية في كونه قد رفض في بحثه الشهير: بنية الثورات العلمية فكرة إمكانية التحقق من صدق الفرضيات والنظريات بمراجعتها على واقع موضوعي مستقل عن المعرفة النظرية العلمية. ان مجال البحث هنا لا يسمح لنا بتقصي مجال فلسفة العلوم، خاصة ما يسمى بالتأويل التواضعي للعلم والمعرفة العلمية، إلا أننا سنكتفي فقط ببعض الإشارات بعد مناقشة النمط الثاني من القراءة لدى ماركس كما قاربه ألثوسير حول مفهوم الاشكال النظري لما يحتله هذا المفهوم من موقع حاسم في تأويل ألثوسير للنظرية الماركسية.
أما فيما يخص النمط الثاني من القراءة الذي ضبطه ألثوسير والمختلف الى حد بعيد عن النمط الأول الاختباري (الامبريقي). فيعلن ألثوسير ما يلي:
"إنها قراءة لا تنظر الى الوجود المشترك لما يمكن تبصره وللتخبط (الهفوات) في مؤلف تطرح مشكلة تتعلق باندماجهم. إنها لا تبصر هذه المشكلة، وذلك لكونها كمشكلة لا تبصر الا من خلال كونها غير قابلة لذلك، لأن هذه المشكلة تحتوي أمرا اخر غير المواضيع المعطاة، وتحتاج وجود العين البصيرة، لكي يتم الكشف عن، العلاقة الغير المرئية بين المجال المرئي والمجال الغير المرئي، العلاقة التي تعرف ضرورة المجال المظلم للغير المرئي كأثر ضروري لبنية المجال المرئي. "[5]
هذه القراءة يضبطها ألثوسير ضمن نص لماركس يقرأ من خلاله الاقتصاديين الكلاسيكيين في الفصل التاسع عشر من رأس المال حول السعر مع الملاحظات النظرية الهامة التي سجلها إنجلز بخصوصه في مقدمة الكتاب الثاني من رأس المال.
وسنقوم نحن ها هنا بعرض الأفكار الرئيسية لنص ماركس الذي يستند عليه ألثوسير لضبط النموذج الثاني لنظرية في القراءة عند ماركس.
فحسب نص ماركس فإن الاقتصاد السياسي الكلاسيكي في سياق بحثه عن الإجابة حول الكيفية التي يتحدد من خلالها سعر العمل حاول في البدء البحث عن الكيفية التي تحدد بها السعر. لقد كان الاقتصاديون الكلاسيكيون يعون جيدا بخصوص العمل، أنه شأنه شأن كل بضاعة، ومنه فإنهم كانوا يعون ان العلاقة بين العرض والطلب، لا تفسر أي شيء في هذا الصدد سوى التذبذبات التي تقع لسعر السوق على نحو ارتفاعي او انخفاضي. ومنذ أن يصير العرض والطلب في حالة من التوازن فإن تقلبات الأسعار التي كان قد اثارها تتوقف، إلا ان هذا التوقف هو بكامله من تأثير العرض والطلب. ففي حالة كون كل من العرض والطلب في حالة من التوازن فإن سعر العمل لا يتحدد وفق عملهم، وبالتالي فإنه يتحدد وكأنهما غير موجودين. إن هذا السعر في نص ماركس الذي يمثل مركز ثقل أسعار السوق هو ما يشكل الموضوع الحقيقي للتحليل العلمي.
وبعد مرور العديد من السنوات –حسب نص ماركس-نصل الى نفس النتيجة، ونتوصل أيضا الى إيجاد الأسعار المتوسطة، كميات أكثر أو أقل ثباتا، التي تتأكد من خلال التذبذبات نفسها لأسعار السوق. هذا السعر المتوسط إذن، -السعر الضروري عند الفيزيوقراطيين، السعر الطبيعي عند أدم سميث-، لا يمكن ان يكون بالنسبة الى العمل كما بالنسبة الى كل بضاعة سوى قيمتها معبر عنها بالمال. يقول سميث: تباع البضاعة على نحو دقيق بما تستحق.
لقد اعتقد الاقتصاد الكلاسيكي أنه بهذه الطريقة قام برفع الأسعار العرضية للعمل الى قيمتها الواقعية. وبعد ذلك حدد تلك القيمة حسب قيمة وسائل العيش الضرورية من أجل صيانة وإعادة انتاج العامل. ودون قصد منه، غير الاقتصاد الكلاسيكي الميدان وذلك باستبداله قيمة العمل، الذي هو لحد الان يمثل الموضوع الظاهري لأبحاثه، بقيمة قوة العمل، وهي القوة التي لا توجد الا ضمن شخصية العامل وتتميز عن وظيفته، أي العمل، تماما كما تتميز الالة عن وظائفها ومهامها. إن مسار التحليل قد قاد بالضرورة ليس فقط أسعار بضاعة العمل الى سعرها الضروري وقيمتها، ولكن قام أيضا بحل ما يسمى بقيمة العمل في قيمة قوة العمل، وذلك من خلال اعتبار قيمة قوة العمل لا يمكن معالجتها واختبارها الا بما هي الشكل الظاهري لقيمة العمل. النتيجة اذن التي قاد اليها التحليل لم تؤدي بنا الى حل للمشكلة كما طرحت منذ البداية، وانما الى تغيير في المصطلحات[6].
لم يتمكن الاقتصاد الكلاسيكي من ضبط هذا الفهم الخاطئ، حصريا لقلقه بخصوص الاختلاف بين أسعار العمل القائمة وقيمة العمل، وبعلاقتها بقيمة البضائع، وبمعدل الربح، إلخ. ثم قام بتعميق تحليل القيمة عموما، ثم قام بإقحام ما يسمى بقيمة العمل ضمن التناقضات الغير القابلة للحل ...
يبدوا للوهلة الأولى أن هذه النصوص تنحوا نفس منحى القراءة الأولى التي من الممكن ضبطها ضمن نصوص ماركس خاصة في حال تمعنا العبارات التي قمنا بتشديدها خطيا، فهي تبرز ماركس وكأنه يأخذ بعين الاعتبار الثنائيات المومأ اليها في القراءة الأولى، والتي تقتضي الاخذ بعين الاعتبار كل من مزايا وعيوب، تخبطات واكتشافات، الاقتصاد السياسي الكلاسيكي. والتي يمكن ان تقودنا في نهاية التحليل الى ان ماركس لم يقم فقط سوى بإضافة ما كان مرئيا بالنسبة له الى ما كان غير مرئي بالنسبة الى المنظرين البارزين للاقتصاد السياسي الكلاسيكي. ولكن ألثوسير يرى ان النصوص التي تم عرضها انفا لا تسقط في فخاخ القراءة الأولى، وإنما على العكس من ذلك تماما، فما لا يبصره الاقتصاد السياسي الكلاسيكي، ليس هو ما لا يبصره، بل على النقيض من ذلك تماما، أي ما يبصره، مما يعني أنه ليس ما يفتقده، وإنما على النقيض هو ما لا يفتقده، ليس هو ما يضيعه وإنما ما لا يضيعه. عدم النظر هو اذن عدم ابصار ما نبصره، إنها لا تتعلق بالموضوع ولكن بطبيعة النظر نفسها، إنه تخبط يتعلق بالنظر: عدم النظر هو إذن داخل النظر، انه شكل من اشكال النظر، ومنه فإنه في علاقة ضرورية مع النظر[7].
إن الاشكال النظري الأساسي كما وضعه علم الاقتصاد السياسي الكلاسيكي تحدد على النحو الاتي: ما هي قيمة العمل؟ أما الإجابة التي قدمها علم الاقتصاد السياسي الكلاسيكي على هذا الاشكال النظري فكانت كما يلي: قيمة العمل تساوي قيمة وسائل العيش الضرورية من أجل صيانة وإعادة إنتاج العمل. إن هذه الجملة الأخيرة لا تجيب عن التساؤل بصدد معنى صيانة العمل وإعادة إنتاجه والكيفية التي يتم وفقها ذلك. إنه فراغ، ولكنه فراغ يكشفه ماركس -حسب ألثوسير-ليس من خلال نص خارجي عن النص المطروح كموضوع، هذا الأخير الذي يمثل موضوع الاقتصاد السياسي الكلاسيكي، وإنما من خلال تبيانه أن ذلك الفراغ هو فراغ ينطق به نص علم الاقتصاد السياسي الكلاسيكي نفسه. إن القطيعة هنا بين كل من ماركس وعلم الاقتصاد السياسي الكلاسيكي هي قطيعة من حيث أن ماركس تمكن من مغادرة الاشكال الأيديولوجي الاختباري نحو الاشكال النظري العلمي، أي تمت من خلال اكتشافه للإشكال النظري العلمي الذي سيمكنه من الإجابة عن التساؤلات التي ما كان من الممكن على علم الاقتصاد السياسي الكلاسيكي الإجابة عنها، واكتشاف ما كان مستعصيا على الاقتصاد السياسي، بحيث صار الاشكال النظري كما يلي: ما هي قيمة قوة العمل؟ أما الإجابة فكانت كالتالي: قيمة قوة العمل تساوي قيمة وسائل العيش الضرورية من أجل صيانة وإعادة انتاج قوة العمل.
نصل الى هذا الشق من البحث لنجد أنفسنا مطالبين بتقصي مفهوم الاشكال النظري الذي يمثل اكتشافه سيد الموقف في كل معرفة علمية وليس فقط في مغادرة ماركس للإشكال الأيديولوجي الاختباري نحو الاشكال النظري العلمي.
إن هذا المفهوم نجده كذلك حاضرا على نحو واضح وجلي في أعمال وأبحاث التيار التواضعي في فلسفة العلوم. تجدر الإشارة أولا الى ان المصدر الرئيس لمفهوم البروليماتيك ووظيفته المهيمنة في انتاج المعرفة العلمية الى النجاحات الكبيرة التي تحققت في ميادين الالسنية البنيانية والمنطق الرمزي والرياضيات الحديثة منذ مطلع القرن الماضي. ها هنا نلمس نوعا من القول بالإرادة الحرة في اختيار المنطلقات والاشكالات النظرية بعيدا عن أي اعتبارات واقعية أو تجريبية، مما يسقطنا في إقامة خلط عقيم وغير علمي بين الأيديولوجية التجريبية والاهمية العلمية للتجربة في كل معرفة علمية، إننا هنا أمام "عقول عبقرية" تقوم بتعريف بديهياتها العلمية على نحو تواضعي، كما انها تقوم بالإقرار بصدق افكارها الأولية المجردة دون مجرد التفكير في اختبارها واقعيا، أي اراديا وتعسفيا. شيء شبيه الى حد بعيد بمفهوم الشبكة الصورية عند فتجنشتاين المبكر، ومفهوم اللعبة اللغوية عند فتجنشتاين المتأخر، ومفهوم البنائية التصورية عند باشلار، ومفهوم النجاعة النظرية عند الأداتين، ومفهوم الباراديم عند توماس كوهن، ناهيكم عن مفهوم الابيستيمه عند ميشيل فوكو، هذا الأخير الذي تحتل ابحاثه التاريخية التي تؤكد على مفهوم الانفصال التاريخي دورا بارزا في محاولة ألثوسير.
إن أهم ما يمكن ملاحظته ها هنا هو الأولوية المطلقة للإشكال النظري أو البروليماتيك في انتاج المعرفة العلمية. يؤكد ألثوسير ذلك أيضا من خلال مقاربته لنص ل إنجلز في الجزء الثاني من كتاب «Lire le capital» حيث يطرح إنجلز التساؤل الاشكالي بخصوص جدة ماركس مقارنة باكتشافات علم الاقتصاد السياسي الكلاسيكي، وذلك من خلال تقصيه لتاريخ الكيمياء. وبعد قراءة ألثوسير لنص إنجلز يستنتج أن المكتشف الحقيقي للأوكسجين هو صانع التصور والنظرية، أو لنقل مفهوم الاوكسجين على نحو مجرد، كما استخدمه لافوزييه من خلال بنائه لإشكال نظري جديد بخصوص الاحتراق ستتأسس عليه الكيمياء الحديثة. أما بريستلي الذي اكتشف الغاز في الطبيعة فمساهمته بالنسبة الى ألثوسير ليست بالمهمة بقدر مساهمة باني التصور والنظرية، أي لافوزييه، انطلاقا من كون بريستلي لم يدرك ما قام به. أما السؤال عن الأسس التي استند عليها لافوزييه ليؤسس جهازه النظري العلمي الذي سيخوله انتاج اشكال نظري جديد ومغادرة اشكال أيديولوجي اختباري قديم فذلك ما لا نجد جوابا عنه في تحليل ألثوسير، بل حتى الإقرار البسيط بأن لولا اكتشاف الغاز في الطبيعة من قبل بريستلي لكان من الصعب ان لم نقل من المستحيل ان يتحقق تصور الاوكسجين على مستوى النظرية والتصور والمفهوم.
من هنا نستنتج أن القراءة التي يقترحها ألثوسير تحت مسمى نظرية في القراءة هي قراءة تصورية تواضعية، لا تأخذ بعين الاعتبار الوقائع والتجارب الواقعية والتاريخية، كل شيء يتم في ميدان الفكر الخالص، كما انها لا تأخذ بالحسبان العلاقة الجدلية القائمة بين النظرية والتجربة، الفكر والواقع، وأهمية التجربة عموما في كل معرفة علمية بما فيها العلم الماركسي، هذا سيتضح أيضا حالما نتقصى الكيفية والمنظور اللذان قاربا من خلالهما ألثوسير موضوع بحث ماركس رأس المال.
غرامشي، ونسيان رأس المال:
يؤكد ألثوسير في الجزء الأول من كتابه «Lire le capital»، وبالتحديد في المحور المعنون ب: «Le marxisme n’est plus un historicisme»، على أن الجميع يعرف طبيعة الظروف التي ساهمت في بروز التأويل الانسانوي التاريخاوي لماركس، وكذا الظروف الأخيرة التي ساهمت الى حد بعيد في تجديد دماء هذا التأويل. إن هذا الأخير-حسب ألثوسير-نتاج "لرد فعل إرادوي حيوي" ضد ميكانيكية واقتصادوية الأممية الثانية، خاصة في السنوات التي تلت ثورة 1917 الأكتوبرية، وكذا في الفترة التي سبقتها. مع التأكيد على أن هذا التأويل الانسانوي التاريخاوي لماركس قد انتعش بعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي، وهو المؤتمر المسمى ب: "مؤتمر الجرائم والأخطاء الوثوقية لعبادة الشخصية"، أي المؤتمر السوفياتي الذي ستتم فيه الإشارة الى جرائم البيروقراطية الستالينية في حق المعارضة. أما أهم المنظرين البارزين لهذا التأويل الانسانوي التاريخاوي لماركس فهم كل من روزا لوكسمبرغ ومهرنغ اللذان مثلا اليسار الألماني، ثم كارل كورش، وجورج لوكاش الذي لعب تأويله دورا هاما وغرامشي ذو الدور الأكثر أهمية من منظور ألثوسير. ها هنا نجد ألثوسير يذكر بالمفهوم الذي ضبط به لينين هذه المحاولات، قبل الخوض في مناقشة الاشكال النظري والمفاهيم المفتاح التي تتسم بها هذه المحاولات، ونعني ها هنا ما ورد في بحث لينين المعنون ب: "مرض اليسراوية الطفولي في الشيوعية"، بحيث اعتبر لينين هذه المحاولات ذات نزعة يسراوية.
يمكننا أن نجد مثالا لهذه النزعة عند مقاربتنا لما أورده غرامشي في مقاله ذي العنوان الشهير: «La Révolution contre Le Capital» الذي أعلن فيه على أن ثورة 1917 الروسية والمضادة للرأسمالية كانت في عمقها لما تحمله من مدلولات، ضد كتاب رأس المال لماركس، إنها نتاج لإرادة البشر الواعين، الجماهير والبلاشفة، وليس من خلال عفة كتاب يقرأ من قبل قياديي الأممية الثانية ككتاب مقدس يعكس المسار المقدر الذي ينبغي على الاشتراكية أن تعبره.
نرى ها هنا من المفيد إيراد ما سبق للباحثة ماريا أنطونييتا ماكيوشي أن ذكرته ضمن بحثها "دفاعا عن غرامشي" حيث أعلنت ما يلي:
" في مقالتين حول ثورة أكتوبر، "ثورة ضد "رأس المال"، المنشور في (Avanti) في الرابع والعشرين من شهر نوفمبر سنة 1917، و"ماركس اليوم" المنشور في (Il Grido del popolo) في شهر ماي سنة 1918، يحتج غرامشي ضد المتبنين للتأويلات الميكانيكية، وذلك بالتأكيد من جديد على قوانين التطور التاريخي، وإن كانت تبرز كاتجاه عام، فهي في الواقع، من فعل البشر، وينبغي ترك مكانة عريضة للفاعلين الذين يحركون المعطيات الموضوعية والذاتية المميزة لواقع من النوع القومي. ماذا يعني أن تكون ماركسيا؟ هذا ما يطلبه في نهاية المطاف غرامشي. كتب غرامشي في مقاله: ثورة ضد "رأس المال" ما يلي: " الثورة البلشفية هي حتما متجذرة في الثورة العامة للشعب الروسي". " إنها ثورة ضد كتاب رأس المال لماركس، هذا الأخير كان في روسيا واسع الانتشار في صفوف البرجوازية أكثر مما كان عليه الأمر في صفوف الطبقة العاملة.[8] "
أما نقد هذا التأويل الانسانوي التاريخاوي لماركس الذي برز عند المنظرين المذكورين انفا، فلن يتم على نحو علمي دون محاولة تقصي العناصر الموجودة داخل أبحاث ماركس والتي يمكن أن تؤدي الى هذا الفهم الانسانوي التاريخاوي. ولقد قاد هذا ألثوسير الى اعتبار تلك العناصر التي قد تؤدي الى ذلك الفهم قد تؤدي أيضا الى فهم اخر لا يقل عن الفهم الأول تشويها للماركسية، ونعني هنا الفهم الميكانيكي التطوري. مؤكدا على أن لينين قد سبق له تبيان العديد من الأمثلة فيما يخص الأساس النظري المشترك بين "الانتهازية" و"اليسراوية".
إن هذه العناصر لا توجد فقط في أعمال ومؤلفات ما يسميه ألثوسير ب: ماركس الشاب الواقع تحت تأثير الهيجلية والاشكال النظري الأيديولوجي الامبريقي، وإنما أيضا في مؤلفات ماركس العلمية، أي كتاب رأس المال وكتاب اسهام في نقد الاقتصاد السياسي. فنصوص ماركس التي من الممكن أن تستند عليها قراءة تاريخاوية لماركس من الوارد أن تكون مجمعة على مستويين، النصوص الأولى تتعلق بتعريف الشروط التي من خلالها يعطى لنا موضوع كل علم تاريخي، والنصوص الثانية تتمثل فيما يسميه ماركس بالشروط المحددة على نحو جيد لممارسة النقد الذاتي للحاضر.
ها هنا نجد ألثوسير يعرض نصين من نصوص ماركس، الأول مقتطف من مؤلفه: اسهام في نقد الاقتصاد السياسي، والثاني من مؤلف: رأس المال، وفيهما يحدد ماركس الشروط والظروف التي من خلالها يعطى لنا موضوع كل علم تاريخي.
النص الأول يعلن ما يلي:
"ينبغي ألا يغيب عن ذهننا، خاصة إن كنا إزاء كل علم تاريخي واجتماعي بشكل عام، بخصوص حركة المستويات الاقتصادية ومسارها، أن الموضوع، الذي هو هنا المجتمع البرجوازي المعاصر، معطى على نحو أولي في الواقع قبل الدماغ، وإذن فإن المستويات تفسر أشكال الوجود، ظروف الوجود المحددة، غالبا من مظاهر محددة وبسيطة لهذا الموضوع، لهذا المجتمع المحدد إلخ.[9]"
أما نص ماركس الثاني الذي يستند عليه ألثوسير لإيضاح العناصر الأيديولوجية التي تساهم في توجيه الفهم نحو النزعة الانسانوية التاريخاوية ونحو الفهم الميكانيكي التطوري، فيعلن ما يلي:
" إن التفكير في أنماط الحياة الاجتماعية، وبنفس القدر تحليلها العلمي، يمر من خلال مسار مطروح على نحو تام على الحركة الواقعية. إنه يبدأ أولا بالمعطيات المقدمة على نحو مباشر، وبنتائج التطور[10]"
إن ما يعتبره ألثوسير هنا يؤدي الى ذلك الفهم المشوه للماركسية هو ما سبق لماركس ان عبر عنه في مؤلفه الثامن عشر من برومير لويس بونابرت:
" يصنع الناس تاريخهم الخاص، ولكنهم لا يصنعونه من قطع حرة، وليس ضمن أوضاع مختارة منهم أنفسهم، وإنما في ظل أوضاع قائمة مسبقا ومعطاة وموروثة على نحو مباشر. إن التقليد الخاص بكل الأجناس ينيخ بكلكه مثل كابوس على دماغ الأحياء، وحين يظهرون (أي الناس) أنهم منشغلون بتحويل أنفسهم وبتحويل الأشياء، وبخلق أشياء لم تكن موجودة...، فإنهم يستعيدون، وجلين، أشباح الماضي، ويضعونها في خدمتهم. "[11]
إن هذه النصوص–حسب ألثوسير-لا تقوم فقط بتحديد موضوع كل علم اجتماعي وتاريخي بما هو موضوع معطى، موروث، نتاج، ... إلخ وإنما أيضا بتحديد النشاط المعرفي الممارس على هذا الموضوع باعتباره أيضا مكتوفا بحاضر هذا المعطى، أي بلحظة المعطى الراهنة. ولعل هذا ما حذا ببعض المؤولين الماركسيين الايطاليين باستعادة تعبير ورد عند الفيلسوف المثالي كرتوشه بيندنتو، ذو التأثير الواضح على فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي، المسمى بمستوى "معاصرة" "الحاضر التاريخي"، وهو المستوى الذي يعرف تاريخيا شروط كل معرفة بموضوع تاريخي. إن مصطلح المعاصرة هذا يحتوي، كما نعلم ذلك، جميعا على التباس.
من هنا يصل "ألثوسير" الى الخلاصة التالية:
" إن كل علم بموضوع تاريخي (خاصة بالاقتصاد السياسي) يقوم على موضوع تاريخي معطى، حاضر، موضوع هو نتيجة لتاريخ ماض. كل عملية للمعرفة، تنطلق من الحاضر وتستند على موضوع-معطى، ليست إلا الحاضر وهو يميط اللثام عن ماض هذا الموضوع. إذن فماركس يصف هنا "استعادة الاحداث" التي انتقدها هيجل في التاريخ "المنعكس" (مدخل الى فلسفة التاريخ). هذه الاستعادة للأحداث والتي لا مفر منها ليست علمية إلا في حال وصول الحاضر للعلم بذاته، ولنقد ذاته، لنقده الذاتي، بمعنى أنه في حال كون الحاضر "قطع أساسي" يجعل الجوهر ظاهرا مرئيا[12]".
فلنا سابقا أن المستويات الأولى التي تتحدد فيها نصوص ماركس باعتبارها نصوصا تؤدي الى فهم ميكانيكي أوفهم انسانوي تاريخاوي للماركسية تتمثل في النصوص التي عمل من خلالها ماركس على الكشف عن الشروط والظروف التي من خلالها يقدم لنا موضوع كل علم تاريخي، اما المستويات الثانية-حسب ألثوسير-فتتمثل فيما يسميه ماركس، الشروط المحددة على نحو جيد للنقد الذاتي للحاضر.
" إن ما منع أرسطو من القراءة في شكل قيمة البضائع أن كل الاعمال المعبر عنها هنا هي عمل انساني غير قابل للتمييز، أي متساوي...هو ما كان يطرحه المجتمع اليوناني على عمل العبيد، بحيث وضع القاعدة الطبيعية لللامساواة بين الناس، ولقوى عملهم. "[13]
مما يعني أن الحاضر الذي مكن ارسطو من استشراف واكتشاف نتائجه الفذة منعه في نفس الوقت من الإجابة العلمية عن الاشكال الذي انطلق منه. يعلق "ألثوسير" على نص ماركس السابق ذكره معتبرا أن ما قاله ماركس ليس خاطئا بالتأكيد، لكن عندما نقوم بجلب هذا التحديد على نحو مباشر للتاريخ، نجازف في توظيف المفهوم الأيديولوجي للتاريخ بكل بساطة.
وحسب ألثوسير فإن ما قيل عن أرسطو ينطبق أيضا على جل منظري الاقتصاد السياسي الكلاسيكي البارزين، الميركنتليون لم يقوموا سوى بالتفكير في حاضرهم الخاص، من خلال قولهم بالنظرية النقدية، الفيزيوقراطيون لم يقوموا سوى بالتفكير في حاضرهم الخاص، من خلال قولهم بنظرية القيمة الزائدة العظيمة، ولكن القيمة الزائدة الطبيعية للعمل الزراعي، حيث يمكن رؤية القمح النامي والفائض الغير المستهلك لعامل زراعي منتج للقمح، يمر عبر مخازن حبوب المزارع. إنهم أيضا لم يقروا بأي شيء اخر سوى جوهر حاضرهم الخاص، التطور الرأسمالي الزراعي في سهول حوض باريس الخصبة. (Anti Dühring, E.S., chapitre 10, p :283).
هؤلاء ما كان بإمكانهم بتاتا القفز فوق زمانهم وتاريخهم، إنهم لم يصلوا سوى الى المعارف التي قدمها لهم حاضرهم الخاص في شكل مرئي وظاهر، إنهم مجتمعين يكتبون ما قد رأوه وشاهدوه. هل ينطبق نفس الأمر كذلك على كل من أدم سميث ودافيد ريكاردو؟ هل تمكن كل من أدم سميث ودافيد ريكاردو من القفز فوق زمانهم التاريخي؟ لا، فإذا كان كل منهما قد توصل الى علم يقوم بشيء اخر غير الوعي البسيط بالحاضر، فهذا لأن وعيهم يحوي النقد الذاتي الحقيقي لهذا الحاضر. كيف يمكن أن يتأسس هذا النقد الذاتي للحاضر؟ في منطق هذا التأويل الهيجلي من حيث المبدأ، فإننا نحاول أن نقول: لقد توصلوا من خلال وعيهم بحاضرهم الى العلم نفسه، لأن هذا الوعي كان، بما هو كذلك، نقدا ذاتيا خاص به، إذن فهو علم في ذاته.
"بعبارات أخرى: إن نموذجية حاضرهم المفعم بالحيوية والنشاط، الذي يميزه عن كل حاضر اخر (الماضي)، تكمن في أنه أنتج، لأول مرة، في ذاته نقده لذاته، حيث احتاز إذن هذا الامتياز التاريخي في انتاج علم بذاته في نفس شكل وعيه بذاته. لكنه يأخذ اسما معينا: إنــه حاضر المعرفة المطلقة، حيث الوعي والعلم ليسوا إلا شيئا واحدا، أو لنقل حيث يوجد العلم في شكل وعي مباشر، وحيث الحقيقة بإمكانها أن تقرأ في كتاب مفتوح، وفي الظواهر، ولما لا بشكل مباشر، وبمجهودات أقل، ففي الظواهر، تقدم على نحو واقعي، في الوجود الامبريقي الواقعي، كل التجريدات التي يستند عليها كل علم تاريخي اجتماعي نود معالجته. "[14]
وبعد تحليل ألثوسير للعناصر الأيديولوجية التي من الممكن أن تؤدي الى فهم إنسانوي تاريخاوي لماركس، أو إلى فهم ميكانيكي تطوري، نجده يؤكد على أن مجموعة من المؤولين الماركسيين، خاصة غرامشي، لوكاش، وسارتر، قد سقطوا، بوعي منهم، أو بدون وعي، ضحية فهم لا علمي لتلك النصوص.
مع التأكيد على أن التقليد الماركسي الإيطالي يعبر بوضوح عن تأويل النظرية الماركسية باعتبارها تاريخاوية مطلقة «historicisme absolue»، لما يقدمه هذا التقليد من ملامح وأشكال أكثر اتهاما ودقة. لاحظ ألثوسير أنه إلى غرامشي بالأساس، الذي ورث الى حد بعيد ما سبق طرحه من قبل كل من لابريولا وكروتشه، يعود هذا التقليد، من هنا كان من الضروري على ألثوسير أن يعيد قراءة أعمال غرامشي ومواقفه التي عبر عنها في مجموعة من أبحاثه ومقالاته، أي إعادة قراءة فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي.
ففي نص ل غرامشي يعتمد عليه ألثوسير حول كروتشه بعنوان: "المادية التاريخية وفلسفة ب. كروتشه"، نجد غرامشي يعلن ما يلي:
" الأكيد هو أن الهيجلية تمثل بالنسبة لكاتبنا واحدة من الأسباب الأكثر أهمية للتفلسف، وذلك بالأساس لكونها قد حاولت تجاوز التصورات التقليدية للمثالية وللمادية نحو فرضية جديدة، لها من دون ريب، أهمية عظيمة، وتمثل لحظة تاريخية عالمية للبحث الفلسفي. ولهذا فإننا عندما نعلن بخصوص محاولة (كروتشه) أن مصطلح "الملازمة" في فلسفة البراكسيس موظف على نحو مجازي، فإننا لا نظيف أي جديد، في الواقع، نجد أن مصطلح الملازمة قد اكتسب معنى خاص ليس هو المعنى الموظف من قبل الفلاسفة القائلين بمبدأ "وحدة الوجود"، ولا علاقة له بالمعنى الميتافيزيقي المجرد، لكنه جديد وينبغي تثبيته. لقد نسينا في التعبير الشائع جدا (المادية التاريخية) التركيز على المصطلح الثاني "التاريخية"، وليس على المصطلح الأول، ذو الأصول الميتافيزيقية. إن فلسفة البراكسيس هي "التاريخاوية" المطلقة، الدنيوية والواقعية المطلقة للفكر، إنها نزعة إنسانوية للتاريخ. هذا الطريق هو وحده الكفيل بحفر وريد تصور جديد للعالم. "[15]
بالنسبة الى ألثوسير فإنه من الواضح أن هذه التأكيدات "الانسانوية" "التاريخاوية" "المطلقة" التي عبر عنها غرامشي في النص السالف الذكر لها في البداية معنى نقدي وسجالي، كما تبرز قبل كل شيء، باعتبارها تأكيدات تسعى الى تحقيق الأغراض التالية: أولا: رفض كل تأويل ميتافيزيقي للفلسفة الماركسية، ثانيا: تحديد مفهوم البراكسيس باعتباره المجال الذي ينبغي أن تنشأ من خلاله الفلسفة الماركسية من أجل القطع مع كل فلسفة ميتافيزيقية خارجية.
من هنا نجد ألثوسير يتوصل الى الخلاصة التالية بخصوص نص غرامشي:
"إذا كانت هذه المفاهيم (التاريخاوية المطلقة، البراكسيس، الانسانوية، الملازمة إلخ) سجالية ودلالية، فإنها تحدد على نحو جيد المسار الذي ينبغي أن يلتزم به بحث ما، نوع المجال الذي من خلاله ينبغي ان تطرح مشكلة تأويل الماركسية، ولكنها لا تقدم المفهوم الإيجابي لهذا التأويل. وحتى يتسنى لنا الحكم على تأويل غرامشي ينبغي علينا الاخذ بعين الاعتبار المفاهيم الإيجابية التي عبر عنها. ما الذي يعنيه إذن غرامشي بالتاريخاوية المطلقة؟[16] "
ففي حال سرنا بالبحث قليلا الى الامام، سنجد أن أنطونيو غرامشي يقدم معنى أوليا إيجابيا من خلال تقديمه للنظرية الماركسية باعتبارها نزعة تاريخاوية، حيث يؤكد غرامشي على تحديد أساسي للنظرية الماركسية، وهو ما يمكن ضبطه من خلال التعبير التالي: دورها العملي في التاريخ الواقعي. وحسب ألثوسير، تتعلق واحدة من المتاعب الثابتة عند غرامشي بما يسميه بدور "البراكسيس التاريخاوي"، وذلك باستعادته لما سبق ذكره من قبل ب. كروتشه وتصوره حول "الدين" و"التصورات حول العالم" أو "الأيديولوجيات": فهي جميعا تشكل ما يمكننا ان نسميه بالتشكيلات النظرية القادرة على اقتحام حياة الناس الواقعية، وبالتالي تكون لها القدرة على تحريك مرحلة تاريخية بكاملها، وذلك من خلال جعل البشر، ليس فقط "المثقفين"، بل حتى "البسطاء" منهم، يمتلكون وعيا عاما بالعالم، وفي نفس الوقت، وعيا بما يمكن ان نسميه بقاعدة مسار البراكسيس. من هنا نستنتج أن تاريخاوية الماركسية ليست إلا الوعي بهذه المهمة وبهذه الضرورة. ما كان ممكنا بالنسبة للماركسية أن تتجرأ في ان تكون نظرية في التاريخ، ما لم تفكر، في بنية نظريتها نفسها شروط هذا الاقتحام للتاريخ، في كل طبقات المجتمع، وحتى في المسار اليومي للبشر. من خلال هذا المنظور، بإمكاننا فهم العديد مما طرحه غرامشي من أفكار وتصورات، على سبيل المثال قوله بأنه على الفلسفة أن تكون واقعية أو لا تكون، وينبغي عليها أن تكون تاريخا، وعلى أن الفيلسوف في الواقع ليس شيئا اخر غير السياسي، مما يعني في نهاية المطاف أن الفلسفة والتاريخ والسياسة ليسوا إلا شيئا واحدا.
وانطلاقا من وجهة النظر المومأ إليها انفا، سيتسنى لنا استيعاب نظرية غرامشي بخصوص مفهوم المثقف ومفهوم الأيديولوجيا. بمعنى ما أقره من تمييز بين المثقفين الفرديين أو التقليديين، الذي يقومون بإنتاج الأيديولوجيات الذاتية والاستبدادية، والمثقفين العضويين، أو ما يسميه أيضا بالمثقف الجمعي، وهو الحزب، الذي يعمل على خلخلة وتصديع الأيديولوجية المهيمنة من خلال تبنيه لتصور جديد حول العالم، أو لنقل بلغة غرامشي، "الأيديولوجيا العضوية"، بحيث يعمل على اقحامها في وعي البشر وفي حياتهم اليومية ونضالهم اليومي، وكذا فهم تأويله لكتاب "الأمير" لميكيافيل، حيث يأخذ الحزب الشيوعي الحديث مكان الأمير في خضم ظروف وشروط جديدة.
يرى ألثوسير أن ما يطرحه غرامشي هنا، في تأويله للنظرية الماركسية، هو نداء مباشر الى الممارسة –على حد تعبيره-، الى الفعل السياسي، والى تحويل العالم، فبدون هذا النداء لن يكون للنظرية الماركسية أي معنى، وسيكون شأنها كشأن النظريات والفلسفات الأخرى التي تظل حبيسة المكاتب ونوادي المثقفين.
يبقى غرامشي، في تأويله للنظرية الماركسية من خلال تبنيه لفلسفة البراكسيس التي تقدم الماركسية كنزعة تاريخاوية مطلقة، حبيسا للبروليماتيك الما قبل الماركسي العلمي، أي حبيسا للبروليماتيك الهيجلي الأيديولوجي، أو لنقل، أن "غرامشي" قد ظل مكتوفا لأعمال ومؤلفات ماركس الشاب، الواقع تحت تأثير الاشكال النظري الأيديولوجي الهيجلي والفيورباخي، وليس إلى أعمال ومؤلفات ماركس الناضج والعلمي المتجه نحو تحليل وتفكيك البنيات والمواضيع، ها هنا يمكن اعتبار الأعمال التالية أهم الأعمال التي تعبر عن ماركس العلمي، حسب ألثوسير: "رأس المال"، "اسهام في نقد الاقتصاد السياسي"، نقد برنامج غوته". أما الأعمال والمؤلفات التي تعبر عن ماركس الأيديولوجي، فلعل أهمها كل من "العائلة المقدسة"، "مخطوطات 1844 الفلسفية والاقتصادية"، "موضوعات حول فيورباخ"، الأيديولوجية الألمانية". من هنا نجد أن ألثوسير يقر بأن غرامشي لم يستطع التفكير في القطيعة (La rupture) التي تفصل بين ماركس العلمي وماركس الأيديولوجي، أي أنه لم يتمكن من استيعاب التحول والتطور المفاهيمي والموضوعاتي الذي حدث في بنية النظرية الماركسية، منذ كتابة ماركس لأول أبحاثه الى غاية كتابته لمؤلفه الرئيس رأس المال. وهذا ما أسقط غرامشي في اقراره المثالي بأن النظرية العلمية في أي مجال من مجالات العلوم ينبغي تحليلها بما هي عنصر من "البنية الفوقية" للمجتمع أو ك "مجال تاريخي" يعبر عن علاقة إنسانية. في حين نجد أن ألثوسير يصر على أن ماركس لم يعد المعرفة العلمية كعنصر في البنية الفوقية إلا فيما يسميه ب: أعمال الشباب، خاصة في بحثه المعنون ب: "مخطوطات 1844 الفلسفية والاقتصادية"، في حين نجده في بحثه رأس المال، الذي يعبر بوضوح تام عن ماركس العلمي يحدد البنية الفوقية للمجتمع في البنية الحقوقية والسياسية، وأشكال الوعي الاجتماعي.
الان إن عدنا الى نصوص ماركس التي اعتبرها ألثوسير تؤدي الى نوع من الفهم الميكانيكي أو اليسراوي فإننا سنجد أن الخيط الناظم الذي تنتظم وفقه كل تلك النصوص هو: "التمثيلية"، أو لنقل ما يسمى ب: "نظرية الانعكاس والتصور" في النظرية الماركسية. بمعنى النظر الى المعرفة العلمية بما هي معرفة تمثل وتعكس على نحو ما على صعيد النظر والفكر واقعا موضوعيا مستقلا عن تلك المعرفة نفسها. إن هذه "التمثيلية" –حسب ألثوسير-تنطبق على كل التقليد الفلسفي الما قبل الماركسي، من ديكارت الى هوسرل مرورا بكانط وهيجل.
كان لوكاش قد هاجم كانط لكونه أقر بواقع موضوعي ما موجود على نحو مستقل عن الفكر والعقل وبراكسيس الذات المنتجة للمعرفة (الشيء كما هو في ذاته) وعد كل ذلك تحت ما يسميه ب "التشييئية البرجوازية"، بمعنى انه هاجم الفلسفة الما قبل الماركسية الممتدة من ديكارت الى كانط بسبب نزعتها المادية الواقعية، ونقده ل "كانط" يتأسس انطلاقا من كونه ابقى شيئا قليلا من هذه النزعة الواقعية المادية في فلسفته النقدية، بعبارة أخرى إذا كانت قراءة "لوكاش" للإرث الفلسفي الما قبل الماركسي وللماركسية أيضا تتأسس على رفض المادية الفلسفية والدعوة على غرار هوسرل وهايدجر الى موت الموضوع المستقل، فإن قراءة ألثوسير للإرث الفلسفي الما قبل الماركسي وللماركسية تتأسس ليس فقط على ما أقر به لوكاش وإنما أيضا تتعداه الى تقويض الذات الكانطية العارفة، من هنا كانت قراءة ألثوسير للماركسية تتأسس على دعوى موت الذوات الفاعلة والمواضيع المستقلة معا.
لقد كان أنصار قراءة "ماركس الشاب"، "ماركس" "المخطوطات" و"العائلة المقدسة"، "ماركس" الانسانوي، ينزلون، كما اتضح انفا، ماركس الفيلسوف الانسانوي، الجذري، النقدي، في "المخطوطات" ضمن مجابهة وتناقض حاد مع ماركس العالم الاجتماعي والاقتصادي التقريري الموجود في "رأس المال" و"اسهام في نقد الاقتصاد السياسي". في نقد ألثوسير لأنصار هذه القراءة يعمل على الحفاظ على تلك المجابهة الحادة، أي المجابهة بين ماركس "المخطوطات" و"العائلة المقدسة" وماركس "اسهام في نقد الاقتصاد السياسي" و"رأس المال". وبالتالي فإنه يسقط في نفس المنطق الميكانيكي الذي سقط فيه كل من غرامشي، ولوكاش.
المعالجة الابستيمولوجية لرأس المال:
إن شئنا التساؤل عما الغرض من تحديد موضوع بحث ماركس رأس المال بالنسبة الى ألثوسير فإن الإجابة الواضحة هي التمييز بين ماركس الرأسمال، أي ماركس العلمي، وماركس الأيديولوجي الاختباري الموجود في أعمال الشباب، إلا أن المسألة لا تتعلق فقط بالتمييز بين ما هو علم وما هو أيديولوجيا في فكر ماركس بل أيضا التمييز بين ماركس العلمي نفسه وبين المصادر النظرية التي مارس عليها ماركس نمطا من القراءة، أي نقدا، ونعني هنا على وجه التخصيص الاقتصاد السياسي الكلاسيكي. بمعنى اخر يمكن القول أيضا ان غرض هذا التحديد هو التمييز بين ما قدمه ماركس في رأس المال من تحليلات ومفاهيم نظرية ومن نظرية في التاريخ قادرة لوحدها على التمييز بين ما هو علم وما هو أيديولوجيا وبين ما قدمه كل من منظري الاقتصاد السياسي الكلاسيكي البارزين من أمثال: أدم سميث ودافيد ريكاردو وغيرهم. إن أول ما يمكن ضبطه ها هنا من خلال مقاربة النص الالثوسيري نفسه هو إصرار ألثوسير على أن موضوع رأس المال ليس بموضوع اقتصادي أو تاريخي، وهذا ما نلمسه من التساؤلات التي طرحها ألثوسير بحيث تجيب نفسها بنفسها، ما هو الموضوع الذي يقدم من خلاله "رأس المال" نظريا؟ هل هو موضوع اقتصادي ام تاريخي؟ إذا كان موضوع "راس المال" موضوعا اقتصاديا فما الذي يميز حينئذ "ماركس" عن المنظرين البارزين للاقتصاد السياسي الكلاسيكي وحتى الحديث؟ وإذا كان موضوع "رأس المال" موضوعا تاريخيا، فما هو هذا التاريخ؟ وما موقع الاقتصاد فيه؟[17] هنا نجد ألثوسير يطرح العناصر النظرية التي سبق ان قاربناها في المحور السالف من أجل التأكيد على ان القراءة الفلسفية وحدها القادرة على ضبط موضوع رأس المال وضبط جدته الفلسفية والعلمية. وذلك بعد ان لاحظ ان مؤلف ماركس رأس المال بقدر ما كان له ملايين القراء من عمال واقتصاديين ومؤرخين ومناضلين ماركسيين بقدر ما ظل مفتقرا لقراء فلاسفة، هؤلاء الأخيرين، هم "المتمكنون" والقادرون على طرح الموضوع الخاص والمختلف ل رأس المال وجها لوجه أمام البحث الجدي. فالاقتصاديون والمؤرخون لم يقوموا بطرح التساؤل حول موضوع رأس المال إلا في حالات نادرة وبصورة مشوهة نوعا ما، وبالتالي فإنهم كانوا عاجزين عن التمييز المفاهيمي الذي يتسم به موضوع رأس المال مقارنة بالمواضيع الأخرى: موضوع الاقتصاد السياسي الكلاسيكي، موضوع الاقتصاد السياسي الحديث، موضوع المخطوطات الفلسفية والاقتصادية والعائلة المقدسة، إلخ. من هنا نجد ألثوسير يرى أنه ولأسباب عميقة فإنه في الغالب تمت قراءة رأس المال ليس من قبل فلاسفة مختصين وانما فقط من قبل المناضلين والقادة السياسيين الذين لم يكونوا فلاسفة بالاختصاص، يمثل لينين هنا النموذج الأرقى، ففهمه الفلسفي العميق ل رأس المال يعطي لتحليلاته السياسية والاقتصادية عمقا بارزا لا يقارن. فليس صدفة ان نجد لينين ابان سنوات نضاله السياسي الأولى، ونعني هنا السنوات التي سبقت ثورة 1905، ينكب بالبحث بخصوص نظرية رأس المال والتساؤلات الإشكالية الأكثر صعوبة ل رأس المال، مما يجعل اعمال ومؤلفات لينين تتضمن تحليلات اقتصادية وسياسية عميقة. لكن التساؤل التالي يبرز الان على نحو الحاحي: من هم هؤلاء الفلاسفة القادرين على طرح التساؤل بخصوص موضوع رأس المال؟ وأيضا بخصوص الاختلاف الخاص الذي يميز موضوع رأس المال عن موضوع الاقتصاد السياسي سواء كان كلاسيكيا ام حديثا؟ او لنقل الذين قرئوا رأس المال بطرح هذه الإشكالية؟ يجيب ألثوسير على النحو الاتي:
" حالما نعي ان "رأس المال" قد حظر لمدة أربع وعشرون سنة حظرا ايديوسياسيا راديكاليا من قبل الاقتصاديين والمؤرخين البرجوازيين، نتلمس الضرر الذي يمكن ان تحدثه الفلسفة الجامعية ! الفلاسفة الوحيدين الذين كان بإمكانهم تقصي بحث "ماركس" "رأس المال" لمدة طويلة من الزمن هم المناضلون الماركسيون، ولم يتم اجتياز هذه الحدود الممنوعة الا في السنوات القليلة الماضية من قبل بعض الفلاسفة الغير الماركسيين.[18] "
ولكن حسب منظور ألثوسير فإن هؤلاء الفلاسفة سواء كانوا ماركسيين أم لا، فإنهم لم يتمكنوا من طرح تساؤلات بخصوص رأس المال غير التساؤلات نفسها التي تطرحها فلسفتهم وبالتالي فإنهم لم يتمكنوا من القيام بمعالجة ابيستيمولوجية حقيقية لموضوع رأس المال وباقي المواضيع الأخرى. وحتى يتسنى ل ألثوسير القيام بذلك لابد له من ابراز اكتشافات ماركس وتمييزها مفاهيميا ونظريا عن المفاهيم النظرية للاقتصاد السياسي الكلاسيكي والحديث.
" لنلخص ما ذكرناه، المفاهيم التي تحمل اكتشافات ماركس الرئيسية هي: مفاهيم القيمة والقيمة الاستعمالية، العمل المجرد والعمل المشخص، ومفهوم القيمة الزائدة. [19]"
لابد من التأكيد ها هنا على أن ألثوسير يلح على ان نقد ماركس للاقتصاد السياسي نقد ذو طابع راديكالي: فماركس لا يضع نصب عينيه فقط نقد موضوع الاقتصاد السياسي، وإنما أيضا نقد الاقتصاد السياسي باعتباره موضوعا. أما المجال الذي يتحدد فيه ومن خلاله موضوع الاقتصاد السياسي فهو ما يسمى ب: "الوقائع الاقتصادية" الذي يمثل بالنسبة الى منظريهم البارزين حقيقة الوقائع وجوهرها، إنها أساسا، معطيات مطلقة تأخذ كما هي دون أي أدنى محاولة لبنائها نظريا.
إن هذه المفاهيم المومئ إليها انفا، والتي تحمل اكتشافات ماركس وتتضمن كل تحليلاته الاقتصادية، هي نفسها الموجه اليها وصوبها كل نقد موجه نحو ماركس من قبل الاقتصاديين الحديثين والمعاصرين، وذلك باعتبارها مفاهيم غير اقتصادية، أي بما هي مفاهيم "فلسفية" و"ميتافيزيائية" تقوم بتحويل الواقعة الاقتصادية الى وهم. في هذا السياق نجد ألثوسير يضرب لنا المثال بالتحليل الذي قدمه كارل شميدت بخصوص قانون القيمة عند ماركس، معتبرا أن هذا المفهوم تعبير عن "تخيل نظري"، يرى ألثوسير بخصوص هذا النقد الموجه نحو قانون القيمة الماركسي من الضروري معالجته ومقاربته، وذلك لأنه يتأسس على المفاهيم الرئيسة التي انتجت من خلالها كل ثورة ماركس العلمية واكتشافاته العلمية الجديدة، كما يرى أيضا ان سوء الفهم الذي وقع فيه شميدت ناتج عن كونه لم يستوعب جدة موضوع راس المال، انطلاقا من كونه يقرأ موضوع "رأس المال" من خلال موضوع اخر، هو موضوع الاقتصاد السياسي الكلاسيكي، في حين ان موضوع رأس المال مختلف كليا عن موضوع الاقتصاد السياسي سواء كان كلاسيكيا ام حديثا. من هنا فإن ما يضبطه نقاد نظرية ماركس تحت مسمى الإخفاق النظري الكامن في نظريته هو في الحقيقة ما يشكل نقطة القوة، ويؤكد في نفس الوقت علمية النظرية الماركسية، لأن ماركس لم يظل من حيث مفاهيمه النظرية ومن حيث نظريته العلمية حبيسا للواقعة الاقتصادية كما يقوم بذلك الاقتصاديون الكلاسيكيون والحديثون ذوو النزعة الاختبارية مما يميزه ليس فقط عن خصومه الايديولوجيين وانما أيضا عن مجموعة من مناصريه الأكثر قربا منه. وحتى يتسنى ل ألثوسير التدليل على مدى سوء الفهم الحاصل نجده يعرض رسالة كتبها إنجلز الى شميدت بتاريخ 12 مارس1895 تتضمن ردا على شميدت بخصوص اعتراضه على قانون القيمة الماركسي. يعلن إنجلز في نص الرسالة ما يلي:
" إني أجد في اعتراضك الميل نفسه الى الانحراف نحو التفاصيل، وإني لأعزوه الى المنهج الانتقائي في الفلسفة الذي تم إدخاله منذ سنة 1848 الى الجامعات الألمانية، الذي يفقدنا تماما الرؤية العامة ويجعلنا نتوه كثيرا في التأملات الى ما لا نهاية، ونغرق عبثا في التفاصيل. ومع ذلك يبدوا لي أنكم كنتم منشغلين في البدء، وعلى نحو خاص، من بين الكلاسيكيين كلهم، ب: "كنط"، هذا الأخير الذي قام بتنازلات شتى ل "فولف". مما يجعلني أفسر ميلك، الذي ينحوا منحى الاحتجاج على قانون القيمة والذي يغوص بكم في التفاصيل...في النقطة التي تقومون فيها باختزال قانون القيمة الى تخيل، تخيل ضروري، تقريبا على غرار "كنط" الذي قام باختزال وجود الله الى فرضية للعقل العملي.
إن الاعتراضات التي اعلنتموها ضد قانون القيمة تصيب كل المفاهيم، بمعالجتهم من وجهة نظر الواقع، إن استعدنا تعبير "هيجل" نقول إن وحدة الفكر والوجود تصادف في كل مكان مثالك عن الدائرة والمضلع. حيث أيضا مفهوم الشيء وواقعه في حالة من التوازي كخطين يتقاربان الى بعضهما البعض دون توقف وبدون ان يلحق أحدهما بالآخر. هذا الاختلاف الذي يباعدهما هو بالتحديد ما يجعل المفهوم لا يحيل بسهولة وعلى نحو مباشر الى الواقع، وأن الواقع ليس هو مفهومه الخاص. في الواقع، فإن أي مفهوم يقتضي الطابع الرئيس لمفهوم، ومنه فإنه لا يصادف الواقع بسهولة، والذي ينبغي عليه أولا تجريده، من هذا الواقع فإنه أكثر من مجرد تخيل الا إذا كنتم تسمون تخيلا كل نتائج عمليات التفكير لأن الواقع لا يتطابق مع هذه النتائج إلا من خلال انعطاف طويل. وحتى ذلك الحين فإنهم لا يتقاربان ابدا الا على نحو تقريبي. [20]"
حسب ألثوسير فإن الجواب الذي قدمه انجلز يعبر ويستند في نفس الوقت على نظرية في المعرفة بامتياز، بحيث يبحث في تقاربية التجريد عن عدم تناسق المفهوم بما هو مفهوم له موضوعه الخاص. إنها إجابة تجانب السؤال: في الواقع، وبالنسبة الى ماركس فإن مفهوم قانون القيمة بالفعل مفهوم منسجم مع موضوعه لأنه مفهوم محدودة اختلافاته، مما يجعله المفهوم المنسجم لمجاله اللامنسجم، من هنا يرى ألثوسير ان إنجلز في رده على شميدت قد استند على نظرية تجريبية للمعرفة لا لشيء الا لأنه أصر على أن مفاهيم ماركس التي يدخل من ضمنها مفهوم قانون القيمة ليست بالمفاهيم المنفصلة والمجردة على نحو مطلق عن الواقع، أي ان العلاقة هنا بين المفهوم والواقع ليست بالعلاقة الميكانيكية المباشرة، أي انها متوسطة ومعقدة، في حين نجد أن ألثوسير يواصل تبنيه لرؤاه التواضعية بحيث يؤكد على ان مفهوم ماركس هو فعلا مفهوم غير اقتصادي غير تاريخي، وبكلمة فإنه مجرد على نحو مطلق عن الواقع وأي محاولة لتقصي علاقة المفهوم بالواقع لن تدخل سوى في عداد الأيديولوجيا الاختبارية المدانة بنيانيا.
إن الإشكالية المحورية في هذا الشق من البحث المتعلق بموضوع رأس المال الذي يمثل جدة ماركس الفلسفية والنظرية ترتبط الى حد بعيد بتحديد طبيعة العلاقة القائمة بين جدة ماركس النظرية والمصادر التي استند عليها ماركس من أجل التأسيس لعلم جديد. نحن نعلم جيدا أن المصادر الثلاث للنظرية الماركسية، والتي مثلت الأساس النظري والمعرفي الذي انطلق منه ماركس واضحة بجلاء في حال العودة الى واحد من أهم أبحاث لينين، ونعني ها هنا بحثه المعنون ب: " مصادر الماركسية الثلاثة وأقسامها المكونة الثلاث"، بحيث تمثلت هذه المصادر في كل من المادية الفلسفية التي بلغت أوج قمتها مع الفيلسوف المادي لودفيغ فيورباخ والجدل الهيجلي الذي كان ماركس يصر بخصوصه على ضرورة نزع قشرته الصوفية وقلبه ليصير ماديا ، ثم الاقتصاد السياسي الكلاسيكي (سميث، ريكاردو وغيرهم)، ناهيكم عما قدمه من نظريات المنظرين البارزين للاشتراكية الطوباوية. يمكننا الان ان نصيغ الاشكال الأساس الذي يطرحه ألثوسير بخصوص موضوع رأس المال على نحو الاتي: ما هو موضوع رأس المال؟ إذا كانت جدة ماركس النظرية هي فقط دفع عمل او نظرية كانت قبله الى نتائجها العلمية، فإن ماركس لم يكن سوى متمما لمؤلفات واعمال الاقتصاديين الكلاسيكيين، وأن موضوع رأس المال في نهاية التحليل ليس موضوعا جديدا وإنما هو نفسه موضوع الاقتصاد السياسي الكلاسيكي، أي أن موضوع ماركس هو موضوع ريكاردو، تاريخ الاقتصاد السياسي من ريكاردو الى ماركس اذن، هو استمرارية بدون قطيعة، ولا يقدم أي إشكالية .
بالنسبة الى ألثوسير فإن اغلب الماركسيين الذين اهتموا بالبحث حول موضوع رأس المال قد سقطوا في أحضان القول بالاستمرارية بدون قطيعة، خاصة إذا اخذنا بعين الاعتبار ما قدمه أنطونيو غرامشي في احدى تعليقاته معتبرا أن: الفلسفة الماركسية هي ريكاردو معمما. وكذا بعض التحليلات النظرية التي قدمتها روزنتال وأيضا ديلا فولبي. مما قادهم في نهاية التحليل الى القول انه ما من اختلاف أساسي بين موضوع سميث وموضوع ريكاردو من جهة وموضوع ماركس من جهة أخرى. من منظور ألثوسير فإن الاختلاف من حيث الموضوع بين ماركس والاقتصاد السياسي الكلاسيكي قد دون في الماركسية المبتذلة على نحو الاتي: الاختلاف يوجد في المنهج فقط. فالمنهج الذي طبقه منظرو الاقتصاد السياسي الكلاسيكي على موضوعهم كان منهجا ميتافيزيائيا في حين نجد أن منهج ماركس قد كان منهجا جدليا. لا يصح –حسب الثوسير-اختزال جدة ماركس في تطبيقه لمنهج مطور عن هيجل على موضوع جاهز على نحو مسبق لدى منظري الاقتصاد السياسي الكلاسيكي.
قلنا فيما مضى، خاصة في سياق المحور المعنون ب: عناصر لنظرية في القراءة، أن لحظة إنتاج الاشكال النظري او البروليماتيك هي اللحظة الحاسمة في انتاج كل معرفة علمية بموضوع ما. ولعل هذا ما يفسر دعوة ألثوسير الدائمة إلى ضرورة إعادة قراءة خطاب ماركس النظري في رأس المال قراءة تشخيصية تستخرج البروليماتيك الكامن فيه والذي يحدد العلم الذي يحتويه ويتضمنه بحث ماركس رأس المال. ومن وظائف ومهام البروليماتيك نجد في البدء إنتاج الموضوع الذي يدرسه أي علم من العلوم، وبالتالي فإن موضوع ماركس ضمن بحثه راس المال منتج من قبل الاشكال النظري الجديد ل رأس المال نفسه (ما هي قيمة قوة العمل)، من هنا نجد إقرار ألثوسير الواضح بأن موضوع رأس المال ليس هو: الرأسمالية ذاتها وإنما هو نمط الإنتاج الرأسمالي، بما هو موضوع معرفي نظري أملاه الاشكال النظري الحاكم للكتاب والموجه له. ولا يتعلق الامر فقط بإنتاج الموضوع وإنما أيضا بتعيين المجال النظري والمفهومي الذي يمكن للمنزويين داخل اطار "البروليماتيك" التفكير ضمن نطاقه المحدود على نحو صارم ودقيق، أضف الى ذلك املاء طبيعة المسائل والقضايا التي ينبغي طرحها داخل هذا المجال، ومناهج البحث التي يجوز اتباعها وكذا طبيعة البراهين والاثباتات والشواهد المسموح باعتمادها، ونوعية الضوابط والقواعد التي ينبغي على البحث العلمي ان يتأسس عليها، ثم املاء معاني الصدق والحقيقة والموضوعية والاستدلال والتجربة والتحقق والدحض والتفنيد إلخ في العلم والبحث العلمي. هذه الرؤية يعبر عنها أيضا ألثوسير في سياق قراءته للتحليل النفسي الفرويدي وجدة موضوعه، فهو يعتبره مثالا جيدا للتدليل على أن موضوع المعرفة العلمية لا يتم الا وفق قطيعة مع كل ماضي هذه المعرفة الأيديولوجي، موضوع فرويد هو موضوع جديد على نحو راديكالي في علاقته بموضوع علم النفس الأيديولوجي، هذا الموضوع هو اللاوعي، ويؤكد في نفس السياق على ان المهمة الأولى لكل نظام علمي جديد إنما تتمثل بالأساس في التفكير في الاختلاف والتميز الخاصين بموضوع جديد وتحديده على نحو حازم عن الموضوع السالف، وكذا بناء مفاهيمه الخاصة التي من خلالها سيتفكر جدة موضوعه . إلا أن سيغموند فرويد نفسه له رأي اخر في هذه القضية التي يثيرها ألثوسير، بحيث نجده يقر في مجمل أبحاثه على أنه لا يعود إليه الفضل في اكتشاف التحليل النفسي-هذا إذا كان ثمة من فضل-، بحيث أن "فرويد" لم يشارك في بداياته الأولى، حينما طبق الطبيب جوزيف بروير منهج التحليل النفسي لعلاج فتاة تعاني من الهيستيريا، وذلك بين أعوام 1880 و1882.
تحيلنا هذه المناقشة الى مفهومين هامين أيضا لدى ألثوسير هما مفهوم: المادة الخام، ومفهوم: الممارسة النظرية. وسنعتمد هنا على ما قدمه ألثوسير في القسم السادس من كتابه: «Pour Marx»، المعنون ب: الجدل المادي (حول تفاوت الأصول)، بحيث يعلن "ألثوسير" ما يلي:
" (...) هذه النقطة حيوية بالنسبة الى المادية الجدلية، ويناقش ماركس مثالا عليها في المقدمة عندما يبين إذا كان لا يمكن لممارسة نظرية علمية الاستغناء عن استعمال المفاهيم العامة-مثل "الإنتاج" و"العمل" و"التبادل" إلخ. - الا ان هذه العمومية الأولى لا تتطابق مع نتاج العمل العلمي: إنها ليست إنجازه، بل شرطه المسبق. وتشكل هذه العمومية الأولى (التي سأسميها العمومية 1) المادة الخام، التي ستعمد الممارسة النظرية العلمية الى تحويلها الى "مفاهيم" معينة، أي إلى عمومية "عيانية" أخرى (سأسميها العمومية 3) التي هي معرفة ما.[21] "
ولكن ما هي هذه المادة الخام، أي العمومية الأولى؟ يجيب ألثوسير في نفس النص معلنا ما يلي: "على عكس الأوهام الأيديولوجية-الأوهام التي ليست "ساذجة" ولا هي مجرد "انحراف"، بل هي ضرورية ومتينة الأساس كإيديولوجيات-التي تغذيها النزعة التجريبية او الحسية، فإن العلم لا يفعل فعله على ما هو موجود الذي تتشكل ماهيته المباشرية من المباشرية الصافية او فردية صافية ("الاحساسات" او "الافراد"). إنه يعمل دائما على شكل "عام" حتى لو كان له شكل "واقعة". يعمل العلم دائما في لحظة بنائه، على مفاهيم موجودة، على تصورات، أي على العمومية الأولية ذات الطبيعة الأيديولوجية. [22]"
لنلاحظ الان ان التساؤل الاشكالي العام الذي يحاول ألثوسير هنا الإجابة عنه هو: كيف تنتج المعرفة العلمية؟ ما تشتغل عليه في البدء المعرفة العلمية هو ما سماه ألثوسير ب: المادة الخام، هذه الأخيرة تمثل مجموعة التصورات والمفاهيم والأفكار الأيديولوجية السائدة قبل علم معين من العلوم (على سبيل المثال: التنجيم قبل كوبرنيكوس)، وهي أيديولوجية لكونها تنتمي الى عالم الواقع، عالم الظاهر، عالم التجربة، عالم الخطأ، ويمكننا ان نقول إنه ولكي يتفادى توظيف المفهوم اللوكاشي: الوعي الزائف نجده يسمي تلك المادة الخام بالعمومية الأولية أو الأولى كما في النص السالف. هذه المادة الخام هي التي تقوم الممارسة النظرية العلمية الى تحويلها الى معرفة ما وذلك من خلال الانتقال الى العمومية الثالثة. بذلك يكون عمل وإنتاج العلم هو تحويل العمومية الأولى الى عمومية ثالثة، أي معرفة .
ولكن إن تساؤلنا عن الدلالة التي يحي اليها حديث ألثوسير عن علم يعلم، فإننا سنجد أنفسنا حيال عمومية أخرى يسميها ألثوسير ب: العمومية الثانية، والتي تتشكل من مجموعة من المفاهيم التي تشكل وحدتها المتناقضة، نوعا ما، نظرية العلم في اللحظة التاريخية موضع البحث "النظرية" التي تعين المجال الذي سيتحتم على مسائل العلم ان تطرح فيه، أي حيث ستطرح الصعوبات التي يواجهها العلم في موضوعه، ومجابهة وقائعه، ونظريته، أو معارفه السابقة ونظريته، أو نظريته ومعارفه الجديدة، على صورة "بروليماتيك" يطرحه هذا المجال في داخله. العمومية الثانية إذن هي الاشكال النظري، وبها ومن خلالها نحصل على التعاليم والأفكار العلمية في العمومية الثالثة، وذلك بواسطة اعمال ذلك "الاشكال النظري" أو "البروليماتيك" في العمومية الأولى، أي في المادة الخام.
يؤكد ألثوسير أنه لا وجود لتماثل ماهوي بين كل من المادة الخام، أي العمومية الأولى، وبين العمومية الثالثة، أي المعرفة العلمية، وإنما هناك تحول حقيقي يرفعه الى درجة المفهوم الباشلاري القطيعة الابستيمولوجية. أما الجهد الذي من خلاله تتحول العمومية الأولى الى العمومية الثالثة فهو جهد نظري معرفي خالص، أي انه يحدث داخل المعرفة ويتضمن فقط عملية الممارسة النظرية[23]. إذن المادة الخام (العمومية الأولى) التي قام ماركس بتحويلها الى علم هي المصادر الثلاث التي أوضحها لينين في بحثه الشهير المومأ إليه انفا، هذه المصادر لا يوجد فيها ما هو معرفي بتاتا !!، فقط توجد الإيديولوجية التجريبية الاختبارية المدانة بنيانيا من قبل ألثوسير، أما اللحظة التي تحولت فيها هذه المادة الخام (العمومية الأولى) الى معرفة (عمومية ثالثة) هي لحظة اكتشاف الاشكال النظري من قبل "ماركس العبقري!" وتطبيقه على المادة الخام ليتسنى له انتاج معرفة، أي اللحظة التي طرح فيها "الاشكال النظري" (العمومية الثانية)، _الذي يملي الموضوع، أي نمط الإنتاج الرأسمالي (وليس الرأسمالية)، لنلاحظ هنا أنه لا استقلالية تذكر، ولو نسبية، للموضوع عن الاشكال النظري، بل حتى الموضوع ليس موضوعا، أي أن لا وجود موضوعي ومستقل له. _ التالي: ماهي قيمة قوة العمل؟. العلم المنتج من قبل هذه العملية يحدث قطيعة ابيستيمولوجية مع المادة الخام، أي أن ماركس قد قطع على نحو مطلق مع كل المصادر التي قرأها على نحو علمي، ونعني هنا: الاقتصاد السياسي الإنجليزي، الفلسفة الألمانية ممثلة في كل من الجدل الهيجلي ومادية فيورباخ، والاشتراكية الطوباوية الفرنسية. وكان من المفروض أن هذه الأمور جميعا جرت في ميدان الفكر الخالص[24] .
ينبغي علينا ان نتوقف قليلا عند القولة التالية التي أعلن فيها ألثوسير ان ماركس قد قدم نموذجا لمثل هذا التعارض القائم بين الإنتاج العلمي ومادته الخام، أي بين العمومية الأولى والعمومية الثالثة. يبدوا ان هذه القولة تنطلق من تعريف ماركس الوارد في رأس المال للعمل الإنتاجي، بحيث نجد ماركس يلخص معنى العمل الإنتاجي على الطريقة التالية: قيام قوة عمل محددة بإعمال أدوات ووسائل معينة في مادة خام معطاة مسبقا بما يحول هذه الأخيرة الى منتوج نهائي ذي طبيعة محددة أيضا. تكمن اللحظة الحاسمة هنا في لحظة اعمال الأدوات والوسائل في المادة الخام. لواضح الان ان تعريف الثوسير لإنتاج المعرفة العلمية هو في الواقع نتيجة لتعميم هذا التصور الماركسي الدقيق للإنتاج السلعي والصناعي، مع ضرورة التأكيد على ان هذا التعميم سطحي الى ابعد الحدود. خاصة إذا اخذنا بعين الاعتبار ان الثوسير قد عمم هذا المفهوم وطبقه على كل أنواع الإنتاج بجعله النموذج الارقى لأنواع الإنتاج كلها بما فيه انتاج المعرفة والادب والفنون الجميلة كما يسقطه أيضا على الممارسات المعرفية وغير المعرفية للمجتمعات التاريخية الماضية جميعا.
المختار منودي
[1] : Louis Althusser et Etienne Balibar : Lire le capital (première partie), p : 11.
[2] : Ibid. p : 12.
[3] : Ibid. p : 13.
[4] : Ibid. p : 17.
[5] : Ibid. : p : 18.
[6] : Voir les textes de «Marx» dans la première partie de «Lire le capital» p : 19.
[7] : Ibid. p : 20.
[8] : Maria-Antonietta Macciochi, Pour Gramsci, Editions du Seuil, p : 56.
[9] : Louis Althusser et Etienne Balibar : Lire le capital (première partie), p : 153.
[10] : Louis Althusser et Etienne Balibar : Lire le capital (première partie), p : 154.
[11] : كارل ماركس، الثامن عشر من برومير لويس بونابارت، ضمن ماركس وإنجلز، الأعمال، المجلد 8، برلين 1960، ص115.
[12] : Louis Althusser et Etienne Balibar : Lire le capital (première partie), p : 155.
[13] : Ibid.
[14] : Ibid. p :156.
[15] : Ibid. p : 161.
[16] : Ibid. p : 162.
[17] : Louis Althusser et Etienne Balibar. Lire Le Capital (première partie). P : 89.
[18] : Ibid. p : 92.
[19] : Ibid. p : 97.
[20] : Ibid. p : 99.
[21]: لوي ألتوسير، دفاعا عن ماركس، القسم السادس، -المترجم-. عن قراءات في المادية الجدلية، تحرير: قيس الشامي، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، ص 49.
[22] : نفس المرجع السابق.
[23] : في بحثه «Lire le capital» يعلن "ألثوسير" ما يلي: الموضوعة المادية المتعلقة بنوعية التفكير وعمليات التفكير في علاقتها بالواقع وعمليات الواقع. هذه الموضوعة تحدد على نحو خاص موضوع تفكير "ماركس" في الفصل الثالث من كتابه: اسهام في نقد الاقتصاد السياسي. التفكير في الواقع، وتصوره، وكل عمليات التفكير التي من خلالها يتفكر الواقع ويدرك، تنتمي الى مجال الفكر الخاص، الى عنصر الفكر، والذي لا يمكننا خلطه بمجال الواقع وعنصره.
Voir : Louis Althusser et Etienne Balibar, Lire Le Capital (première partie), p : 106.
[24] : Alles dies soll sich im reinen Gedanken zugetragen haben. Die Deutsche Ideologie, Kritik der neuesten deutschen Philosophie, in ihren Repräsentanten Feuerbach, B. Bauer und Stirner, und des deutschen Sozialismus in seinen verschiedenen Propheten. P : 6.