ما أجمل ما حملت كلماته تتسلل بأفكاره إلى النفس سكناها الأبدي، بأسلوب فذ يأسر اللب، يحوي عالمها بترابط سلس تجري معه الحروف كأنها الذر لا ترى بالعين، وإنما تدرك بالإحساس والوعي، تكتمل صورتها بين جنبات الوجدان، فتحيي خيالا ً يبني أزمنته بين الماضي والحاضر، وأمكنة يسهل تصورها كأنك تتحسسها بيديك حقيقة ماثلة أمامك.
فمحفوظ أديب لم يكتب بقلمه، لم ينتظر أن يتشكل الكلم أمامه ليدرك أنه قد أنتج أدبا ً لنا، بل كل ذرف كل ما في نفسه في روح الزمان، نستنشقه من عبير الكتب التي تتجسد فيها تلك الروح.
فكاتب " القاهرة الجديدة" يرسم صورة متكاملة لمجتمع يتمثل في معالم الشباب الطامح، المثابر لما بعد يومه، ومعترك الحياة يحفر فيهم مسارا ً لا يغادروه، كما حال الأقران والأتراب، يبتعد عن تقاليد الحياة الرتيبة، ويبحث في زواياها ليشير ببنانه على حقائق خفية، هواجس نابتة في خاصرة المجتمع، الذي يحتضن القلب الطيب، فأبطال روايته شباب طامح من طبقات متفاوتة، جمعهم طلب العلم في مشهد واحد، وكل شاب منهم تعتمره قناعات تشكل وعيه ورغباته، جسد واحد لأربعة عقول، تتجاذب كل واحد منهم ظروفا ً تختصه دون الآخر فيتكور منهم الواحد حسب ما يتعرض له، فالمؤثر فيها هو مدى الأفق الرحب الذي يطرح فيه محفوظ رغبات البشر كم من المسافات يقطعها فوق الرؤوس ليصل إلى مراده.
ووالده الرجل العليل ينتظر منه بضع ما قد وعد به، ثلاث جنيهات آخر الشهر تحفظ ستره، فيأتي على حين غرة أمام نعيم ولده، ويقف أمام فاجعة رهيبة، في يوم الباشا الذي يقضيه مع زوجة ابنه، لا يدرك بعقله القروي ما الذي يدور في البيت عندما أخبره ابنه بأن من هو موجود عند زوجته هو والدها، إلى أن تأتي زوجة الباشا فتكتشف الجريمة النكراء.
فمحفوظ لا ينقل صورة استاتيكية جامدة من زمن إلى زمن، بل أحداثا ً ديناميكية مفتوحة التوقعات، مشرعة على التطور، فمن يقراها في وقتها الغابر يعلم أنها تحدث الآن بصورتها الحالية، فتتجسد الفكرة بمشهد متقن يعيشه القارئ.
بأسلوب تحليلي مطعم بالطرح الموضوعي، والعرض ليوميات الحياة المصرية بدواخلها وتفاصيلها، يحلل ويصور الموصوفات في كل مكان، في جوف ذلك التاريخ البعيد، فيقربه أمام القارئ لكأنه يحدث اللحظة، تنبض فيه الروح فيتأثر به من يقرأ أشد تأثير، وينفعل للخطأ الذي يحدث في فعل معين أو لحدث سياسي فيحدث الفاعل معاتبا ً ويقول لو فعل كذا لما حدث كذا.
وكل ذلك يقدمه العملاق، الذي رسم لنا ملامح الشعب المصري بأبعاده وأعماقه فجسد لنا الصورة في ورق الشجر والجناين والسرايات ومشهد النيل الذي ما زال يتحدث عن حضارة مصر الممتدة عبر التاريخ.
يخاطب محفوظ اليوم الجيل الجديد، ما زال يتحدث إلى الإنسانية بأطوارها المتعاقبة، مازال يخاطب العقل الذي ينشد الارتقاء، فهذه الكلاسيكية المكتسبة بالتجديد، تعطي الحكم والتجارب، تتحدث عن تاريخ بجزيئاته الهامة، ليس سردا ً موجها ً إلى تسلية زائفة، أو أحداثا ً مجردة من مبادئ الحياة وقيمها التي ينشدها كل إنسان.
فبين راحتي كل كتاب تنظر العين في عالم صافٍ بريء من كدر الشوائب المعطلة للفهم، والإدراك بوعي الحدث، كمن ينشب أمامه شجار معلوم الأطراف فيعرف المعتدي مشارا ً إليه بالبنان دون مورابة.
هكذا يتسلل محفوظ كمفكر يطرح كل ٌ في أجزاء مفصلة، يدفع المشكك لتعزيز شكه، والمتيقن للتريث في يقينه، والغافل من استيضاح ظنه، يهز العقول ويقدم لها تساؤلاتها بوضوح تام دون تعقيد ومج، دون إسراف في تفاصيل تقتل تأثير الكلمات.
فهاهو الأدب يستنشق من روح محفوظ حيوات متجددة، ويستمد من إلهامه عظمة مبهرة، كمن يسكن برمزيته الغامرة كل باحث عن جمال أو جوهر ثمين.
هكذا تروى الحياة دون ابتذال قسري، هكذا تعرض الأحداث دون تضليل، أو تعقيد يمنع العطش من الارتواء بماء المعرفة والأدب والثقافة.
فها نحن جيل جديد نواكب التقدم والعصر، سربلتنا التقنية، والعولمة، وتكنولوجيا الاتصالات، والثورة المعلوماتية، نتناول كل شيء بوجبات سريعة خاطفة، ولكننا نقف كثيرا ً عند كلمات محفوظ نشعر كأنها تسكننا، نجده يبتسم إلينا متأملا ً ما يحدث من تغير طبيعي محتم الحدوث.
فمهندس النفس يدخل مكامنها، فيظهر بواعثها، وجوابلها يعزي إليها الأفعال التي لا نجد عادة تفسيرا ً لها، فترى أبطال روايته بجوانبهم الإنسانية، يعرضها دون إسراف، ثم ما يبدر عنهم بكل بساطة وعفوية، دون صناعة الفعل المجرد، فهو ينشد بها المراد الواقعي، وليس المأمول المثالي، فعند انتهاء كل رواية وبعد انطواء آخر صفحة يأخذنا محفوظ في سرحة طويلة من الدهشة لما حملته كلماته من أحداث حيوية تدفعنا للتأمل حولها.