1- تقديم:
لن نسلك في هذه المقاربة سبيل الدرس الأكاديمي التقليدي، وإنما سنترك جانبا القوالب الجاهزة التي اعتاد الدرس أن يتلبسها في مثل هذه المواقف ليناقش محمولات العبارة الشعرية في القصيدة. ونبدأ مما تصرح به الشاعرة نفسها من بوح تحاول أن تبرر به القول والفعل معا. إنها حين تكتب تكتب في خلوة، ولكنها حين تقبل على جمهورها تقوم بتعرية الذات، وفضح أسرارها أمام حشود متعطشة للأسرار والأخبار.. إن العلاقة التي تقوم بين المنشد قصيدته والمتلقي، لا تقوم أساسا على جماليات اللغة، والصور، والعروض، وإنما تقوم على مقامات البوح وما يعمرها من غريب وجديد.. ولا تقوم اللغة إلا خادمة لذلك السريان الخفي بين لسان يدفع، وأذن لا تشبع.
وكم يكون الأمر مثيرا حينما يكون الباث امرأة.. إنها ذلك الكائن العجيب الذي لا تنقطع أسراره، وكأنها تتجدد بتجدد الأيام مع شروق سموشها وتوالي لياليها.. إنك تسمع لها وكأنك تسمع حديثها لأول مرة، سواء تغزلت أو اشتكت، أو رثت، أو وصفت.. إن حديثها دوما.. شاءت أم أبت، حديث مبطن بأسرار.. أو هكذا نريد له أن يكون لئلا يسقط في التسطيح والسذاجة.
وحين نقارب "ربيعة جلطي" من هذه الزاوية نريد للقوالب الجاهزة والأحكام الناجزة أن تتوارى بعيدا عن كل همس يند من كتلة النص، لنسمعه بينا واضحا من خلال حفيف الكلمات وحشرجة الحروف، وكأننا أمام فضاء تلعب فيه رياح يوسف غضوب بأوراق خرفه، تلهو بهن هنيهة وتعود تجمعها بعد شتات..
إن هذا الزعم ليس جديدا على الشعر النسوي، وليس بدعا فيه، وإنما هو مما يتحسسه النقد من خلال قياس مسافات الانتهاك التي يلاحظها بين الجنس والجنس، وكأن الحدود التي تُخترم بين الأجناس الأدبية ليس لها من حقيقة سوى حقيقة الاتساع لتشمل أنواع البوح، وتتمكن من نقل كافة الشحنات العاطفية التي ربما ضاق عنها الشعري واتسع لها السردي. فالشاعرة حينما تفتح القصيدة على السيرة، إنما تفتحها على تداعيات لا تحترم التراتبية الزمنية ولا المكانية، وإنما تنصاع لداعي الثرثرة التي تترنح بها مينا وشمالا، وكأنها تسعى وراء حقيقة لا يمكن إدراكها من خلال الشاخص بين يدي القارئ، وإنما يُستعان عليها بما ينثال من رؤى وهواجس تتخلل القول الشعري وتُتْرِع ساحته بالصور المبتوتة عن أصولها.
إنها مخاطرة أن تجعل المرأة من وجودها كائنا سيريا: « بتحويل ذاتها إلى موضوع، وتستخدم الأنا للتمحور على الذات،وتأكيد الوظيفة التعبيرية لعناصر الرسالة الأدبية. مما يجعل المرأة عرضة لأن تؤخذ بجريرة ما تكتبه، فللمرأة حضور خاص ينعكس في خصوصية تجربتها ذاتها.» ([2]) فالكائن السيري معرض أبدا لانتهاك الضمير من خلال فعل البوح الذي يتدرج به من العادي العرضي إلى الخصوصي المرتبط بالأنا في أدق تفاصيلها، وفي أحرج لحظاتها الوجودية. ومن ثم فإن تحويل المرأة إلى موضوع يخاطب القارئ من خلال ضمير الأنا، لا يعفيه أبدا من تبعات الخوض في مسائل تستثير لذة القارئ، ليس باعتبارها فنا وتجربة إنسانية، وإنما باعتبارها مادة للتلصُّص التي تحول الفعل القرائي – مثلما يقول ألبيرس-إلى فعل مصاص الدماء، وتتحول معه المتعة الفنية إلى متعة سادية. فالقارئ:« المقيد بإكراهات التابوهات الدينية سيحاول ترميم فعل القراءة، وتفعيل مشاركته في ملء فراغات النص أو المسكوت عنه. وبذلك سيكون هذا الأدب نمطا من النصوص المناهضة لهذه التابوهات. وتدخل هذه النصوص ضمن نسيج النصوص المقاومة للتابوهات الثلاثة: في الجنس، والدين، والسياسة. فإن غياب الحرية قد حوّل كتابات المرأة إلى وسائل دفاعية.»([3]) لأن الظلال التي تلقيها الألفاظ على حواشي الدلالة تستثير متعة التلصص. كما أن للكلمات حفيف آخر ينضاف إلى الظلال ليجعل النص همسا تتخلله حشرجات مختلفة الوقع، بعيدة الغور، توحي بالمعاني الحافة فيها.
لقد حاول النقد الأدبي محاصرة الظاهرة من خلال عقد الندوات التي دعيت إليها شاعرات، يتحدثن فيها عن تجاربهن وأساليب كتابتهن، وكيفيات تعاملهن مع اللغة والصور. وما انتهت إليه: « البحوث والمناقشات التي جرت في ندوة "الحرية في الأدب النسائي" التي جرت مؤخرا في طرابلس العاصمة الليبية، باتسام الأدب النسوي في تحديد أهم سمات الكتابة النسوية "بالانكباب على الذات، والعناية بالتفاصيل الصغيرة،والنبش في الطبيعة السيكولوجية،والجنسية... والعري،والفضح والتلصص، ونقد الذات، وتخطي الحرام الجنسي إلى الحرام السياسي" وكان وعي المرأة بالجسد، كحضور ثقافي يخضع لإكراهات المجتمع، باعتبارها مدخرا أموميا للولادة والتناسل، وكذلك لأداء الأعباء اليومية في المنزل حتى يصح وصفها بأنها حارسة الهيكل المنزلي» ([4]) ذلك لأن النسق الشعري في الأدبي النسوي حول الجسد إلى كتابة، ومن ثم صارت قراءة الجسد في الشعر النسوي من أولويات الفعل القرائي الذي يطل من وراء البوح على تضاريس الأنوثة مجسدة في الجسد المسجى عبر اللغة.
لقد عُدَّ ذلك الفعل انتهاك لحرمة الجسد في بادئ الأمر، ثم فوجئ القارئ بالجسد حضورا ثقافيا بين يديه، ثم تحول الحضور الفني إلى استعراض أيروسي فج في كثير من النصوص التي لم تجد فيها المرأة إلا شبقا تحاول اللغة أن تقوله كيفما اتفق، في همس البوح تارة، وفي جهر العهر تارة أخرى. بيد أن الأمر لم يكن مقصورا على المرأة وحدها فقد شاركها الرجل في تأجيج العهر، وانساق وراء البوح ليقول جسه هو الآخر بفجاجة أكبر. فكان الجسد صفحة يكتب عليها شعر هؤلاء لافتاته الداعية إلى التجاوز والتحول.. لم يكن فيها شيء مما يدعون أنه تجاوز للتابوهات، وكسر لأصنام الماضي، ونسف لمخاوفه، وإنما ارتدت فيهم الكتابة الأيروسية إلى ابتذال مشين.
1- تقديم:
لن نسلك في هذه المقاربة سبيل الدرس الأكاديمي التقليدي، وإنما سنترك جانبا القوالب الجاهزة التي اعتاد الدرس أن يتلبسها في مثل هذه المواقف ليناقش محمولات العبارة الشعرية في القصيدة. ونبدأ مما تصرح به الشاعرة نفسها من بوح تحاول أن تبرر به القول والفعل معا. إنها حين تكتب تكتب في خلوة، ولكنها حين تقبل على جمهورها تقوم بتعرية الذات، وفضح أسرارها أمام حشود متعطشة للأسرار والأخبار.. إن العلاقة التي تقوم بين المنشد قصيدته والمتلقي، لا تقوم أساسا على جماليات اللغة، والصور، والعروض، وإنما تقوم على مقامات البوح وما يعمرها من غريب وجديد.. ولا تقوم اللغة إلا خادمة لذلك السريان الخفي بين لسان يدفع، وأذن لا تشبع.
وكم يكون الأمر مثيرا حينما يكون الباث امرأة.. إنها ذلك الكائن العجيب الذي لا تنقطع أسراره، وكأنها تتجدد بتجدد الأيام مع شروق سموشها وتوالي لياليها.. إنك تسمع لها وكأنك تسمع حديثها لأول مرة، سواء تغزلت أو اشتكت، أو رثت، أو وصفت.. إن حديثها دوما.. شاءت أم أبت، حديث مبطن بأسرار.. أو هكذا نريد له أن يكون لئلا يسقط في التسطيح والسذاجة.
وحين نقارب "ربيعة جلطي" من هذه الزاوية نريد للقوالب الجاهزة والأحكام الناجزة أن تتوارى بعيدا عن كل همس يند من كتلة النص، لنسمعه بينا واضحا من خلال حفيف الكلمات وحشرجة الحروف، وكأننا أمام فضاء تلعب فيه رياح يوسف غضوب بأوراق خرفه، تلهو بهن هنيهة وتعود تجمعها بعد شتات..
إن النص عند هذه الشاعرة وأخواتها .. يسلك عادة هذه الطريقة في النشر والطي.. في الكتم والبوح.. في إغراء الآخر والصدود عنه.. إنها أبدا امرأة أهدت للكلمات شيئا من غنجها وتمنعها.. وشيئا من جرأتها وتبذلها. وكأن النص الشعري يتخلى عن كافة تعريفاته التي أرساها النقد منذ أزمنة بعيدة، ليكتب لنفسه تعريفا جديدا مختلفا، لا نحسبه يصب في الرؤى التي تأسست عليها كافة المقولات النقدية الأكاديمية على أقل تقدير. فالشعر النسوي يقارب اليوم:« من باب هيمنة البوح كمولد نصي،يضع الشعر كنمط أدبي،يعيد هيمنة الذات في النصّ الشعري، ويضعه في منزلة مابين منزلتي السيرة الذاتية واليوميات، وهو توسيع لأدب البوح وتداخل الأنواع ضمن هذا الجنس الأدبي من خلال العبور من السيرة الذاتية إلى اليوميات الشخصية.»([1]) كل ذلك حتى يتمكن الاتصال بين الغامض في الذات والغامض في الكتابة اتصالا يمكِّن الظلال الدلالية من الهروب بعيدا في أغوار النفس المعذبة. أو كبصيص من نور يطل بين الفينة والأخرى عبر التكثيف الذي تتلفع به الكلمات، والضبابية التي تتشح بها العبارات، لتقول الشيء وضده في آن واحد.
إن هذا الزعم ليس جديدا على الشعر النسوي، وليس بدعا فيه، وإنما هو مما يتحسسه النقد من خلال قياس مسافات الانتهاك التي يلاحظها بين الجنس والجنس، وكأن الحدود التي تُخترم بين الأجناس الأدبية ليس لها من حقيقة سوى حقيقة الاتساع لتشمل أنواع البوح، وتتمكن من نقل كافة الشحنات العاطفية التي ربما ضاق عنها الشعري واتسع لها السردي. فالشاعرة حينما تفتح القصيدة على السيرة، إنما تفتحها على تداعيات لا تحترم التراتبية الزمنية ولا المكانية، وإنما تنصاع لداعي الثرثرة التي تترنح بها مينا وشمالا، وكأنها تسعى وراء حقيقة لا يمكن إدراكها من خلال الشاخص بين يدي القارئ، وإنما يُستعان عليها بما ينثال من رؤى وهواجس تتخلل القول الشعري وتُتْرِع ساحته بالصور المبتوتة عن أصولها.
إنها مخاطرة أن تجعل المرأة من وجودها كائنا سيريا: « بتحويل ذاتها إلى موضوع، وتستخدم الأنا للتمحور على الذات،وتأكيد الوظيفة التعبيرية لعناصر الرسالة الأدبية. مما يجعل المرأة عرضة لأن تؤخذ بجريرة ما تكتبه، فللمرأة حضور خاص ينعكس في خصوصية تجربتها ذاتها.» ([2]) فالكائن السيري معرض أبدا لانتهاك الضمير من خلال فعل البوح الذي يتدرج به من العادي العرضي إلى الخصوصي المرتبط بالأنا في أدق تفاصيلها، وفي أحرج لحظاتها الوجودية. ومن ثم فإن تحويل المرأة إلى موضوع يخاطب القارئ من خلال ضمير الأنا، لا يعفيه أبدا من تبعات الخوض في مسائل تستثير لذة القارئ، ليس باعتبارها فنا وتجربة إنسانية، وإنما باعتبارها مادة للتلصُّص التي تحول الفعل القرائي – مثلما يقول ألبيرس-إلى فعل مصاص الدماء، وتتحول معه المتعة الفنية إلى متعة سادية. فالقارئ:« المقيد بإكراهات التابوهات الدينية سيحاول ترميم فعل القراءة، وتفعيل مشاركته في ملء فراغات النص أو المسكوت عنه. وبذلك سيكون هذا الأدب نمطا من النصوص المناهضة لهذه التابوهات. وتدخل هذه النصوص ضمن نسيج النصوص المقاومة للتابوهات الثلاثة: في الجنس، والدين، والسياسة. فإن غياب الحرية قد حوّل كتابات المرأة إلى وسائل دفاعية.»([3]) لأن الظلال التي تلقيها الألفاظ على حواشي الدلالة تستثير متعة التلصص. كما أن للكلمات حفيف آخر ينضاف إلى الظلال ليجعل النص همسا تتخلله حشرجات مختلفة الوقع، بعيدة الغور، توحي بالمعاني الحافة فيها.
لقد حاول النقد الأدبي محاصرة الظاهرة من خلال عقد الندوات التي دعيت إليها شاعرات، يتحدثن فيها عن تجاربهن وأساليب كتابتهن، وكيفيات تعاملهن مع اللغة والصور. وما انتهت إليه: « البحوث والمناقشات التي جرت في ندوة "الحرية في الأدب النسائي" التي جرت مؤخرا في طرابلس العاصمة الليبية، باتسام الأدب النسوي في تحديد أهم سمات الكتابة النسوية "بالانكباب على الذات، والعناية بالتفاصيل الصغيرة،والنبش في الطبيعة السيكولوجية،والجنسية... والعري،والفضح والتلصص، ونقد الذات، وتخطي الحرام الجنسي إلى الحرام السياسي" وكان وعي المرأة بالجسد، كحضور ثقافي يخضع لإكراهات المجتمع، باعتبارها مدخرا أموميا للولادة والتناسل، وكذلك لأداء الأعباء اليومية في المنزل حتى يصح وصفها بأنها حارسة الهيكل المنزلي» ([4]) ذلك لأن النسق الشعري في الأدبي النسوي حول الجسد إلى كتابة، ومن ثم صارت قراءة الجسد في الشعر النسوي من أولويات الفعل القرائي الذي يطل من وراء البوح على تضاريس الأنوثة مجسدة في الجسد المسجى عبر اللغة.
لقد عُدَّ ذلك الفعل انتهاك لحرمة الجسد في بادئ الأمر، ثم فوجئ القارئ بالجسد حضورا ثقافيا بين يديه، ثم تحول الحضور الفني إلى استعراض أيروسي فج في كثير من النصوص التي لم تجد فيها المرأة إلا شبقا تحاول اللغة أن تقوله كيفما اتفق، في همس البوح تارة، وفي جهر العهر تارة أخرى. بيد أن الأمر لم يكن مقصورا على المرأة وحدها فقد شاركها الرجل في تأجيج العهر، وانساق وراء البوح ليقول جسه هو الآخر بفجاجة أكبر. فكان الجسد صفحة يكتب عليها شعر هؤلاء لافتاته الداعية إلى التجاوز والتحول.. لم يكن فيها شيء مما يدعون أنه تجاوز للتابوهات، وكسر لأصنام الماضي، ونسف لمخاوفه، وإنما ارتدت فيهم الكتابة الأيروسية إلى ابتذال مشين.
مهمة الشعر لدى النساء
2-مهمة الشعر لدى النساء:
قد يكون من المفيد استقراء آراء الشاعرات في مفهوم الشعر ووظيفته، حتى نحدد مجال الرؤية التي سنناقش بها مواقف الشاعرة "ربيعة جلطي" لأننا قد أشرنا منذ البدء أننا أمام رؤية مختلفة، قد لا تتفق في كثير من معطياتها مع الرائج من الآراء والأقوال، وأنها تنصرف إلى وجهة أخرى تجعل فهمنا للشعر النسوي ينطلق من قاعدة خاطئة، وأن ما نبنيه من أحكام عليها لا يستند إلى معرفة حقة بالظاهرة، فيثبت في وجه النقد والانتقاد.
ترى الشاعرة "حمر العين خيرة" أن :« أن أية محاولة لتنميط القول الشعري وحصره في قضايا ذاتية، أو قومية، أو محلية، هي جناية على الشعر، وتعطيل لحرية اللغة في الانعتاق والتجلي، لأن هوية الشعر انبثاق أزلي، وفيض مستمر، ولا يمكن لهذه الأزلية والاستمرارية إلا أن تكون شاهدا على الأبدية »([5]) وكأن هاجس الشاعرة أن لا يُنمط الشعر، وأن لا يُقصر على مجال دون آخر، فلا هو بالذاتي ، ولا هو بالقومي، ولا هو بالمحلي،إنما هو كل ذلك جملة واحدة. وكأن وظيفة الشعر عند الشاعرة أن يرود هذه التخوم كلها، وأن يقول فيها قولته، وأن يبدع من خلالها تجاربه الفنية. فهو فضاء للذاتي ومتسع له، وهو مجال للقومي وهمومه الاجتماعية والثقافية والسياسية والحضارية وغيرها.. وهو إطلالة على المحلي وألوانه الفلكلورية.. إننا نوسع من دائرة الشعري حتى لا يسقط في التنميط المذكور أعلاه حتى وإن حمَّلنا الشعر الأحمال كلها، وأثقلنا كاهله بالأثقال كلها، وجعلناه يقولها جملة وتفصيلة.
بيد أن الأمر الثاني لدى الشاعرة، في إشارتها إلى لغة الشعر التي يجب أن تكون "انعتاقا وتجليا" وهو شرط لديها في تأسيس هوية الشعر القائمة على الانبثاق الأزلي، والفيض المستمر، ليكون شاهدا على الأبدية.. صحيح أن مثل هذه اللغة ليس لغة نقدية، ولا هي من قبيل ما تسجل به النظريات، وإنما هي لغة الشعر ذاته التي تريدك أن تعتقد ما تشاء من خلال وعيك وإدراكك للكلمات. فقد يجد الذاتي في هذه الظلال مجال ليقول ذاته عبر "انعتاق وتجلي" فيوحي الانعتاق بالتحرر من قيد خفي كان يكبِّل الذات ويحول دون إرادتها في أن تفصح وتجهر، أو أن تهمس وتشير. فإذا استطاعت أن تنعتق، تمكنت من أن تتجلى وتتكشف في كل هيئاتها وأحوالها. غير أن هذا النمط من الفهم قد لا يستقيم إذا حمل الشعر على عاتقه مشاكل الواقع القومي والمحلي، فذلك سيحوله سريعا إلى خطابَة سريعا ما تتخلص من اللغة الإشارية الهامسة لتركب الجهر والوعظ.
إن الشاعرة التي أرادت أن توسع من دائرة الشعر، وأن تفتح مجالاته على التعدد، لا تجد في لغة الشعر سوى لغة البوح والتعرية. لغة الانبثاق والفيض،في ضرب من التحولات الصوفية التي تجعل المصطلحات تصب في معجمية خاصة، كثيرا ما يتفاداها النقد الأدبي لغموضها وتعدد وجوهها. والتي تنتهي سريعا بالقارئ إلى شاطئ الحيرة والتردد. ولنا أن نسأل الشاعرة عن مرادها من الأبدية.. هذه الكلمة التي زجت بها في نهاية هذه العبارة لتنهي بها كلاما لن ينتهي أبدا إذا ما عُولج بمثل هذه المصطلحات.
إذا كنا قد لمحنا في حديث "حمر العين خيرة" مستويين: الأول مبني على لغة مباشرة تقول حقيقتها بحرفيتها التي يفهمها العامة من الناس، فإن المستوى الثاني استعاض عنها بلغة صوفية،جميلة الوقع، بيد أنها خالية من الدلالة النقدية، لأن في مستطاع أي كان أن يحمِّلها ما يشاء من دلالة تأويلا وتفسيرا. ولكننا مع الشاعرة "زينب لعوج" نقرأ لغة واضحة الدلالة، بينة المقصد، لا يمكنها أن تحمل إلا معناها الذي يرتسم على وجهها أولا.. إنها تجد الشعر:« هو اللغة المشتركة بين الناس التي لا تعترف لا بالحدود، ولا بالحواجز، ولا بالعرق، ولا بالجنس، ولا باللون. ديانة الشعر الأولى والأخيرة هي الحرية. وهي هذه القيمة العليا التي هي الإنسان، والعاطفة النبيلة، والمتسامحة والسخية التي يسكنها فينا. مع الشعر تنتفي الديانات، والثقافات، واللغات كلها تنصهر لتصبح الواحد المتعدد. لذلك يجب أن نوفر كل المنابر الممكنة لإسماع الشعر، ولقوله، ولغنائه، ولإنشاده، ولنشره.»([6]) وكأن الشاعرة "زينب لعوج " تتفق مع "حمر العين خيرة" وتتقدم عليها خطوة للمناداة بعالمية الشعر. فليس الشعر مقصور على فئة دون أخرى، ولا على شعب من الشعوب دون آخر. وأن المطلب الأساس في الشعر لدى هؤلاء وهؤلاء هو الحرية.. الحرية في القول..
حينما ينتهي الناقد إلى هذه العتبة، يحق له أن يسأل نفسه، وأن يتريث عند دلالة الكلمات.. ما المراد بالحرية؟ كل الشعراء عبر اللغات والشعوب يقولون أشعارهم كيفما يشاءون.. يحترمون القواعد أو ينتهكون حرمتها.. ينسجون على منوال أو يتمردون عليه.. يجربون.. يحطمون القيود.. يصادمون الأذواق.. يخلخلون السائد والمستتب.. إنها حريتهم التي ينشدونها ويتلذذون بمرارتها.. فإذا كان هذا ما تقصده الشاعرة، فإن الحرية مطلب قديم أزلي، يستمر ما استمر الشعر في الألسنة. أمّا كان ذلك مجرد تحرر شكلي فقط لا يلامس إلا قشرة الشعر وهيكله، فما الحرية المطلوبة إذا؟ هل هي حرية ستطال المضامين؟ ليقول الشعر ما يريد، أم أنها حرية تجاوز المحظور، وتخطي الحدود، وانتهاك حرمة المقدس؟ ذلك ما تعاهد كثير من النقاد والمثقفين على تسميته بالتابوهات والمحرمات وفي مقدمتها: الدين، ثم الجنس، ثم السياسة.. إنها (ج،س،د) جسد الشعر الجديد الذي يحلو لهن عرضه على أسطر النصوص عرضا يتراوح بين الإشارة الخجولة والإعلان الفاضح. عبر اللغة.
ترى الشاعرة " سعدية مفرح" أن ليس للشعر من مهمة أصلا! وتتساءل قائلة:« هل على الشعر فعلا أن يعبر عن مآزق الحياة والإنسانية؟ هل هذه هي وظيفته أو إحدى وظائفه؟ هل للشعر وظيفة أصلا؟ هل ينبغي أن تكون له وظيفة؟ هل على الشاعر أن يكون بطريقة أو بأخرى، وبدرجة أو بأخرى مسئولا عن ملفات الحياة حوله؟. أنا الآن أصبحت مقتنعة أن الشعر ليس مسئولا عن كل هذا ولا ينبغي عليه أن يكون أصلا، ولعلنا نحمِّله ما لا تطيق رهافته وعفويته إن نحن فعلنا ذلك. لأنني لم أعد أؤمن بوظيفة خاصة أو عامة للشعر، ولا بشروط محددة له . يكفي الشعر أن يكون وحده هو القضية، وهو الهدف، وليس مجرد وسيلة جميلة لبلوغ أي هدف. جمالية الشعر تحميه من كل افتراضات مسبقة. لا ينبغي أن نضع الشروط ونؤطر الأطر، ونحدد القضايا للشاعر قبل أن يبدع القصيدة. عليه أن يكون نفسه وحسب وهو بصدد الشعر» ([7]) وكأن الشاعرة تعود بنا إلى نهاية القرن التاسع عشر مع دعوات "الفن للفن" التي رامت تخليص الفن من وظيفته والاحتفاظ بالجماليات المبهمة التي يترجمها كل فنان حسب مزاجه وهواه. فإذا تخلص الشعر من ملفات الحياة من حوله كما تسميها الشاعرة، فلم يبق له سوى مهمة اجترار ذاته.
لقد أكثر شعراء الجيل الجديد الحديث عن الشروط المؤطرة للشعر، والمحددة له من دون تسميتها، وكأنهم يوهمون الناس بأن هناك طرف يصر على وضع الشروط والقيود في دروبهم وأنهم يتعثرون بها، فينشغلون في إزاحتها وتجاوزها. وإذا هم سئلوا عنها لم يسعفهم جواب صريح، ولم يجدوا بين أيديهم سوى ادعاءهم ذاك يرتد عليهم. فالشاعرة " سعدية مفرح " التي تتحدث عن الشروط والفروض والقضايا التي تحدد للشعر مسبقا، لم تفصح عن شيء منها. لأنها سريعا ما تعود لتخفي حيرتها في لغة مبهمة – على النحو الذي صنعته الشاعرات قبلها-لتقول قولا يملأ الفم ولا يشبع البطن. فما معنى قولها:" جمالية الشعر تحميه من كل افتراضات مسبقة"؟ لأننا ندرك أن لفظة "جماليات" من المصطلحات الغامضة الشاسعة التي تبتلع كل تعريف يروم الإحاطة بها. ثم ما هي الافتراضات المسبقة؟ من الذي يفترضها؟ ما هي سلطته؟ وما درجة تأثيره في الشاعر والشعر؟
لن تستطيع الشاعرة أن تجيب، لأنها تدفع بمثل هذه الأقوال لترد عن سؤال يباغتها في لحظة غفلة، فتبحث في ذاكرتها عن مفهومها للشعر، عن وظيفته، فلا تجد سوى هذه اللغة الفضفاضة تتوارى خلفها، وتدس فيها حيرتها.. واسمع إليها تقول مباشرة بعدما نفت أن يكون للشعر من مهمة:« طبعا هذا لا يعني أن الشاعر يكتب من فراغ معرفي أو أخلاقي مثلا، بل كونه يعبر عن ذاته وحدها يعني أنه يعبر عن هذه الذات بكل مكوناتها المعرفية والأخلاقية، وبكل تاريخها في مراحله المختلفة. وهذا يحدث غالبا لحسن الحظ مع الشعر الحقيقي ومع الشاعر الحقيقي.» ([8]) فالشعر إذا لا يكتب من فراغ، وإنما هو تعبير عن ذات، وأن لهذه الذات امتداد تاريخ وثقافي وديني وسياسي.. وما شئنا من الامتدادات. وأن لها من الآمال والأحلام ما يجعل ملفاتها الحياتية ملفات حافلة بالتناقضات والأوهام والرؤى السديدة.. وأنها في كل ذلك لا تخبط خبط عشواء، وإنما تستند إلى معرفة تنير لها درب التحولات التي تسلكها. وأنها في تقلبها ذاك إنما تعبر عن قضية..
إذا لم تكن هذه السلاسل الممتدة من الذات إلى ما ترنو إليه في حاضرها مستقبلها من مهمات الشعر العظيمة، فأين هو الثقل الذي أرادت الشاعرة أن تحرر الشعر منه؟ إننا في فعل الكتابة أمام التزام أمام الذات والآخرين والتاريخ.. فكل حرف تخطه اليمين مشبع بحمولات ترتدُّ بعيدا في الماضي المشترك الذي تحتمله اللغة والثقافة والتاريخ في سيلها الهادر أبد الدهر. والذي ينكر على الشعر مهمته، يجب عليه أن ينفض يديه من كل هذا وأن يكتب في غيره.. أو فيما أسمته الشاعرة بالجماليات.. وليس يغفر للشاعرة سقتطها أن تزجي بين أيدينا رأيا آخر أشد غرابة حين تزعم أن هناك شاعر حقيقي وأن هناك شعر حقيقي،فذلك أمر يستدعي نقيضه. فهل كل من حمل الشعر قضية شاعر مزيف؟ إنها تسارع لتجيب قائلة:« لا يمكن أن نحرم الشاعر من كتابة قصيدة عن قضية لأننا لا نؤمن بوظيفة للقصيدة، أو لأننا ضد المباشرة والتقريرية في الشعر، أو لأننا لا نرى للشعر أي دور فاعل في الحياة. بل ما أقصده أن يكون هذا هو وظيفة الشعر، وهو دور الشاعر بدلا من أن يكون وسيلة للشعر وأداة للشاعر أحيانا.»([9]) إنه إذا دور الشاعر وليس مهمة الشعر! فكيف نوفق بين دور ومهمة يتعارضان في المبدأ؟ كيف يمكن أن نجعل الشعر محض جمال يتلهى بصنعته الشعراء، وفي نفس الوقت نرى له دورا في قضية من القضايا.
يبدو الخطاب النقدي النسوي كثير الاضطراب، كثير التشوش، لا يستقر على رأي. وكأن الشاعرات لم يكن في لحظة من اللحظات على وعي بحقيقة الشعر في جوهره، وإنما نظرن إليه من خلال وسائلية تتراجع من العام إلى الخاص لتغدو شأنا خاصا لصيقا بالذات في همومها الصغيرة التي تطرأ عليها كل حين فتدفع بها إلى لغة الاعتراف. وحين تستفيق الشاعرة " سعدية مفرح " من غيبتها وتثوب إلى رشدها تقول بعد قولها السالف مباشرة:« ومع كل ما قلته، عليّ أن أشير باحترام وإعجاب إلى قصائد كثيرة كانت لها تلك الوظيفة التي رفضتها للتو. وإلى شعراء كثيرين قاموا بالدور الذي لم أعد أستسيغه، ولا أعتقد أنني سأقوم به لاحقا. فالشعر يبقى دائما خيارا مفتوحا ولا نهائيا »([10]) وحين نسعد بالرأي الصريح الذي أزال عنا كثيرا من الغبن الذي لحق بنا ونحن نقرأ الرأي ونقيضه، نقع مرة أخرى في بئر الحيرة مع العبارة الأخيرة! لماذا الشعر خيارا مفتوحا؟ وعلام يكون مفتوحا؟ ولماذا لانهائيا؟ فقد لا يتسع مجالنا للتفتيش تحت كل حرف من حروف الشاعرة لنسأل، ونعلل، ولكن علينا أن نقول سريعا أن الخيارات التي تتحدث عنها الشاعرة هي التجريب الحر الذي يضع على رأس كل "ناتج" أو "منتوج" نعت "شعر".
3-مفهوم الشعر عند "ربيعة جلطي":
لقد حاولنا استنطاق عدد من الشاعرات حول مفهوم الشعر ووظيفته، وتبين لنا مما استعرضنا تباين الرؤى، واختلاف الأقوال، وعدم التحديد. وكأن الشعر عصي عن أن يندرج –على ألسنتهن وأفهامهن على الأقل –في إطار تصوري منتظم. فقد يعود السبب إلى أن الموقف لم يكن يتيح التريث للتعبير عن رأي واضح محدد الدلالة لا يحتمل التأويل. أو أنه يتعذر علينا أساسا أن نسأل الشعراء عن الشعر وكأنهم أجهل الناس به، على خلاف النقاد الذين ينصرف همهم إلى التحديد والتدقيق. بيد أننا نجد على ألسنة الشاعرات كثير من الأحكام التي تستفز القارئ فيظن بصاحباتها الظنون، ثم يتوقف ليسأل عن السبب وراءها. هل تكون لإثارة الانتباه مثلا؟ أو أنها من صميم الاعتقاد الذي يجعل الشاعرة تأتي ما تأتيه من قول قائم على ذلك التصور.
الشعر ليس ديوانا للعرب
3-1-الشعر ليس ديوانا للعرب:
إننا حينما نأتي إلى "ربيعة جلطي" نتوقف أمام أول مواقفها، وعلى طرف ألسنتنا هذا السؤال.. هل الأمر كما تراه الشاعرة حقا؟ أمن أننا وراء جملة صدامية تدفع بها الشاعرة السؤال الموجه إليه ليتسع لها مجال القول؟ لقد قالت:« الشعر ديوان العرب.. لعلها أكبر كذبة معرفية قالها العرب عن ثقافتهم ثم صدقوها مع الأسف، وظلوا يتوارثونها جيلا ثقافيا بعد جيل. أعتقد أن الشعر ديوان الإنسان أينما كان وبمختلف اللغات، وجميع الأقوام والثقافات.»([11]) فلماذا تصف الشاعرة الاعتقاد العربي بالكذبة؟ ألأن العرب أهل الثقافة الشفوية لم يجدوا وعاء أوسع لمعارفهم وأحاسيسهم وأخبارهم من الشعر فأودعوها فيه، ثم سماه من جاء بعدهم بديوانهم، وكأن الشعر هو ذلك المجلس الذي يجتمع فيه خاصتهم لإدارة شؤون حياتهم؟ ربما لم تفهم الشاعرة من كلمة الديوان سوى الاصطلاح الجديد الذي يعني السجل والقيد، ولم تلتفت إلى أن الديوان مثل الإيوان مكان تجمع ولقاء، فضاء جدل وحوار،ومجلس إدارة وتسيير.. فلم يزعم العربي يوما أنه المالك الوحيد لمثل هذا السلوك الحضاري،ولم ينزعج أحد من المفكرين قديما وحديثا من هذا النعت! وتفهم الشاعرة أن العرب كذبوا وصدقوا كذبتهم كما فعل أشعب من قبل! وأنهم فوق الناس يملكون ديوانا.. ثم تأتي الشاعرة لتصحح الوضع وتوسع الشركة، وتجعل الشعر مشاعا بين الناس.
لم يزعم واحد من العقلاء ولا المجانين أن الشعر خاصية عربية، وأن "الأعاجم" محرومون من نعمة الشعر.. حتى الجاحظ الذي قال قولا قريبا من هذا لم يكن يقصد حرمان الشعوب حقها من قرض الشعر، وإنما كان يفاضل بين ما للعرب وغيرهم من جودة القول وجماله، وأوزانه، وبحوره. ولا أحسب الجاحظ من الحمق والعي بمكان ليجزم أن الأقوام الأخرى ليس لها حظ من الشعر. فليس هناك داع يدعو العرب للكذب ثم تصديق كذبهم. وليس من داع للشاعرة "ربيعة جلطي" أن تحكم هذا الحكم الشاذ فقط لتوسع دائر الشعر لأقوام الأخرى، وقد كانت تسعهم رضيت العرب بذلك أم لم ترض. إلا إذا كان للشاعرة مفهوما آخر للشعر يختلف عما نفهمه في ثقافتنا من تحديد للشعر وتعريف له!
تستطرد الشاعرة مباشرة بعد قولها السابق قائلة: « الشعر في مفهومي الخاص واحد من عناصر تعريف الإنسان بغض النظر عن عرقه، أو لغته، أو دينه. لا شك في أن العرب وضعوا الثقافة الشعرية والشعر فوق كثير من تجليات المعرفة الأخرى. فقد أحبوا به، وحاربوا به، وقرأوه على موتاهم قبل أن يقرؤوا عليهم النصوص الدينية وعلى رأسها القرآن الكريم.» ([12]) إن الجديد عند شاعرتنا هو تعريفها الجديد للإنسان! لقد علمنا أن بعض الاتجاهات عرفت الإنسان ب"الحيوان الناطق" و"الحيوان العامل" وهاهي الشاعرة تضيف تعريفا جديدا:"الإنسان الشاعر" بغض النظر عن عرقه ودينه ولغته، فكل الناس شعراء بالقوة، رضوا بذلك أم أنكروه. فإذا كانت الشعوب -ومنها العرب- تجد الشعراء قلة، وتحمد القلة فيهم، لأنهم يحملون في أنفسهم ما تعجز النفوس الأخرى عن حمله، وتنوب عنهم في الإفصاح عن مكنوناتها ومشاعرها، والتعبير عن هواجسها وهمومها. فإن الشاعرة ترفض القلة المحمودة لتجعل الشعر مشاعا بين الناس، يتعدد فيهم إلى درجة يكون فيهم عنصرا تعريفيا قارا لا تخطئه العين في كل واحد منهم.
نعم لقد حاربت العرب بالشعر، وأحبت به، وكرهت به، وخاصمت وناظرت.. وفعلت الأفاعيل به، إلا أنها أبدا لم تدفن موتاها به، لا في جاهلية ولا في إسلام. فإذا كانت الشاعرة تشير إلى قراءة البردة – بردة البوصيري-في بعض جهات المغرب على الموتى، فإنه صنيع محلي لا يمكن أن يعمم ليكون خاصية للعرب يعرفون به بين الشعوب. وإني لأذكر أن بعض الجهات في الجزائر تقرأ البردة ذاتها في المولد النبوي، واحتفالات الزفاف، وعاشوراء، وأنهم ينكرون قراءتها على الموتى لمخالفة الشرع.
3-2-أزمة الشعر العربي:
حالما انتهت الشاعرة "ربيعة جلطي" من كذبة "الشعر ديوان" انتقلت إلى رأي غريب قد لا يشاركها فيه أحد من الدارسين بل قد ينظر إليه بعضهم بريبة، خاصة إذا كان الحديث يتعلق ب"أزمة الشعر العربي". فليس من المستبعد أن يعرف الشعر العربي على مر تاريخه أزمات مختلفة، قد تتصل بالشكل أو المضمون. فقد تميل كفة الرأي إلى جهة تناصرها على حساب جهة أخرى. غير أن هذا التأرجح بين الطرفين معروف مألوف في حياة الشعر العربي، لتحوُّل القيم الجمالية في الأذواق، ومن ثم ينشأ عنها تحوُّل في وجهات الشعر من الشكل إلى المعنى، أو من المعنى إلى الشكل. غير أن الأزمة التي تتحدث عنها الشاعرة أزمة حياة وموت.. فهي ترى:« أن قصائد الخمريات والتصوف -وأعتقد جازمة أن بينهما كثيرا من نقاط الالتقاء-استطاعت أن تنقذ الشعر العربي الكلاسيكي من الموت، بانغماس الأولى أي الخمريات في شعرية اليومي بكل قوته وتجلياته ومفاجآته، بينما تعمقت الثانية في الروحي بكل اختراقاته ووجودياته. وإني على يقين أن يد الشعر الصوفي البيضاء أنقذت الشعرية العربية حتى الآن، ومنها خرج الشعراء العرب المعاصرون والحداثيون: أدونيس، ودرويش، وسعدي يوسف، وأمل دنقل، وصلاح عبد الصبور. »([13]) وكأن عود الشعر العربي كان يذوي يوما بعد يوم، إلى أن جاءت قصائد الخمريات -والتي كانت موجودة فيه منذ الجاهلية الأولى إلى يوم الناس هذا-وجاءت قصائد التصوف -التي طرأت عليه مع القرن الأول الهجري-لترد ماء الحياة إليه، وتجري في سيقانه دبيب الروح، فتورق أغصانه، وتتورَّد زهراته. كل ذلك يحدث لأن الخمريات تنغمس في اليومي " بكل قوته، وتجلياته، ومفاجآته " فالذي يصنع قوة الشعر وحياته، هو "اليومي" الذي يملأ حياة الناس بقضه وقضيضه، وبجلِّه وجليله. والشاعر الذي يكون في حالة "سكر" هو القادر على استنطاق اليومي وتفعيله لينزع عن الشعر غبن الأغراض الشعرية الأخرى، التي استهلكت طاقة في المديح، والهجاء، والفخر، والحماسة.. كذلك فعلت القصيدة الصوفية التي انغمست هي الأخرى " في الروحي بكل اختراقاته ووجودياته " ذلك الروحي الذي ليس فيه سوى الابتهال، والتعبد، والتذلل، والتماس التوبة والغفران.. أو فيه الرؤى الباطنية، والحلول والاتحاد، والإلحاد والزندقة..
إننا حين نراجع ما أحالتنا عليه الشاعرة، بأنه اليومي الذي أنقذ الشعر العربي من الموات،فإننا لا نجد شيئا يقع خارج دائرة اليومي، الذي يشغل الناس، ويملأ بياض نهارهم وسواد ليلهم.. فليس للمادح، ولا للهجَّاء، ولا للمستعطف، ولا للمفتخر.. إلا شغل اليومي الذي من أجله قام منشدا، سواء أكان في حال "سكر" خمري أو "سكر" صوفي. إنه الفهم الذي نسوقه بين أيدينا لوعي مباشر بأقوال الشاعرة.
أما إذا كان مرادها من حالة "السكر" في الخمريات أو التصوف، هو ذلك الروغان في المُحرم، وانتهاك حدود المقدس، وإثارة الشك والريبة في المعتقد،على شاكلة ما فعله أبو نواس، والحلاج، والبسطامي، والنيفري، وابن عربي.. وغيرهم ممن عارضهم عامة الناس، وأنكروا عليهم أقوالهم قبل أفعالهم، وتابعهم في شططهم محدثون أمثال أدونيس، والبياتي، وصلاح عبد الصبور، والسياب.. وغيرهم، فإن حكم الشاعرة يحتاج إلى أدلة لإثبات ادعائها أولا، وإلى من يناصر رأيها ثانيا. ويكفي أن تنتبه الشاعرة إلى أن هذه الأسماء التي ملأت الدنيا ضجيجا في نهاية القرن الماضي، لم يعد يُسمع لها من صوت اليوم. بل إن أجيال الشعراء الجدد تسعى جاهدة للتنصُّل من هيمنة أصواتها الشعرية، التي حولت النص الشعري إلى فضاء نرجسي للذاتية، تتقلب فيه في كل أثوابها وأحوالها، التي اهترأت بتكرر استعمالاتها. لأنك لا تقرأ اليوم قصيدة في ديوان جديد، إلا ويطالعك صوت من أصوات الماضي القريب، فتلتقط أذنك رنة "نزار"، أو جلجلة "محمود درويش"، أو "ترنح" البياتي..
هل كان الشعر في حاجة إلى "اليومي" وإلى"حالة سكر" ليقوم من بلاه كما يقوم الفينق الأسطوري من رماد مَوَاته؟ حتى توقِّع الشاعرة شهادتها ب" أعتقد جازمة " و" إني على يقين "؟ وهي توقيعات فيها كثير من الادعاء الذي يجب أن يقوم على أسس متينة، مسنودا إلى وقائع إثبات، وإلا لتحول القول إلى ضرب من مخادعة القارئ الذي يثق في "علم " الشاعرة الباحثة الأكاديمية. لأن مثل هذه المزاعم عادة ما تُسوَّق بمثل هذه العبارات التي تُوَشَّح بها الحوارات، فتوهم المتلقي بأنه أمام حقائق منتهية، جرى فيه البحث وفق مناهج صارمة. فيكون من نتيجتها أن الخمريات والصوفيات هي التي أنقذت الشعر العربي من الموت.
3-3-حقيقة الشعر العربي:
إذا كان الشعر "ديوان العرب" كذبة من الأكاذيب التي أطلقها العرب ثم صدقوها، وإذا كانت القصيدة الخمرية وأختها الصوفية هما اللتان أنقذتا الشعر العربي من الموت، فما حقيقة الشعر العربي إذا؟ وكيف كان قبل ذلك؟
ترى الشاعرة "ربيعة جلطي" أن الشاعر العربي يبدو لها:« كما الشعر تماما، يكبر دائما في جدلية علاقته مع السلطات الدينية أو السياسية، إن بشكل مباشر أو غير مباشر، فالسلطان من يحدد اتجاه الشعر بالرفض أو القبول. أكثر من 60 بالمائة من شعرنا مدح، و20 بالمائة هجاء، وما بقي موزع بين الوصف والبيانية. في اعتقادي أن الشعر العربي الحقيقي بنسبة قليلة جدا يتجلى، وذلك خلال جميع حقبه المتواترة، في شعر التصوف وشعر الخمريات. ففي هذين الفضائين استطاع الشعر العربي أن يحلق، وأن يحقق الشعرية بمفهومها الفلسفي. ويمكن أن نذكر هنا بشار بن برد، والحلاج، والسهروردي، وابن عربي في "الأشواق".... وهذا ما يجعل الشعر العربي شعرا. »([14])
إنها كلمة تتشح بكثير من الثقة، حينما تتوسطها عبارة "في اعتقادي" والعقيدة هي ذلك الوعي الذي لا تُحل عقدته بعد يقين. بيد أن الكلمة التي تدفع بها الشاعرة في حوارها، تحمل كثيرا من القضايا التي يجب على الناقد التريث إزاءها لفحص محتواها، فهي لا تحدث نفسها، وإنما تحدث القراء من خلال الحوار، ليعلموا عنها موقفها مما تثيره من قضايا، وما تلتزم به من مواقف. وسيختلف معها غالبية الناس حينما تزعم أن السلطان هو من يحدد اتجاه الشعر بالرفض والقبول.. لنا أن نسأل: متى حدث ذلك؟ ومن هو السلطان الذي قال للشعراء اتجهوا وجهة كذا، ولا تتجهوا وجهة كذا؟ وهل رفضُ السلطان لقصيدة من القصائد أرغم الشعراء على تبديل وجهة الشعر ولغته وأساليبه؟ ألم يكن السلطان واحد من الناس واقع تحت رحمة الشعر، يهابه، ويشتري رضاه بماله، مثلما يفعل الحكام اليوم مع الإعلام؟ بل العكس هو الصحيح فكم من حاكم أثناه الشعر عن وجهته! وكم من سلطان دفع به الشعر إلى وجهة غير التي ارتضاها.. وما بال المعتصم مع قصيدة أبي تمام؟
إن إستراتيجية الشاعرة واضحة من خلال النتائج التي ستنتهي إليها قريبا. فهي أولا تريد أن تزيح من طريقها مقدارا من الشعر العربي له صلة بالسلطان مدحا، وهجاء، واستعطافا، وسياسة.. وهو ما يمثل 80 بالمائة من الشعر العربي بحسب زعمها. فإذا وجد القراء في هذا القدر الكبير أثرا للسلطان وتوجيهه، وإرغاما للشعراء على القول في ميادينه، رفضوه واستهجنوه، وأخرجوه من دائرة الشعر الحقيقي.. وما الشعر الحقيقي إذا؟ إنه الشعر الذي لم يرتبط بالسلطان، وليس للسلطان يد فيه. إنه الباقي.. الخمريات والصوفيات. إنه النسبة القليلة جدا(20%) التي استطاع فيها الشعر العربي أن "يحلق" و أن "يحقق الشعرية" بمفهومها الفلسفي. لأن النسبة الكبرى ظلت لصيقة بالتراب يرغمها سوط السلطان أن تتمرغ في وحله ليل نهار،وأن تكون مكثرة على الرغم من القهر والحجر. ولما تحرر الشعر من هذه السلطة ولاذ بالسكر الخمري والصوفي على حد سواء تمكن من التحليق بعيدا في سماء الشعرية لا بمفهومها الأدبي بل بمفهومها الفلسفي.
قد يقع القارئ في حيرة، فلسنا نعلم -من أساتذة النقد الأدبي- للشعرية إلا مطلبها الأدبي، في كونها العناصر المادية والمعنوية التي تجل النص نصا أدبيا. أما غير ذلك فليس من شأن الشعرية في شيء. بل نرجِّح أن ما أرادته الشاعرة هو المساءلة الفلسفية والوجودية التي حفلت بها القصائد الخمرية والصوفية،في ارتيادها آفاق الحلول والاتحاد،وانغماسها في الفيض والإشراق،ودورانها في فلك وحدة الأديان، وتقويض الشرائع،وعبادة الذات، وإلغاء البعث والحساب.. وتلك مسألة أخرى تتعلق بالمضامين لا بالأشكال. وكل الأسماء التي استشهدت بهم الشاعرة أمثال "بشار" و"السهروردي" و"ابن عربي" لا يتركون للقارئ مجالا للشك في طبيعة الشعرية التي تتحدث عنها الشاعرة، فقد تولى عدد لا يحصى من الدراسات بيان فساد فلسفة وعقائد هؤلاء إما استنادا إلى العقل أو الشرع.
3-4-الشعر والنقد:
إننا حين نصادف حديثا مثل أحاديث الشاعرة "ربيعة جلطي" التي تتشح ب "في اعتقادي" و"إني على يقين" نتوجس أن هناك حرج تتحسسه الشاعرة من طرف آخر. فهي تستدفع بتلك العبارات رأيا مختلفا يأتيها إما علنا صريحا، أو همسا مكينا يلامس سمعها، لذلك تدفع بين يديها ما يبطل رأيه و يسكت صوته، حين تقول:« من المستحيل أن يستطيع الأكاديمي المرتبط بالنظريات المتخشبة والآراء الثابتة المطمئنة والعادات التكرارية،التي ذمها الجاحظ بصفتها صفة مزعجة في المعلمين. من المستحيل أن يعوّل المجتمع النقدي عليه في تقويم وتشذيب الذائقة الشعرية.» ([15]) فالأكاديمي ناقد مرتبط بالنظريات المتخشبة،والآراء الثابتة المطمئنة،والعادات التكرارية.. وهي لعمري مما يأنف النقاد الاتصاف به، بله العمل به. إنها أوصاف لأشياء وليست مصطلحات نقدية يتعامل معها النقد في مقاربته النصوص، وليس هناك من نظريات متخشبة، وإنما هناك لغة خشب يعرفها الساسة لأنها سلاحهم في وجه الخصوم. والناقد ليس خصما لأحد، وإنما هو الحارس على باب مملكة الفن، واسع الصدر، عميق الثقافة،حليم ودود.. إنه لا يكرر في ذاته من كانوا قبله، وإنما يحاول أن يفهم ما يأتي به الجيل ليقوِّمه، ويكتشف فيه مواطن القوة والضعف، فيشير إلى كليهما دعما للجديد،وتجديدا للقديم. ألم يكن الجاحظ مثال ذلك الناقد الذي لم يتنصل من ماضيه ولم يغمط حق حاضره، ولم يسد باب المستقبل على غيره؟
إنها مخاتلة القارئ في أشد لحظات ابتذالها، لأن الشاعرة تعلم جيدا مقام الجاحظ لدى القارئ العربي، فهي إذ تتوسل به في هذه النقطة لا تريد منه تأييد رأيها بقدر ما تريده أن يكون معبرا لفكرتها في قلب وذهن القارئ. لقد سخر الجاحظ من المعلمين، وعيَّرهم في كثير من كتاباته،وفعل بهم "ابن القيم" في أخبار الحمى والمغفلين ما فعل تندرا وتفكها، لا حطا من قيمة ولا ازدراء مشينا، بيد أن الشاعرة "ربيعة جلطي" حينما تختزل الأكاديمي – وهي منهم-في ثوب المعلم، تشير من طرف خفي إلى حمقه وغفلته حينما تربطه بالجاحظ الساخر في عبارة واحدة. لأنها تدرك أن الأكاديمي هو وحده الذي يعرف الحقيقة التي تحاول أن تتخطاها، وقيمة الزعم الذي تتبناه، وفي مقدوره أن يكشف ذلك للقارئ العادي الذي يتصفح الجريدة ولا يتوقف عند حقيقة الرأي، أو لا تهمه صحته أو كذبه.
فإذا سألناها من هو الناقد (الأكاديمي) الذي تستريح لحكمه، قالت:« الناقد بشكل عام، والمعاصر على الخصوص، في رأيي، هو من يفترض فيه، بل يشترط فيه أن يكون أعمق ثقافة من المبدع نفسه، وأرقى ذوقا منه، وأكثر حضارة منه، وأفهم منه في زواج الألوان ونفورها، وأسماء الطيور النادرة، وألقاب الورد، مسافرا في الكتب،وفي الجغرافيا،وأكثر إدراكا للعالم وشؤونه منه،حرا طليقا في تفكيره ومبدعا في أفكاره واقتراباته وتحليلاته،عارفا بميكانزمات اللغة في حركيتها الدائمة وعدم ثباتها على حال، مؤمنا أن في استقرارها أو تقديسها فناءها.»([16]) إنه الناقد المعاصر! أعمق ثقافة،وأرقى ذوقا، وأكثر حضارة،وأفهم للألوان والزهور والطيور.. مسافر، مدرك، حر، طليق، مبدع، عارف، مؤمن... فأين نجد مثل هذا الخارق إن لم نجده بين أسوار الجامعات؟ هل نطلبه في المقاهي والحانات؟ هل نعثر عليه بين رفوف المكتبات إنسانا منزويا في ركن أغبر، ليس له من هم الدنيا سوى حفظ أسماء الورود والفراشات؟ أم هو ذلك الصحفي الذي يجري وراء لقمة العيش يتصيد مقالا هنا وآخر من هناك؟ أم أنه كائن خيالي يعيش في أحلام المبدعين فقط، يؤمنون به خيالا وينكرونه وجودا؟ يألفونه حين يكتبون ليفهم عنهم هواجسهم وغموضهم، ونرجسياتهم المفرطة، ثم يرفضونه إن هو ثار عليها، وأنكر لغتها، واتهم صورها، وسفَّه أحلامها؟.. أم أنه مجرد حديث للتسويق يملأ الفم ولا يشبع البطن؟؟
لقد كانت هذه الصورة – صورة الناقد- كما عرضتها الشاعرة مطلبا واقعيا في القرن التاسع عشر، حينما كلف شباب أنفسهم حفظ أسماء الورود والعطور، والفراشات وأسماء الطيور والحشرات، والجزر والفلوات، ليفاجئوا بها الحسنوات على موائد الصالونات.. لقد كانت تلك عادة برجوازية مشهورة، سخر منها كُتَّابُ الواقعية فيما بعد، وعرضوها في ابتذالها المشين، وهي تخفي مستنقع الفجور والرذيلة المستشري في المجتمع المتحلل.. نعم إنها الصور التي عرضها "بروست" في "البحث عن الزمن الضائع" وأنكرها "فولبير" في "مدام بوفاري" وغيرهما كثير.. صورة الناقد المتملق الذي يسعى إلى إعجاب حسنائه بالتعالي المعرفي عليها، صورة المغامر المتنقل بين المدن والمرافئ، صورة العارف بأحوال الشعوب والقبائل، صورة المتحضر الإنساني الذي يقبل الآخر أيا كان دينه واعتقاده، صورة الرجل البليغ المفوه الذي يعرف في اللغة أسرارها، مغاليقها ومفاتيحها.. ثم يأتي ذلك الدور التي كانت تقبل به الفتاة على مضض إن هي أرادت أن تكون من فتيات النوادي ورواد الإقامات.
3-5-الشعر والإخلاص:
حينما نذكر "الإخلاص" فإننا عادة ما نخلص لشيء يقع خارجنا، ملك من الخصائص ما يجعله فينا محط إكبار وتبجيل. وأننا حين نعلن إخلاصنا إليه إنما نجدده فينا استمرارا وقبولا، وأن نأتي من الأفعال ما يدفع عنه خائنة التحريف والانتهاك. إنها خصلة الإخلاص في أساسها المعرفي الأول. بيد أننا حين نستمع إلى الشاعرة في حوارها السالف، نجد ضربا من الإخلاص جديدا علينا يفرض على الدارس الوقوف إزاءه لمساءلته، حتى يتبين حقيقته فيطمئن إليه أو ينصرف عنه.
ففي حديث "ربيعة جلطي" عن المتلقي ترى:« أنه ليس من السهل أن تفتن المتلقي المعاصر وتأخذ بتلابيب أحاسيسه نحو عوالمك. أعرف أنه من السهل على الشاعر أن يستعمل البحور والقوافي، فأذن المتلقي جاهزة. لكنني بما ورثت من شعر عربي غزير وجميل يمتد إلى مئات السنين، إلا أنني ابنة عصري، ولي مشاكسات في اللغة العربية الجميلة المتجددة المليئة بالمفاجآت.. ولي صوتي الشعري، قد تكون بعض حباله من حنجرة الشنفرى، أو ابن الرومي، أو المتنبي، أو ابن زيدون، وكم كبير هو الشرف.. ولكنني "ربيعة" أعيش في هذا العصر، ولن أخونه بالهروب منه ماضيا، أو الهروب منه إلى الأمام.»([17]) وهو تطويح آخر، يفقد الناقد صوابه. لقد أعطتنا الشاعر -منذ قليل-نسبا للشعر العربي،لم تبق من الجيد فيه إلا نسبة قليلة قصرتها على الخمريات والصوفيات، على شعراء هم: بشار، السهروردي، وابن عربي.. وها هي الساعة تراه غزيرا جميلا، يمتد إلى مئات السنين، وفي قائمته: الشنفرى، وابن الرومي، والمتنبي، وابن زيدون.. وهم مداحون، وهجاؤون، ووصافون.. ينتمون إلى تلك الطائفة التي عدتها من موات الشعر من قبل.
هؤلاء الذين تكون النسبة إليهم عند الشاعرة "كبير شرف" لا يجوز الإخلاص لهم ولا إلى مذهبهم في فن القول، وإنما الإخلاص للعصر، لا لشيء إلا لأنها ابنة العصر! فكيف يجوز لمثقف أن يعلن انصرافه عمن يحترمهم ويكبر فنهم، ويرى الانتساب إليهم شرف وأيَّما شرف، ثم يجعل ولاءه للعصر؟ وهل للعصر من خصوصية حتى يجبر الفنان والشاعر على الولاء والإخلاص له؟ أم أن في العصر شيء آخر غير ما نعلم؟ فما دام للشاعرة مشاكساتها اللغوية،وصوتها الشعري،فلن تخون العصر بالهروب منه ماضيا، أو الهروب منه إلى الأمام. ولسنا ندري ما المراد بالمشاكسات اللغوية، لأننا لسنا أمام اصطلاح يعرفه الخاصة من النقاد بله العامة منهم، وإنما نحن أمام استعمال لغوي "شعري" قد يقول كل شيء وقد لا يقول شيئا البتة.
بيد أن ما يُفهم من المشاكسة ذلك الرفض العنيد لواقع معطى، وحينما يكون الواقع المعطى هو اللغة بجهازها المفاهيمي والقواعدي، فإن المشاكسة ستنصرف حتما إلى الانتهاكات التي يحلوا للجيل الجديد تسميتها ب"التجريب" وتجريد اللفظ من دلالته، وحمله على توجسات وظلال لا يطالها التأويل الحاذق حتى وإن اخترم حدودها. ويُفهم من "الصوت الشعري" تلك الميزة التي يصطنعها بعض الشعراء فتغدو كالتوقيعة في أشعارهم يُعرفون بها، وليس كل الشعراء يفلحون في تسجيل صوتهم الشعري في آذان المتلقين، بل هو اقتدار شعري على صوغ العبارة على نسق يألفه المتلقي، ويجري في الأشعار الشاعر جريان الروح في الجسد.
وليس من عيب في أن تكون الشاعرة مشاكسة، مالكة لصوت شعري خاص، بل ذلك هو مطلب الفن الأصيل،ولكن رفض الهروب إلى الماضي أو الآتي يطرح قضية الاقتصار على الحاضر.. وحاضر الشعر العربي لا يبشر بخير أبدا. ذلك ما قالته بالحرف الواحد في مقابلة لها حين سئلت عن تبرير انتقالها إلى كتابة الرواية، فأجابت قائلة:« إن الشعر اليوم أصبح مكبلا في مقروئيته، وهو ما جعل العديد من الشعراء يهاجرون في السنوات الأخيرة إلى الرواية، بعدما تقلصت نسبة مقروئية النص الشعري في الوطن العربي، هذا ما جعل القصيدة اليوم تصل إلى مساحة ضيقة جدا من القراء، عكس النص السردي الروائي الذي انتشر في السنوات الأخير»([18]) أم أن الإخلاص الذي تتحدث عنه ينصرف إلى أمر مختلف؟.. إنها تقول عن قصيدة النثر أنها:«اختياري السيد،لم تفرضه علي العادة، كما لم يفرض علي الانسياق السهل والانزلاق في مزاريب القصيدة التقليدية المجلجلة العائدة، والتي يسخر لها الدولار، والإعلام الموجه الثقيل،على الرغم من الضعف البادي عليها، وكأنما ينفخ في مومياء»([19]) إننا لا نتبيَّن الآن بوضوح موضوع إخلاصها.. إنها "قصيدة النثر" التي تتشبث بها لأنها لا تريد الانسياق وراء السهل والمتمثل – بزعمها- في القصيدة العمودية، التي يُسخر لها الدولار، والإعلام الموجه الثقيل، على الرغم من ضعفها.. إنها المومياء التي ينفخ فيها من جديد.
لم تنقطع موجات كيل التهم للقصيدة العمودية منذ مطلع القرن العشرين،ولم يردد المتهمون إلا تهمة واحدة.. إنها خطابية لا تناسب العصر! أو مجلجلة مثلما قالت الشاعرة التي حدثتنا عن الخمريات والصوفيات من قبل، وأشادت بالمتنبي، وابن الرومي، وابن زيدون.. ورأت أن ريادة القصيدة العمودية مطلب سهل، لأن أذن المتلقي مهيأة من ذي قبل. ألا يحق لنا أن نسأل أنفسنا ما الذي تقدمه قصيدة النثر بعدما تحللت من القيود، وأضحت ملكا مشاعا لكل دعي يرد أن يتسمى شاعرا.. وتعجز عنه القصيدة العتيقة؟
قصيدة البوح النرجسي
4-قصيدة البوح النرجسي:
هل نجد لدى الشاعرات الجزائريات فهما خاصا لقصيدة النثر نتشبث به ونبني عليه رؤيتنا النقدية؟ فهل لنا في تصاريحهن من مداخل نستثمرها للفهم السليم؟ ترى "زينب لعوج":«أن القصيدة عندها تتناسل من نطفة إلى جنين،وتكبر،ثم تموت كالكائن البشري،ولكن موتها ليس نهائيا،لأن الكلمة تأتي بالقصيدة، باعتبار أن النص لا ينتهي، فهو اللغة، وهو الصورة»([20]) فكل عمل فني إنما يبدأ من نقطة.. من فكرة، ثم يتدرج في أطوار التخلق ليغدو في نهاية المطاف عملا فنيا. فذلك من سنن الأعمال الإبداعية شرقا وغربا. بيد أن المفارقة العجيبة في رأي الشاعرة تكمن في أن القصيدة تكبر وتموت، شأنها في ذلك شأن الكائن الحي. غير أننا نعلم من أهل الفن ونقاده، أن ميلاد العمل الفني ميلاد أزلي، لا تعرف فيه الأعمال الفنية موتا. لأنها تسلك سبيلا يقع خارج الزمنية التي تحكم سائر الناس. وإلا لماتت قصائد الشنفرى، وامرئ القيس، وغيرهم، ولماتت لوحات دافنشي، وماني، وغيرهم.. ثم تضعنا الشاعرة وجها لوجه أمام نص لا ينتهي، فقط لأنه اللغة، لأنه الصورة.. فمتى كان النص هو اللغة في عرف النقاد واللغويين والفلاسفة؟ لقد قال لنا هؤلاء أن النص تجلي لغوي وحسب، وليس اللغة بحال من الأحوال. لأن النص استعمال، والاستعمال مرهون بالسياق، والسياق مشدود إلى إحداثيات الزمان والمكان والحاجة.
لقد صدق "ستيفان زفيغ" لما قال بأن الشعراء والفنانون هم أسوء الشهود على أعمالهم، لأنهم لا يملكون اللغة العلمية التي يتحدثون بها عن أعمالهم، وليس لهم إلا ذلك الروغان الشعري يلوذون به كلما ضاقت عليهم دائرة السؤال.([21])
تطل "نصيرة محمدي" من خارج القصيدة الجديدة على حقيقة أخرى فتقول:« يبدو لي أن الشعر في الوقت الراهن ظل بعيدا عن الانشغالات الحقيقية، والمآسي الكبرى التي نعيشها خاصة في الوطن العربي، كما لو أنه يغرد خارج السرب.»([22]) لأن القصيدة الجديدة انغلقت على نفسها، وباتت قصيدة بوح تتعرى داخليا في خلوات الذات الحالمة التي تتلمس تضاريس جسدها، وتتحسس أوكار أوهامها. فقد رفضت من قبل أن تتحمل مسؤولية واقعها، وأن يكون لها وظيفتها التي تلتفت إلى الواقع الذي يضج من حولها، وقبلت أن تتخفف من كل ثقل، وأن تنساق وراء متعة القول وفتنته لتقول ذاتها ثرثرةً، وإفصاحا، وانتهاك حرمة. وبذلك ضلت طريقها في زحمة العواطف والاختراقات والتجاوزات. فما وصلت إليه هذه تتخطاه تلك، وتتمادى أخرى باسم الحرية، وكسر التابوهات، في بلوغ تخوم القول الفاحش. ذلك هو التغريد خارج السرب! الذي لا ترى له الشاعرة "نصيرة محمدي" من سبب إلا قولها:« ربما لأن هناك حالة إحباط عامة، وفقدان للمعنى، وانهماك في تفاصيل تبعدنا عن جوهر الأشياء، وعمق الوجود. وربما هناك تسطح عام أفضى إلى استبعاد قضايا خطيرة في عالمنا، واستسهال التعاطي معها، والنظر من زاوية ضيقة لما يمور، ويتحول، وينكسر، ويُخرب في حياتنا»([23])
إنه حدس الشاعرة الذي يصيب كبد الحقيقة،فيفضح في الشاعر حالات الإحباط التي نتجت عن عدم جدوائية تجريب طرائق لم تفلح في خلق جمهور لها، يقبل عنها إيقاعها، ولغتها، وصورها، وغموضها. وكلما تمادى الشاعر في غيِّه أحس بالعزلة والانطواء. وفي الشعر فقدانه للمعنى، وانهماكه في التفاصيل التي لا تسمن ولا تغني من جوع إلا جوع التلصّص والثرثرة الذي انتهى سريعا إلى ضرب من التسطيح الفج في الرؤية. ففي الحياة الخارجية أمور تمور مورا، وتتحول، وتتكسر، وتُخَرَّب، على الفن أن يلتفت إليها ليجليها للناس مرة أخرى في أثواب جديدة تعيد لها تألقها الدائم. بيد أن شعراء اليوم قد استثنوا من شعرهم هذه الوظيفة، وانقلبوا مثلما تقول الشاعرة "نصيرة محمدي"إلى:« تلميع أسمائهم،والمتاجرة بكتاباتهم، والركض وراء العابر والسطحي.. وراء مظاهر كاذبة تقتل روح الشعر، وتحطم سر العلاقة السامية بينه وبين الإنسانية. الشاعر الحقيقي مجبول على الإنصات لهذا العالم وكائناته، لأنه مجبر على الانخراط في الحياة،والتعبير عن الهواجس الكبرى، ومجابهة الأسئلة العصية.»([24]) وليس أمامه أن يدور في آتون الذاتية المريضة التي تتفقد نرجسيتها كل حين، وتحسب أن الناس يطربون لها من خلال شبقية تتنزى في كل حرف، وتتبرج في كل جملة. أم نكتفي بالتساؤل كما تفعل "أمل عواد رضوان" قائلة:« هل اللّغةُ الإباحيّةُ المغموسةُ باللّذّةِ الأنثويّة، هي نوعٌ مِن إسقاطاتِ المجتمع، تُشكّلُ خطابًا تراكميًّا مُريبًا يكشفُ عوراتِ المجتمع، ويُهدّدُ خرابَهُ العابثَ بمقامِها؟ أم هي لغةٌ متمرّدةٌ تجتهدُ حروفُها النّحيلةُ في فكِّ الخناقِ عن كيانِها جسدًا وروحًا، للتّخلّصِ مِن التّحجيمِ الميدانيّ والتّهميشِ الفكريِّ والتّأطيرِ الاجتماعيّ؟ هل هي لغةٌ تكشفُ عن نرجسيّةِ جسدِ أنثى عارمٍ بالمخبوءِ السّافر في أناها، أم هي لغةٌ تسعى إلى تحقيقِ رؤى فلسفيّةٍ جماليّةٍ تعيدُ للأنثى هدوءَها الرّوحيَّ ورفاهيّتَها الأنثويّة؟» ([25]). تلك هي الأسئلة التي يجب عليها أن تفتح دواوين الشعر النسوي لتنفض عنها أوهامها الحالمة المشبعة بالنرجسية.
[3]- نفس.
[4] -نفس.
[5] - نـوّارة لحـرش- استطلاع - ما الذي يفعله الشعر في الحياة؟ جريدة النصر- الاثنين, 19 يوليو 2010 .
[6] - نـوّارة لحـرش- استطلاع - ما الذي يفعله الشعر في الحياة؟ جريدة النصر- الاثنين, 19 يوليو 2010 .
[7] - نـوّارة لحـرش- استطلاع- ما الذي يفعله الشعر في الحياة؟ جريدة النصر- الاثنين, 19 يوليو 2010.
[8] -نفس.
[9] - نـوّارة لحـرش- استطلاع- ما الذي يفعله الشعر في الحياة؟ جريدة النصر- الاثنين, 19 يوليو 2010.
[10] - نـوّارة لحـرش- استطلاع- ما الذي يفعله الشعر في الحياة؟ جريدة النصر- الاثنين, 19 يوليو 2010..
[11] -نفس.
[12] - نـوّارة لحـرش- استطلاع- ما الذي يفعله الشعر في الحياة؟ جريدة النصر- الاثنين, 19 يوليو 2010.
[13] - نـوّارة لحـرش- استطلاع- ما الذي يفعله الشعر في الحياة؟ جريدة النصر- الاثنين, 19 يوليو 2010.
[14] - نـوّارة لحـرش- استطلاع- ما الذي يفعله الشعر في الحياة؟ جريدة النصر- الاثنين, 19 يوليو 2010.
[15] -نور بدر.القدس العربي. دمشق الشاعرة الجزائرية ربيعة جلطي. قصيدة النثر إخلاص للعصر. موقع الأبراطور.
[16] -نور بدر.القدس العربي. دمشق الشاعرة الجزائرية ربيعة جلطي. قصيدة النثر إخلاص للعصر. موقع الأبراطور.
[17] -نور بدر.القدس العربي. دمشق الشاعرة الجزائرية ربيعة جلطي. قصيدة النثر إخلاص للعصر. موقع الأبراطور.
[18] - جريدة الفجر31 أوت 2010.
[19] -نور بدر.القدس العربي. دمشق الشاعرة الجزائرية ربيعة جلطي. قصيدة النثر إخلاص للعصر. موقع الأبراطور.
[20] - ع. مرزاق- جريدة النصر.الثلاثاء, 12 أكتوبر 2010 .. مهرجان الشعر النسوي بقسنطينة.
[21] -أنظر. حبيب مونسي. توترات الإبداع الشعري.ص:175.ديوان المطبوعات الجامعية. الجزائر.2009.
[22] - نـوّارة لحـرش- استطلاع- ما الذي يفعله الشعر في الحياة؟ جريدة النصر- الاثنين, 19 يوليو 2010.
[23] - نـوّارة لحـرش- استطلاع- ما الذي يفعله الشعر في الحياة؟ جريدة النصر- الاثنين, 19 يوليو 2010.
[24] - نفس.