إذا كان البطل حسب المتعارف عليه في ثقافتها العامة هو ذلك الكائن الذي يقوم بأعمال خارقة تتجاوز حدود باقي الناس، فإن مفهوم البطولة حسب ما سبق في رواية " ابن السماء" لمصطفى لغتيري، لا ينسحب على بطل واحد بل نجده مرتبطا بشخصيات متعددة في الرواية.
تعتبر رواية ابن السماء الصادرة عام 2012 من الروايات التي أثارت جدلا في قراءتها، وذلك لملامستها مجموعة طابوهات كان من الصعب على الكاتب الاقتراب منها خاصة الدين والسياسة وما ارتبط بمعتقداتنا الدينية .
تحكي الرواية عن رجل توفي وصعدت روحه إلى السماء، لكن بقية الأموات في السماء ضاقوا ذرعا بتساؤلاته وبعض سلوكياته رغم طيبوبته، فتضرعوا إلى الله من أجل إنزاله إلى الأرض وهذا ما حصل ليجد البطل نفسه في قرية وسط أسرة من أختين وأب عجوز وبعد أن يتزوج البنت الكبرى ونظرا لالتزام ابن السماء الصمت الدائم تقرر الأختان استغلاله من خلال نشر إشاعة أنه ولي من أولياء الله الصالحين فتينيان له ضريحا تؤمه النسوة الراغبة في قضاء حاجاتهن، للتوسع التجارة وتبدأ زوجته في إهماله حتى يموت ويدفن هناك وتنشغل بشراء الأراضي والغوص في العلاقات المحرمة خاصة مع ضابط فرنسي الذي سيسهل لها كل أمورها. انطلاقا من هذا التلخيص للرواية سيتضح لنا جليا كيف انتقل لغتيري في روايته من بطل إلى آخر وسنعمل على رصد هؤلاء الأبطال وما مميزات كل واحد منهم.
إن البطل الأول الذي يصادفنا في رواية ابن السماء هو ابن السماء نفسه الذي اتخذت الرواية اسمه عنوانا لها، قدمه الكاتب على أنه شخصية صامتة على طول الرواية، نزل أو إن صح القول أنزل من السماء، هذا الفضاء الذي كان متعلقا به أيما تعلق، " توغل الرجل القادم من السماء وسط الأشجار...كانت أشجارا قصيرة، يمكنه من خلالها أن يتطلع إلى موطنه الأصلي: السماء..." ص17
لكن الكاتب في الرواية حاول تقديم شخصية ابن السماء بشكل يصدم القارئ ويكسر أفق توقعه، فمن المفروض على أن يكون ابن السماء هذا شخصا ذكيا شجاعا، في حين نجده في الرواية عكس ذلك تماما، فنجده في مواقف متعددة على أنه ساذج سذاجة وصلت حد البله في بعض الأحيان " حين ذلك نظر الرجل إلى السماء نظرة استعطاف حتى لا تخذله في مسعاه، ثم أغمض عينيه مستعدا لكي يتحول إلى غول بشع أ, أي حيوان خرافي يمكنه أن يبث الذعر في قلوب المتحلقين حول البئر. أخذ يزمجر بصوت مرتفع، فلفت انتباه الجميع، لكن أي شيء لم يحدث" ص20.
هذا البطل الذي اتخذه الكاتب الشخصية المحورية في الرواية لم يكن يتصف بالسذاجة فقط وإنما بشيئ من الجبن والخوف ففي كثير من الأحيان لم يكن يصدر منه أي رد فعل اتجاه مهاجميه سواء باللفظ أو بالضرب " ابتسم الرجل ابتسامة معبرة، ثم التفت نحو رفاقه، غمز إليهم بعينيه، ثم التفت نحو الرجل ودون سابق إنذار، هوى على خده بصفعة تردد صداها في المكان، لم تؤلمه الصفعة، وإنما أشعرته بالخزي..." ص 20.
نفس الموقف سنلحظه على ابن السماء حين يعترض سبيله جماعة من الرجال المسلحين، "استفز هذا الجواب الرجل، فتعلق بالأتان، ثم ما لبث أن أمسك بخناق الرجل وسحبه نحو الأرض. هوى ابن السماء نحو الأسفل. ولكنه لم يدافع عن نفسه، فقط كان يردد وكأنه يحدث نفسه : الطريق طريق الله " ص 53
لم يقتصر البطل على الصفات السابقة بل وصل الأمر إلى درجة استغلاله واستغلال سذاجته حين يتم بناء ضريح باسمه باعتباره وليا من أولياء الله الصالحين " فرح الرجل ابن السماء بمهمته الجديدة، لقد صدق أنه يملك من الكرامات ما يعجز عن وصفه " ص 61.
إلا أن هذه الكرامات قد تتحول من الشك إلى اليقين في بعض الأحيان خاصة حين أرادت لؤلؤة التخلص من زوجها ابن السماء فمنعت عنه الطعام حتى يموت فموته باعتباره ضريحا سيعود بالمال أكثر من حياته " مرت أيام وابن السماء لا يتلقى أي طعام، وكانت لؤلؤة تتفقده بين فترة وأخرى لكنها ترى رجلا لا يتأثر بما يحدث وكأنه لا يعنيه في شيء، شكت في أن أحدا ينقل إليه الطعام خلسة، فأقامت الحرس عليه، الذين مالبثوا أن أكدوا لها بأن لا أحد يقترب منه ومع ذلك فهو في صحة وعافية " ص79.
لينتهي المطاف بابن السماء ميتا ويدفن في الضريح الذي يحمل اسمه " سيدي الساكت " وتعود روحه من جديد من حيث جاءت. من هنا يمكن اعتبار أن ابن السماء الذي اعتبر بطلا في الرواية، إنما كان بطلا من ورق تحركه أيادي من خلفه، يتم استغلاله والانتفاع على ظهره.
إلا أن الرواية لا تقف عند موت ابن السماء، بل يمكن اعتبار أنه بموته في الفصل السابع بدأت رواية جديدة في باقي الفصول، لكن بظهور رواية جديدة يظهر بطل جديد وهذه المرة لم يكن البطل سوى زوجة ابن السماء " لؤلؤة " التي كانت عكس زوجها، تماما لم تكن صامتة مثله أو تهاب وتخاف، ولم تكن ساذجة ، بل وظفت خبثها وذكاءها وحتى جسدها لتصل لمبتغاها، ولعل أول مكر استعملته في الرواية كان مع ابن السماء نفسه لتوقعه في شركها وتتزوج منه " لكنها في تلك الفترة بالذات أخذت تصرخ وتستغيث ثم عمدت إلى ملابسها أخذت تمزقها أمام ذهول الرجل. لم يمض غير وقت يسير حتى قدمت الأخت، التي ما إن رأت أختها على تلك الحال حتى طفقت تولول وتؤنب الرجل على فعلته الشنعاء "38.
لقد وظفت لؤلؤة كل سبل المكر والدهاء والذكاء لتصل إلى مبتغاها " كانت المرأة قد فكرت في كل شيء، إذا كانت أمي قد أغوت رجال القرية وتلاعبت بهم، فقد جاء دور النساء،...كانت تحيك في ذهنها الذي لا يعوزه الذكاء والمكر تفاصيل الأمر الذي عزمت عليه." 59.
اعتمدت لؤلؤة على نظرية " الإشاعة " خاصة بين النساء اللائي يتعلقن بأي خيط رفيع للنجاة، فتوهمهن أن زوجها الولي الصالح سيجد الحل لكل مشاكلهن وبالفعل هذا ما تأتى لها سريعا خاصة حينما وجدت آذانا صاغية لمكرها .إلا أ، لؤلؤة لجأت في بعض الفترات إلأى سلاح آخر للوصول حين وظفت جسدها خاصة مع الضابط الفرنسي الشاب الذي جعلته يتعلق بها بعدما كان الأمر شبه مستحيل نظرا للعلاقة المتوثرة بين المغاربة – وخاصة النساء – والمستعمر الفرنسي " بين حين وآخر تدنو من الضابط حتى تلامسه بعجيزتها المكورة الجميلة، أفقدت هذه الحركة الرجل صوابه، فمد يده يتحسس جسدها الجميل، حين أحسن بأنها قد بلغت مرادها وأن الضابط قد وقع في مصيدتها دفعته بلطف ليجلس في مكانه، ثم ارتمت في حضنه." 95.
لقد فرضت شخصية " لؤلؤة نفسها بطلا في الرواية نافس بقوة شخصية ابن السبيل الذي عنونت الرواية باسمه كما قلنا، وذلك من خلال ما تميزت به هذه الشخصية وما استطاعت أن تفعله على طول الرواية جعل الأحداث في كل لحظة تأخذ منحى جديدا، بل لعل شخصية " لؤلؤة " قد حركت الأحداث أكثر مما حركها " ابن السبيل نفسه "