لماذا يموت الإنسان؟
وما هي أسباب موته؟
سؤال وجد جوابا عند البعض بعد بزوغ فجر الديانات السماوية، لا يهم من آمن ومن عارض، الأهم هناك من اطمأن. لكن كيف للثقافة أن تحدد مصير موت الإنسان وفق هواها، متحدية بذلك التاريخ المقدر لموت الإنسان الطبيعي، ومتحدية كل قدر وزمان ومكان، راسمة بذلك تاريخا للألم البشري.
تاريخ لا يعشق نهاية العذاب الإنساني، كأنه يتلذذ بنشوة موت الإنسان وجرحه. كم أنت ظالمة أيتها الثقافة، أخذت منا كل شيء، راحة البال والإيمان بالحياة المتعددة والمختلفة للإنسان، أخذت منا حب الإنسان لأخيه الإنسان بذريعة العرق والجنس والهوية، فما هذه الأشياء الصغيرة أمام قيمة وثمن الإنسان؟
إن عالم رواية "ساعة الصفر" شاءت ظروف وأقدار راويها أن يجسد لنا من خلالها عالما يسكنه الموت والألم والعذاب، لا لسبب سوى لعدم الإيمان بثقافة الآخر المختلف، ونعني بهذه الثقافة العرق والهوية والدين والقيم والعادات... إلخ، أي كل ما له علاقة بإنسان مجتمع معين.
جاء عالم الرواية تراجيديا تكتنفه كل الأحاسيس الحزينة نظرا لصراع ثقافي قاس جمع بين مسلمي البوسنة والهرسك ومسيحيي صريبيه، فقد سمحت ثقافة هؤلاء "الصرب" بارتكاب أبشع الجرائم والمجازر الإنسانية من قتل وتدمير ونفي واغتصاب واحتقار وكره في حق شعب البوسنة، لأن لهؤلاء ثقافة دينية وعرقية واجتماعية...إلخ. عكس ثقافة "الصرب" فكانت النتيجة بزوغ نار حرب فتاكة لن ينساها تاريخ الإنسان مهم مر الزمان وتوالت الأيام وأصبنا بالنسيان.
لقد استطاع الراوي أن يجسد لنا هذه المشاهد المؤلمة بفعل كاتب ماهر يوهم القارئ بحقيقة الأحداث المطلقة، كأنه شاهد على الحرب العنيفة بكل تفاصيلها صغيرة كانت أم كبيرة، والأمثلة كثيرة توضح لنا حضور هذا الصراع الثقافي منها. "لكن الأخطر من ذلك كله هو إصار عناصر الوحدة الإرهابية على ترك بصمة مميزة دالة عليهم، وهي رسم علامة الصليب بالسكاكين على أجساد الضحايا، وقطع أصبعين وترك ثلاثة أصابيع فقط في أيادي قتلاهم، في إشارة صريحة إلى عقيدة التثليث في الديانة المسيحية"[1].
إن هذا المقطع يجسد لنا عنف الثقافة وصراعها الكاسح، بحيث لم يعد كافيا قتل مسلمي (البوسنة والهرسك)، بل رسم علامة الصليب على أجسادهم وقطع أصبعين من أياديهم، كإشارة واضحة ترمز لعقيدة التثليث في الديانة المسيحية، وعليه فالصراع الثقافي واضح ذهب ضحيته الإنسان. ويبقى السؤال هل للثقافة كل هذه السلطة؟
تزيد مظاهر الصراع الثقافي عنفا وحدة في هذين المقطعين الآتيين "على سلسلة من الجرائم الموغلة في الوحشية كحرق القرى الآمنة، اغتصاب النسوة أمام أعين الأبناء"[2]. وأيضا نجد "الأوغاد الحقراء يتاجرون بالأطفال الصغار الذين لا حول لهم ولا قوة...ويصورون أنفسهم أمام العالم على أنهم رعاة الطفولة والسلام، هؤلاء ليسوا بشرا الشيطان نفسه يقف حائرا أمام حقارة هذه الأفعال"[3].
نجد القلم عاجزا عن الكتابة أمام عنف هذه المشاهد الأخيرة من الرواية، بحيث لم يعد للجنس معنى ونشوة وهو يمارس على نساء البوسنة والهرسك في سرية على الأقل، بل كان يمارس عليهن الجنس بشكل فظيع أمام أعين أسرهم وأبنائهم ورجالهم دون رحمة ولا شفقة، ذلك ما خلف أضرارا جسيمة وشنيعة على نفسية هؤلاء النساء وعلاقتهم بقيمهم ودينهم ومبادئهم.
لم يقف هذا الصراع الثقافي عند هذه الحدود، بحيث تجاوز ذلك صوب التجارة ببراءة الأطفال وعرضهم الطاهر، فاستغل "الصرب" الأطفال جنسيا وللدعارة وللتمثيل في الأفلام الإباحية، وعليه فهذه المشاهد تجعلنا نشعر بمدى عنف هذا الصراع الذي دار بين هاتين الثقافتين المختلفتين.
إن لهذا الصراع الثقافي معان وأبعاد عميقة، خاصة أن هذه الحرب الثقافية ليست بالأمر الجديد وتحدثت عنها كتب التاريخ، وليست هي الوحيدة في تاريخ البشرية، ومن ثمة فما تريده الرواية وراء حضور مشاهد وأحداث هذا الصراع الثقافي هو إحياء الضمير الإنساني الذي توفي بداخلنا والشعور الكاسح بتجاوز هذا الصراع بغية الوصول لعالم إنساني لا مجال فيه للألم والموت والقهر والظلم.
هكذا إذن فحضور هذا الصراع الثقافي يريد منا الإحساس العميق بمرارة الخسائر والمجازر العنيفة التي خلفتها هذه الحرب الثقافية، بذريعة العنصرية والعرقية والدينية. كأن الكاتب يقول لنا بطريقته الخاصة وأسلوبه الشخصي ورؤيته للوجود ماذا نستفيد من موت الإنسان؟
جعلنا الكاتب نشعر أكثر بعمق السؤال حينما جسد لنا عالما روائيا على شكل سيناريو سينمائي محكم ودقيق، جمع بين الواقعية الإبداعية في مشاهد تراجيدية قاهرة لعلها تبعث الإنسان الذي مات فينا بحكم الصراع الثقافي. فكان الغرض من حضور تيمة الحرب، ليس هو الحديث عن ذاكرة أليمة، بل هو يؤسس لحياة ربيعية زاهية منتظرة، لكن لن ننصل لهذه الحياة المرجوة إلا بعد فهمنا لقيمة الإنسان فهما فلسفيا أخلاقيا عميقا يتجاوز عالم المادة الرخيص والصراع الثقافي.
قد استطاع الراوي في أكثر من مشهد أن يتلمذنا على معنى العيش مع الآخر المختلف من خلال موقف طبيب البعثة الأمريكية إلى البوسنة والهرسك، الذي كان يتفانى بجد ومسؤولية في مساعدة شعب البوسنة المغتصب، خاصة حينما تحمل هذا الطبيب قدر نور الطفلة التي غادرت والدتها الحياة دون عودة، وضاع مصير والدها في المجهول.
فعلمنا هذا الطبيب معنى الإحساس بالإنسان بعدما حافظ على نور الطفلة ودافع عنها من محاولة الاغتصاب والتلذذ بجسدها البريء من طرف مسؤولي البعثة الأمريكية الطبية، فقد تحمل هذا الطبيب كل الحواجز والخوارق بقوة الضمير الإنساني الحي حتى وصل بنور إلى بر الأمان بعدما بحث بكل الوسائل السامحة وغير السامحة قصد العثور على والدها المفقود، فعادة نور إلى حضن الأب وحنانه بسلام.
ولم يكن اختيار الكاتب لهذا الاسم "نور" من باب الصدفة، بل نور هي النور الذي ينقص البشرية العمياء في ظلام العنصرية والصراع الثقافي، وهي النور والوحي المخلص من هذا الصراع العابث بمصير حياة الإنسان.
وفي الأخير فليمنحني الكاتب شرعية القول "ساعة البداية" عوض "ساعة الصفر"، فالصفر هو رمز الانطلاق من العدم إلى الوجود، من الموت إلى الحياة، من الكائن إلى الممكن، ساعة بداية إنسانية جديدة تحمل شعار السلم والسلام والتعايش مع جميع أصناف الإنسان، ناسية ومتعلمة من تاريخ الماضي الأليم ناشئة لحاضر ومستقبل بعنوان " الدين الحقيقي هو حب الإنسان لأخيه الإنسان".
- عبد المجيد سباطة، ساعة الصفر، المركز الثقافي العربي، الط بعة الأولى 2017، ص 315.[1]