يمثل الشريط* حوارا فلسفيا يتمحور حول مفهوم الهوية. ويتميز الفكر الفلسفي عموما بكونه فكرا حواريا ينفتح على الأخر الشبيه أو المختلف، الذي يقاسمنا أفكارنا أو المختلف المعارض. كما أن الحوار الفلسفي لا يهدف إلى نقل معلومات جاهزة أو تكرار أفكار متداولة أو إصدار أحكام مجانية وبدون سند نظري بل يتوخى إعادة النظر في مصادر تلك الأفكار وشروط تشكلها ويقصد النظر في بنية العقل الحامل لها وفي أبعادها ودلالاتها. لذلك يشترط في الحوار الفلسفي أن يكون تفاعلا نفسيا وفكريا وأخلاقيا وان تحكمه ضوابط فكرية منها التهيؤ الفكري للحوار والإلمام بموضوع الحوار ومجالاته والاهم من ذلك الالتزام بالأخلاق الفكرية من حسن إصغاء للآخر واحترام لموقفه ومن التزام بآداب الاعتراض. ولعل المشاهد للحوار المعروض يستشعر ويرى ويدرك قيمة الجهد المبذول من طرفي الحوار، المتحاور(اليزماغو Elise Marrou) والمحاور(رفائيل انتهوفن Raphael Enthoven)* بالخصوص الذي حرص على خلق فضاء يتلاءم وموضوع الحوار ويتجلى ذلك الجهد في إلمامه بأفكار محاوره وطروحاته وكذا إعداده لمختلف السندات والوسائط الممكن توظيفها قصد تعميق الحوار وتفعيله ، ويظهر ذلك العتاد من خلال الانطلاق من الحياة اليومية، وفي المتن الفلسفي الذي يتم استحضاره، وفي اللوحات الفنية والأشرطة الموظفة... مما أضفى على الحوار عناصر الإثارة والتشويق ونأى به عن التكرار والابتذال والسطحية والمشادات الصبيانية التي تعج بها البرامج الحوارية في القنوات العربية.
الحقيقة أننا نتغير باستمرار ويشكل التغير جوهر هويتنا، يصيب أبنية أجسادنا وصورتها وشكلها ويطال بنى أحاسيسنا ومشاعرنا ويعيد صياغة منظوراتنا وأفاق أوهامنا وأحلامنا أو بلغة هايدغر(1976-1889) يطال علاقتنا بالعالم. وبالتالي فان كل محاولة للامساك بالذات وبالهوية الشخصية توقع تلك الذات في مآزق انطولوجية وميتافيزيقية، وتجسد أسطورة اونارسيس تلك العلاقة بوضوح، حيث يحاول اونارسيس أن يوقف الصيرورة والزمن ويتماهى مع تلك الذات العميقة والحقيقية والفناء في تلك الهوية وتأبيدها. يمثل هم انتشال الهوية الشخصية من كل ما يهددها سواء من داخل الذات من نزوعات بهيمية وانفعالات ورغبات جشعة أو من مصادر التزييف التي تخترقها من خارج الذات من المحيط والمجتمع ومن مختلف منابر الضبط والتوجيه والرقابة هما أرق الفلاسفة خاصة، ويجسد فيلم "المدينة المظلمة" dark city" ذلك بوضوح، وهو فيلم استرالي لمخرجه "الكس بروياس"Alex proyas" يحكي الفيلم قصة شخص يستيقظ فجأة ليلا ليجد نفسه قد فقد ذاكرته وليكتشف وحده حقيقة الوهم والخداع الذي يتخبط وسطه ساكنة المدينة والتي يمكن تشبيهها بلعبة الأقنعة حيث يتم تبادل الأدوار وان ثمة وراء ذلك السيرك أيادي خفية تتحكم في مصير الساكنة وقدرهم بحيث يبيت الواحد منهم فقيرا ويصبح غنيا ولا احد يدرك كيف تم ذلك ومتى حصل، أو يفطن للكيفيات التي يتم بواسطتها مسخ الذاكرة ومحوها وتزييف للتاريخ والحقيقة وطمس لمعالم الهوية. ووحده جون مردوك بطل الفيلم الفاقد للذاكرة سيتمكن من فك لغز التزييف الممارس من خلال إعادة بناء للهوية والذاكرة بتعقب بصماتها وأثارها وإعادة بناء علاقتها بالزمن. لقد سبق للفيلسوف الانجليزي جون لوك(1632-1704) أن ربط الهوية الشخصية بالوعي بالذات المقترن بالذاكرة، إلا أن هذه الأخيرة لا تكفي لتحديد الهوية بحكم أسباب القصور التي تصيب الذاكرة من تحريف ونسيان أو نتيجة المرض كفقدان الذاكرة بسبب الإصابة في الدماغ.
يتبين مما سلف أن سؤال الهوية يظل راهنيا ويحمل خلفه إرثا تاريخيا وثقافيا ويشكل عبئا فلسفيا لا يزال يجثم على كل ناظر ينشد الحقيقة منذ ان دفع سقراط ضريبة تقفي اثر تلك الهوية بقوله "يا أيها الإنسان اعرف نفسك بنفسك" والفكر الفلسفي ما يفتآ يعيد مساءلة تلك الهوية خاصة في ظل التحولات الاجتماعية والسياسية التي نعرفها اليوم وما يشهده عالمنا العربي من تصاعد لمختلف النعرات الطائفية والمذهبية والعصبيات العرقية والقبلية والدموية. وحده الوعي النقدي المسلح بالوعي التاريخي كفيل بإعادة بناء للهوية الشخصية فردية كانت أو جماعية او حضارية أو إنسانية.
*انظرالحوارالفلسفي الذي حاولنا نقل مضمونه بتصرف على الرابط: www.arte.tv/fr/2235076,CmC=2544276.html
*يعتبر رفائيل انتهوفن احد منشطي القناة الفرنسية الألمانية arte حيث يسهر على إعداد البرنامج الحواري" فلسفة" الذي يعنى بتناول القضايا والمفاهيم الفلسفية الراهنة، والحلقة التي حاولنا الاقتراب منها مخصصة لمفهوم الهويةidentité " أما محاورته في هذه الحلقة فهي اليز ماغو فيلسوفة فرنسية مبرزة في الفلسفة وتهتم بفلسفة اللغة وبالفيلسوف النمساوي فتجنشطاين.