في غمرة الحديث المتواتر عن أزمة يعيشها فن القصة القصيرة في العالم العربي، بما يحد من الثقة بمستقبل هذا الفن، ويلقي ظلالا على المنجز القصصي، فإن اكتشاف منجز كاتب على درجة عالية من الموهبة هو المغربي أنيس الرافعي، من شأنه أن يزلزل بعضا من تلك القناعات الرائجة على الأقل، لجهة الجدارة والتميز، باستثناء تلك المتعلقة بـ جماهيرية هذا اللون التعبيري وغيره من الفنون. فمنجز الرافعي على ما يصنفه هو، نخبوي، لا يرمي -وهذا ما لا يجهر به- لاجتذاب قارئ عابر، ولا يمحص المتلقي فرصة إزجاء الوقت بالتمتع بتسلية فورية، مفعمة بتشويق الحكايات المثيرة.
دأب النخبوي الرافعي (37 عاما) على كتابة قصصه في مقاه شعبية في الدار البيضاء، ويقيم وهو المدرس في إحدى الثانويات في حي السراغنة، غير الموصوف بأنه حي للبورجوازية أو حتى للصغيرة منها. أما موضوعاته: أشخاصا وحوادث وشواغل، فتتعذر نسبتها إلى شريحة اجتماعية نخبوية كما إلى شريحة دنيا، ذلك أن هذه الموضوعات وما يكتنفها من الرؤى عابرة للطبقات.
يتكرر موضوع قصصي عند الرافعي عن شخصين يحلمان الحلم نفسه في مكانين متباعدين، ينجو أحدهما لأنه استيقظ من النوم أو لأن الآخر سبقه في الوصول إلى الكارثة خلال الحلم نفسه. وهو نموذج لشواغل هذا الكاتب الذي يعتنق عقيدة القصة القصيرة، رغم أن شخصا يمسك بذراعه كلما حاول أن يكتب .
النخبوية هنا، ودونما حاجة للتقيد بتصنيفات الكاتب لصنيعه، تومئ إلى الهوس الإيجابي بالتجريب والنزوع الفائق إلى التجويد، وصرف النظر عن تطلبات القارئ وعاداته الأثيرة في الاستقبال حتى لو كان قارئا مثقفا، والانشغال بكتابة قصة خالصة تنفذ إلى جوهر القص بأقل قدر من الكلمات والتفاصيل، وبالاستغناء عن كل تأثيث من وصف للمكان أو تحديد له ولظاهر البطل وباطنه، لمصلحة الانهماك في تصوير نقطة أزمة، أو تتبع المرئيات وخلع معان ورسم ظلال عليها، والرصد الدائم للعلاقة بل للتبادل والتشابك بين ما هو متخيل وما هو واقعي.
الطموح المشروع والنبيل للكاتب بالذهاب بعيدا في مضمار الحداثة، يخالف معتقدات نقدية سارية (يعتنق مثلها كاتب هذه السطور) مفادها أن هجرة معاكسة قد تمت على أيدي قاصين عرب كثر، نحو الواقعية، وإن بمحمولات جديدة، خصوصا على صعيد الشكل والبناء الذي بات يتجه إلى البساطة، وذلك بتأثير كتابات قصصية أميركية لاتينية (وشمالية أحيانا) ويابانية، وبتأثيرات غير مباشرة لتقنيات الميديا: فن التقرير وتسمية الأماكن والأشخاص ومخاطبة متلق على مرمى النظر يكاد يعلن عن وجوده.
بعيدا عن ذلك، يراهن الرافعي على خيار الحداثة ولا يحيد عنه، بقصة تبدأ من مفردات الواقع العياني لتنتهي في فضاء من التجريد، وذلك في كتبه القصصية الثلاثة: علبة الباندورا ، ثقل الفراشة فوق سطح الجرس و اعتقال غابة في زجاجة . وقد ظهرت الكتب تباعا خلال الأعوام الخمسة الأخيرة في الرباط.
خلافا للواقعيين ممن يعيدون صوغ الواقع بقدر يقل أو يزيد من الإزاحة، فإن الرافعي يذهب إلى رفع الحدود بين الواقعي والمتخيل، ولدرجة يمتثل فيها الواقع لإرادة السارد الذي يقوم بالتخييل، فيغدو ما هو متخيل واقعا برسم السرد، لكن دون الوقوع في أوهام وردية أو مرضية.
فالسارد يخبر المتلقي أنه بصدد التخيل ويدعوه لمشاركته اللعبة، ويفاجئه في النهاية باللبس والاختلاط بين ما يدور في المخيلة وما يجري في واقع الحال.
هذه اللعبة ليست مجرد تمارين وإن كان الكاتب يجهر بغرضه في إجراء تمارين، لكنها في محمولها العميق تؤشر إلى أن المخيلة حاجة وجودية وضرورة خلاقة، لتجاوز الالتصاق بالواقع والخضوع له، والسعي إلى تقليبه على أوجهه الكثيرة وتقشير طبقاته وتقصي ممكناته. هي بذلك تظهير للنازع الغلاب إلى التحرر، وكسر صنمية الواقع لدرجة التشكيك والطعن بواقعيته، وذلك لفرط جموده وهشاشته معا، ولمدى ما يستشعره الكائن البشري من غربة فيه.
وبما أن القصص مهما بلغت جدارتها لا تلبث أن تغدو جزءا من الواقع ما إن تنجز، فإن السارد يستدرك مسبقا ولا يتورع عن التدخل، بكسر الإيهام الفني وتذكير قارئه بأنه إنما يقرأ قصة، فيشير مثلا إلى تطور غير موضوعي في مجرى الأحداث، أو تطور مخالف لمقتضيات الحبكة وإلى بطلة القصة بدلا من فلانة.
في مواضع أخرى، وإمعانا في كسر الإيهام، فإن كتابة القصة تتخلق أمام عيون القارئ كما في قصة الساق من مجموعة اعتقال الغابة . الفقرة الثانية هي تكرار للفقرة الأولى مع إضافة بضع كلمات. ثم تتكرر هذه الفقرة في الفقرة اللاحقة بإضافة مزيد من الكلمات، إلى أن تكتمل القصة بفقرة أخيرة. وكان يمكن حذف التكرار، غير أن الكاتب رغب في تقريب عملية الخلق عنده إلى القارئ، كي يكتشف حدود اللعبة كما حدود الواقع نفسه الذي تتناوله القصة، وذلك على طرية الطهاة الذين يقومون بتحضير الوجبة أمام أنظار الزبون.
يبرع الرافعي في اجتراح كتابة تخرج بتقصد عن سكتها، لتتأمل ذاتها وتحاور قارئها عند الاقتضاء، لكن بضبط صارم لا تزيد فيه، ودون انزلاق إلى تأمل مجاني يفيض عن البنية الدرامية وعن مأثرة القاص في الإيجاز المحكم.
وإذ يتنقل القارئ من قصة إلى أخرى ومن كتاب إلى آخر، فإنه للمفارقة لا يقبض على موضوعات أو على مادة قصصية صلبة، ترسخ في الذهن والنفس، أو حتى على تجسدات وتمثلات للأشخاص. ذلك أن طموح الكاتب يقع في مكان آخر: تحقيق التبادلية بين الواقع والمتخيل، بناء افتراضات ومقترحات تنشط ملكات القارئ، وتحمله على رؤية ما وراء الواقع وما تحت سطحه والتحرر من سطوته الحسية.
تحريك السواكن من أثاث منزلي أو تمثال في حديقة أو جدار في الشارع، والانتقال من ذلك إلى النقمة على محدودية الواقع وهشاشته، بتسييل صلابته المزعومة وتصيير الكتل البشرية والطبيعية إلى غبار وبخار، وخلال ذلك تمجيد اللعب: الحق في رؤية الوقائع بما فيها وقائع الولادة والموت كلعبة: صائد السمك الضجران لا ينجح إلا في التقاط كيس أسود ثقيل يضم رأسه المقطوعة، الحبيبة تهدي حبيبها ساقها الاصطناعية عربون حب فيبادلها بجز ساقه، والوفاء لحق الكائن في اللعب: أخذ الأمور باهتمام وإدراك لكن بخفة، بدحض تماسكها المزعوم واتساقها الشكلي.
إذ ينجح الرافعي في تقنياته هذه، عبر موهبة استثنائية وسيطرة تامة على بنية النص القصصي، مع وعي نظري متقدم تعكسه استهلالات الكتب، فإنه تحت وطأة الحماسة يمعن في التصنيف والتجنيس لما يكتب، ويتخذ من نفسه قارئا ومعقبا وناقدا، ليس في داخل النص ضمن لعبة محسوبة، وهذا ما يحسب له، لكن في التقديم والتذليل ووضع حشد من الملاحظات التي تشوش القارئ وتثقل عليه.
في مواضع أخرى داخل النص يكثر من النعوت ويجنح لمبالغات لفظية: نافذة مفتوحة من الوريد إلى الوريد، ابتسامة طاعنة في الامتنان، كرسيها الهزاز الذي لا يكف عن العزلة. يبدو ما سبق كتورم لغوي، يفيض عن مقاصد النصوص المقتضبة، الماكرة، حيث يتركز صنيع الكاتب في محو الحدود بين الواقعي والمتخيل ثم تحقيق التبادلية بينهما، فما حاجته بعد هذا اللعب المتقن إلى استعراض لفظي أو مبالغات تعبيرية..