إن جميع التحسينات التي أصابتها الموسيقا خلال تطورها لم يكن الدافع إليها إلا الرغبة في التقدم بهذا الفن، ومضاعفة المتعة منه. ولهذا فعلى المستمع عند وقوعه تحت تأثير الموسيقا أن يكون واسع الأفق ساعياً إلى اكتساب القدرة على الاستماع. فالموسيقا هي الحركة في الزمن، وتعتبر لغة النغم، وأية لغة لابد من أن يكون لها حروف هجائية وقواعد منطقية تساعد على استخدامها وفهمها، حروف الموسيقا الهجائية هي (دو-ري-مي-فا-صول-لا-سي) والكونترابونط Counterpointعلم بناء التآلفات المتعددة على أساس من الانسجام في لحن واحد- وما عدا ذلك من فروع هي بمثابة البديع والبيان.
وأنغام الموسيقا هي عبارات لحنية لها من المعنى ما لكلمات اللغات المنطوقة أو المكتوبة من دلالات مع فارق أن فهم لغة الموسيقا من نصيب الوجدان ويؤكد هذا القول الفيلسوف شوبنهاور عندما قال (الموسيقى لغة الشعور والكلام لغة العقل). وهنا يأتي دور التذوق الموسيقي وما يحمل من معاني خفية تلعب دوراً بارزاً في نفسية وفكر وكيان المستمع والمتذوق للموسيقا، وماذا يخفي في مكنونه العميق من الثقافة والنفسية حتى الفكرية بالنسبة للإنسان، وهذا ما أردنا أن نسلط الضوء عليه في هذا الموضوع.
التذوق الموسيقي Musical Appreciation:
يمكن أن نعرف التذوق بصفة عامة بأنه إعطاء قيمة وتقدير للشيء، أما التذوق الموسيقي فإنه الحساسية للقيمة لجمالية الموسيقا. والإحساس الجمالي لا بد وأن يتضمن الاستمتاع والمعرفة.
أما السماع hearing فمتعلق بوظيفة الأذن وهو عبارة عن تلقي المثيرات الصوتية أو الموسيقية دون الاهتمام الصريح بها.
وعليه صنف علماء الموسيقا الاستماع إلى مستويات ثلاثة هي:
- المستوى الحسي:
وهو أبسط الطرق حيث يتم به الاستماع لمجرد التمتع بالأصوات الموسيقية ذاتها. وبه نستسلم إلى الاستماع دون تفكير أو تقدير للموسيقا بأية طريقة من الطرف فنفتح جهاز الاستقبال لنستمع للموسيقا ونغوص فيها دون تفكير ودون وعي بينما باقي الوقت نكون منشغلين بأعمال أخرى.
- المستوى التعبيري:
هو الاستماع إلى الموسيقا مع محاولة معرفة ما تعبر عنه وما تحمله من معان، وهنا نلاحظ بأن الموسيقا هي أدق من كل اللغات عندما تعبر عن حالة تعجز اللغات عنها بكلمات. ومنها يستطيع المستمع النابه أن يرسم في ذهنه الإطار الشعوري العام لما يدور حوله من الألحان سواء كانت مفرحة أم محزنة.
- المستوى الموسيقي البحت:
هو المستوى الحسي المنبعث من أصوات الموسيقا والمعبر عن الجانب الشعوري في الإنسان، فإن للموسيقا كيانها الناشئ عن نغماتها الموسيقية نفسها وعن معالجة هذه النغمات، ومعظم المستمعين لا يشعرون بهذا المستوى الثالث شعوراً كافياً. ومن هنا يأتي دور (الثقافة الموسيقية في التذوق) التي تعتبر الطريق الذي يمهد إلى تهذيب النفس ويعمل على تنمية حاسة التذوق والجمال.
ولنعد ثانية موضحين ما لهذه اللغة من أثر، الموسيقا أعظم خطراً وأكبر أثراً من التصوير لأنها تشغل الناس محركة أحاسيسهم البدنية والروحية وتمثل الحركة في الزمن مثل السعادة والألم كما تحرك فيهم الذكريات، وللموسيقا من بين جميع الفنون هي التي تتيح للفنان أن يحرر عقله تحرراً كاملاً من الأفكار الدفينة التي ينطوي عليها شعوره، فتظل طي جوانحه نابضة ملحة قادرة على تغيير سلوكه، وإذا تأملنا مقطوعة موسيقية بطريقة منهجية فإننا نلاحظ بأنها تعبر عن جانب من جوانب المؤلف الشخصية.
لذا نلح على القارئ الكريم أن يفهم الأهداف الرائعة التي ترمي إليها عملية التذوق عند الاستماع:
أهداف التذوق:
إذا ما أردنا أن نلخص أهداف التذوق الفني فيمكننا تلخيصها بالنقاط الآتية:
- يساعد بشكل واضح وملموس في السمو بالذوق والإدراك الفني.
- يجعل المستمع يفهم الموسيقا على أساس من الصحة والصواب للوصول إلى درجات واسعة من المتعة بالفهم الدقيق لها باعتبارها أداة التعبير عن الوجدان البشري.
- يساعد على معرفة الشكل الظاهري للمقطوعة من حيث الصياغة والبناء.
- اكتشاف القيمة الفنية الكامنة بالداخل، والتعرف على نماذج وصور من هذا الفن الرفيع الذي يترك في مستمعيه أثراً مستحسناً يحثه على الاستزادة والتوسع في المجالات الموسيقية المتعددة.
ومن الجدير بالإشارة لدارس التذوق الفني أن لا يغفل عن نقطتين هما:
- الطابع الموسيقي في كل عصر للتعرف كمستمع على الانطباعات الفنية التي لازمت تلك العصور، إذ أن دراسة أية حقبة زمنية معينة تتطلب بالضرورة دراسة الظروف المعيشية التي أوحت بها، فكل عمل فني لا يأتي من فراغ، إنما هو وليد شبكة عريضة من عدة عوامل ساعدت في وجوده، وفي الوقت نفسه ألبسته الثوب الذي ظهر به.
- التحليل الموسيقي لبعض الأعمال الشهيرة مع تدوين بعض النماذج اللحنية لتلك الأعمال وذلك لتقريب المادة إلى إدراك المستمع بدلاً من سماع الموسيقا مجردة دون شرح أو تحليل
العصور الموسيقية:
إذا ما أردنا أن نقسم العصور الموسيقية حسب ظهورها عبر التاريخ فيمكننا اختصارها فيما يلي:
- العصر الإغريقي الروماني Greco-Roman
وهو امتداد لما بين عام 1200ق.م في مرحلته الإغريقية وبعد ذلك حتى عام 476 بعد الميلاد في مرحلته الرومانية. وقد تميز ببداية ظهور النظريات الموسيقية والمقامات ونظم وضبط وتحديد الذبذبات الصوتية الخاصة بكل صوت موسيقي وكذلك شهد نهضة في فلسفة الموسيقا ومن أبرز من حمل نظريات هذا العصر فيثاغورس، أفلاطون، بطليموس، وأرسطو.
- العصر الرومانسيك Romanesque
بدأ هذا العصر فيما بين عام (250م-1150م) وتميز بالطقوس الدينية الكنسية الموسيقية وقد برز فيه التدوين الموسيقي وتحديد قوالب الغناء الديني ومن مؤلفي هذا العصر جريجورين جيدو، دارسو، بوب.
- العصر القوطي Gothic (1150-1400م)
شهد هذا العصر تطور البوليفونية وقوالب الموسيقا الدينية، وبدأت الموسيقا الدنيوية بالولادة والظهور، كما استقرت أسس القداس الكنيسي وأضيف فيه الأصوات البشرية مصاحبة الآلات الموسيقية ومن أبرز مؤلفيه ليونين، لانريني.
- عصر النهضة Renaissance (1400-1600م).
شهد هذا العصر قمة تطور الغناء الجماعي (الكورال) بالأسلوب البوليفوني وفيه تطور استعمال الآلات الموسيقية كما ولدت فيه موسيقا (الحجرة) ومن مؤلفيه دي بريهن بالسترينا، جيريللي، دي لاسو.
- عصر الباروك aroque
بدأ هذا لعصر بين عام 1600 حتى 1750م وقد شهد هذا العصر بدايات كل من الأوركسترا والأوبرا وقوالب الكونشترتو والفوجه ومن أشهر مؤلفي هذا العصر باخ، هيندل، فيفالدي.
- عصر الركوكو والكلاسيكية Rococoan Classical (1740-1800م)
وهنا نلاحظ بأن هذا العصر قد تداخل مع عصر الباروك، وفيه شهد العالم مولد السيمفونية وتطور كل من قالب الصوناته والكونشيرتو والأوبرا، ومن أعظم مؤلفيه: هايدن- موتزارت وبيتهوفن.
- عصر الرومانتيكية Romanticism (1800-1918م)
وفيه شهد العالم مولد وتطور موسيقى البيانو وأغاني اليد والسميفونية ذات البرنامج والقصيدة السيمفونية ومن أشهر مؤلفيه بيتهوفن، شوبرت، شومان، شوبان، برامز، ليست، فاجز، برليوز.
- عصر التأثيرية Impressionism (1880-1918م)
يمتاز هذا العصر هو الآخر بالتداخل مع العصور التي سبقته (الرومانتيكية وموسيقا القرن العشرين) وتميز هذا العصر بموسيقا البيانو والقصيدة السيمفونية ومن أبرز مؤلفيه رافيل، وديبوسي.
- القرن العشرين The Century
بدأت موسيقى هذا القرن بعد العام 1900 وامتاز بالتعبيرية والكلاسيكية الجديدة، والرومانتيكية الجديدة واتجاهات كثيرة متعددة أخرى منها الموسيقا الإلكترونية الدوديكافونيه ومن أشهر مؤلفيه بانوك، هندميت، سترافنسكي، شتوكهاوزن، فيون.
وفي الختام، فإن الصوت الجميل يولد اهتزازات في النفس تتحول إلى موجات مشعة تؤثر في المستمع، مصورة له مختلف العواطف بالألحان (إن كان عمل موسيقي يؤدي إلى إشعاع فكري ولوني يتشكل في صيغة قالب جمالي يسبح في الفضاء ويتم تحديد القيمة الجمالية للعمل الموسيقي وفقاً لهذا القالب الجمالي والروحي المحسوس. إن هذا الجمال هو الذي يشكل الطبيعة النفسية للبشر ويؤثر على إفرازات الغدد وعلى الطاقة الكامنة في الإنسان.
وأخيراً، فإن قيمة التذوق لا تقل أهمية عن أي مجال مهم ومؤثر في حياة الإنسانية. حيث أن حاجة الإنسان إلى انتباه بشكل واعٍ ومنطقي إلى أثر التذوق- حيث إن كل واحد منا له قابليته الفطرية للتعرف على بعض الأصوات، وهذا لا يعني أن يقتصر هذا الاستعداد الطبيعي على تذوق نوع أو أكثر من الأنواع الذي تفضلها مما يحول دون تذوق الأنواع الأخرى، وأن المستمع قد ينفر من الموسيقى ذات التآلفات المتعددة ويرتاح إلى الموسيقى التي تؤدى على شكل غناء فردي أو آلة موسيقية واحدة مع تردد الجملة نفسها من قبل الفرقة الموسيقية وهذا إذا دل على شيء فيدل على أن المستمع العربي لم يسع إلى ترويض أذنه إلى تقبل الموسيقا ذات البناء الكبير والتآلفات الهرمونية والكونترابنطية.
استاذ: كلية الفنون الجميلة