" كسرة خبز " صوت يصدح يأسا وأملا ...
صدر للأديب المغربي حسن إبراهيمي وهو ابن منطقة الريش بالمغرب العميق والمنسي عمل إبداعي باسم " كسرة خبز " عن دار المختار للنشر والتوزيع بدولة مصر الشقيقة ؛ وهو عبارة عن شذرات أدبية ، وإن كان أغلب المبدعين والكتاب يميلون إلى الكتابة الخاضعة للتناسق وتستجيب للتحليل المنطقي وتنبني على قوة الاستدلال والبرهان العقلي ؛ فإن الكتابة الشذرية تفرّ من التحليلات المنطقية والعقلية وتقيم محلها كتابات تأملية تتكئ على الخيال ويسمو الانزياح سماءها . لذلك فالكتابة الشذرية تتخذ شكل مقطوعات وفقرات يصل بينها بياض .. وتتأرجح بين الواقع والخيال بين البوح والصمت بين الخير والشر بين الماضي والمستقبل بين الحياة والموت ...
والشذرة حسب ابن منظور هي قطع من الذهب، هي أيضا صغار اللؤلؤ لغة ؛ وفي الاصطلاح : هي القطع ذات الحجم الصغير المتناهي والدقيق ... والشذرة تتسم بالتفكك والانفصال ، إلا أنها تتميز بالوحدة العضوية والموضوعية.
وفيما يخص الأسلوب الشذري فهو ينماز باللانسقية لأن الشذرات مقاطع تأملية وانطباعات عقلية وخواطر فلسفية ، بل تزاوج الشعر بالفلسفة ، الوعي باللاوعي . وإن كانت بداية الشذرات مع الفلاسفة اليونانيين نجد في العصر الحديث من يهرب إليها ويجعلها جدارا منيعا عن كل فكر نسقي .
وبالعودة إلى موضوع هذه الدراسة ، فقد عنون الكاتب عمله بكسرة خبز وهو تركيب اسمي يجمع بين كلمتين متلازمتين لزوم الغذاء للإنسان ، وتبقى الكسرة لوحدها تفيد الانكسار والهزيمة ، وإتباع الخبز لها يفيد أنها متخصصة في كل المنكسرين والمهزومين أمام استبداد هذا الزمان وغطرسة هاته الحياة ، وقد برعت الأديبة سعاد العتابي في وضع تصميم متناسق ذو حمولة دلالية غنية ؛ توحي بقضية كل ضمير حي يحمل في جعبته أملا منشودا في أن يُؤكل الخبز بعرق الجبين لا بدمعة الذليل كما يقول الشاعر يوسف الخال . وصورة الغلاف تضم قطعة خبز تلتهمها أيادٍ خشنة قست عليها الحياة ، وبين دفتي هذا الكتاب حياة تلخص كل القضايا وكل المتناقضات..
الغوص في تفاصيل الشذرات ينقلنا إلى موائد الثقافة الشعبية التي تنهل من لاوعي الجماهير الشعبية المتشبعة بروح العبث الوجودي وملامسة تلك الروح تستوجب امتلاك ناصية الكلمة وثقل دلالة العبارة ، ونقل الدال اللغوي مهما كان متخيلا إلى مدلول يخترق الصور النمطية للأشياء والموجودات ، إنها صوت من لا صوت له ، إنها البوح في ثقافة الكتمان ، بل هي نقل العتمة إلى شعاع الإفصاح ..أحيانا تكون الحياة في بعدها الصوفي متلبسة لبردٍ من حرير في السطح عكس ما تستبطنه في داخلها من مشاعر سوريالية تبعث القسوة أحيانا والفجور أحيانا أخرى .
كسرة خبز تتناوش فيها الثنائيات ، وتزيح عن المستور حجاب الصمت وتلوذ بالمقهورين الذين اعتلت الدمعة قلوبهم ، تكبح حركة الزمن لتخط مسار الانفتاح على المجهول ؛ تنطلق من ميتافيزياء الأشياء لتضع لها مكانة في قاموس الحكم والمواعظ .. كثر الحديث في الكتب في الصحف في المواقع في ... إلا أن الشذرة تختزل الكلام تختزل المعاناة ، تقر بوحدة الانطباع أمام نواميس الحياة ؟؟!
إنها انتظار تاريخ يظل في حاجة إلى الكشف . وقد عبر عن ذلك لسان حال الراوي حين قال '' أنتظر حدثا خارج الزمان ... قد لا يحمل علقما يمتص دم التاريخ '' .
تزخر كسرة خبز بمصطلحات انفلتت من دفات القواميس وأُفرغت من دلالتها لتشحن بمعاني اليأس تارة والأمل تارة أخرى ، تأخذ من عالم الطبيعة مساحة للتعبير بسمائها وليلها وأرضها وشمسها وظلالها ، تتعلق بعلامة الإستفهام وراء كل سؤال متشبع حتى التخمة بموائد الحياة البائسة وتتطلع إلى ما بعد الموت '' استسلمت للموت لأراه لأختبره وهو في ريعان شبابه ''.
إن أي مقاربة للعمل الإبداعي الموسوم ب "كسرة خبز" لن تتم إلا بامتلاك جوهر الكلمة إلا بزئبقية الدلالة في كل الوحدات المعجمية التي يزخر بها أي معجم إلا بالتوغل في فلسفة الحياة إلا بمعانقة الموت في متارس الطبيعة ..
شذرات تأخذك معها لمناحي وجود قد تكون صادفته يوما أو قد كنت ترجوه أن يكون ..
قد يكون السعي وراء التحرر يكلف الكثير غير أن الحرية هي كل شئ مكلف هي طريق مسطرة بقطرات دماءٍ طاهرة لا يملكها إلا ذوي النفوذ الإنساني '' ببهو الولع بالحرية اعتق منفاي .. بدروب ينابيعه أكنسه .. أعاقر كل محرر حين يسيل في شقوق الشمس .. ليصلي سلاما لعار وطن وزعته خرائط الأطفال بجدران المذكرات ''.
كسرة خبز ممزوجة بحماس ثوري ينتصر لأصوات المقهورين. تعويذة على لسان كل مظلوم توغل في الغضب إلى حد الثمالة . نفس عميق يتعالى شموخا خياليا بتتبع خيط يصل نفقا مظلما ببريق ضوء مأمول . نيابة عني وعنهم بلغت وأفصحت عن صفحة تساقط حبرها وعمدا تكاسل الجبن في عقول استنزفت منابع القهر والمحن وتركتنا للريح نجف عرقا .. الكتابة الشذرية يتقاطع فيها الذاتي والموضوعي وذلك من أجل التعبير عن هشاشة الإنسان وتأكيد ضآلته الوجودية والكونية .
شخصيا أود أن أشكر الكاتب كونه أعطى لي مساحة في صفحة من صفحات هذه القطع الذهبية وتحديدا في جعلي ممن أشرقت عليهم شمس هذه الكلمات في الصفحات الأولى بجعلي ممن نالهم فضل الإهداء ..
كما أتقدم بالشكر الجزيل للسيد رئيس مجلس إدارة دار المختار الدكتور مختار أمين الذي احتضن هذا المولود الجديد ولدوره الكبير في رؤية هذا الأثر للنور
إنها فعلا شذرات نسجت أغاني العزة لدماء الشهداء ..