يُعلِّق بعض النقاد على أدب نجيب محفوظ بأن لغته سهلة وبسيطة وربما غير أدبية، تُشبه في أحيان كثيرة لغة الصحافة ولغة الشارع العادية، بعيدة عن المجاز والتراكيب اللغوية، وهو ما يُميّز كتابة الأدب والرواية، يرى الناقد الأدبي رجاء النقاش(1) أن هذا النقد لم يجانب الصواب كثيرا، فلغة نجيب محفوظ بالفعل سهلة وتكاد تكون مفرطة في البساطة، إلا أن هذا -بحسب رجاء النقاش- إحدى نقاط قوة أدب نجيب محفوظ وليس نقاط ضعفه، فنجيب كتب بلغة الناس التي يحكي عنهم، أدب نجيب محفوظ هو حكايات المصريين في حياتهم اليومية العادية، وحكاياتهم في أحداثهم التاريخية الكبرى في الثورات والانقلابات، في المخابئ تحت قذائف الغارات الجوية، وخلال حركات التأميم وحملات التطهير، كل هذا موجود في أدب نجيب محفوظ.
ويتشارك عدد من النقاد مع رجاء النقاش في أن نجيب محفوظ ليس أديب مصر الأول فقط، لكنه بالقدر نفسه مؤرخها الأول(2)، استطاع نجيب محفوظ نقل تاريخ مصر من أسفل، تاريخ الناس لا تاريخ الصراع السياسي فحسب، تاريخها الواسع -بتعبير رضوى عاشور-، كيف عاش المصريون في مصر الحديثة، كيف تشكّلت حياتهم داخلها، وكيف تحوَّلت بتحوُّلاتها.
إحدى الروايات الرئيسية التي يتقاطع فيها التاريخ ومنعطفاته الجذرية مع واقع وحياة المصريين هي رواية "السمان والخريف"، التي تتجسّد فيها عبقرية نجيب محفوظ في رصد المنعطف التاريخي الجذري مع الحكاية الفردية والمأساة الخاصة، في "السمان والخريف" يتساءل نجيب محفوظ وسط الأحداث التاريخية الكبرى عن طبيعة الحياة بلا أمل، الحياة بعد هزيمة جذرية، وعن إشكالية الانتماء لوطن تحوَّل عنا إلى غيرنا، والتاريخ الذي في كل مرة يسخر من أبطاله وضحاياه بلا توقف.
حريق القاهرة.. عالمٌ يتداعى
عيسى الدباغ، سياسي شاب، ناجح ومشهود له بالذكاء والنبوغ والمستقبل المشرق، يستيقظ كل يوم شعلة من حماس، مختالا بوعد الحياة. يظهر لنا في لحظة شديدة الخصوصية، فزعيمه وزعيم حزب الوفد مصطفى النحاس باشا قد ألغى لتوِّه المعاهدة التي وقّعتها حكومة الوفد مع الإنجليز عام 1936 قبل الحرب العالمية، ألغاها النحاس من طرف واحد وبذلك عاد الوجود البريطاني مرة أخرى وجودا غير شرعي، وعلى إثر ذلك اشتعلت المواجهات في طول مدن القناة بين المصريين وبين الجيش الإنجليزي، ووصلت ذروتها بقيام الجيش الإنجليزي بارتكاب مذبحة كبيرة في صفوف الشرطة المصرية في الإسماعيلية أدّت إلى مقتل عشرات الضباط.
وصلت أخبار هذه المذبحة صباح وصول عيسى إلى القاهرة عائدا من مهمته في مدن القناة، لتنفجر القاهرة بالغضب والثورة، اندفعت جموع من المصريين في مظاهرات قادتها الشرطة نفسها أول اليوم ثم انسحبت وأضربت عن العمل، حرقت المظاهرات في بادئ الأمر الهيئات والمصالح الأجنبية، ثم تطور الأمر لتحرق كل شيء تقريبا، أصبحت المظاهرات كرة اللهب تحرق كل ما تجده في طريقها، "انفجر مكنون اللا وعي كالبركان. صراخ جنوني كالعواء. انقضاض على أي قائم بين الجانبين. بترول يُراق. حرائق تشتعل. أبواب تُحطَّم. بضائع تتناثر. تيارات تندفع كالأمواج المتلاطمة. الجنون نفسه بلا رقيب. ها هي القاهرة تثور ولكنها تثور على نفسها. إنها تصب على ذاتها ما تود أن تصبه على عدوها.. إنها تنتحر".
كان حزب الوفد حينها في السلطة، شعر عيسى بالخطر، لا على القاهرة أو البلد، ولكن على مستقبله، "ثمة خطر يتهدّد صميم حياتنا. يتهدّدنا نحن لا الإنجليز. يتهدّد القاهرة والمعركة القائمة في القنال والحكومة، يتهدّده هو باعتباره جزءا من هذه الحكومة. هذا الطوفان سيقتلع الحكومة والحزب وشخصه في النهاية"، بالفعل قام الملك بحل البرلمان، وإقالة الوزارة الوفدية، وتعيين حكومة أقليات، وإعلان الأحكام العرفية، الأمر الذي زاد من سخط الشارع على الملك والأحزاب وحتى الوفد العاجز أمام استبداد الملك، في الوقت الذي يرى فيه عيسى الدباغ وزملاؤه في الحزب أنهم الحكام الشرعيون، "من العجيب أننا لا نكاد نستقر في الحكم عاما، حتى يقذف بنا خارجه أربعا، ونحن الحكام الشرعيون ولا حكام شرعيون غيرنا في البلد".
استغل عيسى الدباغ فترة ما بعد الإقالة وقرر الاهتمام بشؤونه الخاصة، وقرر الشروع في الزواج بسليلة إحدى العائلات الأرستقراطية المقربة من الملك، طمعا في مزيد من الترقي الطبقي والاجتماعي والسياسي، وتمت الخطبة بحضور رجال السراي الملكي ورجال الوفد، وبنى عيسى الدباغ في خياله صورة مشرقة ساطعة عن المستقبل الذي ينتظره وقد اقترب من القصر الملكي، وهو عضو أيضا في حزب الوفد، فرسي الرهان في النظام السياسي القائم، حتى أفاق هو وجميع أقرانه في الوفد والقصر على بيان ضباط شبان غاضبين يعلنون الانقلاب على الملك والوفد والنظام القائم كله.
في الفصول الأولى من الرواية كان عيسى يجتمع بابن عمه حسن وتدور بينهما العديد من النقاشات السياسية، كان حسن ذا مزاج راديكالي غاضب من استبداد الملك، والإقطاع، والاستعمار البريطاني، وكان يعيب دائما على عيسى تردد الوفد وتردد زعيمه مصطفى النحاس عن الإطاحة بالملك، ومحاولتهم الحثيثة الحفاظ على النظام وإصلاحه من الداخل، حتى بعد حريق القاهرة وظهور حجم الفساد والعفن المتجذر في هذا النظام، "إن كل شيء ينهار بسرعة، ومن الخير أن ندعه ينهار، هذا القديم كله يجب أن يُجتث من جذوره.. يجب أن يذهب الأحزاب والملك والإنجليز وأن نبدأ من جديد"، لكن عيسى كان يرد بنبرة إصلاحية: "دعوة هدم خطيرة، لولا الخونة لأوقفنا الملك عند حدوده الدستورية وحققنا الاستقلال".
بحسب المؤرخ طارق البشري، فإنه بإلغاء المعاهدة وتغوُّل استبداد الملك على الدستور والبرلمان ودخول المصريين مواجهة مسلحة مع الوجود الاستعماري البريطاني يكون النظام السياسي الذي أُسِّس بعد ثورة 19 قد انتهى سياسيا، إذ خرجت المظاهرات الشعبية لتحاصر قصر الملك أكثر من مرة في الأعوام التي تلت إلغاء المعاهدة، وكانت وزارة الداخلية في مدن القناة تقوم بالتنسيق مع الخلايا المسلحة للتنظيمات السياسية وتحت غطاء رسمي من الحكومة الوفدية في مواجهة مسلحة مع الجيش الإنجليزي.
وباندلاع مظاهرات حريق القاهرة أصبحت مصر بلا أي سلطة فعلية، وباتت السلطة ملقاة في الشوارع عمليا وتنتظر مَن يلتقطها، الأمر الذي تعزّز أكثر مع دخول الملك في حالة عالية من التخبط والارتباك، فبعد إقالة حكومة الوفد في أعقاب الانهيار الأمني الذي حدث في حريق القاهرة حاول أن ينقذ ما يمكن إنقاذه ويسلّم الحكومة لأحزاب موالية له، لكن لأن الفشل الأمنى الحادث كان مصدره فشلا سياسيا في واقع الأمر -كما يوضح البشري- فلم تستطع أي حكومة من الوزارات الأربعة التي شُكِّلت خلال العام الأخير للملكية من استعادة النظام الذي كان قد مات إكلينيكيا بالفعل.
هنا، كان حسن يحث عيسى على أن الحل الوحيد هو الثورة، وأن هذا النظام قد انتهى وفي انتظار فقط رصاصة الرحمة، لكن عيسى ممثلا لحزب الوفد تمسك بالخط الإصلاحي والعمل على الحفاظ على النظام، حتى فوجئ عيسى ومصطفى النحاس بدبابات الجيش في الشوارع تعلن الانقلاب العسكري وتدعو الجميع التزام الهدوء.
مصر الجديدة.. الوطن والحياة بعد الهزيمة
لم يعد البلد بعد الانقلاب مصر التي يعرفها عيسى وناضل من أجلها سنوات مع حزب الوفد، وكان أحد أول الإجراءات التي اتخذتها حكومة الضباط بعد الاستيلاء على السلطة هو تطهير جهاز البيروقراطية من رموز العهد البائد، فكان اسم عيسى من أوائل الدفعات التي أُحيلت للمعاش جنبا مع الكوادر الوفدية والموظفين المحسوبين على الملك ولاحقا كوادر الإخوان المسلمين، وفي الوقت الذي ترقّى حسن بسرعة في الحكومة الجديدة "أيقن عيسى الآن أنه قُضِي عليه بأن يعاني التاريخ في إحدى لحظات عنفه، حين ينسى وهو يثب وثبة خطيرة مخلوقاته التي يحملها فوق ظهره، فلا يبالي أيها يبقى وأيها يختل توازنه فيهوي"، اختل توازن عيسى وانهار مستقبله، وخسر وظيفته وعروسه الأرستقراطية، وتحوّل عنه البلد، البلد نفسه الذي ظن طوال حياته أنه مدى مفتوح أمام أحلامه ونضاله وسعيه.
"كنا طليعة ثورة وأصبحنا حطام ثورة"
(عيسى الدباغ)
لم يتجاوز عيسى خسارته، وعاش حياته يعاني الأيام وتبدلها، حتى ضاق بالقاهرة وقرر الهرب منها ومن كل عالم القاهرة السياسي الممتلئ بشعارات العالم الجديد الذي لا مكان له فيه إلى الإسكندرية، وهناك أَنِسَ عيسى وحدته والمدينة الهادئة في الشتاء، والأجانب الذين طالما أساء الظن بهم وقت نضاله السياسي، واليوم يحبهم أكثر من بني جلدته الذين نسوا كل تضحياته ونضاله، أصبح عيسى وسط الأجانب في الإسكندرية غريبا وسط غرباء في بلد غريب، يلتمس عندهم العزاء عن خذلان بلده له. وباتت القاهرة الآن ذكرى مغلفة بالحزن، والوحدة تجربة مرة لكنها ضرورية لتجنب النظر إلى الوجوه المثيرة للقلق ومعالم المجد المحرضة على الحسرة.
وفي الإسكندرية أتى لزيارته صديقه سمير عبد الباقي، زميله في الحزب الذي شملته حركة التطهير، وهناك فاتحه سمير أنه وجد الحل لأزمتهم: "ألم تسمع عن التصوف.. فيه راحة حقيقية للقلب"، يسأل سمير، بينما ردّ عيسى: "يوجد فارق أن نتصوف ونحن ضحايا أزمة سياسية وبين أن نتصوف والدنيا مقبلة علينا"، ابتسم سمير في هدوء وعقّب: "أحيانا تداهمنا الكارثة لتهدينا سواء السبيل... التصوف على أي حال خير من الانتحار"، ارتعب عيسى من الفكرة وسأل سمير في جزع: "هل انتهينا حقا؟!". حاصر عيسى إحساس عارم بالنفي والوحدة والتهميش وأخذ يغرق أكثر في تذكر ماضيه وعالمه القديم ورموزه سعد باشا ومصطفى النحاس وطلعت حرب، تذكر أول خطبة سياسية له في بيت الأمة وهو طالب في الجامعة، شعر أن تاريخه نفسه مهدد بالإبادة كأنه لم يكن يوما.
"ورثى عيسى ضحايا التاريخ من قلب متأوه، وأفرغ الثمالة ثم غادر المحل. وسار على مهل في شارع سعد زغلول، أحب شوارع الإسكندرية إلى نفسه وبخاصة بعد الانقلاب، إنه شارعه الخاص على وجه ما، يحب كثيرا أن يقطعه ولو مرة كل يوم جيئة وذهابا، ليناجي فيض الذكريات".
وسارت حياته في الإسكندرية بشكل غريزي بتخفف كامل من ثقل الحياة الاجتماعية والسياسية، فمنذ قدومه للإسكندرية وهو يعيش غير خاضع لإنسان أو لعادة، ولكنه يطيع مطالب شخصه الطبيعية في حرية مطلقة، فينام إذا حل سلطان النوم ويستيقظ إذا مل الرقاد، ويأكل عند الجوع ويأكل عند الملل، ويخرج متى طاب له ذلك، هذه الحرية التي لم ينعم بها من قبل لم يكن ليعرفها وهو ملتزم داخل حياة اجتماعية ما، بل إن الهزيمة الكاملة هي التي وفرتها له، وسط هذا غمر عيسى إحساس بالتصالح مع الحياة، شعر وهو في حريته المطلقة أن الحياة الإنسانية ما هي إلا مأساة أو تراجيديا، وأنه من العبث محاربة المأساة، بل من الأفضل العزوف عنها، "قال عيسى لنفسه: إن التعاسة تبدو قاسما مشتركا بين الناس جميعا، فما أحقر المناصب والمظاهر"، هنا تحديدا يفهم عيسى سر لجوء صديقه سمير عبد الباقي إلى التصوف، فقد هذّبت الهزيمة كلًّا منهما وأرهفت مشاعرهم، فانفتحوا وجدانيا على الهشاشة الأصلية للإنسان والبُعد الجمالي المأساوي للوجود.
ووسط صفاء عزلته، فاجأه المذياع يوما بزعيم الأمة الجديد وهو يعلن تأميم قناة السويس، "ارتفعت حرارة اهتمامه الخامد لدرجة الغليان. لهث في لهفة كأيام زمان، وما لبث أن أغرقه مد الحماس الذي اجتاح الجميع"، شعر عيسى في هذه اللحظة أنه يتمزق بين عالمين، اعترف أن هذا حدث وطني مهم، لكن أكله في الوقت نفسه الحسد والغضب، لأنه هو ورفاقه ليسوا مشاركين فيه، ومع اندلاع الحرب وهجوم إسرائيل على سيناء كان عيسى يشعر بطاقة هائلة مكبوتة داخله ويكاد يختنق بها، قرر أن يجتمع هو وأصدقاؤه القدامى من أيام النضال في أحد مقاهي وسط القاهرة، سأل نفسه ثم أصحابه: "كيف نحدد موقفنا وسط هذه العواصف من الأفكار والعواطف؟".
كان رفقاء عيسى المناضلون السابقون مترددين في إجابتهم، وتوقّع أغلبيتهم هزيمة نكراء للجيش المصري أمام قوى العدوان الثلاثي، وجد عيسى في ترددهم وإجاباتهم تعبيرا سافرا عن جانب من نفسه، فقرر أن يصارحهم به: "هل تودون حقا أن ينهزم هذا النظام حتى ولو على حساب البلد نفسه؟"، قال أحد الحاضرين إن هزيمة هذا النظام ربما تكون خيرا للبلد من انتصاره، حتى لو عنى ذلك رجوع النفوذ الغربي، بنبرة صوفية قال سمير عبد الباقي: "إنه أيًّا كان النظام الذي يحكم، أريد فقط أن يعيش كل مواطن متمتعا بالحرية والكرامة البشرية"، وعجز الجميع عن الذهاب بخاطرهم وآرائهم أبعد من ذلك.
وتساءل عيسى في قرارة نفسه: ما الذى أدى بنا إلى هذه الحال المحزنة حقا، أين حماسنا النضالي القديم؟، "إما أن نخون الوطن وإما أن نخون أنفسنا، كيف يصبح الوطن نفسه محل تساؤل وشك؟، يا له من تمزق وعذاب"، وأتت الأخبار من بورسعيد ومدن القناة عن بسالة وصمود المقاومة الشعبية، فتحرك في أعماقه نبع للحماس أوشك أن يدفعه للتضحية، وعند تسكعه نهارا قرأ في مئات الوجوه مشاعر كالتي كانت تشده قديما إلى الحياة والمستقبل، وخُيِّل إليه أن الحاجز الذي بينه وبين النظام الحاكم يذوب بسرعة مع تسارع الأحداث، ولكن بارتفاع الأزمة إلى ذروتها، أصدر العالم قراره، وتوالت الإنذارات من القوى الدولية الصاعدة وأجبرت قوى العدوان الثلاثة على الانسحاب، وخرج النظام من تلك المواجهة أقوى بأضعاف مما كان عليه قبل الحرب، شعر عيسى أن الحواجز بينه وبين النظام الحاكم عادت إلى مكانها، وبهتت الحياة والمستقبل في ناظريه مرة أخرى. قال لنفسه إن عصره قد انتهى، وإنه لن يندمج في الحياة مرة أخرى، وتساءل في مرارة وحزن: متى يندثر العالم؟
إلا أن نجيب محفوظ -على غير عادته- لا يتركنا هذة المرة بلا أمل، نجد في خاتمة الرواية عيسى جالسا على أريكة تمثال سعد زغلول بعد أن ضاقت به الدنيا، ينظر إلى وجه سعد زغلول ويجتر ذكرياته البعيدة السعيدة، ويتمنى حياة أخرى أمام هدير البحر، ظهر له شاب كان يعرفه من أيام وجود الوفد في السلطة، يتذكر عيسى كيف كان هذا الشاب ثوريا متمردا باستمرار ضد الوفد وضد الملك وضد الجميع، وتساءل عيسى في نفسه: "تُرى هل ما زال على تمرده القديم، أم أنه راضٍ عن النظام الحالي؟"، حيّاه الشاب وطلب منه الإذن بالجلوس معه:
""إنني أرغب مخلصا في تبادل الرأي".
- رد عيسى: "عن أي شيء؟".
- البلد.. الدنيا من حولنا.
- صدِّقني لم يعد يهمني في الدنيا أي شيء.
- أما أنا في الطرف الآخر، كل شيء يهمني وأفكر في كل شيء.
- فلتطب لك الدنيا كما تشاء، لعلك راضٍ عما آلت إليه الأمور.
- بالعكس أنا أحلامي أوسع وأكبر وتجعلني أنظر إلى الأمام بوجه مبتسم، لعلي أحدثك عنها، أليس هذا بخير من الجلوس في الظلام تحت تمثال سعد زغلول؟
- الدنيا كلها مملة، وأنا أرغب في الراحة.
- أنت لا ترغب في حديثي، وتود أن تجلس كما أنت في الظلام تحت تمثال سعد زغلول…
لم يرد عيسى، فقام الشاب وتحول عنه متجها إلى المدينة، وظل عيسى يتابعه بعينيه حتى بلغ آخر الميدان، وما لبث أن داهمه الشعور بالملل والوحدة من جديد. سأل نفسه: لِمَ لم أشجعه على الحديث؟ ربما سمعت شيئا عن أحلامه التي أراد التحدث عنها، وانتفض قائما في نشوة حماس مفاجئة، ومضى في الطريق الشاب بخطى واسعة، تاركا وراءه تمثال سعد زغلول غارقا في الظلام".
المصادر
1. في حب نجيب محفوظ، رجاء النقاش
2. المصدر السابق
3. السمان والخريف، نجيب محفوظ، دار الشروق
4. الديمقراطية وثورة 23 يوليو، طارق البشري، دار الهلال