يظل زمن الشعر رهين تبعثر وتشتت بين الذاكراتية والآنية، حيث الاقتراب من النص يعتبر مخاطرة يلفها الجنون ،وذلك اعتبارا من التعدد الذي ينبني عليه النص العربي المعاصر، إنه ينحو نحو تشكيل هوية متداخلة إذ سيجد كل قارئ فيها انوجاده الأصيل كما يبدو له لا هو كما حاضر وماثل حقيقي،هذا ما وجدته في نص الشاعر العراقي الأستاذ ماجد الكعبي الموسوم بـ"سأترك العالم وحيدا بلوعتي" من ديوانه "كعب الغزال".فما يقوله النص؟
العنوان:"سأترك العالم وحيدا بلوعتي" يتخذ العنوان شكل جملة فعلية تهرب من صفة الانفراد،حيث تؤصل للحظة مؤجلة"سأترك" وتعد بزمن يرحل فيه النص عن انوجاده الأصيل،باحثا عن ممكناته في الزمن البعدي أو معوضا ذلك التواجد بصفة التبعثر ،حيث يتم اختلاق زمن آخر محايث "زمن الوحدة"،ومن هنا يتأسس راهن النص على بوح ذاتي صريح بالتخلي عن عالم الشعر الموجود ،ليعوضه بالحضور المنفرد المتأسس على الألم والوجع ولوعة الانفصال ،ومن هنا فالعنوان يحتفي بالهوية اللغوية المنجزة آنيا أو المتحقق اللغوي المؤجل الباحث عن صفة اكتمال لا يعثر على لحظتها .
أبكي على حظوظي !!
تميل حيثُ يميلُ الألمُ ..
ألمي مكتوبٌ على خاصرةِ الزمنِ
أي زمنٍ ؟
أي وجعٍ ؟
سنونٍ وأنا على مبعدةٍ
متشوقٌ لأرى وجوهاً
منهم ...
كانت في ذاكرتي
كانت تملأُ ليلي
وتؤنسُ وجعي
ووحدتي ...
كانت كلَ أنفاسي
ودخانَ سجائري ....
يتأسس النص في اللحظة القادمة على الوجع ،حيث زمن النص هو زمن الألم "أبكي ـ تميل ـ يميل"،إذ الاحتفاء بالتشكل النصي في زمن المستقبل ،حيث الكتابة إنجاز آني مسيج بالخطر،خطر المساءلة وإشكال الصمت الباحث عن أجوبته في ثنايا اللغة المتشكلة"أي زمن؟ أي وجع؟".ويعترف النص بامتداد اللحظة الشعرية الباحثة عن إمكانها الأصيل،حيث الابتعاد هو تأمل باحث عن زمن حقيقي مغامر،وإن بدا أقرب إلى الحنين إلى زمن الذاكرة وزمن الليل الموسوم بالخطر والتخفي،حيث اللغة تبدد مخاوف النص وهواجسه،وتمد لحظتها عليه،وهنا يستعمل زمن المستقبل في حديث عن الذاكرة وكأن بالنص يرقب الامتداد ويرفض الخروج من الموضعة في الزمن المغيب .
إنها كماءِ البحرِ
يلفظُ أحشاءَه
يوماً ..
ليرينا كنوزاً باطنةً
كنتُ انتظرها وتجفو
عني ....
أنا الملومُ المفتونُ بإخوتي
أولئكَ مَن صدوا عني
وجوهاً كنتُ احسبها
من أهلي ...
وجوهاً بركنت ناراً
وخمد أوارُها
كنتُ سعيداً بلوعتي
وأنا أقاتلُ وحدتي
متصوراً بهجةً ستأتي
بهجةً ستدوم بإخوتي
صدوا عني بهجتي
وضاعتْ ضحكاتٌ
كنتُ ادخرُها
ويشبه النص اللغة بماء البحر حيث الامتداد الهوياتي،وحيث التموضع الذي يحكمه اللاتحديد،وحيث الهوية المسيجة بالخطر ،إذ كلما زادت عمقا كلما زاد خطر التأويل وإشكالاته،ومن هنا تظل في زمن المستقبل"يلفظ ـ يرينا" احتمال يقترب من التغييب"كنز" ومن القيمة ،إذ كلما زاد اقترابا زادت بعدا وتغيبا"كنت أنتظرها وتجفو عني"،ويعترف النص بخطأ تقديره إذ حاول الاقتراب من زمن التأويل الكاشف عن المعنى الأصيل،لكنه ووجه بتلك الوجوه المتعددة التي منحته حس الاقتراب وفرح الإمكان المحتمل الذي تلفه الأخوية والحميمية،و قد جابهته بثورة التغيير ورغبة التموضع داخل الكتمان والأسرار التي يلفها الصمت،ويعترف النص ببقائه وحيدا بلوعته إذ يظل يقاتل ويطارد معنى مغيبا محتمل الوقوع "متصورا بهجة ستأتي"،أو زمنا يؤمن بالتعدد ،لكن هذا التعدد هو الذي ضيع فرحة التمكين والعثور لذلك يحاول النص موضعتها في إطار من التغييب"صدوا ـ ضاعت" عله يتمكن من طردها.
قالوا ...
هي لحظةٌ ونحنُ بعيدون
من ضحكتِك ...
انكَ المفتونُ بنا !!
شدَ رحيُلك وامشي
كانت لي أماً !
نظرتْ إلي
وأنا أدور!!
كانت تصدُّ وجهها
كأنها ترى
شاةٌ تذبحُ باكيةً
فارتمي
بأحضانِ وحدتي ثانيةً ...
أنا الراغبُ بالتوددِ والبكاء ِ
ابكي على حظوظي
تميلُ حيثُ يميل الألمُ
وتبدأ الوجوه المتعددة في منح بوحها للنص،حيث الاعتراف بابتعاده عن الأصل،وهيامه بهذا التأويل المانح متعة القراءة،حيث تظل اللغة في تعددها تدعوه إلى الرحيل إليها وفيها.ويقر النص بالانتماء الأصلي أو تلك اللغة التي تظهر انوجادها دونما إغراب ،حيث تظل ترقب ضياع النص وتشتته في هذا التعدد،فتشيح بوجهها فاسحة المجال لزمن الوجع وفقدان الحقيقة والتمثل النهائي ليبسط حضوره على النص الذي يعترف باستحالة العثور والبقاء داخل دائرة الوجع الباحث عن أصلية التشكل في زمن المستقبل الذي ضيع إمكانه"تميل حيث يميل الألم".
ألمي مكتوبٌ على خاصرةِ الزمنِ
أحصي كبواتي ....
واتكأُ على عجزي
ابكي ....
فاسمعُ صريراً .. كانت ضحكةً
لكني لم امسكها ....
كانت هاربةً مني ...
الفضاءُ حولي
ساكن ٌ والنشيجُ
يتواصلُ ..
إخوتي كلُّ مساءٍ أتذكرُ
وحدتي !!
فأنام ...
سعيداً بألمي ..
أحصي لحظاتي
قبلَ أنْ اتركَ العالمَ ..
ويعترف النص ببقاء الوجع ودوامه"مكتوب على خاصرة الزمن"،حيث يظل هذا النص رهين الوحدة لعدم عثوره على الإمكان الحقيقي في زمن المستقبل"أحصي ـ أتكئ ـ أبكي" إذ يظل حلم العثور هامسا في ثنايا البوح،وإن ظل مطاردا"لكي لم أمسكها كانت هاربة مني".ويلف الصمت زمن البحث وإن ساكنته الرغبة في التحرك،ومن هنا يكلم النص إمكاناته المتعددة"إخوتي" في لحظة الالتباس"المساء"،حيث قرب الانتهاء ،ليبين أنه في وحدته سيظل سعيدا بذلك الألم الذي تنتج عنه كل القراءات ،إذ سيفارق العالم فاسحا المجال لذلك التعدد أن يأخذ مكانه.