تعتبر مسالة منهجية الدرس الفلسفي إحدى أهم القضايا المثيرة للجدل في السلك الثانوي التأهيلي ويتجسد ذلك في التحولات المتعددة التي عرفها هذا الدرس سواء من حيث الممارسون والمشرفون عليه أو من حيث المحتوى وكذا من حيث المنهجية .وظل سؤال الأسلوب التعليمي الفلسفي مطروحا بالرغم من المجهودات و الإجتهادات التي تبلورت لتطوير منهجية تدريس مادة الفلسفة . ولقد اتخذت هذه الجهود المبذولة مستويين أساسيين هما : مستوى النظر الديداكتيكي ومستوى الممارسة والإنجاز الفعلي.
كيف ندرس هذا الدرس أو ذاك ؟كيف ننجز درس الفلسفة بواسطة النصوص؟هل هناك درس فلسفي ناجح ؟ما هو الأسلوب الكفيل لجعل الدرس الفلسفي فلسفيا....؟
بهذه الصيغ وما يماثلها يطرح سؤال ميتودولوجية درس الفلسفة ،وهو يعكس عدم بلوغ هذا الدرس مستوى المنهجية التي يتطلع إليها .كما يعكس حاجته إلى المزيد من البحت النظري والتربوي [بيداغوجيا و ديداكتيكيا]من أجل صياغة أسلوب تعليمي للفلسفة يطابق روح الفلسفة ومنطقها التفكيري ،بهدف تحرير الدرس الفلسفي ؛من استراتيجية التعلم والتكوين في صورته المنمطة ،وهدم التصور الدوغمائي المنغلق ،الذي يجعل من الدرس الفلسفي حرفة حرفي أو تقنية نمطية من التقنيات .وقصد تحقيق هذا المستوى المنشود ،اتجه أهل التخصص إلى التدريس بنصوص الفلاسفة تقريبا للغتهم وفكرهم وروحهم الفلسفية مراعاة أو تماشيا مع منطق الفلسفة الذي يقوم على الأشكلة والمفهمة والمحاجة ،كدعامات ديداكتيكية يجب احترامها ،إذ لا يستقيم الدرس الفلسفي إلا بها .خصوصا ونحن نراهن على كفايات يجب أن نحققها معية التلميذ من أجل الدخول في البرنامج من جهة ،ومعالجة الكتابة الانشائية الفلسفية تحضيرا للامتحان من جهة ثانية ،و تعليم التلميذ أدوات فعل التفلسف من جهة ثالثة.
بناء على ما سبق نطرح التساؤلات التالية :ما هي المنهجية التي يجب اتباعها من قبل مدرس الفلسفة من أجل إنجاح الدرس الفلسفي وبالتالي تحقيق الكفايات المتوخاة مع التلميذ؟إلى أي حد يصح القول بوجود منهجية نموذجية خاصة بتدريس الفلسفة؟و كيف يُمَكِّنُ التدريس بالنص من الانفتاح على تاريخ الفلسفة من لدن المدرس والتلميذ ؟وما هي أدوار مختلف الفاعلين في بناء الدرس في الفلسفة؟
إن معالجتنا لهذه الإشكالات وغيرها ،يقتضي منا التأكيد على أن الفلسفة تختلف عن باقي المواد المدرسة الاخرى .أي أن لها خصوصية تنفرد بها ومن ثم صعوبة تدريسها ،إلى جانب محاولة التأكيد على راهنيتها. تتدخل في بناء الدرس الفلسفي مكونات مباشرة و اخرى غير مباشرة ،تؤثر في العملية التعليمية التعلمية ،ومن ضمن هذه المكونات نذكر هذا الثالوث الأساسي : المدرس وتاريخ الفلسفة و التلميذ .
يؤكد ارسطو مند القديم أن الفلسفة تتميز بقابليتها للتدريس أي لا يمكن الفصل بين الفلسفة و تدريسها. إن تاريخ الفلسفة يعكس لنا أنه لا ثبات في المعرفة والعلوم بل هناك سيرورة من الهدم والبناء ،من التراكم والتجاوز أي أنها ليست جاهزة أو هبة تمنح و تعطى .فالفلسفة مشروع منفتح على الأسئلة الوجودية للإنسان وليست كباقي المعارف والمهن الحرفية أو التقنيات التي تلقن وتكتسب بطرقة مباشرة.
السؤال الذي يبدو مشروعا هنا اذن هو : هل ما يقوم به المدرس أمام تلامذته يعكس روح تاريخ الفلسفة بالمعنى الذي أشارنا إليه سابقا أم إن ما يقوم به درس في الفلسفة ،يتم الإقتصار فيه فقط على توظيف الفلسفة وتاريخها في لحظة ما تستوجب ذلك؟
إن هذا السؤال يضعنا أمام عبارتين تحملان نفس الكلمات لكن بمضمون مختلف هما : درس في الفلسفة وتدريس الفلسفة. كما يحاول أن يثير مسالة أساسية ،تتمثل في القدرة على التوظيف الجيد لتاريخ الفلسفة في الدرس الفلسفي وهذه مسألة مرتبطة بالمدرس وبطبيعة التكوين الذي تلقاه أولا ثم المنهاج الدراسي والكتاب المدرسي ثانيا...إلى جانب معطيات اخرى.هنا بالضبط تأتي إشكالية ميتودولوجية أو منهجية تدريس الفلسفة ،وهنا مكمن الصعوبة.فعندما نقول درس الفلسفة أو منهجية تدريسها نشير إلى الحقل المدرسي كحقل لا يمكن فصلة عن الطابع المؤسساتي ـ المؤسسةـ حيث الحديث عن المكان والزمان والمقرر الدراسي والتقويم ...كما نشير إلى وضع تاريخ الفلسفة في قالب ديداكتيكي بوسائل بيداغوجية بمعنى تحويله إلى مادة تعليمية كباقي المواد الاخرى. الأمر الذي سيجرد الدرس الفلسفي من خصوصيته.
نحن إذن أمام اختيارين إما أن يكون الدرس الفلسفي متميزا أو يكون مادة مقررة كباقي المواد المدرسة الاخرى. هنا نؤكد أنه يمكن الجمع بين هذين الاختيارين أي امكانية التميز داخل الوحدة انطلاقا من جعل الدرس الفلسفي منفتحا على مضمون الواقع الانساني ،الاجتماعي والنفسي والتاريخي و على العلوم الإنسانية ؛التي بالرغم من استقلاليتها تظل محكومة في دراساتها ومقارباتها للإنسان بنظرة فلسفية معينة .وهذا ان دل على شيء فإنما يدل على أن الدرس الفلسفي متميز ومحتفظ بخصوصيته سواء على مستوى الممارسة أو على مستوى المضمون .
إن تدريس مادة الفلسفة رهين ؛أولا وقبل كل شيء بالقابلية على ذالك من قبل المدرس كفاعل مباشر داخل الفصل مع التلميذ. فأي نوع من التكوين تلقاه هذا المدرس؟وهل يدرس الفلسفة بالإكتساب أم بالفطرة؟إن هذا السؤال يفتح أفق البحت عن طبيعة التكوين الذي يتلقاه المدرس ،في الجامعة وكيف يتم تتويجه في مراكز التكوين بعناصره المتداخلة من مناهج ومقررات ومؤسسات التكوين و خلايا التكوين...
في خضم هذا الحديث سيتولد إحراج اخر ،نصوغه في التساؤل التالي:هل ندرس اليات التفلسف للتلميذ انطلاقا من النصوص الفلسفية أم نهيء تلميذا سيجتاز الإمتحان الوطني أو المراقبة المستمرة كتقويم للمحطات التعليمية التعلمية؟،وبالتالي ماذا سيرافق هذا التلميذ بعد الإمتحان؟نحن إذن أمام مفارقة :إما أن ندرس الفلسفة وتاريخها من خلال مواقف الحيرة والدهشة والتساؤل الفلسفي ،أم ندرس تقنيات شكلية تضيق الخناق على سعة ورحابة التفكير الفلسفي من قبيل التأطير الإشكالي والتحليل والمناقشة؟
و من بين العناصر التي تتدخل في بناء الدرس الفلسفي كذلك ؛والتي تشكل صلب الفلسفة ؛يأتي تاريخ الفلسفة .باعتباره قاعدة أساسية لازمة للبحث الفلسفي،وهو موجه للتلميذ أو الطالب للتعلم أولا وللامتحان ثانيا. لذلك سيكون من الضروري على المدرس أن يحسن التعامل مع المضامين الفلسفية حتى يجد فيها التلميذ ذاته المفكرة و الفضولية والقدرة على الإنخراط في تاريخ الفلسفة و على فعل التفلسف.
على المدرس إذن في تعامله مع المضامين الفلسفية أشكلة ومفهمة ومحاجة ،أن يوفر للمتعلم إمكانية طرح مجموعة من المشكلات من خلال تجربة الوعي بالذات والحوار والمناقشة وصراع الحقائق أي أن يعكس له الصورة الحيوية لتاريخ الفلسفة خصوصا وللفكر الإنساني عموما .وهذا ما يعبر عنه ياسبرز في كتابه المدخل إلى الفلسفة قائلا"إن تاريخ الفلسفة في مجموعه،الممتد على الفيتين و نصف،مثل اللحظة الفريدة و العظيمة،حيث حصل الإنسان على الوعي بذاته. وهذه اللحظة هي كذلك عبارة عن نقاش لا ينقطع،تتظاهر عبره القوى المتصارعة،و المشاكل التي تبدو غير قابلة للحل،وأسمى الإبداعات والضلالات ،الحقيقة وزوبعة الأخطاء"
يشكل تاريخ الفلسفة إذن عنصرا أساسيا في الدرس و التكوين الفلسفيين للمتعلم ،سواء تعلق الأمر بتحصيل المعارف و مراكمتها أو بدخول مغامرة التفلسف . فلا محيد لكل درس فلسفي عن تاريخ الفلسفة ،هذا الأخير الذي يقود الفكر إلى إدراك الأفكار الفلسفية ،من خلال الوقوف على المحطات الكبرى لهذه الأفكار ،من حيث تطورها وتعاقبها بمختلف مذاهبها ،كما يقوده في نفس الوقت إلى الإعتراف بنسبية الحقيقة. يعبر الإبستمولوجي المغربي محمد وقيدي عن ذلك قائلا"لا غنى لكل تكوين فلسفي عن تاريخ الفلسفة ،فهذا التاريخ وحده يقود الفكر نحو إدراك الأفكار الفلسفية في تعاقبها"
هنا يأتي الحديث عن الطرف الثالث في تدريس مادة الفلسفة ،يتعلق الأمر هنا بالتلميذ الذي تعتبره البيداغوجيات المعاصرة أساس وصلب كل عملية تعليمية تعلمية . فالتلميذ هو المعني بتاريخ الفلسفة و هو الذي ينبغي على الأستاذ إرشاده إلى نسج حوار مع الفيلسوف من خلال إنتاجاته المتمثلة في النصوص التي يختارها الأستاذ وفقا لما يراه مناسبا في مقاربة الإشكالات الفلسفية وما يحقق الكفايات المتوخاة مراعاة لنظام المجزوءات . إذن كيف سينجح الأستاذ في تحقيق تفاعل عمودي و أفقي فعال ليلقي بالتلميذ في غمار تاريخ الفلسفة؟أو على الأقل كيف للأستاذ أن يقنع تلميذ الآن ،المنبهر بالتقدم التقني والذي يتسابق مع زملائه في امتلاك أذكى الهواتف والتقاط أجمل الصور ومشاهدة اخر الفيديوهات ... بأهمية الفلسفة كتصورات و أطروحات ومذاهب فكرية ،في نظر التلميذ ،انتهت وزالت وحتى إن لم تنتهي فهي ليست إلا شركا و إلحادا وثرثرة؟هل يستطيع الأستاذ أن ينتصر على وسائل التواصل الإجتماعي التي شغلت بال التلميذ ويجلبه إلى الحقل المعرفي للفلسفة و للنقاش الحر وتبادل الأفكار وكل ما من شأنه أن يحرره من الأحكام المسبقة ويبني وعيا حرا و مسؤولا ...؟
أسئلة كثيرة يمكن طرحها في هذا السياق ،حتى نبين أن مهمة أستاذ مادة الفلسفة و أي مادة بوجه عام ليست سهلة. تتمثل الصعوبة كما قلنا ،في التداخل البنيوي بين مكونات العملية التعليمية التعلمية . فالأستاذ عليه أن ينجز المقرر وأن يدرس الفلسفة ويقوم بالتقويم. وهذه كلها مهام كل منها يتطلب متخصصا قائما بذاته ،بينما في الوقع نجد الأستاذ يقوم بها كلها بمفرده.
يعتبر الأستاذ بمثابة وسيط بين التلميذ وبين تاريخ الفلسفة ،نصا كان أو موقفا أو سؤلا إشكاليا .وهو بذلك يحاول تقليص الهوة بين الفيلسوف والتلميذ ،انطلاقا من إكساب التلميذ اليات التفلسف و ثقافة فلسفية. تلعب النصوص لتحقيق هذا الغرض دورا أساسيا ،حيت بها يتمرن التلميذ على ترويض الذهن على عملية التفكير المنطقي في القضايا ،خصوصا أن التلميذ ليس مطالبا بالإستظهار الحرفي للمواقف الفلسفية ،بل هو مطالب باستيعابها موازاة مع ضبط كيفية انبنائها وتنظيمها.هنا نستحضر إشكال آخر متعلق بمدى قدرة الأستاذ بإقناع التلميذ بتعدد الأطروحات والتصورات الفلسفية واختلافها .فإذا كان الأستاذ مهيأ معرفيا و نفسيا لتقبل الإختلاف ،فإن الأمر غير ذلك بالنسبة للتلميذ ،وهو ما سيضعه ؛خصوصا إذا لم يتحقق الفهم ؛أمام حيرة من الموقف الذي سيختاره من تلك المواقف والذي سينهجه للنجاح في الدراسة أو في الحياة. لا ينبغي أن ننسى أن التلميذ هنا لا يزال حسيا ويربط الحقيقة بالواقع. بمعنى يجب على الفلسفة أن تحقق للتلميذ غايته العليا ؛المتجسدة في النجاح. فالتصور الفلسفي بهذا المعنى مجرد وسيلة ،بالنسبة للتلميذ ؛ليجتاز الإمتحان ويحصل على نقطة جيدة. فكيف يستطيع المدرس أن يقنع التلميذ بأن الأمر غير ذلك؟أي أن الإختلاف ليس سلبيا في تاريخ الفلسفة والفكر الإنساني بوجه عام ،و بأن الدرس الفلسفي ليس الهدفه منه اجتياز الامتحان فقط ،كما أنه ليس منعزلا عن الواقع. هذا إلى جانب أنه لا يدرس بمنطق صحيح أو خطأ أو هذه أطروحة غير صالحة وهده أطروحة صالحة؟
يبدو دور الأستاذ هنا مركب لأنه مطالب بأن يرافق و يرشد التلميذ في اكتساب مهارات معقدة تتأرجح بين التفكيك والتركيب ،توظف فيها عمليات من قبيل الفهم والتحليل و المناقشة و المقارنة و النقد...كقدرات مستعرضة تتقاسمها مادة الفلسفة مع بعض المواد الأخرى كالعربية والتاريخ .
إن ما نود أن نؤكد عليه ختاما في هذا المقال هو أن الدرس الفلسفي ليس كباقي الدروس في المواد الأخرى أدبية كانت أو علمية ،إنه درس منبثق من الفلسفة ذاتها ويمَارَس بالفلسفة ويحقق غاياته بها و بأساليبها.وهذا ما يجعل الفصل بين الفلسفة وتدريسها أمرا صعبا إن لم نقل مستحيلا.وعن هذا التميز الذي تنفرد به الفلسفة والذي في نفس الوقت يطرح صعوبة تدريسها ،نستحضر قولة الفيلسوف اليوناني أرسطو حينما قال"فكما أننا نسمي حرا ذلك الذي هو غاية لذاته ولا يوجد من أجل غيره كذلك هذا العلم [الفلسفة]هو الوحيد من بين كل العلوم الذي يتميز بكونه نظام حر ،ما دام وحده الذي هو غاية ذاته"
ينطوي تدريس مادة الفلسفة في السلك الثانوي التأهيلي إذن ،على مشكلتين أساسيتين :الأولى فلسفية تتصل بالخوف من التصورات المغلوطة عن تاريخ الفلسفة واستعمالاته المغرضة.أما المشكل الثاني : فهو بيداغوجي يتصل باختيارات التدريس ووضوح أو غموض تلك الاختيارات سواء المرتبطة بالبرنامج أو المنهجية أو التقويم بكل صيغه .
المراجع المعتمدة :
ضرورة الفلسفة ترجمة عزيز لزرق .الطبعة الأولى.2000.منشورات اختلاف.
درس الفلسفة. ترجمة عز الدين الخطابي و إدريس كثير.منشورات مجلة "فلسفة"الطبعة الأولى .1998
التوجيهات التربوية لمادة الفلسفة 2007
محمد وقيدي "التكوين الفلسفي وتاريخ الفلسفة"مقال منشور بجريدة الشرق الاوسط.
كارل ياسبرز"المدخل إلى الفلسفة"
الطاهر وعزيز"تاريخ الفلسفة منهاجه وقضاياه"الرباط 1991.
ارسطو"الميتافيزيقا"نقلا عن مجلة فكر ونقد .العدد 48 .تدريس الفلسفة رهانات وقضايا .