حظيت رواية المصري لكاتبها محمد أنقار باهتمامات كثيرة من قبل الباحثين والنقاد، نذكر منها؛ الدراسات التي أنجزها نجيب العوفي، ومحمد بوخزار، ومحمد مشبال في كتاب "الهوى المصري". ولعل السبب في ذلك ما تضمنته من آراء وأفكار جديرة بالمتابعة؛ إذ إنها جمعت بين النظر والإجراء، وفتحت أمامنا أفق التساؤل حول طريقة تشكل الكتابة في "رواية المصري" وعن مدى توافرها على معايير "الصورة الروائية". فكيف يمكن إذن التعبير عن هذه الرؤية؟ وما هي أهم الأفكار والملامح الإبداعية التي يمكن أن نستنبطها من الرواية فيما يتعلق منها بإشكال الصورة ودلالاتها؟
تشكل رواية المصري مجالاً واسعاً وخصباً لرحلة التفكير النقدي، فبالرغم من أحداثها البسيطة تحمل في طياتها بعدا تأويليا، وتتوافر على ملامح إبداعية أخرى تقتضي من الباحث إعمال النظر والتأمل، والبحث في ثنايا الصفحات عن سمات خفية سعى الكاتب عمداً إلى إخفائها، فصورة "المصري" توجد خلف حروفها وكلماتها، قصة تحكي حياة رجل عليل، كبر في السن، فأرهقه المرض، واقترب من التقاعد، اسمه أحمد الساحلي، هذا الرجل كان له صديق توفي مباشرة بعد إحالته على التقاعد، فتولد لديه إحساس بأنه سوف يلقى نفس المصير.لأجل ذلك صمم على مسابقة الزمن ومكابدة هاجس الموت، فخرج من المدينة العتيقة بحثا عن قصة مترابطة يخلد بها مدينته تطوان كما خلد نجيب محفوظ مدينته القاهرة بتصويره المتسق والجذاب.
إن هذه الرواية تشكل خطوة متميزة في الكتابة الروائية المغربية، وشكلاً من أشكال ولع الهوى المغربي بالهوى المصري؛ بناء على ما ذكره محمد مشبال في كتابه «الهوى المصري في المخيلة المغربية».
إن هذا الولع والإفتتان بالهوى المصري تجسد في السفر إلى مصر الذي اتخذ شكلين، شكل واقعي كما هو الأمر بالنسبة لعبد الكريم غلاب ومحمد برادة. وشكل آخر تمثل في سفر ذهني عن طريق المخيلة والتأمل والسرد؛كما حصل لأحمد الساحلي في رواية المصري؛ حيث مثل عنده السفر الذهني رغبة في الكتابة، وإطلاق العنان للمخيلة التي يلهمها نجيب محفوظ.
استطاعت المخيلة القوية التي يتمتع بها نجيب محفوظ أن تجعل من المغربي ذاك المعجب والمفتتن بإبداعه ورواياته، يقرؤها ويحفظ أحداثها وأسماء أبطالها. وبهذا أصبح المغربي يعيش حياة مادية تتعلق بشؤونه الشخصية، ويعيش حياة أخرى نسجها في وجدانه وخياله؛ تتعلق بشخصية أخرى، وثقافة أخرى، وبلد آخر.
إن صناعة علم من هذا القبيل، يقتضي الجلوس أمام كاتب ومبدع متضلع وخبير، وهذا لا يتوافر إلا في الأدب المشرقي الذي يمثله نموذج نجيب محفوظ. ذلك أن الفعل في حد ذاته يبقى صورة من صور التواصل الثقافي، وإن كان عبر الذهن والمخيلة.إنه تواصل لطالما عرفته الأمم والشعوب، بيد أنه في هذه المرة فعل تواصلي ذهني يعبر عن مجموعة من القيم والأساليب إنه:
اكتشاف لفكر جديد واطلاع على مزاياه للاستفادة منه.
انفتاح على ثقافة وبيئة جديدة، وبتعبير آخر؛ انفتاح على نمط آخر من الأدب مخالف للشعر، هو النمط الروائي.
تفاعل بين شعبين مختلفين، وثقافتين مختلفتين، وبين مجموعة من الخطابات التي أنتجتها التحولات الاجتماعية في حقبة معينة من الزمن، والخطابات التي أنتجتها الثقافة المصرية؛ خاصة خطاب نجيب محفوظ الروائي.
تفاهم بين مخيلتين، وسعي إلى مد جسور التواصل بين نمطين إبداعيين مختلفين.
إن الأهمية في رواية المصري لا تتجلى في مجرد محاولة تخليد مدينة تطوان وجعلها معلمة في كتب النقد والأدب كما خلد نجيب محفوظ مدينة القاهرة بين ثنايا أعماله الروائية، وإنما الأمر يتعلق بموضوع أكبر اسمه الكتابة، فالأهمية الحقيقية التي تزخر بها هذه الرواية «تتمثل في تطرقها لمعضلة الكتابة الروائية ودوافع المغامرة الروائية عند البطل وكيفية تشكلها». فمعضلة الساحلي في الإبداع القصصي هي «كيف يهتدي إلى استثمار سمة التواصل والانتفاع بها في صياغة قصة طويلة عن تطوان، أي كيف يستطيع تجاوز المعلومات إلى السمات والصور القصصية التي تعد أساس نجاح الأعمال الروائية وخلودها. كما أن مشروعه هو مشروع الرغبة في تجسيد تلك السمة الفنية والثقافية والحضارية التي استشفها من تجربة نجيب محفوظ الروائية، أي كيف يستطيع أن يستخلص من مدينته العتيقة "قيمة متماسكة" وصوغ حدث قصصي على نحو جذاب قائم على الترابط والتسلسل، وهو الأمر الذي تحداه في ذلك الأسبوع المصيري».
من هنا نستنتج أن معضلة الساحلي لا تتجلى في مجرد محاولة كتابة رواية عن مدينة تطوان، بل في كيفية تشكيل الكلمات، وسرد العبارات، وفي كيفية صوغ النسيج المعبر عن كل تلك الصور التي مرت في مخيلته في قالب قصصي متماسك.
إن حديث السارد داخل الرواية يخفي وراءه مجموعة من الإشارات تتلخص في وعي صاحبها بأصول الكتابة الروائية ومستوياتها ومكوناتها وتقنياتها. حيث يحرص الكاتب التركيز على هذه الجوانب في العديد من المواقف؛ حينما قارن بين سمات شخصية "أحمد الساحلي" و"ضون كيخوطي" من حيث نقط التشابه والاختلاف؛ فكيخوطي حاول أن يثبت وجوده باعتباره فارساً جوالاً، ليعلن في آخر المطاف موته بتخليه عن تحقيق حلمه. والساحلي لم يستطع تحقيق رغبته في تأليف رواية؛ إذ بمجرد الإعلان عن فشل مشروعه الروائي اعتبر نفسه في عداد الموتى؛ حيث أصبحت حياته قرينة الخيال والقصص والرواية.
لقد تميزت الرواية منذ البداية بسمة الانفتاح، نلمس ذلك جلياً لما يبرز بعدا التخييل والتأويل بشكل متسق؛ وفي هذا الصدد يقول محمد مشبال: «إن معضلة أحمد الساحلي الحقيقية، هي معركة يخوضها السارد مع الخيال القصصي الذي لم يسعفه في نسج حبكة مشوقة للرواية ». فالصراع الذي يعيشه الساحلي بين الوعي بأسرار الكتابة الروائية والعجز عن تخييل قصة متماسكة جذابة تفيده في كتابة رواية، جعلته شخصية تراجيدية تشقى بوعيها الذي لم ينفعها في إنجاز مهمة بدت أشبه بمعركة وهمية وغير متكافئة يواجه فيها فارس عليل عدواً مجهولاً عصياً. لأجل ذلك جاء تصوير الكاتب لمواجهات البطل لأمكنة المدينة مجازياً مفعما بالمفارقة الساخرة؛ وقد بدا ذلك منذ اللحظة الأولى التي قرر فيها تدشين مغامرته في المدينة، يقول السارد: « ونزلت الدركات المفضية إلى "الفدان" في نشوة الظافر، واخترقت قوس "الطرافين" فغمرني شعور القائد المغوار وقد امتطى صهوة فرسه واستل سيفه، ودخل المدينة منتصراً فأصبحت له مباحة» وسمة العجز التي ميزت تسلسل الأحداث هي التي أدت إلى توليد الصراع بين السارد والخيال. فرغم توفير تقنيات الكتابة الإبداعية ودراية السارد بها، يجد نفسه دائماً عاجزاً عن تنزيل ما يدور في مخيلته من توق للكتابة على مستوى الواقع. وإذا تمكن من الكتابة فإنها تفتقد إلى الصنعة القصصية يغلب عليها التقرير والمباشرة، أما العنصر الأهم الذي ينبغي توافره في الإبداع فإنه يظل غائباً. وهذا نتيجة لقلة التجربة والموهبة لدى السارد؛ حيث يظل الصراع قائما والمعركة مستمرة بين السارد والخيال القصصي.
تنتهي الرواية بسمة الفشل والعجز، كما هو مقرر في الفصل الأخير وبالضبط الفصل المعنون "بالغروب". فأحمد الساحلي يمتلك معلومات كثيرة عن مدينته مما يمكنه من كتابة أكثر من مؤلف واحد. فهو بن المدينة ومن ساكنتها منذ الصبا، فالسبب إذن لا يتعلق بأحمد الساحلي، وإنما بأشياء خارجية جعلته يفقد الثقة في نفسه وفي أعماله الإبداعية.
إن اطلاع أحمد الساحلي على الكتابات المشرقية، أدت به إلى جعل نجيب محفوظ النموذج الذي ينبغي الاحتذاء به، مما جعل هذه الخطوة تؤدي به إلى محاولة صنع حلم مشرقي قد يتجسد في إنتاج رواية ترتقي إلى هذا النموذج، ولما أخفق الذهن في مقارعة الكتابة المشرقية والتفاعل معها نصياً، اعتبر أحمد الساحلي ذلك فشلا ذريعاً يقتضي نهايته.
والمهمة الصعبة التي تحملها السارد كانت معروفة النتائج منذ البداية؛ فقد فشل في تقليد مبتدئ لمتمرس، وبالتالي يكون أمراً طبيعياً، وليست جنحة يتحملها ذهن لا يستطيع التفكير بثقافة غريبة عنه. وهذا يؤكد أن نجيب محفوظ، كان عاملاً مساعداً ومعيقاً في نفس الوقت لأحمد الساحلي.
والصورة الروائية هنا هي صورة فنية جمالية بامتياز، كما يشير إلى ذلك محمد مشبال في "الهوى المصري"، ففي لحظة إعلان السارد عن فشل أحمد الساحلي في كتابة صورة روايته المنشودة، يلفي محمد أنقار نفسه قد كتب رواية تستجيب لأحد شروط الإبداع والصنعة، هذا التناقض واللاتفاهم الحاصل بين الشخصية الرئيسة في "المصري" والراوي؛ يرتقي في صورته البلاغية إلى أرفع سمات الفنية والجمال الروائي.
اتخذت بلاغة الصورة في رواية المصري، اتجاهاً فنياً متميزاً في السرد والإبداع. فسبر أغوار الرواية واستكناه مداخلها يفرض وجود باحث ذو قدرة عالية على التخييل والنقد الروائي؛ إذ إن العمل الروائي موجه إلى الباحث الناقد أكثر من القارئ العادي، كما أن الرواية تتضمن في ثناياها إشارة إلى قواعد الكتابة الروائية وتقنياتها. حيث يمكن ربط هذه الرواية بالمشروع التنظيري الذي يؤسس له أنقار في نقد الرواية. والحقيقة التي يمكن التوصل إليها؛ أن الرواية هي كتاب نقد بامتياز قبل أن تكون رواية، وأحمد الساحلي لا يمثل نفسه، وإنما هو صورة للمجتمع المغربي والتطواني؛ يتضح ذلك من خلال القضايا الاجتماعية التي تم التطرق إليها داخل الرواية. إنها صورة للأديب والمبدع المغربي المهووس بأدب الآخر المشرقي، والحالم دوماً بتقليده، والمشي على خطاه في الكتابة. وهذا ما يطمح السارد إلى تحققه على الرغم من أن أسلوب التفكير والثقافة يختلفان.
خلاصة القول، إن رواية المصري هي صورة للنجاح المتميز الذي طمح إليه صاحبها؛ هو نجاح المبدع الذي يحاول أن ينتج جديداً ينسجم مع ثقافته وبيئته. وذلك باكتشاف تقنيات السرد والكتابة، وهذا هو المبدع النموذج الذي ينبغي أن يسود داخل المجتمع المغربي، وليس أحمد الساحلي الذي يمثل شريحة واسعة من أمثاله الفاشلين. فالكتابة إذن في " رواية المصري" هي مصدر للعديد من الأحداث والسمات داخل المسلسل السردي أهمها التواصل الثقافي بين مجتمع وآخر، ثم سمتي الفشل والنجاح؛ لتكون الصورة النهائية كالآتي:
المصري
مصدر
الكتابة
انفتاح على ثقافة الآخر
إذن فالتواصل مع ثقافة أخرى، واكتشاف نمط جديد من الكتابة ثم التفاعل معه والتأثر به. كانت نتيجته فشل أحمد الساحلي في مجاراته لنجيب محفوظ، ونجاح محمد أنقار في تأليف رواية.
المصدر والمرجعين
المصدر:
محمد أنقار، رواية المصري، منشورات الزمن، روايات الزمن2004 .
المرجعين:
سليمان الطالي، بلاغة السرد والشخصية في كتاب الهوى المصري في المخيلة المغربية، موقع إلكتروني لمحمد مشبال: medchbal.blogspot.com
محمد مشبال، الهوى المصري في المخيلة المغرية، منشورات بلاغات، ص138.