الكاتب : محمد صالح مجيد
المدخل نظريّ
ما من نصّ أدبيّ -شعرا كان أم نثرا ،أو مابين هذا وذاك- إلّا وهو يُجاور آخر ويُحاوره ليتجاوزه.على هذا النحو فهمت عديد النظريات والبحوث الحديثة في النقد الأدبيّ تشكّل النصوص الأدبيّة وتضافرها، فخاضت في تلمّس إنتاجيّة النّصّ الأدبيّ[1].ولم يعد الاشتغال على "التناصّ" –اليوم-جدّة في القول أو خوضا في حقل غير موطوء.فمنذ أن تحدّث" باختين" عن تعدّد الأصوات(polyphonie) في النصّ الأدبيّ ،و عن "الحواريّة"( dialogisme) أمسى البحث فيما بين النصوص من تداخل وتجاور مندرجا في صلب كلّ عمليّة نقديّة تروم تفكيك البنى المعجميّة والخطابيّة المنتجة للأثر ،وترنو إلى تلمّس آليات تكوّنه حتّى استوى خطابا يستهدف متلقّيا. يقول "باختين"(bakhtine) إقرارا لبديهة "نِصف الأقوال على الأقلّ في الكلام اليوميّ الذي يتلفّظه كلّ إنسان يعيش في مجتمع، هي لغيره "[2]
ولم يعد استجلاء ما بين نصوص سابقة وأخرى لاحقة ناسخة من الرّوابط والعلائق ضربا من ضروب محاكمة الكاتب ، وتهجين مُنجَزه الإبداعي بشُبهة النّهل من السابقين أو السّير على منوالهم. فقد انتهى زمن كانت تُعقد فيه لنصوص ضُبطت متلبّسة بالأخذ و"السرقة" مُحاكمات انضافت إلى سيف الرقابة المسلّط على الكتاّب لتخنق المبدع ،وتلزمه بما لا يطيق.إذ كيف الفرار من صدى "القراءة" وقد ترسّخ تأثيرها وفعلها في ذات الكاتب حتّى أمست بعضا منه ،وموردا يرتاده للارتواء من "عطش" الكتابة؟
والحاصل من كلّ هذا أنّ بعض النقّاد العرب القدامى ،في تهجينهم للتّناص ،أيّا كان نوعه، وبحثهم في "سرقات" المتنبّي وغيره من الشعراء ،كانوا يصدرون عن نظام معرفيّ معياريّ.أمّا ما بنت عليه الناقدة والروائيّة الفرنسيّة ذات الأصول البلغاريّة"جوليا كريستيفا" (Julia kristiva)نظريتها النقديّة فينخرط في نظام معرفيّ وصفيّ يعتبر هذه الظاهرة أمرا حتميّا لا يمكن أن يسلم منه كاتب أو شاعر-وإن حرص- إذ أنّ كلّ نصّ-على حدّ قولها- هو بالضرورة "ينبني كفسيفساء من الاستشهادات,,إنّه امتصاص وتحويلtransformation لنصّ آخر"[3]
وقد التقط الناقد الفرنسيّ "جيرار جينيت"(Gérard Genette) عن "كريستيفا" مصطلح "التناصّ" وتوغّل في حفر معاني الظّاهرة التّناصيّة،وربطها بالإنشائيّة عموما.ووضع في مُصنّفه الخطير"الطروس"(palampsestes) نظريته في التضافر النصّي التي بناها على أقسام خمسة لا مناص ،في تقديرنا، من توضيحها لاعتمادها سبيلا في مقاربة ما نزمع الخوض فيه.أوّل هذه الأقسام "التناصّ" و يقرّ "جينيت" بأنّ المصطلح يعود إلى "جوليا كريستيفا" ويعرّفه بقوله"هو علاقة تعايش بين نصّين أو أكثر..عبر حضور فعليّ لنصّ في آخر"[1]
ويميّز "جينيت" بين مظاهر ثلاثة من التّناصّ:الشاهد وهو ما يوضع بين قوسين في إشارة خطيّة إلى أنّه منقول عن نصّ آخر وسيّان الإشارة إلى هذا المصدر وعدمه.وأمّا الأخذ غير المصرّح به فيوقع صاحبه في "السرقة"(plagiat).أمّا "الإيحاء" فهو أن يُحيل النصّ القارئ -بداهة- إلى آخر معروف لا يخطئه لأنّ التلقّي يفرض التنبّه إلى النصّ الذي يبني عليه الكاتب متخيّله السرديّ،ويلمّح إليه دون أن يصرّح معوّلا على وعي القارئ وتفطّنه.
وثاني هذه الأقسام ما أسماه"النّصّيّة الموازية" ويتمثّل في العنوان وفي العناوين الفرعيّة والمقدّمة والحواشي.والبحث في النّصّية الموازية يفترض بحث العلاقة بين النصّ الأدبيّ وعتباته النصّيّة التي تُجلي بعض غموضه وتمنح سرّ تفتّح ورود إبداعه.
أمّا القسم الثالث فييتمثّل فيما أسماه"النّصّيّة الواصفة"( metatextualité) ويقصد بها الخطاب النقديّ الوصفيّ المتعلّق بالرواية ويضمّن في كتاب.
وفي حديثه عن هذه الأقسام تعمّد "جيرار جينيت" تقديم "القسم الخامس" وتأخير "القسم الرابع" الذي عدّه مدار بحثه ولبّه.
فالقسم الخامس خصّصه للنصّيّة الجامعة(architextualite) وتتجلّى في إشارة نصّيّة على الغلاف تحدّد الجنس الأدبي:(رواية/نقد/شعر)وقد وسمها بالخرساء لأنّها تصمت عن الإعلان وفي الآن نفسه تنطق بما يعجز النصّ أن يقوله "إذا كانت خرساء فلرفض بأن تعيّن بداهة أو على العكس لتُنكر أو تتجنّب أيّ انتماء"[2]
رابع هذه الأقسام الذي أخّره "جينيت" عمدا هو "النّصيّة اللاحقة" (hypertextualité) وتتمثّل في علاقة يقيمها نصّ لاحق(hypertexte) مع نصّ سابق (hypotexte) يقول عن "النصّيّة اللاحقة"أعني بها كلّ علاقة تجمع نصّا بَ(سأسمّيه نصّا لاحقا)بنصّ أ (سأسمّيه طبعا نصّاسابقا)[3]
وبيّن أنّ العلاقة التي تقوم بين النّصّين هي علاقة تطعيم,فالنصوص تتوالد من تطعيم بعضها لبعض في حركة مستمرّة استمرار الإبداع الإنسانيّ
جامع القول أنّ المنشغلين بالنصّ الأدبيّ بنية وخطابا ووجهة نظر ،على اختلاف مراجعهم ونظرياتهم المعرفيّة، متّفقون على أنّه لا وجود لنصّ قُدَّ على غير أصل أو مثال لم يستأنس كاتبه ،في ترويض لفظه وفي تليين عباراته، على ما ترسّب في ذهنه ووجدانه من صدى مطالعاته وقراءاته التي تتحوّل إلى بَعْضٍ منه يستند إليه في عمليّة الإبداع.
وأنّى للروائيّ أن يهرب من هذا "التطعيم" الإجباريّ وهو يكتب في جنس أدبيّ هجين أكّال لما حوله مستحوذ على ما جاوره و نافره من أجناس أدبيّة أخرى لا يرى حرجا في تطويعها وتضمينها في روايته؟
ولعلّ تميّز الرواية يتمثّل في كونها جنسا بلا ضوابط يحوي الأجناس المجاورة له. فهي "الهُجنة" بامتياز وهي جنس إمبرياليّ آكل كلّ ما يعترض سبيله [4]
في معنى التصادي
يقتضى المقام -بدءً وبداهةً- أن نحدّد ما نعنيه بالتّصادي.فقد انتشر هذا "المصطلح" حديثا في النقد الأدبي وأصبح رائجا على لسان النقّاد الذين انشغلوا بالتناصّ وتجلّياته وأشكاله .ويعرّفه الأستاذ "أحمد السماوي" بأنّه"يمثّل لونا من ألوان التكرار لكنّه التكرار الذي لا يتّخذ سمة إعادة الكتابة"[5].ولعلّ مصطلح "التصادي" ينسجم مع ما عناه "باختين"( (Bakhtine عندما تحدّث عن تعدّد الأصوات داخل النصّ الأدبي. فهو يؤكّد أنّ النصّ الأدبيّ بالضرورة متعدّد الأصوات . ويعتبر "تعدّد الأصوات" علامة على جدّة الرواية ،وأدبيّتها" نحن نعتبر الرواية المتعدّدة الأصوات خطوة كبرى إلى الأمام لا في تطوّر النثر الروائيّ فحسب بل في تطوّر الفكر الجماليّ عموما"[6]ونحن نعني بالتصادي تردّد صوت أثر قديم في نصّ حديث يحيل على ما سبقه عبر الإشارة الصريحة أو التلميح ،أو السعي لنقده وتجاوزه.والبحث في تصادي النصوص يبغي تلمّس ما يُستخلص من رجع صدى أثر سابق عند قراءة عمل أدبيّ.واعتماد هذا المصطلح يستند إلى ما تعنيه صيغة"تفاعل" التي اشتقّ منها،من تشارك وتفاعل بين نصّين أو بين جمع من النّصوص. وقد شكّل حضور نصّ سابق في نصّ لاحقمدار بحث شاف ضاف ضمّنه "جيرار جينيت" في كتابه "الطروس "الذي اعتنى فيه بتطبيقات التجاوز النصّي فانتهى من خلالها إلى أنّه" لا يوجد أثر أدبيّ بدرجات(متفاوتة) ،وحسب القراءات، لا يستدعي آخر. وبهذا المعنى كلّ الأعمال هي من التجاوز النصّي"[7] .
في مشروعيّة البحث
إنّ الوعي بأهمّية ظاهرة "تضافر النّصوص" مدخلا من بين مداخل أخرى لا تقلّ أهمّيّة، لنقد الرواية واستجلاء ما تثيره من قضايا نظريّة معرفيّة صرفة ومسائل تشمل الاجتماع والاقتصاد والسياسة والفنّ هو الذي دفعنا إلى اختيار موضوع" التّصادي بين "الآن... هنا أو شرق المتوسّط" و"القيامة...الآن" لإبراهيم الدرغوثيّ
لكن لسائل أن يسأل ما الذي يمكن أن يجمع "عبد الرحمان منيف(2004.1933)" بإبراهيم الدرغوثيّ(1955..) ؟ فالأوّل يعدّ أحد أبرز أعلام الرواية العربيّة في القرن العشرين طبع بإنتاجاته المشهد الروائيّ العربيّ منذ السبعينات حتّى أمسى رائد الرواية السّياسيّة .والثاني كاتب تونسيّ بدأت أعماله الإبداعيّة في الأقصوصة والرواية،تبرز في تسعينات القرن الماضي .وهو أقلّ شهرة من "عبد الرحمان منيف". ولعلنا لا نبالغ،ولا نجانب الصواب، عندما نقول إنّه أقلّ تجربة وتمرّسا بالكتابة منه.
في الحقيقة إنّ القراءة المتأنّية لمُنجز هذا الروائيّ التونسيّ تكشف أنّ نصوصه مستفزّة تستهدف متلقّيا متيقّظا متوثبا لتنشيط ذاكرته التراثيّة.فالرجل يقحم في متنه الروائيّ نصوصا تراثيّة متعدّدة يرصّفها ويضمّنها في حكايته مُلاعبا القارئ ومخاتلا.فهو أحيانا يحاكي أسلوب القدامى ،وينسب الكلام إلى أعلام من التراث قد لا يتفطن القارئ العجل إلى أنّ "الدرغوثيّ" قد قوّلها ما لم تقله . والغالب على الظّنّ أنّه يفهم الكتابة على أنّها لعبة لفظيّة وتلاعب بالقارئ الذي قد يُصدم ،وهو يتوغّل في مجاهل نصوصه، بأنّ أسلحته النظريّة قد تتعطّب بسبب ما يضخّه في كتاباته من أسطورة ،وما يضفيه عليها من عجائبيّة ،وما يحمّلها من آراء أفكار تجمع جمعا غريبا بين التصوّف و العقلانيّة ،وبين"كارل ماركس" والمتنبّي !!. وويمكن أن نزعم ،غيرَ واهمين، أنّ هذا الكاتب قد خبر مجاهل هذا النوع من الكتابة ،وتفنّن في تنويع حيله التراثيّة والسّرديّة مفتونا بغواية سحر هذا اللّعب والتّلاعب.
فهل أنّ الإعجاب بمنجز "إبراهيم الدر غوثيّ" السّردي هو الذّي قادنا إلى البحث عن التّصادي بين "الآن هنا" و"القيامة الآن" أم أنّ الانبهار بعبد الرحمان منيف هو الذي جعلنا نعثر في "الدرغوثيّ" ؟وهل أنّ ما سنقدم عليه لا يتجاوز ما انخرط فيه الكثير من سعي إلى إسقاط نظريّات غربيّة على نصوص عربيّة تُستدعى استدعاء ًقسريّا لا يختلف عما تعرّض له أبطال رواية "الآن ...هنا"من ظلم و عسف ،و تُحشر حشرا لتُجبر على "الاعتراف" والانصياع لما تذهب إليه النظريّة بتعسّف قد يقتل النّص الإبداعيّ من حيث يتوهّم الباحث إحياءه؟؟.
للإجابة عن هذا السؤال الإشكاليّ الذي لا يخلو من وجاهة ومشروعيّة ننطلق من شاهد نصّيّ حسم فيه "إبراهيم الدرغوثيّ الأمر وأجاز لنا أن نتناول روايته"القيامة... الآن" على أنّها نصّ لاحق(Hypertexte) يتشرّب نصّا سابقا(Hypotexte)هو "الآن هنا"لعبد الرحمان منيف.يقول "الدرغوثيّ" بلا مواربة: "كان القادح الفعليّ لبداية الكتابة رواية عبد الرحمان منيف "الآن هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى". لا لأنّها الرواية الوحيدة التي دخلت عوالم السجون ، فقد سبقه إلى ذلك كتاب أخر .ولكنها الرواية التي تشبعك حدّ البشم وهي تصف وتعرّي وتدين تلك العوالم"[8]
ويبدو أنّه في اختيار نصّ "عبد الرحمان منيف" كان "الدرغوثيّ" يريد أن يصطفّ عن وعي وقصد في زمرة الكتّاب التقدّميين الذين حاربوا بقلمهم الدكتاتوريّة ،وتنادوا لصون حقوق الإنسان بعد أن اعتبروا أنفسهم موضوع القمع وضحاياه .أليس كلّ المساجين السياسيين هم ممن ابتلوا بحبّ الكتب والمطالعة؟؟.وإنّ الكتابة في موضوع "السجن والتعذيب" تستحيل وعيا بالخطورة التي تهدّد الذات القارئة والمفكّرة والحاملة لأفكار لا تنسجم في الغالب مع معظم الحكام في العالم الثالث.فعبد الرحمان منيف وهو يطلق صيحة الفزع التي يردّدها "الدرغوثي" وغيره في "كرنفال" صوتي يستشعر خطورة ما يقع ،و يُدرك أنّ الشرّ ما غفل عنه إلا ليطال غيره .ولا يدري متى يكون ضحيّة من ضحايا السجن الذي ابتدعه بخياله . وقد حمّل هذا الأديب نفسه مسؤوليّة الفضح حتى لا تكون صرخات المعذّبين صياحا في صحراء الصمت والسّواد الذي يلفّ المدن.على أنّه إذا كان"منيف" قد سافر إلى السجن خيالا ومجازا فإنّ "الدرغوثيّ" قد عرف هذا الفضاء واقعا وتجربة عاشها فرشحت بها كتاباته "في ثمانينات القرن الماضي خضت تجربة السجن . كانت المدة قصيرة ولكنها على كل حال جعلتني أعرف قدرا من المعاناة التي يعيشها البشر داخل جهنم الدنيا .فتعاطفت مع المسجونين في العفير والسجن المركزي وسجني العبيد والقليعة"[9] وعلى هذا النحو ينخرط الروائيان عن وعي وقصد في ما قاله باختين"."كلّ كلمة تشي بأيديولوجيا قائلها..فكلّ متكلّم هو إذن إيديولوجيّ(ideologue) وكلّ تعبير هو إيديولوجيم"idéologème) )[10]
وممّا يجعل البحث عن تجلّيات حضور نصّ "الآن ..هنا" في "القيامة الآن"وأشكاله مسوّغا،ويحوّل خوض غمار هذه التجربة في البحث أمرا مشروعا ،ومدخلا من المداخل الأساسيّة للنّفاذ إلى عالم "إبراهيم الدرغوثيّ" الروائيّ ولاكتشاف خصائص خطابه السرديّ ما أشار إليه "أحمد السماوي" عند دراسته لجملة من روايات هذا الروائيّ وأقاصيصه من أنّ هذا الروائيّ"اختار إراديّا أن يكون أسلوبه في الكتابة تضافريّا نصّيا..اقتناعا بتداخل النصوص ونسخ بعضها بعضا "[11]
وقد انتبه صاحب "التطريس في القصص" إلى أنّ "الدرغوثيّ" أصبح يتعمّد محاورة النصوص القديمة والحديثة على حدّ السواء ليُباريها ويلاعبها بما يجعل حضورها في نصّه وظيفيّا لا تطريزا دون غاية فنّيّة تذكر ذلك أنّه,"أصبح لا يرى بأسا في إنتاج نصّ آخر آنس من نفسه الرغبة في النسج على منواله وبزّه"[12].
وعلى هذا النّحو فإنّ ما نزمع القيام به يندرج في إطار الوقوف على ظاهرة "التضافر النصّي" باعتبارها آليّة من آليات إنتاج النصّ الروائيّ وتشكّله عند "إبراهيم الدرغوثي" الذي يبدو أنّ محاورة النّصوص التراثيّة والحديثة ،على حدّ السواء،قد استهوته حتّى أمست خصيصة من خصائص إبداعه لا مناص من تناولها بالدراسة والتّحليل متى رام الباحث الإحاطة بتجربة هذا الروائيّ التي لا تخلو من فتنة وغواية.وقد وقف كلّ الذين درسوا مدوّنة هذا الأديب السرديّة على هذه الظاهرة التي أمست ركنا ركينا في إبداعه لا يخطئه القارئ ،متعجّلا كان أم متأنّيا،ولم يعد خافيا أنّ نصوص "الدرغوثيّ" تمدّ أعناقها إلى القديم وتحيا موصولة إلى نصوص روائيين كبار لا ينكر شهرتهم إلا جاحد ومن هؤلاء: صنع الله ابراهيم وحنا مينه والطاهر وطّار والطيّب صالح وعبد الرحمان منيف"[13]
2-مواطن التّصادي
2-1في المضمون
ليس الاشتراك في الموضوع مظهرا من مظاهر التّناص أو علامة على التّصادي بين النصوص بالضرورة.وقد يشترك روائي مع آخر في تناول موضوع واحد لكن يختلف عنه من حيث زاوية النظر وطرق المعالجة.و قد يجد القارئ في أكثر من عمل روائيّ "المرويات" نفسها في كثير من أعمال روائيين متعاصرين دون أن يكون الواحد منهم قد اطلع على منجز الآخر بسبب "حجاب المعاصرة" كما قال "المسعدي" أو بسبب التباعد المكاني وإن كان السبب الثاني لم يعد مقنعا بحكم تحوّل العالم إلى قرية بعد الثورة الاتصاليّة .وعلى هذا النحو فإنّ"ما يثبت حصول المعارضة ليس وجود الموضوع نفسه فحسب ولكن وجود وجهة النظر إليه ذاتها ووسيلة التعبير عنها"[14].
والسجن والتعذيب موضوعان خاضا فيهما روائيون عرب وغربيون، وتناولتهما الرواية الحديثة شرقا وغربا..وقد جمع السجن وما يمارس فيه ،وقبل الوصول إليه ،من تعذيب في الأقبية بين روايتيْ"الآن هنا" و"القيامة الآن ".
وفي رواية "الآن ...هنا" تتواتر مشاهد التعذيب الجسديّ والنفسيّ ما يجعل القارئ لا يصدّق أنّ الذين يشرفون على "حفلات" التعذيب هم من جنس البشر لهم أبناء وأسر.وأنواع التعذيب في "عمّوريّة" و"موران" كانت من البشاعة والنذالة والدناءة بحيث أطنب منيف في تصويرها رغم ما تبعثه في القارئ من تقزّز قد يصل إلى حدّ الغثيان.فمشهد السجين وقد اختلطت دماؤه وفضلاته فنام فاقدا للوعي صرخة من تحت الأنقاض تنبّه إلى ما يجري,وهو ما حدا بسعد الله ونّوس إلى القول"حين فرغت من قراءة رواية عبد الرحمان منيف الجديدة أحسست حلقي جافا وغمرني شعور ذاهل بالعار,,كيف نعيش حياتنا اليوميّة ونحن نساكن هذا المرعب الذي يتربّص بنا هنا"[15].ويمكن القول دون مبالغة إنّ رواية "الآن...هنا" أشبه بكاميرا تسلّلت إلى أقبية السجون المظلمة وسجّلت كلّ ما يتعرّض له السّجين من فنون تعذيب. إذ لا يكاد يخلو فصل من الرواية لا ينبعث منه صوت الضرب والركلات أو الشتائم ولا تُسمع فيه صرخات الموجوعين"أبواب الجحيم فُتِحت عليّ.الضرب،اللكمات،بالأيدي،بالرأس والأكتاف،كلّها انصبّت عليّ.كانت القبضة،لأنّها قويّة ومحكمة،توقعني أرضا وكانت القفزة فوقي تجعلني امتزج بهذه الأرض،وما أن أستقرّ في حالة حتّى تنتزعني يد مدرّبة وشديدة الجبروت...وقبل أن أصل إلى حائط أو إلى الأرض تتلقّاني ضربة أقوى منها فأرتدّ"[16]
ونجد صدى لآهات الموجوعين التي تتجاوب في صحراء السجون في "القيامة,,,الآن"إذ أنّ آدم بن آدم"يعيش هو الآخر شتّى أنواع التعذيب الجسديّ والنفسيّ.وممّا يلاحظ أن الأمكنة وطرق التعذيب تكاد تكون واحدة فعند مداهمة المنزل قال آدم مصوّرا اللحظة "داسوني بأحذيتهم مرّوا فوق جسدي"[17] وهو في موطن آخر يقول"يملؤون الغرفة روائح كريهة ..ويضربون يشدّون شعر الرأس ويضربون"[18]
ونحن ننطلق في مباشرة هذا العمل من قناعة مفادها أنّ"إبراهيم الدرغوثي" كتب روايته وفي قلبه شيء من "الآن هنا"وأنّ نصّ هذه الرواية كان حاضرا في ذهنه بقوّة وهو ينتج نصّه اللاحق. ولعلّ ما يزيد كلامنا تدقيقا ما صرّح به الروائيّ نفسه عندما قال "أردت أن أحاسب من موقعي كسجين سابق الجلاّد والضحية ، فاستحضرت من رواية عبد الرحمان منيف ، "الشهيري" و"العطيوي" ، آمري سجني "العبيد" و"العفير" و"عادل الخالدي" و"طالع العريفي" ، وهما ضحيتان من ضحايا السجن"[19]
2-2 في الغاية والهدف
إضافة إلى الاشتراك في المضمون يشترك النّصّان كما يتّضح من كلام "الدرغوثيّ" في الغاية نفسها هي فضح الممارسات الوحشيّة التي يتعرّض لها سجناء الرأي في كلّ الدول العربيّة, إذ تختلف الأسماء من "عادل الخالدي" و"طالع العريفي" إلى "آدم بن آدم" .وتتغيّر الأماكن. لكنّ التعذيب ،بوحشيته ،وبأساليبه الفظيعة ،هو نفسه مُورِسَ ويُمارَس على أجساد أناس لا ذنب لهم إلا أنهم يحملون فكرا مخالفا للسلطة الحاكمة والمتحكّمة "وازددت مقتا للجلاوزة بمختلف رتبهم من العسكري البسيط إلى آمر السجن . لأن السجن واحد وإن اختلفت مواقعه ، والسجان واحد لئن ارتدى "الدشداشة" واعتمر الكوفية أو لبس كسوة الفرنجة . سيان لا فرق بين هذا وذاك إلا بمعجم التلفظ الخاص بالسب والشتم .[20]
وإن كان لرواية "عبد الرحمان منيف" من فضل فهو فتح أبواب السجون المغلقة ،واقتحام هذه القلاع المحصّنة التي تُنتهك فيها حرمات الجسد،وتداس على أسفلتها البارد كرامة أناس أحبوا أوطانهم فاستحال الحبّ "جريمة" أو "جنونا".وتتّضح غاية "عبد الرحمان منيف" من تسوّر السجن واقتحامه على لسان "عادل الخالدي" الذي قال:"أعرف أنّ المسألة لا تخلو من خطورة,لكن أقول لنفسي لقهر التردّد:يجب أن تكون الحقيقة ملك الجميع لأنّها وحدها قاربنا الأخير للإنقاذ, ثمّ إنّ الكثيرين يملكون حقائق ومعلومات أخطر ممّا لديّ .ولا بدّ أن يتجرّؤوا ذات يوم على قولها أو على كتابتها وإيداعها لدى أصدقاء, وحين تُعرَف ،حين تُنشر فإنّ أشياء كثيرة سوف تتغيّر"[21]
ويبدو أن "الدرغوثيّ" يأبى إلّا أن يواصل النهج الذي سار عليه "منيف" فهو يحمل القارئ إلى عوالم التعذيب ،وإلى جحيم المعاناة التي يعيشها أصحاب الفكر الحرّ.و يعلن منذ البدء عن مشروعه السرديّ القائم على فتح الأبواب وتسليط شمس الفضح على هذه المناطق المظلمة في تاريخ البشريّة. وها هو يستدرج قارئه من البداية إلى بؤرة الإثم والشرّ قائلا"تعال معي نفتح الأبواب"[22]
2-3 في العتبات
2-3-1العنوان
اختار" عبد الرحمان منيف لروايته عنوانا مركّبا من جملتين "الآن هنا أو شرق المتوسّط الأخرى" .وهذا العنوان يحيل على مكان وزمان.لكنّهما غير محدّدين بدقّة .فالقراءة هي التي تمنح هذا العنوان بُعديْه :الزمني المكاني كلّما تجدّدت .فالآن هو حاضر القراءة. و"هنا "مكانها. وبذلك تخرج الرواية من أسر الزمن وضيق المكان إلى رحابة الانفلات من عقالهما.لقد كان همّ "عبد الرحمان منيف" أن يُدين التعذيب ،ويعرّي السجن في كلّ زمان ومكان ،وأن يجعل الإدانة والتعرية دائمتين مادامت القراءة، أي مادامت البشريّة على سطح الأرض تشرّب "الدرغوثي" عنوان رواية"منيف". وأراد عن قصد أن يلاعبه ،ويحاوره. فعمد إلى المحافظة على القرينة الزمنيّة" الآن" ليحدّد هو الآخر راهنيّة نصّه الذي يتجدّد بتجدّد القراءة، في لعبة لا يُراد لها أن تنتهي .لكنّه عمد إلى تغيير المكان"هنا" بالقيامة وما تحمله من أبعاد زمنيّة ومكانيّة. فالقيامة نهاية. وهي خاتمة المطاف.تُختَم الدنيا بقيامة فيها تُعرض أعمال الناس، وعلى أساسها يُصنَّف البشر إلى: ساكني جنّة وساكني نار. ومن هنا يتجلّى البعد المكاني ففي القيامة نجد الصّراط الذّي يُعبَر والجنّة، والنار ،ومكان المحاكمة.فإذا كان "عبد الرحمان منيف" قد أحال على مكان دنيويّ افتراضيّ تحدّه القراءة المتجدّدة فإنّ التحويل في العنوان يكمن في الخروج من عالم الدنيا إلى عالم آخروي.فهل أراد "الدرغوثيّ" من العنوان أن يلحّ على أنّنا نعيش قيامة دنيويّة معالمها التعذيب والصّراط ؟؟.ويزداد الاقتناع بأرضيّة هذه القيامة وإنسانيتها عندما تكشف القراءة عن دنيويّة الفواعل والوظائف السرديّة.
من العنوان ،إذن،تبدأ المحاورة .و يجد القارئ نفسه بإزاء نصّ يحاور آخر يستجلبه ليستجليه ويحاوره ليجاوزه.
يكشف"الدرغوثي" من العنوان عن نيته عقد" محاورة"" مع نصّ حداثيّ تواضع قراء الأدب على عدّه من معالم الرواية العربيّة الحديثة. العنوان يكتنز المشروع ويوضّح معالم طريق القراءة .فثمة من يرى الماضي جحيما وثمة من يرى أنّ الحاضر هو الجحيم .وثمة من يرى أن المستقبل هو الجحيم.أمّا "الدرغوثيّ" فيحمل موقفا أبان عنه من البداية ملاعبا قارئه جاعلا من القراءة جحيما من التبصّر والتفكير.فالقيامة التي توحي عقائديّا بأنّها مستقبل مرقوب ينتظره المؤمن أملا يبدّد خوفه من زلات السّنين أمست حاضرا معيشا يتوهّمه آتيا في قادم الأيّام والحال أنّه مغروس في حاضره ..القيامة بما هي حساب وعقاب وامتحان لا تختلف عمّا يعيشه المثقّف المنتمي في الدنيا.وما الكتاب الذي تُدوَّن فيه أعمالُ الإنسان في نهاية المطاف إلّا بطاقة حسن السيرة التي يمنحها الحاكم لرعاياه في كلّ مكان ،و سجلّ تُدوّن فيه المحاكمات التي تقع لأناس لا ذنب لهم إلا حمل كتب وأفكار لا تعجب هذا الحاكم. أمّا النّار فهي صورة عن العذاب الذي يُمارس في الأقبية والسجون .لماذا البحث عن القيامة في المستقبل والاستعداد لها بصالح الأعمال والأقوال، وهي ماثلة أمام القارئ بشخوصها معذِّبين ومعذَّبين، وبنارها ،وبنعيمها !! ؟؟وهل الصراط إلا صورة عن هؤلاء الذين يخرجون بالآلاف في صراط معلوم يبحثون عن "خبز النجاة" فلا يظفرون إلا بفتات الموت !!؟؟ أنّى للقيامة أن تقوم وهي قائمة أصلا ماثلة في كل خطوة يخطوها الإنسان . الكلّ يعيش القيامة في دنياه, مِن الناس مَن ينعم بجنة الدنيا ,ومنهم من يصطلي بجحيمها..القيامة بُعْد نفسيّ هلع وفزع وخوف ورعب. وهل يجب أن ينتظر الإنسان القيامة الموعودة كي يعيش هذه المشاعر؟؟زوّار الليل وهم ينثرون رعبهم في قلوب وعلى أجسادهم العارية في كلّ مكان من "شرق المتوسّط" ،يرسمون في آخر الليل لوحات من الخوف والفزع..الأطفال وهم يستيقظون على مشهد آبائهم يداسون بالأحذية ،ويقذفون في سيارات التيه والضياع يدركون الفزع ويستحيل وشما في الذاكرة. وحتى أولئك الذين يبتسمون للغاصب ويتمسحون على أعتابه زارهم الفزع والرعب، فأدّبهم ،وملأ صدورهم بالنفاق والكذب. تعلموا الضحك بعد ليال من البكاء والهلع.
العنوان ،إذن، قراءة لرواية "عبد الرحمان منيف".. إنّ ما عاشه "عادل الخالدي" و"طالع العريفي "وكلّ معذّبي الأمس، واليوم، وغدا لا يعدو أن يكون إلاّ صورا من صور القيامة كما جاء وصفها في القرآن وكما نسجها الخيال المدعوم من أحاديث كان فيها للاختلاق والوضع نصيب.
نصّ "القيامة... الآن"نصّ يُربك ،ويُدخل الحيرة والشّكّ ،و يبشّر بقيامة موجودة عميت الأبصار عنها.. الدين،من جهة، يطمئن .والنّصّ الروائي يفجّر براكين الحيرة والسؤال...القيامة -مُستقبلا- معنى مستقرّ في الأذهان وهي في هذا المتن السرديّ معنى مهزوز مخلخل...للنصوص الدينيّة آيات وبراهين على القيامة وللنص الروائي آياته...النصّ الديني يعطي للقيامة علامات(النفخ في الصور/ الدجال/ ياجوج وماجوج )وآيات "الدرغوثي" دنيويّة: إنّها استعباد الإنسان لأخيه الإنسان،حاضرا ومستقبلا، وممارسة التعذيب الممنهج عليه ،وحرق الكتب ورجم الكتّاب رموز الفكر والحريّة. الدين من جهة، يطمئن.والنص الروائي من جهة أخرى يفجّر براكين الحيرة والسؤال...القيامة ،مستقبلا، معنى مستقرّ في الأذهان .وهي في هذا المتن السرديّ معنى مهزوز مخلخل...للنصوص الدينيّة آيات وبراهين على القيامة .وللنص الروائي آياته...
إنّ "العنوان" الذي اختاره "إبراهيم الدرغوثيّ" لنصّه قد حوّل البعيد المنتظر إلى قريب منظور تراه العين الباكية ،وتنفطر له القلوب المرتعشة في ليالي التعذيب الموحشة ..من علامات القيامة تحوّل الإنسان إلى وحش عديم الإنسانيّة والضمير يقتل بلا سبب ويعذّب لأسباب تافهة.. قيامة الدين والقرآن حياة بعد موت. وقيامة "الدرغوثيّ" موت في الحياة ..إنّها قيامة الأنين والأحزان المنبعثة من سجون امتدت شرقا وغربا تحاصر الفكر ،وتصادر الكلمة وتمنع التنفّس.أيّ قيامة ينتظرها إنسان هذا العصر وهذه الأهوال من حوله تتجاوز في رعبها ما رسمته الذاكرة الشعبيّة والأحاديث عن هذا اليوم العظيم؟؟...صرخات الموجوعين والمقموعين والمعذَّبين في سجون الشرق وأقبيته نفخ بالآلام في صور "قيامة دنيويّة" أراد فيها الإنسان المتطاول بالشرّ أن يفتكّ دور الإله لينصّب نفسه حاكما على البشر.ولئن حافظ "الدرغوثيّ" على القرينة الزمنيّة "الآن" وأخّرها معوّضا "هنا" بالقيامة فإنّه أسقط القسم الثاني من العنوان وتجاهله.فهل أراد بذلك أن ينبّه القارئ تلميحا إلى أن ما يقرأه "الآن" من "قيامة" هو،في الحقيقة، شرق المتوسّط من جديد؟؟في كلام "الدرغوثيّ" ما يشي بهذه المواصلة ،ويكشف عن نيّته التنويع على أصل واحد يقول: "هل قلّت الشخصيات التي يمكنني أن أستحدثها لتأثيث روايتي فذهبت أبحث عن متكئ(كذا في الأصل) في تلك الرواية كما ذهب في ظن البعض .ولكنني قمت بهذا الفعل عامدا متعمدا لأنني أردت أن أتشفّى من جلادي الدنيا ، هؤلاء الذين عرفتهم في الرواية حتى صاروا عندي بشرا من لحم ودم . لا شخصيات من ورق . صاروا أسماء علم يمكنك أن تصادفهم في الشارع أو في أي مكان يخطر على بالك . أتشفى بتعذيبهم في نار روايتي وأسلط عليهم ألوانا من عذاب الآخرة التي طالما تكلموا باسمها عندما كانوا يعذبون ضحاياهم[23]
وإذا كان "الدرغوثيّ" قد تصرّف في العنوان كما بيّننا ،فإنّ سلطة هذا العنوان قد استبدّت بخياله ،وملأت روحه حتّى أنّ شخصيات"القيامة" نطقت بعنوان رواية عبد الرحمان منيف ،وردّدته على ألسنتها ،وأشارت إليه صراحة.ففي اللقاء الذي جمع "آدم بن آدم" بعادل الخالدي تشارك البطلان في ذكر عنوان النصّ المصدر:قال عادل: متى وصلت؟قلت :الآن !قال:وأنا هنا منذ ألف ألف سنة أترقّب عودتك إلى الأرض[24]
2-3-2 التصدير
التصدير كما يعرّفه "جنيت " شاهد (Citation) يوضع عادة في صدر الكتاب، وكثيرا ما يرد في الصفحة الواردة بعد الإهداء مباشرة أو في مطلع كل فصل من فصوله. وقد صدّر "عبد الرحمان منيف" روايته "الآن...هنا" بثلاث عتبات نصّية الأولى من الجزء الأوّل من كتاب للشيخ "كمال الدين الدميري"بعنوان "حياة الحيوان" الصادر عن "المكتبة الإسلاميّة" لصاحبها"الحاج رياض الشيخ" .وهي عبارة عن حديث للرّسول "أدخلت الجنّة فرأيت فيها ذئبا فقلت أذئب في الجنّة؟ فقال أكلت ابن شرطيّ فقال ابن عباس :هذا وإنّما أكل ابنه فلو أكله رُفع في عليين" والثانية كلام منسوب إلى سفيان الثوريّ"إذا رأيتم شرطيّا نائما عن صلاة فلا توقظوه لها فإنّه يقوم يؤذي الناس"(طبقات الشعرانيّ) والثالثة لبطل رواية الأمل لمالرو"أفضل ما يفعله الإنسان أن يحيل أوسع تجربة ممكنة إلى وعي"[25]
وفي المقابل اكتفى"الدرغوثي" بعتبة نصّيّة يتيمة أثبتها في الصفحة الثالثة ،وأعادها في صفحة الغلاف الأخيرة وهي قولة لدوستويفسكي"لئن اتبعت الشيطان يا ربّ فإنّي أظلّ ابنك لأنّي أحبّك ولأنّ في نفسي سبيلا إلى الفرح الذي لولاه ما وجد الكون" مأخوذة من رواية الأخوة كرامازوف لدوستويفسكي وفحواه الاعتراف بالحقيقة والشعور بالذنب، فيه يعترف "ايفان" وهو أحد أبناء "فيودورفيتش كرامازوف" أمام المحكمة بقتل والده، فيتّهم بالجنون والهذيان. ويتمثل الرّابط بين رواية الدرغوثي ورواية دستويفسكي في جنون كلّ من "كرامازوف" والسارد في القيامة ...الآن.
أوّل ما يلاحظ في العتبة النصّيّة الأولى لعبد الرحمان منيف ذكر للجنّة. وهذا المكان المقدّس عند المؤمن على ارتباط وثيق بالقيامة التي عنون بها "الدرغوثي" نصّه .فالجنّة هي مآل الخيرين بعد القيامة وما يتبعها من حساب.وإذا كان ذكر الجّنّة قد جاء عَرَضا في كلام "منيف" فإنّ "الدرغوثيّ" يتوسّع في وصف الجنّة والجحيم ويحملنا في رحلة خياليّة إلى عالم الماورئيات متّكئا على ما ترسّب في الذاكرة من صور عن هذه العوالم التي ورد ذكرها في القرآن ،والسنّة ونسجت عنها الذاكرة الشعبيّة حكايات غريبة عجيبة.ومن مجرّد إشارة في عتبة نصّيّة عند "منيف" تتحوّل الجنّة إلى فصل من فصول "القيامة الآن" اختار له "الدرغوثيّ" عنوان"نعيم الفردوس"[26]
لكنّ أهمّيّة العتبتين الأولى والثانية تكمن في تعلّقهما بالشرطيّ الذي يحمل معنى التعذيب والإيذاء في الروايتين,فقد شرع "منيف" في التهجّم على آلة القمع ،وما ترمز إليه من وحشيّة وتعذيب من البداية. فانعكس ذلك على بداية رواية "القيامة الآن" ذلك أنّ الراوي يتحدّث عن كوابيس تتكرّر كلّ ليلة .ومنها كابوس لم يختره الدرغوثيّ اعتباطا وهو كابوس"شرطيّ ينظّم حركة المرور"[27].فحضور الشرطيّ كان في فاتحة الروايتين تصديرا في "الآن هنا" وتدشينا للأحداث في "القيامة الآن"
وإذا كان "عبد الرحمان منيف" قد اختار كلاما لبطل رواية الأمل للأديب الفرنسيّ"مالرو"فإنّ "الدرغوثي" قد استعاض عنه بكاتب روسيّ شهير"دوستويفسكي" لكنّهما بهذا التصدير يشتركان في تأكيد الرواية جنسا كونيّا.
لكنّ المتأمّل في العتبة النصّية الثالثة يرى بينها وبين نصّ"القيامة" وشائج قربى وتصاد كثيرة. فالدرغوثيّ يريد من خلال مواصلة الحديث عن السجون والتعذيب تحويل تجربة "طالع العريفي" و"عادل الخالدي" و"آدم" إلى "وعي" جماعيّ يضرورة القضاء على التعذيب ،وفضح ممارسيه ،وكشف الآمرين به الذين يتخفّون ،ويكتفون بإصدار الأوامر من وراء ستار.رواية "القيامة...الآن" من هذا الجانب تُعاضد "الآن...هنا" في بثّ "ثقافة حقوقيّة" ،وفي توعية الناس بفظاعة ما يجري في دهاليز السّجون دفعا لهم إلى الثّورة على ما يجري في غياهبه.لقد كان بطلا "الآن ...هنا"يعتبران صمت الناس عارا وتواطؤا مع الجلاد. فبصمتهم ارتكبوا جريمة لا تقلّ عن تلك التي ارتكبها ويرتكبها الجلاّدون:"إذا تحوّل الإنسان إلى شاهد أخرس ،إلى شاهدة قبر ،إلى شيء عقيم فعندئذ يفقد مبرّراته كلّها"[28] لقد اشتركت الروايتان ،إذن،في حمل مسؤوليّة الفضح والتعرية والكشف والتشهير والإدانة،وفي بثّ الوعي في العامّة المكبّلة بالخوف والحرص على الحياة الآمنة وكسب الرزق في صمت ولامبالاة بما يجري لأناس تجنّدوا لرفض الظلم والاستغلال وكبت الحرّيات.
2-4 في الشخصيات
أبطال رواية الآن هنا" كُثْر.ولا يتّسع مجال البحث لحصرهم ،وبيان برامجهم السرديّة ،وكلّ الوظائف التي اضطلعوا بها.على أنّ القارئ يمكن أن يهتدي بيسر إلى أنّهم،في هذه الرواية السياسيّة، ينقسمون إلى مُعذِّبين تطاولوا عنفا واستخفافا بالذات البشريّة ،واستمتاعا بإهانة أجساد السجناء، وتعذيبهم عذابا نفسيّا لا تندمل جراحه على مرّ السنين،وإلى معذَّبين تعالت أصوات صرخاتهم في ظلمات السجون بلا صدى،ودميت أجسادهم تحت وقع الضرب والركل. وقد تناوب"عادل الخالدي" و"طالع العريفي" على السّرد في الرواية .وفتحا للقارئ أبواب السجن فأطلّ من كوّة"الخيال" على ما تحوّل واقعا معيشا عند مناضلين آمنوا بالحرّيّة ،وبشمس من العدل تشعّ على أرض "الشرق" المظلمة , و"عادل" و"طالع" سجينان سياسيان تعرّضا إلى شتّى أنواع التعذيب ما خلّف فيهما أمراضا عجز الأطباء عن تخفيف خطورتها لأنّها تجاوزت الجسد وتسلّلت إلى الروح .وأنّى للرّوح أن تشفى من الشّعور بالإذلال والمهانة؟ولم يتركهما الجلّادون إلاّ بعد أن استنفذوا معهما كلّ طرق التعذيب المحلّيّة والمستوردة وانتهوا-بحكم خبرتهم في القتل-إلى أنّهما سيُنهيان حياتهما في المستشفيات يعيشان فيها الموت البطيء.يموت "طالع العريفي" في المستشفى بعيدا عن الأرض التي أحبّها ،وأراد لها أن تنعم بالحريّة والعدل .ويبقي "عادل الخالدي" صوتا خالدا يُذكِّر بآلام المعذبين والمدفونين أحياء في الأقبية والحجرات المظلمة ،وعينا تنقل الأهوال التي يعيشها السجناء السياسيون.بطلا "عبد الرحمان منيف" قادهما الوعي بأهمّيّة الحريّة سبيلا للرقيّ ، والعدل أملا في نهضة شاملة، إلى غياهب سجون "عمّوريّة" و"موران"[29].و"آدم بن آدم" بطل "القيامة...الآن"هو الآخر عرف نفس مصير "عادل الخالدي" و"طالع العريفيّ" لأنّه لعب بالنار مثلهما ،واقترب من "ثمرة" السياسة المحرّمة فنزل إلى دنيا "الأقبية" ،وغرف التعذيب مجنونا. وبدا كأنّة غصن من شجرة تتساقط أوراقها في السّجون والمنافي لتعطي "ثمرة" الحرّيّة المتولّدة من رحم الموتى والدماء.فهذا السياسيّ الذي اتُّهِم بالجنون انقضّ عليه "العسس" فجرا. داهموا منزله وأحرقوا كتبه التي تنطق بإفك العقلانيّة والمساواة والحرّيّة، ومارسوا عليه فنون التعذيب.أُطْرِد آدم أبو البشريّة من الجنّة بسبب "تفاحة" الإثم"وزُجَّ بآدم بن آدم"طالب الحرّيّة في السّجن لأنّه جُنَّ في طريق السياسة .وما جنونه إلّا لأنّه أراد لروائح الحرّيّة أن تفوح.ولم يكن اختيار الاسم مصادفة بل إنّ اصطفاءه دون سواه كان مقصودا.فالدرغوثيّ بإلغائه الاسم الذي قد يحيل على وطن أو حضارة أو دين أراد أن ينفتح على الإنسانيّة الرحبة ذلك أنّ التعذيب ،وإن كان"امتيازا"عربيّا شرقيّا باستحقاق ،فإنّه يظلّ مشغل الإنسان تتصادى للتنديد به حناجر كلّ المؤمنين بالحرّيّة وبحقّ الاختلاف. وعلى هذا النحو فإنّ اسم "آدم"بطل رواية "الدرغوثيّ" ،يحمل صوت "عادل الخالدي" و"طالع العريفي" وهما يتصايحان ألما موزّعا بين "عمّوريّة " وموران"،ويرسم آثار التعذيب وقد سالت دماءً ودموعا.
وتتأكّد وشائج القربى بين "آدم " و"عادل الخالدي" عندما تصبح هذه الشخصيّة أوّل مَن يلتقيها بطل"القيامة ...الآن" ،بمجرّد عودة روحه إلى الأرض .ويتعاظم حضور "عادل الخالدي" في نصّ "الدرغوثيّ" إلى حدّ "الحلول" حلولا صوفيّا في ذات البطل."وسكنني عادل وسكنته"[30].ويقول في موضع آخر"وأنا أسكن خالدا وخالد يسكنني" [31]. وهل حلول "عادل الخالدي" في ذات "آدم بن آدم" إلاّ صورة من حلول "طالع العريفي" في ذات "عادل الخالدي" لـمّا حمّله وزر حفظ مذكّراته التي أغراه بكتابتها؟؟ ألم تُوحّد التجربة بين البطلين في رواية "الآن ...هنا" كما وحّدت بين آدم ومَن سبقه من المناضلين ومَن سيعقبه؟؟عادل وطالع وآدم أسماء قد لا تتشابه لكنّها تتماثل تجربةً ومعاناةً في رسم طريق الحريّة وتتحوّل بأجسادها المخضّبة بالدماء والموشومة بالعذاب إلى علامات ومنارات في مسيرة نحت كيان العدل المفقود.ويحضر "طالع العريفي" في فصل "صيد الخنازير "راكبا على جواد عربيّ أصيل وحاملا لعدّة الصيد"[32].وغير خاف على القارئ ما يرمز إليه "الدرغوثيّ"وهو يُركب بطل "منيف" جوادا عربيا كنايةً عن الأصالة والعزّة والشّموخ ،وما يشي به خطابه التهجينيّ وهو يحوّل "الشهيري" إلى "خنزير"تأكيدا لحقارته ونذالته .
و لقد كان"اختيار "الدرغوثي" لاسم بطله نابعا من تمثّله رواية "الآن...هنا"وامتصاصه لهذا النصّ المصدر.فالمحقّق كان يعمد إلى شتىّ الوسائل لتليين موقف السجين ،ودفعه إلى الاعتراف بتهمة ركّبها ونسجها بخياله.وعندما يشعر بعجزه يُنكر على السجين"آدميته" ،ويبحث في قاموسه عن أقبح الحيوانات ليصفه بها.والآدميّ عند "السجّان" المعذِّب هو الذي يعترف ،ويخلّص نفسه من جحيم العذاب.ذلك أنّ عقليّة هذا السّجّان أوضعُ من أن تفهم أو تتفهّم سبب تحمّل السجين لشتىّ أنواع الأذى يقول "الشهيري" وهو يسعى إلى سحق "طالع العريفي"نفسيّا كي ينتزع منه الاعتراف،ويشعر بانتصارته،ويطمئنّ إلى نجاعة وسائله"الظاهر بعده الحصان خالك وظنّي أنّك أبد ما تصير آدميّ"[33]
أمّا المعذِّبان فهما "الشهيري" و"العطيوي" آمر سجن "العفير".في رواية"القيامة...الآن " يحضر "الشهيري" و"العطيوي" ليمارسا نفس الدور القذر الذي مارساه في السجنين اللذين تحدثت عنهما رواية "الآن هنا",يظهر الشهيري مواصلا الدور نفسه الذي اضطلع به في "الآن هنا" ونراه في فصل "الشهيري يعاود الظهور" يتلذّذ بممارسة الفنّ الذي أتقنه، ولا يعرف سواه، على "آدم بن آدم" بطل الرّواية مستعملا الأسلوب نفسه والمعجم نفسه"وأخرج المسدّس الذي قتل به هلالا لوّح به في فضاء الغرفة ثمّ أعاده إلى غمده,وامتدّت يده تصفع الوجه والقفا ,تخبط في كلّ الاتجاهات ثم يركل بالحذاء ما بين الفخذين...ويزمجر في وجوههم أن كفّوا يا أولاد الزنى"[34] ويحضر "العطيوي" آمر سجن العفير بطلا من أبطال القيامة الآن يواصل الدور الذي عُرف به وهو التعذيب"وقف قبالتي أدخل سبابته في محجري فأحسست بألم فظيع"[35]
في رواية القيامة...الآن" تحضر شخصيات "الآن...هنا" بأسمائها وأفعالها ما يشي بأن "النصّ الناسخ" تحوّل إلى كتابة جديدة تتناسل من رحم النصّ المصدر تواصله وتضيف إليه حتّى غدت تنويعا على أصل واحد.
2-5 في الأطر المكانيّة
في رواية "الآن,,,هنا" دارت الأحداث في فضائين كبيرين أطّرا الأحداث ووجهاها.وهما السجن والمستشفى.فقد تعدّدت أسماء السجون في هذه الرواية"العفير/العبيد/القليعة/,,,وهي فضاءات شاهدة على دوس حقوق الإنسان وفيها تعالت أصوات السجناء وصرخاتهم تحت التعذيب الذي يتعرّضون له بكلّ وحشيّة وساديّة .وإذا كان السجن فضاء العنف والضرب والتعذيب فإنّ" المستشفى" يمثّل مكان الراحة وتوقّف الممارسات الوحشيّة .ويمثّل "مستشفى السجن" مساحة وسطا بين عذاب منته وآخر منتظر بعد نهاية العلاج .لكنّه يظلّ راحة مؤقّتة،وتأجيلا للعذاب إلى حين.وفي مستشفى السجن يحوم الجلاد حول فريسته متعجّلا أن تستعيد بعضا من قواها لينتشلها من الطبيب ويمارس عليها لعبة التعذيب والإيذاء.على أنّ المستشفى في"براغ" وفي"باريس" مثّل الملاذ والنجاة من براثن الجلاّد .نجا "طالع العريفي" من الموت في السّجن لكنّه مات في المستشفى بعد أن عجز الأطباء عن إنقاذه مما ناء جسده بحمله في السجن,وفي مستشفى"سان باتريير" ،في باريس، تمكّن "عادل الخالدي" من أن يعيش ،ومن أن يسجّل شهادة الإدانة.فهل انعكس ذلك على "القيامة ...الآن"؟
من البداية يحضر المستشفى في رواية "الدرغوثيّ" حيث تنطلق الأحداث ببطل يُزَجُّ به في "المارستان" ويعيش فيه"سنين وسنين"[36] بشبهة الجنون.أليس ما أقدم عليه "عادل الخالدي" وطالع العريفي" جنونا؟أليس دخول عالم السياسة من كوّة المعارضة ومواجهة السلطة الطاغية بالكلمة ضربا من ضروب الجنون والإشراف على الهلاك !!!؟ بمنطق "العطيوي" والشهيري" ،ومن لفّ لفّهما، مجرّد التفكير في المعارضة "جنون" يحتاج فيه الجلاّد إلى فنون من التعذيب كي يستعيد المعذَّب رشده فيصبح "آدميّا" مثل بقيّة "قطيع"الآدميين,لقد اعتبر "الشهيري" صمود "طالع العريفي" جنونا, كما حمل "آدم" معه المستشفى ،بما هو عطب ومرض ناتجيْن عن التعذيب الذي ترك في النفس وشما، حتّى وهو ينعم بذهب الجنّة ونعيمها"ما أغباني أحلم بالمارستان وأنا في الجنّة؟"[37]
وإذا كان "منيف" قد ظلّ ملتصقا بالأرض يصوّر ما يقع في السجون الممتدّة في "شرق المتوسّط" فإنّ "الدرغوثيّ" قد ارتفع إلى الأعالي ،وأبحر في الزمان ،وارتقى إلى أماكن علويّة.لكن بمجرّد التمعّن في خصائص هذه الأمكنة يتوضّح أنّها لا تختلف في شكلها عن السّجون التي صوّرها "منيف".فالجنّة التي عاش فيها "آدم" لا تخلو من "تقارير" و"مناشير" تتسرّب من جهنّم شبيهة بتلك المناشير والكتب التي تتسلّل إلى السّجن بارتشاء عون حارس .فيتبادلها السجناء خفية ،وبعيدا عن أنظار العسس.وما الجنّة التي صعد إليها "آدم بن آدم" إلّا وجه آخر للسّجن المحكم الغلق الذي ينجح سجناء الرأي في اختراقه رغم التحصينات ،ورغم "وهم" المناعة التي يُوسَم بها وزيف الصرامة التي يريد الجلادون حفرها في أذهان المعذَّبين."كنّا نتمتّع بأيّامنا في الفردوس,,,إلى أن بدأت تصلنا تقارير من النّار لست أدري من كان يسرّب هذه التقارير ولا كيف دخلت الجنّة, والجنّة على أبوابها خزنة يفتّشون الداخل إليها تفتيشا دقيقا"[38] وقد أشار "منيف" في روايته إلى أنّ "دول شرق المتوسّط" قد تحوّلت إلى سجون كبيرة يُعذّب فيها الفكر الحرّ وتُغتصب فيها الحرّيّة كلّ يوم بأشكال متنوّعة.ويواصل "الدرغوثيّ في هذا المعنى ملمّحا إلى أنّ دولا تُوهم مواطنيها بأنّهم في نعيم وهي في الحقيقة تحكم بناء السجون من حولهم وتحوّلهم إلى رعايا مساجين لأهواء حاكم مهوس بالتعذيب ،وبمصادرة الرأي الحرّ ،وكبت الاختلاف الذي يعدّ خطرا داهما لا يُواجَه إلّا بالقمع والتعذيب والنفي والقتل.
3-أشكال التصادي
3-1الشاهد:
عدّ "جينيت"(Genette) الشاهد (citation)علامة دالّة على التّناصّ وإثباتا نصّيّا لتصادي النّصوص. وقد اعتبره عند حديثه عن أشكال حضور النصّ المصدر في النصّ الناّسخ شكلا ظاهرا وخطّياّ[39].. وفي هذا الشكل من التّصادي لا يعمد الكاتب إلى التمويه ولا يترك القارئ يدرك النّصّ الغائب ويستحضره بنفسه.
وفي "القيامة ...الآن"عمد "الدرغوثيّ" إلى إيراد شاهد من "الآن...هنا " أتذكّر أنّ الشهيري جاءني بعد شهر من اغتيال هلال......راح أموّتك كلّ يوم"[40].لم يوضع النصّ بين ظفرين.وإنّما وردت علامة نصّيّة تحدّد المصدر والصّفحة بدقّة.والغريب أنّ "الدرغوثيّ" سبق أن عرّف "الشهيري" بعلامة نصّيّة سابقة تحدّد أنّه "من جلاوزة رواية عبد الرحمان منيف :"الآن...هنا"[41].ولم تكن هناك ضرورة -في رأينا- للإشارة بأنّ هذا المقطع مأخوذ حرفيّا من رواية "الآن...هنا" ذلك القارئ الفطن يدرك من خلال اللّهجة العامّيّة المستعملة، ومن شكل الخطاب مصدره. وحتّى إن لم يعلّم "الدرغوثي" على ذلك ،فإنّ القارئ يتفطّن إلى مصدره خاصّة وأنّه تضمّن كلمات عامّيّة مشرقيّة. ولا نعتقد أنّ ما قام به "الدّرغوثي" يدخل في باب الحرص على "الأمانة العلميّة". بل لعلّه بهذا التنصيص،وبلزوم ما يلزم يتوجّه إلى قارئ متعجّل ينبّهه إلى النّصّ السابقإن كان "خالي الذهن" منه ،ولم يطّلع عليه.فهل تحوّلت "القيامة الآن" بهذا الشاهد إلى ما يشبه الإعلان الإشهاري الذي يدعو ضمنيّا القارئ غير المختصّ إلى أن يقرأ نصّ عبد الرحمان منيف"الآن...هنا"؟؟.
ولعلّنا لا نبالغ إذا قلنا إنّه لم نر نصّا لاحقايلحّ إلحاحا على الإحالة على النصّ السابق مثلما فعل "الدرغوثيّ" في "القيامة ...الآن".وإذا كان غيره من الكتّاب يتعمّدون إخفاء نصوصهم المصادر إمعانا في ملاعبة القارئ ،وينوّعون حيلهم لإبعادها،فإنّ "إبراهيم الدرغوثيّ" ،على العكس،يذهب في التصريح حدّ المبالغة والشّطط .فما هي الغاية من كلّ هذا؟ الغالب على الظّنّ أنّ غاية الكاتب لم تكن مجرّد تنبيه القارئ إلى النصّ السابقبل الإلحاح على تأكيد التشابه بين ما تعرّض له السّجين"طالع العريفي" في "موران" على يد جلّاده "الشهيري" وما يتعرّض له "آدم" الذي سكن "خالدا" وسكنه.وقد جعل "الدرغوثي" من هذا الاستنطاق مواصلة للاستنطاق الذي يتعرض له بطله .على أنّه إذا كان "طالع العريفي" متهما بالانتماء إلى تنظيم سرّي يُراد منه-عبر ألوان من التعذيب- أن يكشفه بالاعتراف ،فإنّ بطل "الدرغوثي"قد تعدّدت تُهمُه،وتجمّعت لتفتح عليه أبواب الجحيم. وهي : الكتابة ضدّ الحكومة ،وسبّ أمريكا ،والتحريض على الإضراب، ودفع الشعب إلى التظاهر.ودون تمهيد يتّحد "آدم" بطالع العريفي" و يحلّ فيه .وإذا "أنا" بطل "الآن هنا" يتماهى مع بطل "القيامة الآن". فالشهيري الذي عذّب "طالع العريفي" هو نفسه الذي يعذب "آدم" ويهدده"ولا تريد أن تتكلّم يا ابن الفاجرة !سأجعل دبرك يتكلّم عوضا عن فيك"[42].حتّى لكأنّ الاستنطاق فصل من فصول "الآن,,,هنا"لتشابه الأفعال و قاموس الأقوال,
من خلال هذا الشاهد أراد "الدرغوثي" أن يثبت أنّ أمّة الشرق ترزح تحت نير الجلاّد نفسه. تختلف السّجون والأماكن.لكنّ فنون التعذيب هي نفسها تُمارس بكلّ وحشيّة.ولم يعد غريبا أن تتناسل السجون،وأن يتجدّد السجناء. لكنّ السجّان واحد ثابت الملامح والصفات والسلوك والأفعال.فأيّ غرابة أن يرى القارئ "الشهيري يعاود الظهور[43] .لقد انتهى هذا الجلّاد في النّصّ السابقميّتا في حادث مرور"قُتل في حادث سيارة وقيل إنّه انتحر"[44] لكنّ "الدرغوثي" تعمّد أن يحييه لينبّه إلى أنّه مازال حيّا يُمارس هواية التعذيب بأسماء مستعارة .في كلّ زمن ،وبكلّ أرض في شرق الأرض ومغربها ،مازال "الشهيري" حيّا يرفع مسدّسه ،ويشهره في وجوه المناضلين، معلنا ماضيا وحاضرا ومستقبلا، استعداده للقتل،وسعادته بسحق الإنسان ،وبتنويع فنون التعذيب التي تتجاوز في إيذائها الجسد إلى الروح."الشهيري" باق ما بقيت هذه السجون والأقبية ترسم في ليل السجناء الحزين حكايات عن أناس دفنوا أحياء ،ومارس عليهم جلادوهم ما تنوء بحمله الجبال .لهذا أدمج "الدرغوثي" الشّاهد في روايته حتّى صار منها. ولم يظهر نشازا بل انصهر في المقام الجديد ،وواصل ما تجنّد له الكاتبان:"منيف" و"الدرغوثيّ" من كشف وفضح وتعرية للأهوال التي يعيشها أناس لا ذنب لهم إلّا أنّهم يحملون أفكارا مغايرة .أليس في هذا ما يؤكّد على أنّ "القيامة... الآن" هي "شرق المتوسّط من جديد وأنّ "الدرغوثيّ" ما أسقط النصف الثاني من عنوان النّصّ المصدر إلا ليثبت أنّ متن نصّه لا يعدو أن يكون إلّا النصف المحذوف عن قصد؟؟؟. ألا يمكن القول في اطمئنان إنّ الدرغوثيّ أراد بهذا الصّمت عن"شرق المتوسّط مرّة أخرى" أن ينحت عنوانا جديدا يجمع الروايتين"الآن...هنا أو القيامة...الآن"؟؟
3-2المعارضة(pastiche)
عارض فلان فلانا إذا اتّبعه وقلّده.ومن معاني المعارضة المُباراة .وعارضه أي باراه. والمعارضة عند "جينيت" ضرب من ضروب المحاكاة يتجاوز الأسلوب إلى المحتوى(le contenu) عكس ما كان رائجا يقول:"لست متأكّدا من أنّ المعارضة شأن أسلوبيّ محض كما هو في المعنى المعتاد للمصطلح إذ لا مانع من محاكاة المحتوى"[45] واستنادا إلى التعريف المصطلحيّ ،واستئناسا بما ذكره هذا الناقد الفرنسيّ ،يمكن القول في اطمئنان إلى أنّ رواية "القيامة الآن " معارضة صريحة لرواية "الآن هنا".ونزعم أنّه إلى هذا المعنى قصد "الدرغوثي" وهو ينتج نصّه اللاحق. .فهو لا يتردّد عن التصريح بأنّ النّص السابق قد سكنه وحلّ فيه حُلول "عادل الخالدي" في "آدم".فكتب نصّه مفتونا به ،يريد أن يلاعبه ويباريه وأن يحاوره فجعله متكئا سرديا نهل منه ليواصل رسم المشاهد المأسوية التي تتكرر يوميا.وإذا كان "طالع" عرف التعذيب في "موران" و"عادل الخالدي" في "عمورية" فإن "آدم" يتعرّض إلى التعذيب في بلد فيه منظّمة نقابيّة تُعرف باسم "الاتحاد العام التونسيّ للشغل" وفيه "محمد علي الحامي" و"فرحات حشاد" وكانت تصول فيه "ميليشيات "الصياح". وعلى هذا النحو فإنّ ما قام به "الدرغوثيّ طوعا يعدّ معارضة لأسلوب "منيف" ومضمون روايته.وتتجلّى المعارضة الأسلوبيّة في اختيار المعجم نفسه الذي يعتمده الجلادون بما فيه من قسوة وفظاعة,ففي رواية "الآن...هنا" تتعدّد الشتائم وتبلغ أقصى مدى لها في الفحش والبذاءة. وقد تعمّد "عبد الرحمان منيف" أن يقدّمها لقارئه دون تجميل أو "تهذيب" كي تكون شهادة إدانة تُضاف إلى سجلّ الجلادين الأسود لتفضحهم وتعرّيهم .ولعلّ أيّ محاولة لتلطيف هذه الشتائم كي لا تصدم القارئ ولا تمسّ الحياء من شأنها،في نظر عبد الرحمان منيف، أن تجمّل القبيح ،وأن تمنح هؤلاء المعطوبين خلْقا وخُلُقا أن يظهروا على غير صورتهم الحقيقيّة.وقد انكشف من الرواية ما يخزّنه هؤلاء من بذاءة تُلهب أرواح السجناء بقذائف من الشتائم والإهانات. وإمعانا في رسم بشاعة التعذيب عمد منيف إلى تصوير الحالات التي يمرّ بها السجين أثناء تعذيبه.فبيّن كيف أنّ المكان "تحوّل إلى زريبة من الدم والقيء والبقايا"[46] والغاية من تصوير هذه التفاصيل والتوغّل حدّ الفحش في نقل ما يتردّد على لسان السجّان هي التعرية والكشف وفضح هؤلاء الذين تجرّدوا من إنسانيتهم وتحوّلوا إلى وحوش آدميّة تنهش لحم المسجونين.
وقد طفح نصّ "القيامة الآن" بألوان من الشتائم المقذعة التي يوجّها السجّان في صَلَف إلى السجين جامعا إلى العنف الجسدي بذاءة في القول وكاشفا عن حقيقته العارية من كلّ قيم."ولا تريد أن تتكلّم يا ابن الفاجرة سأجعل دبرك يتكلّم عوضا عن فيك"[47].
ومن مظاهر المعارضة الأسلوبيّة جمع الروايتيْن بين العربيّة الفصيحة والعاميّة,فقد فتح "عبد الرحمان منيف" على ألسنة السجّانين معجما من الشتائم بلهجة مشرقيّة موغلا في الإيهام بواقعيّة الأحداث.وأبقى على لهجة المحققين التي تقطر نذالة وحقارة كما وردت على ألسنتهم,ونقل الحوار الدائر بين المعذّب والسجين محافظا على لهجته المحلّيّة "واللّه يا ابن الحرام لأخلّيك تزّوع مصارينك وتقول إنّ اللّه حق"[48]
ونسج "الدرغوثيّ" على المنوال نفسه حيث جاء نصّه مزيجا من الفصحى والعامّيّة خدمة للغاية نفسها ،وتخلّيا من الكاتب على الرقابة التي يفرضها عندما يريد لنصّه أن يصل إلى القارئ صافيا مصفّى.ولم يخل نصّ القيامة من بعض الكلمات العامّيّة "ثورة السبعطاش"[49] يا هوووه[50] ومن بعض الكلمات الدخيلة"بنكارت"و"مانكان"
3-3التحويل
3-3-1-الاختزال:إنّ نصّ"منيف" مكتظّ بمشاهد التعذيب التي تتناسل من عن بعضها البعض في حركة لا تنتهيّ.ويتنقّل الراويان،عادل الخالدي وطالع العريفي، من سجون "عموريّة" إلى سجون "موران" لينقلا للقارئ ما يجري من اعتداء على أجساد المسجونين وأرواحهم بكلّ وحشيّة.على أنّ رواية "الآن...هنا"من الروايات الطويلة التي لا يصبر على قراءتها إلا باحث مختصّ أو مفتون بأسلوب الكاتب.ويبدو أنّ "الدرغوثيّ" استشعر ما يحدثه هذا الطول من رتابة فعمد إلى اختزال "مرويات" الآن ...هنا" فأمست القيامة الآن "الآن...هنا"مختزلةً في مشاهد دالّة على بشاعة التعذيب .وعلى هذا النحو فإنّ ما جاء مفصّلا في نصّ "منيف" يأتي في القيامة مكثّفا مختزلا خدمة لغاية واحدة هي الفضح والتّشهير والتّنديد.فهل أراد "الدرغوثي" أن يعيد كتابة "الآن هنا" ليبسّط القراءة ،ويلعبَ بذلك دور الوسيط تماما كما يُتعامل مع النّصوص الطويلة حيث تُقدَّم للناشئة في أسلوب سهل يمكنهم من فهمها والصّبر على قراءتها.؟ألم يقل "الدرغوثيّ" عن الرواية التي سكنته وسكنها إنها " الرواية التي تشبعك حدّ البشم وهي تصف وتعرّي وتدين تلك العوالم"[51] ؟فهل أراد أن يخلّص القارئ العادي من التخمة بأن يقدّم له نصّا جديدا يختزل ما جاء في رواية "الآن ...هنا" مُستَندا إلى قاعدة هذا قليل يغنيك عن كثيره؟
3-3-2 القراءة والتحليل:النقد بالأحداث (critique en action)
"للنصّ الناسخ غالبا قيمة التحليل" يشير "جينيت" في مصنّفه "الطّروس" إلى أنّ النصّ الناسخ قد يتحول إلى قراءة ونقد للنصّ .ولم تسلم،في رأينا، رواية "القيامة الآن" من هذا الذي أشار إليه .إذ يبدو أنّ "الدرغوثيّ" لم يقتنع بنهاية الجلّاديْن في رواية الآن هنا.ولم يقتنع بتوبة الجلاّد لذلك أخرج بطله "العطيوي" في صورة المتنكّر لما قاله في الرواية ولما سكبه من دموع "تمتمت:"ابن الكلب هو إذن كاذب حين كان في مشفى باريس هو كاذب وهو يأسف ويبكي ويقول عن نفسه إنّه حيوان"[52]وجعله في موضع آخر يواصل سخريته" ما أغباك يا رجل"[53] هذا التحويل في شخصية "العطيوي" يحمل موقفا إيديولوجيا. وهو لا يشاطر "منيف "في جعله هذا الجلّاد ينفجر باكيا معتذرا لعادل الخالدي عمّا فعله. الجلاّد،في نظر "الدرغوثيّ"، لا يتوب..وإن سالت دموعه ،فهي دموع تماسيح. لا يمكن ،مهما تظاهر بالندم والرغبة في الاعتذار،أن يتحوّل إلى إنسان لأنّه بما مارسه قتل كلّ معالم الإنسانية بداخله ,فحتى دموعه هي استراحة ليعود أشدّ وأقوى .لا يمكن للجلاّد أن يتحوّل إلى ملاك. لا يمكن لصورته القديمة أن تمّحي بدموع كاذبة ،وبرغبة في الحج والاستغفار.الجلادون منذ قيام دول الاستقلال في "شرق المتوسّط" تداولوا على التعذيب.وكلّ واحد يعد بعدم تكرار المأساة ليمارس هو الآخر أبشع أنواع.فهل أراد "عطيوي" القيامة" أن ينسخ عطيوي "الآن هنا" وهو يعتذر من "عادل الخالدي" ويبكي أمامه كطفل.لقد أثبت علماء النفس أن هؤلاء الذين يظهرون جبروتهم للناس هم اجبن الناس وأقربهم إلى البكاء والخوف كلما استشعروا الخطر.الكلاب المسعورة التي تنهش لحم السجناء بلا شفقة ،هي نفسها التي تخاف من ظلها وترتوي من جبنها.ولئن رفض الدرغوثي هذا فلأنّه يؤمن بما قاله طالع العريفي: "الجلاد لم يولد من الجدار ولم يهبط من الفضاء نحن الذين خلقناه نعم نحن الذين فعلنا ذلك وبإصرار أبله"[54] .الناس هم الذين خلقوا سجانيهم عندما صدّقوهم وعبدوهم.لا يمكن للجلّاد أن يتوب. هو فقط يرمّم نفسه ،ويتسلّل إلى المسرح في صورة جديدة. والمتأمّل في رواية "القيامة...الآن" يتبيّن أن "الدرغوثيّ" تحوّل وهو يبدع نصّه إلى "قارئ" وناقد للآن,,,هنا" فلم يشف غليله أنّ "الشهيري" مات في حادث مرور دون أن يذوق ألوانا من العذاب الذي أذاقه للآخرين ولهذا أخرجه من قبره وأحياه ليعبث به وليتشفى فيه."الدرغوثيّ القارئ والناقد" لم يعجبه المصير الذي حدّده "منيف لشخصياته.فأعاد الكتابة .وانتقم منهم مجازا وخيالا ولا غرابة في أن يكون ما فعله مع شخصيات الآن...هنا" وأحداثها تماهيا مع ما عدّه "جينيت" "كسلا عن القيام بنقد أدبيّ وتسلّيا بالنقد عبر الأحداث"[55] "
إذن كتب الدرغوثي نصّه وقد تملّكته الرغبة في الانتقام من السجّان المعذّب في كلّ مكان.فاختار أن يحوّل نصّه إلى فضاء تتحقّق فيه العدالة الغائبة في الواقع ،ويتمكّن فيه من التشفّي والتلذّذ بتعذيب "المعذّبين" كي يذيقهم مجازا ما أذاقوه للسجناء في الواقع.ولهذا انتشى وهو يلقي بهما في النار انتقاما لكلّ الذين أهانوهما وأذاقوهما من العذاب ألوانا"نودي عن "الشهيري"...سلسلت في دبره سلسلة حتى خرجت من منخره.وجاء "العطيوي" فسلسل معه وقصف بهما في النار"[56] .لقد شعر "الدرغوثي" أنّ النهاية التي اختارها "منيف" للجلّاديْن لم تكن في حجم ما أقدما عليه من شنيع الأفعال. ذلك أنّ "الشهيري" في نصّ " الآن...هنا" مات في حادث مرور وقيل انتحر. أما "العطيوي" فقد انتهى مريضا معطوبا عاجزا.وهذه النهاية ،على بشاعتها، لم تشف غليل "الدرغوثيّ"فعمد إلى تصوّر نهاية جديدة لهما"قمت بهذا الفعل عامدا متعمدا لأنني أردت أن أتشفى من جلادي الدنيا ، هؤلاء الذين عرفتهم في الرواية حتى صاروا عندي بشرا من لحم ودم . لا شخصيات من ورق . صاروا أسماء علم يمكنك أن تصادفهم في الشارع أو في أي مكان يخطر على بالك . أتشفى بتعذيبهم في نار روايتي وأسلط عليهم ألوانا من عذاب الآخرة التي طالما تكلموا باسمها عندما كانوا يعذبون ضحاياهم ."[57] وقد مارس الدرغوثي فنونا من الانتقام والتشفّي بدأها بمسخ الجلاّد خنزيرا كناية على وضاعته وخسّته.وفي اختيار الخنزير أكثر من دلالة.فعلاوة على ما يحمله اللفظ من معاني الحقارة والوسخ، فإنّه يذكّر بما كان ينعت به الجلّاد في رواية "الآن...هنا" السّجين.فقد تردّدت على لسانيْ "الشهيري" و"العطويوي" نعت السجناء بالخنازير لما تصدر عن أجسادهم من روائح كريهة بسبب حرمانهم من النظافة.فهل أراد نصّ القيامة أن يصحّح النعت ويلصقه بمنعوته الحقيقي الذي هو الجلّاد؟وكأنّ المسخ لم يرو عطش الانتقام والتشفي فأضاف إليه الدرغوثيّ مشهد عذاب تعذيبهما في النار.فهل جاء نصّ القيامة ليتمّم النّص المصدر ويختار له خاتمة ملائمة ؟؟
3-3-3قلب الأدوار
من مظاهر التّحويل في رواية "القيامة...الآن" قلب الأدوار بجعل الضحيّة جلّادا والجلّاد ضحيّة.فطالع العريفي" بطل الآن...هنا"الذي قضّى حياته مطاردا حتّى انتهى سجينا مورست عليه أبشع أنواع التعذيب، يتحوّل في "القيامة الآن" إلى فارس يركب جوادا عربيا كنية عن الأصالة والعزّة ويطارد "الشّهيري" الذي مُسخ قردا.وبعد أن كان "الشهيري" هو من يرمي بطالع والسجناء في "السرداب"نراه يجري ليدخل بنفسه إلى سرداب النسيان والعدم"رأيت الشهيري وقد تحوّل إلى خنزير برّي...وجاء طالع العريفي راكبا على جواد عربيّ أصيل"[58]
ويتجلّى قلب الأدوار في تحوّل"عادل الخالدي" إلى جلاّد يشرف على تعذيب "العطيوي" في الجحيم"كنت أعدّ للعطيوي واحد..إثنان..ثلاثة...والأيدي والأرجل تذوب فوق الجمر"[59] "كان العطيوي كلما وضع يده على جمرة من جمرات النار ذابت يده...سبعين ألف مرّة في اليوم الواحد"[60]
ولم تختلف نهاية "الشهيري" عن العطيوي إذ نودي عليه وقد" سلسلت في دبره سلسلة حتى خرجت من منخره"[61]
3-3-4تحويل المفترض إلى واقع
لعلّ فكرة الانتقام من الجلاّدين التي استبدّت بالدرغوثيّ وهو ينشئ نصّ القيامة ،تتجلّى في مشهد المصارعة الذي حوّل فيه "الشهيري" إلى "وحش ركح" [62]وهو يصارع العطيوي "المارد الجبّار" [63].وقد انتهت المعركة نهاية مأسويّة طعن فيها "الشهيري" خصمه وتحوّل إلى مصّاص دماء يلعق دم "العطيوي" بشراهة.ومن خلال هذا المشهد حوّلهما "الدرغوثيّ" إلى فرجة مسلّية بعد أن كانا،في صولاتهما بالسّجن، يحوّلان مشهد التعذيب إلى ما يشبه المسرحيّة المسلّية يجلسان لمتابعتها بكلّ حقد وساديّة. وغير خاف ما يستبطنه "الدرغوثي" من رغبة في أن يرى الشرّ ،في النهاية، يصفّي نفسه ،فينقلب السحر على الساحر.لقد أراد أن يجعل الجلاّد يقتل جلاّدا .لكن قارئ "الآن...هنا" يكتشف أنّ هذا المشهد هو تنفيذ لما جاء على لسان "هلال" أحد السجناء في "الآن,,,هنا"
وهو يحاول أن يخفّف على "طالع" الذي بكى حزنا على مشاهدة امرأة تعذّب بكلّ وحشيّة"ولا تستغرب أبدا إذا رأيتهم يجلدون بعضهم وربّما بقسوة أكبر إنّهم يفعلون ذلك كأوامر ثمّ كواجب وأخيرا يحترفون"[64]
لعل أبلغ دليل على تلاعب الدرغوثي بشخصيات الىن ,,,هنا وإدماجها في متنه الروائيّ راسما لها برامج سرديّة أخرى هو مشهد المعركة التي يتقاتل فيها "الشهيري" والعطيوي",وغير خاف ما يرمز غليه الدرغوثي من ذلك فهو يريد تأكيد أنّ الشرّق ول هلالا رفيق طالع في السجن متحدّثا عن الجلّادين
3 -3-5-تحويل الأسئلة إلى أجوبة
بدأ السارد حكايته بجملة "أنا الذي رأى كلّ شيء"[65]. وأعادها في الصّفحة نفسها في شكل طباعيّ آخر.إذ وضعها بين ظفرين وكأنّه ينسبها إلى غيره.وعبر هذه الجملة يلحّ السارد على أنّ بوابته للأحداث هي العين فهو شاهد عليها باعتباره قد عاشها وخبرها,وفعلا تنكشف الأحداث على سجين سياسيّ تعرّض إلى شتّى ألوان التعذيب على يد سجّانيه ما جعل صرخاته صدى لعذاب عادل الخالدي وطالع العريفيّ.لكنّ اللافت في الجملة تردّد السارد بين نسبتها لنفسه ،وإنكارها. وكأنّه بهذا التردّد غير البريء يضمر شيئا يُريد للقارئ الفطن أن يكشفه.وهذه الجملة السرديّة المنطلق تشي من البداية بالتّصادي بين "القيامة الآن" والآن...هنا . فقد ردّد "طالع العريفي"السؤال الحارق الذي طرحه قلقامش"هل أنا الذي رأى" [66],ردّد هذا السؤال وهو يقوم بجلد الذات بعد أن رأى الجلّاد يمارس التعذيب على جسد امرأة.والسارد في "القيامة,,,الآن" يجيب عن السؤال ويعلن رفضه الصمت ورغبته في كشف المستور وفضحه.وإذا كان "طالع" يتّهم نفسه والقارئ بالتواطؤ مع الجلّاد عبر الصمت والخرس والجبن"أغلبنا رأى وجميعنا نعرف لكن الخرس أصابنا والجبن هدّنا ولذلك لا بدّ من الطفل الذي رأى عري الملك فصرخ لا بدّ أن نصرخ ،أن نحتجّ"[67] فإنّ "آدم" بطل القيامة سيفتح الأبواب والعيون ليكشف حقيقة الجلّادين.فهل أنّ "قلقامش" الذي عاش ممزّقا بين "الألوهيّة" والإنسانيّة هو صورة للإنسان الذي يسمو إلى مرتبة الآلهة بحمله لجملة من المبادئ ،وينحدر إلى مرتبة "الآدميّة" ،وما تحمله من شرور وآثام، بأفعاله الدنيئة. عاش "قلقامش" يبحث عن نبتة الخلود وسار المناضلون الشرفاء في رحلة عذاب وشقاءليضمنوا خلودهم بصمودهم أثناء التعذيب ومواجهة جلّاديهم بالتحدّي والفضح."العطيوي" و"الشهيري" يحملان القيم نفسها والصّفات عينها ينتهيان خصمين ويصرع أحدهما الآخر.ولعلّ هذا الصراع هو أشبه بصراع "قلقامش" مع"آنكيدو",لكن مع فارق في النتيجة. فالصراع بين الجلادين انتهى إلى انتصار "الشهيري" على خصمه أما الصراع بين"قلقامش" و" آنكيدو" فقد انتهى بتحوّل الخصمين إلى صديقين.
على سبيل الخاتمة
لقد سعت هذه المغامرة في البحث بما تثيره من أسئلة وما تزعمه من أجوبة إلى أن تجلو بصورة نأمل أن تكون مقنعة التصادي بين "الآن... هنا" و "القيامة... الآن". وقد قام البحث على اعتبار ظاهرة "التضافر النصّي" عاملا من عوامل إثراء إنتاجيّة النّصّ الروائيّ وعلامة على جدّة الكتابة وانتفاع المبدع بقراءاته.وقد انتهى أغلب الذين انصبّ اهتمامهم على هذا المبحث إلى أنّه لا "كتابة" خارج إطار "القراءة".فما يترسّب في ذات المبدع من آثار قراءته يظهر خفيّا أو جليّا في نصّه.ووحده القارئ الفطن المتأني هو الكفيل بتبيّن تصادي النصوص وتجاوبها تجاوب الصدور والأعجاز في القصيدة العربيّة.ويمكن اختزال أهم ما أفضى إليه هذا المجهود المتواضع في الآتي:
-التصادي بين النصوص ظاهرة طبيعيّة لم يخل منها نصّ إبداعيّ
-"إبراهيم الدرغوثيّ "كتب نصّ "القيامة...الآن" وقد سكنه نصّ "منيف" واستبدّ بخياله حتى أصبح منه.
_حضور نصّ "الآن...هنا" كان مكشوفا وجليّا ولم يكن القارئ الفطن بحاجة إلى شهادة "الدرغوثيّ" ليتأكّد من هيمنة النّص السابق على المنجز السرديّ في النّصّ اللاّحق
-الدرغوثي لاعب نصّ منيف وباراه عن وعي وعن قصد.وقد أراد أن يصطفّ إلى جانب الكتّاب الذين قاوموا الاستبداد والظلم والقهر، وجاهروا برفضهم لما يقع في السجون العربية من تعذيب وإهانة للإنسان
-تعدّد أشكال التصادي في النصّ اللاّحق يؤكّد أنّ الشّخصيات والأمكنة ما أن تخرج من سياق سرديّ إلى آخر حتى تُكسى صفات جديدة ووظائف سرديّة أخرى.
_تحوّل النصّ اللاحق إلى قراءة وتأويل للنص السابق باختيار نهاية مغايرة للشخصيات وتغيير مآل الأحداث بما يخضع للرؤية الجديدة والنظرة المغايرة للكاتب الذي ينجز نصّا لاحقا
المصادر:
عبد الرحمان منيف:"الآن...هنا"أو شرق المتوسّط مرّة أخرى المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
إبراهيم الدرغوثيّ:"القيامة الآن" دار سحر للنشر1999
المراجع باللسان العربيّ
*أحمد السماوي:التطريس في القصص:إبراهيم الدرغوثي نموذجا مطبعة التسفير الفنّي صفاقس2002
*ألفة يوسف وعادل خضر:بحوث في خطاب السدّ المسرحيّ مطبعة الاتحاد تونس1994
*محمّد القاضي:في حواريّة الرواية:دراسة في الرواية التونسيّة دار سحر للنشر جانفي 2005
*عمر حفيظ:التجريب في كتابات إبراهيم الدرغوثيّ القصصيّة والروائيّة دار صامد للنشر والتوزيع1999
المقالات:
*إبراهيم الدرغوثي: رواية الحرّيّة حرّيّة الرواية"
" http://www.arab-ewriters.com/?action=showitem&&id=1695
*نعيمة فرطاس" :"نظريّة التناصيّة والنقد الجديد(جوليا كريستيفا أنموذجا"مجلة الموقف الأدبي - دمشق - العدد 434 حزيران 2007
المراجع باللسان الفرنسيّ
*Bakhtine Mikhaïl :
-Esthétique et théorie du roman :tel gallimard2001
-La poétique de Dostoïevski
*Genette Gérard :
-Palimpsestes La littérature au second degré : Poétique éditions du seuil Paris1982
- Nouveau discours du récit :collection poétique Editions seuils1983
-الهوامش :
(1)كريستيفا ترى أنّ النّصّ إنتاجيّة(انظر: "نعيمة فرطاس" :"نظريّة التناصيّة والنقد الجديد(جوليا كريستيفا أنموذجا"مجلة الموقف الأدبي - دمشق - العدد 434 حزيران 2007
Dans le parler courant de tout homme vivant en société la moitie au moins des paroles qu’ ils prononce sont celles2 d autrui Mikhaïl Bakhtine*Esthétique et théorie du roman tel Gallimard p 158
(3)"نعيمة فرطاس" :"نظريّة التناصيّة والنقد الجديد(جوليا كريستيفا أنموذجا"مجلة الموقف الأدبي - دمشق - العدد 434 حزيران 2007
Palimpsestes :la littérature au second degré :collection Poétique .Editions du Seuil Paris1982 P8-(4)
Palimpsestes op.cit.p11(5)
6 المصدر نفسه الصفحة نفسها
7))محمد القاضي:في حواريّة الرواية:دراسة في الرواية التونسيّة دار سحر للنشر جانفي 2005
8))أحمد السماوي:التطريس في القصص مطبعة التسفير الفنّي صفاقس2002ص125
Mikhaïl Bakhtine(la poétique de Dostoïevski )(9)
[1] Palimpsestes P10 ( 10)
(11)إبراهيم الدرغوثيّ :"رواية الحرّيّة حرّيّة الرواية" http://www.arab-ewriters.com/?action=showitem&&id=1695(تاريخ الدخول للموقع:9/12/2009)
(12) :المصدر نفسه
Le locuteur dans le roman est toujours a divers degrés un idéologue et ses paroles sont toujours un(13) idéologème M B( esthétique et théorie du roman tel Gallimard) p153
(14)أحمد السماوي:التطريس في القصص ص11
(15)المصدر نفسه ص
16)عمر حفيّظ:التجريب في كتابات "إبراهيم الدرغوثيّ "القصصيّة والروائيّة":دار صامد للنشر والتوزيع نوفمبر 1999 ص8
17 :ألفة يوسف وعادل خضر:بحوث في خطاب السّد المسرحي.مطبعة الاتحاد تونس1994 ص70
18"سعد الله ونوس":صفحة الغلاف الأخيرة لرواية "الآن..هنا" المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر1993
19عبد الرحمان منيف:الآن ...هنا "ص158
20القيامة الآن:ص21
21المصدر نفسه:ص27
22"رواية الحرّيّة حرّيّة الرواية" http://www.arab-ewriters.com/?action=showitem&&id=1695
23رواية الحرّيّة حرّيّة الرواية" http://www.arab-ewriters.com/?action=showitem&&id=1695
24الآن,,,هنا" ص:144
25"القيامة الآن":ص:5
26رواية الحرّيّة حرّيّة الرواية" http://www.arab-ewriters.com/?action=showitem&&id=1695
27القيامة الآن:ص37
28عبد الرحمان منيف:"الآن هنا"المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر1993 ص8
29إبراهيم الدرغوثي:القيامة الآن دار سحر للنشر1999ص67
30المصدر نفسه:ص5
31الآن ...هنا"ص286
32لعلّ المقصود بعموريّة و"موران" العراق وسوريّة .فقد خبر "منيف" البلدين وعاين فيهما بشاعة النظاميْن البعثييْن
33القيامة الآن" ,,, ":ص"37
34المصدر نفسه:ص66
35المصدر نفسه:ص54
36عبد الرحمان منيف"الآن ...هنا"ص294
37المصدر نفسه:ص 24
38المصدر نفسه ص 44
39"القيامة...الآن"ص5
40القيامة...الآن"ص72
41المصدر نفسه ص ص75
Palimpsestes p 8 « sous sa forme la plus explicite et la plus littérale ,c est la pratique traditionnelle de la42 citation »
43القيامة...الآن"ص26
44المصدر نفسه ص :24
45القيامة...الآن"ص26
46عنوان فصل من رواية " القيامة...الآن " ص24
47"الآن ...هنا"ص295
Palimpsestes P114 (48)
49الآن...هنا"ص262
50القيامة...الآن"ص26
51الآن...هنا"ص229
[1] القيامة الآن"ص23
52المصدر نفسه ص 78
53رواية الحرّيّة حرّيّة الرواية" http://www.arab-ewriters.com/?action=showitem&&id=1695
54القيامة الآن:ص 44
56المصدر نفسه:ص45
57الآن...هنا"ص283
paresse de faire de la critique littéraire amusement de faire la critique en action P113 Palimpsestes p 11358
59 القيامة الآن ص 82
60رواية الحرّيّة حرّيّة الرواية" http://www.arab-ewriters.com/?action=showitem&&id=1695
61المصدر نفسه ص 54
62القيامة...الآن"ص ص80-81
63المصدر نفسه ص80
64المصدر نفسه ص82
65المصدر نفسه ص64
66المصدر نفسه الصفحة نفسها
67الآن...هنا" ص281
68القيامة الآن ً5
69"الآن...هنا"ص 285
70المصدر نفسه الصفحة نفسها