منذ ظهرَ الديوان الأول للشاعر محمد الماغوط: "حزن في ضوء القمر" عام 1959، ثم ديوانه الثاني: "غرفة بملايين الجدران" 1960، و"الفرح ليس مهنتي" عام 1970، كان الماغوط قد رسخ بقوة أسلوباً شعرياً جديداً من حيث الشكل والمضمون.. لقد كتب الماغوط المسرحية، والزاوية الصحفية، وكتب للسينما وللتلفزيون كما كتب رواية "الأرجوحة" إلا أنه في كل كتاباته ظلّ الشاعر الذي لا يمكن النظر إليه إلا من جهة الشعر!..
لم يكن شعره أنيقاً ولا متأنّقاً، بل كان شعراً غاضباً، شرساً، معفّراً بالحزن والقساوة ومغمساً بماء الحياة الآسنة والعذبة، لقد صور الماغوط نفسه في شعره مرّة كطفل متشرد جريح أو كفأر مذعور، ومرّة كوحش قادم من بيداء موحشة أو من خرائب لا وجود فيها سوى للعواء ونداءات الضواري. شعر الماغوط مليء بالمفارقات والمتناقضات سواء على مستوى الصورة الشعرية، الذهنية أو السيكولوجية للشاعر. ولكن الصورة الآخاذة التي تستهويه دائماً هي صورة البدوي أو الهمجي غير المتحضر الذي يهزأ بالمتحضرين أو الفلاح الساذج البريء القادم إلى عالم المتمدنين بارتباك حيناً وبصلافة حيناً آخر... وبين هذا وذاك برزت صورة المتسكّع على الأرصفة والعابر أمام واجهات المحلات والمقاهي وكأنه وباء يهدد بلادة الأثرياء والميسورين، فكان هجائياً، متهكماً، نافراً:
"نزرع في الهجير ويأكلون في الظل
أسنانهم بيضاء كالأرز
وأسناننا موحشة كالغابات
صدورهم ناعمة كالحرير
وصدورنا غبراء كساحات الإعدام
ومع ذلك فنحن ملوك العالم..
بيوتهم مغمورة بأوراق الخريف
في جيوبهم عناوين الخونة واللصوص
وفي جيوبنا عناوين الرعد والأنهار".
الأعمال الكاملة ـ الفرح ليس مهنتي ـ قصيدة الظل والهجير ـ ص263
ظهرَ الماغوط في الفترة التي ظهر فيها شعراء جيل الغضب في الولايات المتحدة في الخمسينات والستينات، وذلك دون أن يعرفهم، وكان صوته يشبه صوتهم، إذ الغضب والصفاقة والرفض، والدعوة إلى البراءة والتطهر في الأرياف وبين أحضان الطبيعة البكر، أو الثورة على الزيف والنفاق، كلها توجهات الشعر الأساسية عندهم، وكذلك كان الماغوط. ومن جهة أخرى كان الشعراء العرب يخوضون جدلاً حول الشعر، حول ماهيته ووظيفته، ويتحاورون حول المذاهب أو الاتجاهات الأدبية التي كانت تصطخب في تلك الفترة على مستوى العالم، والشعر العربي الحديث يشقّ طريقه وتتنازعه تيارات واتجاهات شتى، لكن رغم تعددها كانت متقاربة بشكل أو بآخر لاسيما في نشدان شكل جديد للشعر، يعبر عن التوق إلى معانقة الحداثة العالمية والانخراط فيها "ورفع مستوى الذهنية العربية إلى مستوى الحداثة العالمية" على حد قول يوسف الخال، آنذاك، وهو مؤسس تيار مجلة "شعر".
وإذا كان الرواد آنذاك قد نجحوا في وضع العربة على السكة بعد أن خاضوا معارك جدلية حول دور الشعر ووظيفته الجمالية والاجتماعية، ظلت الخلافات تنمو فيما بينهم على شكل انقسامات داخل تيار الحداثة نفسه، عبرت عنه كل من مجلة "شعر" ومجلة "الآداب" البيروتية. وداخل كلا التيارين أيضاً برزت الخلافات والانشقاقات والتنقلات المتبادلة من موقع إلى آخر..
وكل هذا أثرى الحياة الأدبية وأضفى عليها حيوية لم نشهد مثلها فيما بعد!.. في هذا الجو الحيوي ظهر الماغوط كصوت متميز وتمَّ الترحيب به على تميزه وقد عدّه شعراء مجلة "شعر". بمثابة اكتشاف وقوة جديدة تضاف إلى قوتهم في مواجهة التيار الوجودي والقومي الذي كانت تحتضنه مجلة "الآداب"، ومن اللافت أن الماغوط لم يشارك في هذا الجدل النظري حول الشعر، وربما لم يكن يمتلك الأدوات ولا الإمكانيات الثقافية التي تؤهله لذلك، ولهذا آثر أن يجعل شعره هو المعبر عن طريقته الخاصة في الكتابة، ولأنه شاعر مبدع بحت فقد كان شعره على بساطته، مولداً للأفكار، ومبشراً بنوع جديد من الشعر، أي أنه فتح أفقاً جديداً لما يسمى "قصيدة النثر". وكان نموذجياً في هذا المجال.
خرج الماغوط من معطف مجلة شعر ـ إذا جاز القول ـ وكان بالإمكان أن يظهر من تحت المعطف الآخر (الآداب) لو شاءت الظروف ذلك. فالماغوط لم يكن تابعاً لتيار، ولم يكن معنياً بالنظريات الأدبية أو إيديالوجيا الأدب حتى في كتابة الشعر، وما وجوده بين هؤلاء الشعراء المثقفين أو النخبويين سوى ضرب من المصادفة.. كما كان دخوله إلى الحزب القومي السوري هو أيضاً ضرب من المصادفة، لأن مقر هذا الحزب في السلمية كان قريباً من بيته ويوجد فيه "صوبا" على حد قوله. إذاً ترك الماغوط للمصادفة والقدر أن يقودا خطاه على المستوى الشخصي والأدبيّ.. وبناء على ذلك تحددت حياته ورسم مصيره الشخصي والإبداعي، وصار إلى ما صار إليه، شاعراً كبيراً، وشخصيته لوحقت وسجنت في فترة ما ونالت من الشهرة ما يفوق التصوّر، فيا لعبقرية المصادفات!!..
المهم أن الماغوط وجد نفسه مصادفة وسط جماعة أو تيار يجمع أصواتاً شامخة التقت على أهداف عامة وتباينت مواقفها في بعض التفاصيل والتوجهات، وما لبث هذا التيار أن تعرض للانقسام والتشظي بسبب تراكم الخلافات بين مكوناته أو بسبب الاختلاف حول العلاقة مع التراث الشعري العربي، فكان أدونيس أول من خرج على جماعة شعر واختط لنفسه طريقاً خاصاً ومغايراً ومؤثراً وأكثر التصاقاً بالشعرية العربية المنفتحة على العالم. وجسّد أدونيس في التنظير وفي الإبداع الشعري الاتجاه التواصلي الجدلي في الحداثة العربية في مواجهة الحداثة الراديكالية التي دعت إلى القطيعة مع التراث ونحت نحو التطلع المنبهر بالنماذج الغريبة. وقد رحبت مجلة الآداب بخروج أدونيس إلا أن أدونيس شكّل تياراً ثالثاً وأسس مجلة "مواقف" التي التفّ حولها عدد غير قليل من الشعراء الجدد.
ورغم دور أدونيس في تقديم الماغوط واكتشافه، فإن الماغوط لم يذهب إلى حيث ذهب أدونيس، وقد يكون وجد نفسه أقرب إلى تيار "الخال" وأنسي الحاج، وشوقي أبي شقرا، وبالمصادفة أيضاً، إلا أنه لم يظهر تأييده لهم بقوة، وهم الذين أخذوه على محمل الجد أكثر مما أخذ نفسه!.. فقد نأى عن هذه التيارات النخبوية التي لا يحتملها، وظل صوتاً نافراً وشريداً وحافظ على براءته الشعرية المميزة والتي ميّزته عن الجميع، ومن المؤكد أن ذلك لم يتم وفق مخطط مرسوم من قبل الماغوط، بل لعلَّ فطرته أو سجيته الطليقة تحصّنت بآلية دفاع لا شعورية وحمت نفسها من التمذهب الأدبي أو الانضواء تحت سقف جماعة أدبية!..
وكأنه لم يكن معنياً بما يجري هناك في خلوات الشعر وفي مجادلات الشعراء التي وصلت إلى كل الآذان، إلا الماغوط فقد أصمَّ عنها وابتعد!.. فالشعر عنده يأتي من مكان آخر أقرب مما يتصورون!.. إنه من الذات ومن التجربة في الحياة، وليس من النظريات والمقولات المستعربة ولا من التأمّل البارد في التاريخ وفي ملامح الحضارات القديمة. فلم يهتم الماغوط بالأسطورة مثل غيره من الشعراء آنذاك، ولم يسعَ لأن يكون شاعر رؤية وصاحب نبوءة، ولم تجذبه أسطورة الانبعاث التموزية التي كاد ألا ينجو منها شاعر في زمنه. اقترن شعر الماغوط بالحزن الذي يجوب في أعماقه، الحزن المتوارث:
"يا نظرات الحزن الطويلة
يا بقع الدم الصغيرة أفيقي
إنني أراك هنا
على البيارق المنكّسة
وفي ثنيات الثياب الحريرية.."
الأعمال الكاملة ـ حزن في ضوء القمر ـ ص18.
وكثيراً ما يردد الماغوط، قائلاً: "أنا حزين"، و"يا أيها الحزن.. يا سيفي الطويل المجعَّد".. الحزن يوازي الهواء الذي يتنفسه، فحزنه كثيف وجمالي وإيقاعي، ولا يقل موسقة عن الإيقاعات والتفاعيل عند غيره من الشعراء. ومن نافل القول أن الموسيقا الشعرية الداخلية في شعر الماغوط النثري أكثر حيوية وتنوعاً وتناغماً حتى من الشعر الموزون، ومن رتابة التفعيلة عند بعض الشعراء الذين جايلوه أو أتوا بعده!..
ولعلَّ هذا ما جعل شعره يحتل مكانة مميزة في شعر النثر الذي لم يكن هو أول من كتبه، كما يعتقد البعض، فلقد سبقه إليه كثيرون، ولكنه كان أول من رسخه!..
لقد كان الماغوط حداثياً بالفطرة، دون ثقافة مستعارة أو مرجعية فلسفية بحث عنها الآخرون واستعانوا بها، وكان خارج تصنيف "فرانز فانون" عن المثقف المستعمر، فلم يُحاكِ الغرب، ولم يتمرد على الغرب، ولم تكن عنده عقدة تجاه هذا الغرب، ولم يتشبث بفلكلوريته كنوع من ردّة الفعل كما عند شعراء "الزنوجة" في أفريقيا، ولم يسعَ للتطهر، بل على العكس، إلى المزيد من الانغماس في التجربة وفي الحياة التحتية أو ملاصقاً للهموم العامة، وقد كان بارعاً في المزاوجة ربما عن غير قصد بين ما هو خاص وما هو عام، بين ذاته وبين الآخرين، ولأنه لم يكن في واقع الأمر إلا واحداً من الآخرين، ولم ينظر يوماً إلى نفسه باعتباره أستاذاً يمتلك المعرفة والوعي وعليه أن يعلم الآخرين، لا بل إن شعر الماغوط من الناحية الأخلاقية يتسم بالسلبية، وهذا ليس عيباً في الإبداع.
إذاً مرجعية الماغوط أولاً وأخيراً هي ذاته المتمرسة بالتجربة والمعاناة والنابعة أيضاً من غريزته الفطرية ومن إحساسه المباشر بالأشياء وبالعالم فليس للماغوط أبوة شعرية وهو خارج العقدة الأوديبية شعرياً على الأقل!..
ولهذا كلّه ينطبق عليه وصف الشاعر الألماني "فريدريش شيللر" حين تحدث عن الشاعر الساذج والشاعر العاطفي ـ وبما أن كلمة ساذج في لغتنا تعني البلاهة والعثة وتثير الحساسية، سنضع بدلاً عنها صفة (العفوي) أو (الشاعر العفوي) وشيللر يعني بها شاعر الفطرة الذي لا يبدع أشكالاً نموذجية.
ويقول شيللر: "واجب الشاعر (الفطري) أن يصور المضمون الكامل للإنسانية في الواقع.. إنه يحسُّ ويشعر، ولا نقول يعي ويدرك، إنه يصدر في ذلك عن إحساس غريزي ساذج وفطري.." ويرى شيللر أن هذا الشاعر "الفطري" هو نموذج العبقري لأنّه لا يعمل طبقاً لمبادئ معروفة، بل طبقاً للخواطر والمشاعر. ويقابله عند شيللر الشاعر العاطفي الذي يبدع من وعي بالطبيعة الحقّة، ويكون واعياً بالزمن وبالمسافة التي تفصل بين الواقع والمثال.. بين قوانين العقل وتحققها في الطبيعة. بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون.. والشاعر العاطفي يستمد أحكامه من شجرة المعرفة. ويؤكد شيللر أنه لا يوجد شاعر فطري بالمطلق كما لا يوجد شاعر عاطفي بالمطلق أيضاً. وفي هذه النسبية بين الطرفين يمكن أن نضع الماغوط الأقرب إلى الشاعر (العفوي) بالمعنى العبقري للعفوية.
شعر الماغوط شعر حسي، للحواس حضور كبير فيه، وهو شعر شبقي أيضاً، اللذة والألم والجسد والحياة أو الحيوات تنوجد عنده بوفرة، وكل هذا يأتي دون تخطيط أو دراية مسبقة، بل عفو الخاطر، أي شعر "إيروسي" ضد الموات واليباس. وهو دون أن يعي، جامع تيارات ومذاهب في شعره حيث تختلط عنده الرمزية بالواقعية بالرومانتيكية، بالحسيّة الحداثوية وما بعد الحداثوية، ولا يمكن أن يكون الماغوط واعياً لكل ذلك أو متقصداً له.. وما هذا الاختلاط إلا دليل على عفويته وعشوائيته، فلو كان مبرمجاً لكان عمد إلى تنقيح قصائده من هذه الأخلاط المتباينة واكتفى بجانب واحد منها وأقصى الباقي، لكن عبقريته الجارفة والفطرية هي التي جرفت كل هذه التيارات من على السطح وأدرجتها تحت جناحيها وهي تتأهل للتحليق!..
وشعر الماغوط على عفويته يشكل حالة استقطاب جمالية، إذ تصب فيه ملامح عدة مدارس أدبية دون أن يكون للماغوط دخل في ذلك!.. ورغم ذلك فإن شعره خارج التصنيفات ولا يمكن أن يصنّف لصالح مدرسة ما، فهو لا يطيق التصنيف، إنه شعر وحسب فيه سوريالية، وواقعية، وفنتازيا... شعر بلا أوزان دون أن يفرط بالإيقاع الداخلي الذي ينشأ هنا من التوتر المتصادم مع الاستخدام العفوي للّغة. والنثر الشعري عند الماغوط يحقق مستواه الأعلى ويتجاوز شعريته ليغدو غنائياً مموسقاً لا بل ملحمياً أو شبه ملحمي، وذلك لكثافة الذات فيه واللافت في الأمر أن الذات عند الماغوط لا تتجاوز حدودها ولا تستسلم للنرجسية، بل تقدم بوصفها ذات صغيرة، خائفة، مذعورة، ومهددة...
كما هي ذوات الآخرين أو عموم الآخرين في واقعنا، ذات تحلم وحلمها لم يتحقق وربما لن يتحقق، إنها ذات مدحورة ومأساوية، خسرت كل شيء وتعرف أنها خسرت كل شيء، فلا مجال عنده للأمل ولا للتفاؤل الرخو، فشعر الماغوط لا يحتمل هذه الفجوات، ولذلك وصفناه بالسلبية.. وربما هذه السوداوية قريبة من القراء وجعلتهم يتعاطفون مع هذه الذات التي تشبههم، خلافاً لما هو عند شعراء آخرين تتضخم عندهم الأنا بشكل متفرد مبالغ فيه، وحياتهم يصورونها حافلة بالانتصارات الوهمية!..
لم يطق الماغوط في حياته حذلقات النقاد وقد عبّر عن ذلك في كتاباته وحواراته ولم يكن مهتماً بما يقولونه عنه، ولعلَّ هذا ما يفسر ابتعاد النقاد عن شعره فإضافة لكونه شعر غير قابل للتصنيف، فهو أيضاً خارج دائرة نظرية التأثر والتأثير عند "هارولد بلوم" وخارج حسابات النقد الأسطوري عند "نورثروب فراي" فالقصيدة الماغوطية تنطلق من درجة الصفر، من حيث تنسى منجزات الشعر وتنبثق من ينابيع الذات القابعة في (الآن وهنا) ولا تنحدر من ذاكرة الشعر البعيدة أو القريبة. شعر مصدره الأنا أو الذات لكل ما يعتلج فيها من أشواق وصبوات. الذات المتمردة المنفصلة والمتصلة مع ذوات الآخرين، الذات التي تصطخب فيها الشبقية والغضب المكبوت والمعلن، والفزع والرغبة في الانتقام. حتى وإن كان الماغوط أحياناً ينساق وراء ذاته وهي تتقنع بالأنا الجمعي، فشعر الماغوط شعر الصوت الواحد، وشعر اللحظة الآنية، حيث يكون صداه في مكانه، في حدود المساحة التي يحدثها وقع الصوت الذي يكاد لا يتجاوز مساحة غرفة أو صراخ على عتبة بيت يتكوّن من بضعة حجرات أو عدة جدران، وقد يبدو هذا الكلام فيه تضييق لفسحة الشعر اللامحدودة أو ما يسمونه فضاء الشعر!..
لكن أن يكون لك هذا الحيّز في الكينونة الشعرية الذي منحته الطبيعة للشاعر المبدع محمد الماغوط.. ولو أن لكل شاعر عربي هذه المساحة أو انتزع مثل هذه المساحة التي تبدو ضيقة، لكان لنا مكانة شاسعة وواسعة في خارطة الشعر الكوني!..
شعر الماغوط دائماً يقرّب المسافة بين ذاته وبين العالم، بين الداخل والخارج. في شعره الصادر عن فطريته المتخاصمة مع الميتافيزيقيا، إذ لا نلمح تجويفات أو فجوات ميتافيزيقية في شعره، لا يسترسل ولا يستسلم للغموض والتعمية ولا يلجأ إلى الأقنعة إلا ما هو شفاف منها لاسيما تلك التي تحيكها الذات جمالياً لنفسها!.. وهذا قليل في شعر الماغوط على كل حال.
إن شعره قائم على شبكة فوضوية من الصور الحسية شديدة الصراحة والنافرة والغريبة، والتي يجمعها جامع شعري مكون من لغة مموسقة مشحونة بالتهكّم والسخرية والهجاء والحزن، ومن الإكثار من المخاطبة واستخدام أدوات النداء الصريحة والمستترة.. لغة تذهب في شتى الاتجاهات في السياسة كما في الحب، هذا الجامع الذي يكوّن النص الماغوطي، يلم كل هذه المكونات الصغرى والكبرى، ليكون الصياغة الجمالية العفوية لقصيدة الماغوط.
والماغوط من الناحية الوجودية، لا يحاور الموت ولا يقلقه الوجود أو التساؤل حول الكيفية التي انوجد عليها الوجود، أو لماذا انوجد أو وجد!.. كلها مسائل لا تعنيه ولا يريد أن يتأمل فيها، وهي مواضيع كما هو معلوم، كانت في عصره ذات جاذبية اختطفت معظم الأدباء والشعراء غيره، لاسيما الذين ينزعون إلى استحضار مواضيع عالمية شغلت الذهنية الغربية، ومن باب المحاكاة والتقليد!..
توجهات الماغوط كانت أبسط من ذلك، والأصح أن نقول أعمق من ذلك، لأنها كانت أكثر تأثيراً وحميمية ووقعاً على النفس. وتلك المواضيع المختلفة ذهبت أدراج الرياح، بينما مواضيع الماغوط الحميمية والبسيطة لا تزال تفعل فعلها وهي باقية فينا كقراء للشعر!.. فشعر الماغوط يمسّنا دوماً ويؤثر فينا ليس لأننا من المحرومين والمعذبين والبائسين الذين يتحدث عنهم في شعره، بل لأنها تشكل لنا مرآة تعكس ذواتنا المجرحة وبلا أقنعة، ولأنها عائمة على بحر من الصور المبتكرة، البكر التي لم نعتد عليها في الشعر قبله، ومن هذا التوتر المشدود الأوتار والذي لم يتراخَ مع مرور الزمن، وهذه أيضاً من ملامح عبقرية هذا الشاعر!..
في ديوانه الأول: "حزن في ضوء القمر" تغلِب الرومانسية كل ما عداها، حيث الحلم والحنين للطفولة والرغبة في عناق الطبيعة أو العودة إلى البدائية، وهي حالات ظلّت تلاحق الماغوط في كل ما كتب لاحقاً وإن كانت بشكل أخفّ وأقل، وفي الديوان أيضاً يعلو الصوت الاحتجاجي الصارخ ضد القهر والحرمان، وفيه يستعطف ويستجدي وهو يخاطب أباه أو حبيبته ليلى، يقول:
"بع أقراط أختي الصغيرة
وارسل لي نقوداً يا أبي
لأشتري محبرة
وفتاة ألهث في حضنها كالطفل
***
فأنا أسهر كثيراً يا أبي
أنا لا أنام
حياتي سواد وعبودية وانتظار
فاعطني طفولتي
وضحكاتي القديمة على شجرة الكرز
وصندلي المعلق في عريشة العنب
لأعطيك دموعي وحبيبتي وأشعاري
لأسافر يا أبي".
حزن في ضوء القمر ـ الأعمال الكالمة ـ ص35.
وفي هذا الديوان الذي يتحدث فيه الماغوط عن طفولته الشريدة والجريحة وحنينه إلى البيت الذي غادره، ويصور الماغوط حزنه الطويل والأبدي، ويربط هذا الحزن المعتق بأشعاره حتى النهاية، بعد أن غادرته البهجة إلى الأبد على أرض الوطن لاسيما بعد أن تعرض لتجربة السجن في الخمسينات، يقول:
"بيتنا الذي كان يقطن على صفحة النهر
ومن سقفه المتداعي
يخطر الأصيل والزنبق الأحمر
هجرته يا ليلى
تركت طفولتي القصيرة
تذبل في الطرقات الخاوية
كسحابة من الورد والغبار
غداً يتساقط الشتاء في قلبي
وتقفز المتنزهات من الأسمال والضفائر الذهبية
وأجهش ببكاء حزين على وسادتي
وأنا أراقب البهجة الحبيبة
تغادر أشعاري إلى الأبد".
الأعمال الكاملة ـ حزن في ضوء القمر ـ ص37.
وفي قصيدة "القتل" الطويلة من ديوانه "حزن في ضوء القمر" التي يتحدث فيها عن سجنه، وهي من أطول قصائده، يسرد الماغوط بطريقة اللاوعي حالته في السجن، وهي قصيدة ذات إيقاعات متوترة مشدودة، تتوزعها حالتا الطلب والنداء اللذان يتقاطعان مع الوصف لكي تتم سردية القصيدة وحكائيتها، وكأنها تروى على مسرح شعري يرويها ممثل واحد من خلف ستارة أو من داخل قفص:
"ضع قدمك الحجرية على قلبي يا سيدي
الجريمة تضرب باب القفص
والخوف يصدح كالكروان
ها هي عربة الطاغية تدفعها الرياح
وها نحن نتقدم
كالسيف الذي يخترق الجمجمة".
الأعمال الكاملة ـ حزن في ضوء القمر ـ ص81
وكمثال على استخدام النداء، يقول:
"أيها الجراد المتناسل على رخام القصور والكنائس
أيتها السهول المنحدرة كمؤخرة الفرس
المأساة تنحني كالراهبة"
الأعمال الكاملة ـ حزن في ضوء القمر ـ قصيدة "القتل"ـ ص82.
ويمكننا أن نلحظ في المقطع السابق غرابة الصور وفرادتها، واستخدامه كاف التشبيه في آخر المقطع..
وهكذا تمضي قصيدة "القتل" الزاخرة بالصور بين السرد والوصف، وتظهر فيها ملامح وجوه وشخصيات تعبر في أجواء القصيدة وفي أفقها البعيد أحياناً؛ صورة السجان وتصوير السجن والسجناء ومخاطبة ليلى الغائبة، يخاطبها الماغوط كما في معظم قصائد المجموعة، وهنا في هذه القصيدة بالمزيد من الحرقة والخوف والعتاب:
"اعطني فمك الصغير يا ليلى
اعطني الحلمة والمدية، إننا نجثو
نتحدث عن أشياء تافهة
وأخرى عظيمة كالسلاسل التي تصرُّ وراء الأبواب
موصدة.. موصدة هذه الأبواب الخضراء
المنتعشة بالقذارة
مكروهة صلدة
من غمامات الشوق الناحبة أمامها
نتثاءب ونتقيأ وننظر كالدجاج إلى الأفق
لقد ماتَ الحنان
وذابت الشفقة من بؤبؤ الوحش الإنساني
***
أه ما أتعسني!.. إلى الجحيم أيها الوطن الساكن في قلبي
منذ أجيال لم أرَ زهرة".
قصيدة القتل ـ الأعمال الكاملة ـ ص88.
وفي ديوانه الثاني: "غرفة بملايين الجدران" إذ تتصاعد فردية الماغوط ومماحكته، وننتقل فيه من حالة الحزن إلى حالة الغضب والرفض، ويمتزج ذلك بالعدمية واللاانتماء والإصرار على هذا اللاانتماء إلى درجة نفيه أو تأكيده لتثبيت نقيضه، فهو تعبير لاشعوري عن الانتماء، ونلاحظ فيه أيضاً نشدان السفر والتوق إلى الحرية في التحلل من الحب، ومن الالتزام وبالإصرار على المشاكسة والمناكفة:
"أريد أن أغني وأهاجر
أن أنهب وآكل وأثور
هذا من حقي
لقد ولدت حرّاً كالآخرين
بأصابع كاملة وأضلاع كاملة
ولكنني لن أموت
دون أن أغرق العالم بدموعي، وأقذف السفن بقدمي كالحصى".
الأعمال الكاملة ـ غرفة بملايين الجدران ـ ص217.
الماغوط يصر على أنه الكائن الضعيف الصغير الذي يشبه كائنات "فرانز كافكا" المذعورة أو المدحورة، إنه أي الماغوط في شعره بطل اللابطولة أو المهزوم المحطّم، العائد من هزيمته متعباً ومزهواً في آن.. ورغم الصور العنيفة واللغة القاسية التي تسود شعره، فإن صورة الإنسان الخائف الضعيف تأتي كنقيض لهذه القسوة:
"آن الأوان
لتمزيق شيء ما
للإبحار عنوة تحت مطر حزين
لا كمغامر تلفّه سيول من الحقائب والأزهار
بل كفأر خسيس
كفأر دامع العينين
يستيقظ مذعوراً
كلما ناحت إحدى البواخر
وتألّقت مصابيحها
كعيون الضباع المبللة".
الأعمال الكاملة ـ غرفة بملايين الجدران ـ قصيدة منزل قرب البحر ـ ص130.
ويصل الغضب والرفض بالماغوط حدود العدمية الوطنية! فالماغوط الذي أدمن حبَّ الوطن يريد أن يهاجر، أن يترك كل شيء خلفه، ولكنه يجد أن السفر هو مجرد تطلّع أو حلم أو تَمَنٍّ أو تهديد، أو ممارسة في المكان حيث هو جالس على كرسي في المقهى يحلم بالسفر، ويسافر إلى معظم عواصم العالم ويضاجع أميرات ونساء شهيرات، إنها الدراما الماغوطية الشهية والمثيرة غير القابلة للتحقق، لأن الماغوط في حقيقة الأمر قوي الانتماء، وهو على عكس ما تقوله قصائده، ربما لا يحب السفر، ولكنه يسند ظهره على المفارقات المأساوية الأشد غرابة، ويخلخل الركود والتكرار بالمزيد من الانفعالات المؤثرة، يقول الماغوط:
" يا أرصفة أوروبا الرائعة
أيتها الحجارة الممددة منذ آلاف السنين
تحت المعاطف ورؤوس المظلات
أما من وكر صغير
لبدوي من الشرق
يحمل تاريخه فوق ظهره كالحطاب"
الأعمال الكاملة ـ غرفة بملايين الجدران ـ ص131.
وفي مكان آخر يقول:
"لا شيء يربطني بهذه الأرض سوى الحذاء
لا شيء يربطني بهذه المروج سوى النسيم
الذي تنشقته "صدفة" فيما مضى
لكن من يلمس زهرة فيها
يلمس قلبي..".
الأعمال الكاملة ـ غرفة بملايين الجدران ـ ص153.
الحكائية في شعر الماغوط بسيطة، غير معقدة، كما أن السرد الشعري عنده بسيط أيضاً، وبما أنه يدور حول هذه الحكائية البسيطة المؤلفة من ثلاثة مواضيع أساسية هي: (الخبز والمرأة والحرية)، وإن ثورة الماغوط كلها تبدو وكأنها تدور حول هذه الحقائق الثلاث. فالمرأة عنده حبيبة ومشتهاة، وقريبة وعاهرة وأم وسبية، ولكنها ومع كل هذه المتناثرات حاضرة في شعره وهي غاية من غاياته وتكاد أحياناً تتطابق مع الوطن ومع دمشق التي يخاطبها أحياناً بالحبيبة ويشتمها أحياناً أخرى!.. وعن الجوع، فكثيراً ما يقول الماغوط وبصراحة صارخة:
"أنا جائع يا أبي، وأريد امرأة..."
يقول:
"أنا مغرم بالكسل
بعدة نساء على فراش واحد"
الأعمال الكاملة ـ حزن في ضوء القمر ـ ص96.
هذا النهم الصريح، والغريزة الفاغرة عند الماغوط هي بمثابة الغول الجائع في شعر الماغوط ويريد إشباعاً وإلا فإن كل شيء سيكون مهدداً، وفي مكان آخر يرى الماغوط أن الحرمان ضروري لكتابة الشعر، ونداء الغريزة من روافد الإبداع الشعري عنده!..
وهو لا يتناول ثالوث (الجنس والخبز والحرية) باعتباره مطلقاً أو حاملاً لمعانٍ كلية أو رمزية، بل بالمعنى الدقيق والواقعي لهذا الثالوث. فالحرية التي يتكلم عنها الماغوط هي في أن يكون هو حراً في أن يقول ما يشاء وأن يتمرد ويثور في الشارع أو يعود عارياً إلى قريته بعد أن يفرغوا الشوارع من المارة، وذلك دون أن يسجن..
الحرية في أن ينال حقه من النساء والخبز والتبغ والتسكع والكسل.. وبناء على ذلك فإن ثورة الماغوط فردية وليست جماهيرية أو طبقية وليست نابعة عن وعي ثوري بالتغيير نحو الأفضل:
"سأجعل الهموم تتراكم على شفتي
كما يتراكم الجليد على أفواه المغارات الأثرية
أترك غبار المكانس والقطارات
يملأ أذني
وألتف حول قصائدي كالذيل
لا أريد أن أسمع شيئاً
لا المطر ولا الموسيقى
لا صوت الضحية ولا صوت الجلاد
لن أسمع إلا طقطقة القصائد في جيوبي
وارتطام الحقائب على ظهري من مكان إلى مكان"
الأعمال الكاملة ـ غرفة بملايين الجدران ـ ص110.
ولنقرأ أيضاً هذه الصرخة الوحشية:
"كل امرأة في الطريق هي لي
كل نهد وكل سرير
هو لي.. لعائلتي لرفاقي الجائعين
طالما لنا شفاه وأصابع كالآخرين
ودماء فواره كالآخرين
يجب أن نأكل ونحب ونهجر
ونقذف فضلات الأثداء خلف ظهورنا".
الأعمال الكاملة ـ غرفة بملايين الجدران ـ ص218.
هذه الروح الرامبوية والبودليرية معاً، الرافضة المتمردة عند الماغوط والتي قلَّ أن نجد مثيلاً لها في شعرنا المعاصر، بهذا الزخم، تجعله يرى المدينة بمثابة ذئبة تفترس الناس، ويرى الريف مكاناً للعذوبة والطهر ومنبعاً للشعر والبراءة..
والماغوط يصر على تصوير نفسه في هذه المدينة بمثابة بدوي متنقل أو هندي أحمر على وشك الانقراض، ينشد الهرب أو الغربة والسفر والترحال، إذ لا ملاذ إلا بالهرب أو العودة إلى الرحم، إلى الطبيعة.. ولكنه ليس البدوي الأبله في المدينة، بل البدوي الشاعر القوي الذي يمتلك الصراخ وقول الشعر، الغاضب أو الفلاح الذي لا يبالي بما تدعيه المدينة الزائفة، الفلاح الماكر الذي جعله الألم والفقر والحرمان خبيراً وداهية.. هذه الصورة للفلاح التي يتقمصها الماغوط راسخة في ذهنه ونلمحها في أكثر من قصيدة:
"طفولتي بعيدة.. وكهولتي بعيدة
وطني بعيد.. ومنفاي بعيد
أيها السائح
اعطني منظارك المقرّب
علني ألمح يداً أو محرمة في هذا الكون تومئ لي
صورني وأنا أبكي
وأنا أقعي بأسمالي أمام عتبة الفندق
واكتبْ على قفا الصورة: هذا شاعر من الشرق.
***
اصرف أدلاءك ومرشديك
والقِ إلى الوحل بكل ما كتبته من حواشٍ وانطباعات
إن أي فلاح عجوز
يروي لك "ببيتين من العتابا"
كل تاريخ الشرق
وهو يدرج لفافته أمام خيمته".
الأعمال الكاملة ـ الفرح ليس مهنتي ـ قصيدة: أيها السائح ـ ص266.
وأما كل هذه الخيبات التي يلحظها الماغوط في المدن العربية لاسيما بيروت ودمشق يتعالى صوت الاحتجاج والرفض وروح التهكم والهجائية...
ويتمنى الماغوط أن يتم تبادل الأوطان كالراقصات في الملهى!.. وكل هذه المفارقات في المواقف وفي استخدام الصور الشعرية الغريبة والنادرة، ورغم استخدامه المتكرر لكاف التشبيه في تقريب الصورة أو تقريب البعيد، وهذا نابع عن بساطة آلية الكتابة عنده ومن نفوره اللاشعوري من كل تعقيد.. تتضافر كل هذه المكونات التي ذكرناها هنا في هذه القراءة لتشكل فرادة الماغوط، فالصور الشعرية عنده كما تقول الناقدة الدكتورة خالدة سعيد معلّقة على ديوان "حزن في ضوء القمر"، تقول:
"قصيدة الماغوط عقد من الصور ولو أنها غير مرتبة وفق اتجاه أو تسلسل معين.. وإن الصورة قوام التعبير الشعري عند الماغوط، وتكاد تكون الوسيلة الوحيدة لولا لمحات من الأصوات الداخلية في قصيدة أو قصيدتين من مجموعة حزن في ضوء القمر".
وبالفعل يلحظ قارئ الماغوط أن قصائده كلها هي عقد من الصور المتدفقة بلا ترتيب وبعفوية وفوضى، وكأنها باقات ورد مشلوحة أو منثورة في فضاء القصيدة، والصور الشعرية عند الماغوط طازجة، حارة على عكس ما تراه الدكتورة خالدة سعيد، وغير مستخدمة في شعرنا العربي الحديث والقديم، وهي تُكَوِّنُ نسيجاً متشابكاً من العلاقات المتنافرة فيما بين الأشياء من جهة، وفيما بين ما هو حي وما هو ذهني أو حدسي وأداة التقريب دائماً أو غالباً ما تكون كاف التشبيه!..
هذه الشعرية التي امتلكها الماغوط وبوّأته مكانة عالية بين الشعراء تليق به كمبدع وهي شعرية استثنائية وعبقرية تحتاج إلى وقفات كثيرة..
وما وقفتنا هذه إلا مجرد إشارة خاطفة لشاعر يجب أن يقرأ لكي يتذوق شعره، أولاً ولكي ندرك القوة العفوية في الشعر، ثانياً، وهذه الموهبة التي يبدو أن عناية ما قد صانتها لنا لكي تصلنا بهذه الصراحة الحادة كشفرة سيف.
المراجع:
ـ محمد الماغوط ـ الأعمال الشعرية (ديوان محمد الماغوط) دار العودة ـ بيروت ـ 1972.
ـ عبد الغفار مكاوي ـ البلد البعيد ـ دار الكاتب العربي للطباعة 1968.
ـ فريدريش شيللر ـ رسائل في التربية الجمالية ـ ترجمة: د. الياس حاجوج والدكتورة فاطمة الجيوشي ـ وزارة الثقافة ـ دمشق عام 2000م.
ـ عاطف فضول ـ النظرية الشعرية عند إليوت وأدونيس ـ ترجمة: أسامة إسبر ـ المجلس الأعلى للثقافة ـ مصر عام 2000م.
ـ خزامى صبري (خالدة سعيد) دراسة عن "حزن في ضوء القمر، ـ مجلة شعر ـ عدد 11 ـ 1959
ظهرَ الماغوط في الفترة التي ظهر فيها شعراء جيل الغضب في الولايات المتحدة في الخمسينات والستينات، وذلك دون أن يعرفهم، وكان صوته يشبه صوتهم، إذ الغضب والصفاقة والرفض، والدعوة إلى البراءة والتطهر في الأرياف وبين أحضان الطبيعة البكر، أو الثورة على الزيف والنفاق، كلها توجهات الشعر الأساسية عندهم، وكذلك كان الماغوط. ومن جهة أخرى كان الشعراء العرب يخوضون جدلاً حول الشعر، حول ماهيته ووظيفته، ويتحاورون حول المذاهب أو الاتجاهات الأدبية التي كانت تصطخب في تلك الفترة على مستوى العالم، والشعر العربي الحديث يشقّ طريقه وتتنازعه تيارات واتجاهات شتى، لكن رغم تعددها كانت متقاربة بشكل أو بآخر لاسيما في نشدان شكل جديد للشعر، يعبر عن التوق إلى معانقة الحداثة العالمية والانخراط فيها "ورفع مستوى الذهنية العربية إلى مستوى الحداثة العالمية" على حد قول يوسف الخال، آنذاك، وهو مؤسس تيار مجلة "شعر".
وإذا كان الرواد آنذاك قد نجحوا في وضع العربة على السكة بعد أن خاضوا معارك جدلية حول دور الشعر ووظيفته الجمالية والاجتماعية، ظلت الخلافات تنمو فيما بينهم على شكل انقسامات داخل تيار الحداثة نفسه، عبرت عنه كل من مجلة "شعر" ومجلة "الآداب" البيروتية. وداخل كلا التيارين أيضاً برزت الخلافات والانشقاقات والتنقلات المتبادلة من موقع إلى آخر..
وكل هذا أثرى الحياة الأدبية وأضفى عليها حيوية لم نشهد مثلها فيما بعد!.. في هذا الجو الحيوي ظهر الماغوط كصوت متميز وتمَّ الترحيب به على تميزه وقد عدّه شعراء مجلة "شعر". بمثابة اكتشاف وقوة جديدة تضاف إلى قوتهم في مواجهة التيار الوجودي والقومي الذي كانت تحتضنه مجلة "الآداب"، ومن اللافت أن الماغوط لم يشارك في هذا الجدل النظري حول الشعر، وربما لم يكن يمتلك الأدوات ولا الإمكانيات الثقافية التي تؤهله لذلك، ولهذا آثر أن يجعل شعره هو المعبر عن طريقته الخاصة في الكتابة، ولأنه شاعر مبدع بحت فقد كان شعره على بساطته، مولداً للأفكار، ومبشراً بنوع جديد من الشعر، أي أنه فتح أفقاً جديداً لما يسمى "قصيدة النثر". وكان نموذجياً في هذا المجال.
خرج الماغوط من معطف مجلة شعر ـ إذا جاز القول ـ وكان بالإمكان أن يظهر من تحت المعطف الآخر (الآداب) لو شاءت الظروف ذلك. فالماغوط لم يكن تابعاً لتيار، ولم يكن معنياً بالنظريات الأدبية أو إيديالوجيا الأدب حتى في كتابة الشعر، وما وجوده بين هؤلاء الشعراء المثقفين أو النخبويين سوى ضرب من المصادفة.. كما كان دخوله إلى الحزب القومي السوري هو أيضاً ضرب من المصادفة، لأن مقر هذا الحزب في السلمية كان قريباً من بيته ويوجد فيه "صوبا" على حد قوله. إذاً ترك الماغوط للمصادفة والقدر أن يقودا خطاه على المستوى الشخصي والأدبيّ.. وبناء على ذلك تحددت حياته ورسم مصيره الشخصي والإبداعي، وصار إلى ما صار إليه، شاعراً كبيراً، وشخصيته لوحقت وسجنت في فترة ما ونالت من الشهرة ما يفوق التصوّر، فيا لعبقرية المصادفات!!..
المهم أن الماغوط وجد نفسه مصادفة وسط جماعة أو تيار يجمع أصواتاً شامخة التقت على أهداف عامة وتباينت مواقفها في بعض التفاصيل والتوجهات، وما لبث هذا التيار أن تعرض للانقسام والتشظي بسبب تراكم الخلافات بين مكوناته أو بسبب الاختلاف حول العلاقة مع التراث الشعري العربي، فكان أدونيس أول من خرج على جماعة شعر واختط لنفسه طريقاً خاصاً ومغايراً ومؤثراً وأكثر التصاقاً بالشعرية العربية المنفتحة على العالم. وجسّد أدونيس في التنظير وفي الإبداع الشعري الاتجاه التواصلي الجدلي في الحداثة العربية في مواجهة الحداثة الراديكالية التي دعت إلى القطيعة مع التراث ونحت نحو التطلع المنبهر بالنماذج الغريبة. وقد رحبت مجلة الآداب بخروج أدونيس إلا أن أدونيس شكّل تياراً ثالثاً وأسس مجلة "مواقف" التي التفّ حولها عدد غير قليل من الشعراء الجدد.
ورغم دور أدونيس في تقديم الماغوط واكتشافه، فإن الماغوط لم يذهب إلى حيث ذهب أدونيس، وقد يكون وجد نفسه أقرب إلى تيار "الخال" وأنسي الحاج، وشوقي أبي شقرا، وبالمصادفة أيضاً، إلا أنه لم يظهر تأييده لهم بقوة، وهم الذين أخذوه على محمل الجد أكثر مما أخذ نفسه!.. فقد نأى عن هذه التيارات النخبوية التي لا يحتملها، وظل صوتاً نافراً وشريداً وحافظ على براءته الشعرية المميزة والتي ميّزته عن الجميع، ومن المؤكد أن ذلك لم يتم وفق مخطط مرسوم من قبل الماغوط، بل لعلَّ فطرته أو سجيته الطليقة تحصّنت بآلية دفاع لا شعورية وحمت نفسها من التمذهب الأدبي أو الانضواء تحت سقف جماعة أدبية!..
وكأنه لم يكن معنياً بما يجري هناك في خلوات الشعر وفي مجادلات الشعراء التي وصلت إلى كل الآذان، إلا الماغوط فقد أصمَّ عنها وابتعد!.. فالشعر عنده يأتي من مكان آخر أقرب مما يتصورون!.. إنه من الذات ومن التجربة في الحياة، وليس من النظريات والمقولات المستعربة ولا من التأمّل البارد في التاريخ وفي ملامح الحضارات القديمة. فلم يهتم الماغوط بالأسطورة مثل غيره من الشعراء آنذاك، ولم يسعَ لأن يكون شاعر رؤية وصاحب نبوءة، ولم تجذبه أسطورة الانبعاث التموزية التي كاد ألا ينجو منها شاعر في زمنه. اقترن شعر الماغوط بالحزن الذي يجوب في أعماقه، الحزن المتوارث:
"يا نظرات الحزن الطويلة
يا بقع الدم الصغيرة أفيقي
إنني أراك هنا
على البيارق المنكّسة
وفي ثنيات الثياب الحريرية.."
الأعمال الكاملة ـ حزن في ضوء القمر ـ ص18.
وكثيراً ما يردد الماغوط، قائلاً: "أنا حزين"، و"يا أيها الحزن.. يا سيفي الطويل المجعَّد".. الحزن يوازي الهواء الذي يتنفسه، فحزنه كثيف وجمالي وإيقاعي، ولا يقل موسقة عن الإيقاعات والتفاعيل عند غيره من الشعراء. ومن نافل القول أن الموسيقا الشعرية الداخلية في شعر الماغوط النثري أكثر حيوية وتنوعاً وتناغماً حتى من الشعر الموزون، ومن رتابة التفعيلة عند بعض الشعراء الذين جايلوه أو أتوا بعده!..
ولعلَّ هذا ما جعل شعره يحتل مكانة مميزة في شعر النثر الذي لم يكن هو أول من كتبه، كما يعتقد البعض، فلقد سبقه إليه كثيرون، ولكنه كان أول من رسخه!..
لقد كان الماغوط حداثياً بالفطرة، دون ثقافة مستعارة أو مرجعية فلسفية بحث عنها الآخرون واستعانوا بها، وكان خارج تصنيف "فرانز فانون" عن المثقف المستعمر، فلم يُحاكِ الغرب، ولم يتمرد على الغرب، ولم تكن عنده عقدة تجاه هذا الغرب، ولم يتشبث بفلكلوريته كنوع من ردّة الفعل كما عند شعراء "الزنوجة" في أفريقيا، ولم يسعَ للتطهر، بل على العكس، إلى المزيد من الانغماس في التجربة وفي الحياة التحتية أو ملاصقاً للهموم العامة، وقد كان بارعاً في المزاوجة ربما عن غير قصد بين ما هو خاص وما هو عام، بين ذاته وبين الآخرين، ولأنه لم يكن في واقع الأمر إلا واحداً من الآخرين، ولم ينظر يوماً إلى نفسه باعتباره أستاذاً يمتلك المعرفة والوعي وعليه أن يعلم الآخرين، لا بل إن شعر الماغوط من الناحية الأخلاقية يتسم بالسلبية، وهذا ليس عيباً في الإبداع.
إذاً مرجعية الماغوط أولاً وأخيراً هي ذاته المتمرسة بالتجربة والمعاناة والنابعة أيضاً من غريزته الفطرية ومن إحساسه المباشر بالأشياء وبالعالم فليس للماغوط أبوة شعرية وهو خارج العقدة الأوديبية شعرياً على الأقل!..
ولهذا كلّه ينطبق عليه وصف الشاعر الألماني "فريدريش شيللر" حين تحدث عن الشاعر الساذج والشاعر العاطفي ـ وبما أن كلمة ساذج في لغتنا تعني البلاهة والعثة وتثير الحساسية، سنضع بدلاً عنها صفة (العفوي) أو (الشاعر العفوي) وشيللر يعني بها شاعر الفطرة الذي لا يبدع أشكالاً نموذجية.
ويقول شيللر: "واجب الشاعر (الفطري) أن يصور المضمون الكامل للإنسانية في الواقع.. إنه يحسُّ ويشعر، ولا نقول يعي ويدرك، إنه يصدر في ذلك عن إحساس غريزي ساذج وفطري.." ويرى شيللر أن هذا الشاعر "الفطري" هو نموذج العبقري لأنّه لا يعمل طبقاً لمبادئ معروفة، بل طبقاً للخواطر والمشاعر. ويقابله عند شيللر الشاعر العاطفي الذي يبدع من وعي بالطبيعة الحقّة، ويكون واعياً بالزمن وبالمسافة التي تفصل بين الواقع والمثال.. بين قوانين العقل وتحققها في الطبيعة. بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون.. والشاعر العاطفي يستمد أحكامه من شجرة المعرفة. ويؤكد شيللر أنه لا يوجد شاعر فطري بالمطلق كما لا يوجد شاعر عاطفي بالمطلق أيضاً. وفي هذه النسبية بين الطرفين يمكن أن نضع الماغوط الأقرب إلى الشاعر (العفوي) بالمعنى العبقري للعفوية.
شعر الماغوط شعر حسي، للحواس حضور كبير فيه، وهو شعر شبقي أيضاً، اللذة والألم والجسد والحياة أو الحيوات تنوجد عنده بوفرة، وكل هذا يأتي دون تخطيط أو دراية مسبقة، بل عفو الخاطر، أي شعر "إيروسي" ضد الموات واليباس. وهو دون أن يعي، جامع تيارات ومذاهب في شعره حيث تختلط عنده الرمزية بالواقعية بالرومانتيكية، بالحسيّة الحداثوية وما بعد الحداثوية، ولا يمكن أن يكون الماغوط واعياً لكل ذلك أو متقصداً له.. وما هذا الاختلاط إلا دليل على عفويته وعشوائيته، فلو كان مبرمجاً لكان عمد إلى تنقيح قصائده من هذه الأخلاط المتباينة واكتفى بجانب واحد منها وأقصى الباقي، لكن عبقريته الجارفة والفطرية هي التي جرفت كل هذه التيارات من على السطح وأدرجتها تحت جناحيها وهي تتأهل للتحليق!..
وشعر الماغوط على عفويته يشكل حالة استقطاب جمالية، إذ تصب فيه ملامح عدة مدارس أدبية دون أن يكون للماغوط دخل في ذلك!.. ورغم ذلك فإن شعره خارج التصنيفات ولا يمكن أن يصنّف لصالح مدرسة ما، فهو لا يطيق التصنيف، إنه شعر وحسب فيه سوريالية، وواقعية، وفنتازيا... شعر بلا أوزان دون أن يفرط بالإيقاع الداخلي الذي ينشأ هنا من التوتر المتصادم مع الاستخدام العفوي للّغة. والنثر الشعري عند الماغوط يحقق مستواه الأعلى ويتجاوز شعريته ليغدو غنائياً مموسقاً لا بل ملحمياً أو شبه ملحمي، وذلك لكثافة الذات فيه واللافت في الأمر أن الذات عند الماغوط لا تتجاوز حدودها ولا تستسلم للنرجسية، بل تقدم بوصفها ذات صغيرة، خائفة، مذعورة، ومهددة...
كما هي ذوات الآخرين أو عموم الآخرين في واقعنا، ذات تحلم وحلمها لم يتحقق وربما لن يتحقق، إنها ذات مدحورة ومأساوية، خسرت كل شيء وتعرف أنها خسرت كل شيء، فلا مجال عنده للأمل ولا للتفاؤل الرخو، فشعر الماغوط لا يحتمل هذه الفجوات، ولذلك وصفناه بالسلبية.. وربما هذه السوداوية قريبة من القراء وجعلتهم يتعاطفون مع هذه الذات التي تشبههم، خلافاً لما هو عند شعراء آخرين تتضخم عندهم الأنا بشكل متفرد مبالغ فيه، وحياتهم يصورونها حافلة بالانتصارات الوهمية!..
لم يطق الماغوط في حياته حذلقات النقاد وقد عبّر عن ذلك في كتاباته وحواراته ولم يكن مهتماً بما يقولونه عنه، ولعلَّ هذا ما يفسر ابتعاد النقاد عن شعره فإضافة لكونه شعر غير قابل للتصنيف، فهو أيضاً خارج دائرة نظرية التأثر والتأثير عند "هارولد بلوم" وخارج حسابات النقد الأسطوري عند "نورثروب فراي" فالقصيدة الماغوطية تنطلق من درجة الصفر، من حيث تنسى منجزات الشعر وتنبثق من ينابيع الذات القابعة في (الآن وهنا) ولا تنحدر من ذاكرة الشعر البعيدة أو القريبة. شعر مصدره الأنا أو الذات لكل ما يعتلج فيها من أشواق وصبوات. الذات المتمردة المنفصلة والمتصلة مع ذوات الآخرين، الذات التي تصطخب فيها الشبقية والغضب المكبوت والمعلن، والفزع والرغبة في الانتقام. حتى وإن كان الماغوط أحياناً ينساق وراء ذاته وهي تتقنع بالأنا الجمعي، فشعر الماغوط شعر الصوت الواحد، وشعر اللحظة الآنية، حيث يكون صداه في مكانه، في حدود المساحة التي يحدثها وقع الصوت الذي يكاد لا يتجاوز مساحة غرفة أو صراخ على عتبة بيت يتكوّن من بضعة حجرات أو عدة جدران، وقد يبدو هذا الكلام فيه تضييق لفسحة الشعر اللامحدودة أو ما يسمونه فضاء الشعر!..
لكن أن يكون لك هذا الحيّز في الكينونة الشعرية الذي منحته الطبيعة للشاعر المبدع محمد الماغوط.. ولو أن لكل شاعر عربي هذه المساحة أو انتزع مثل هذه المساحة التي تبدو ضيقة، لكان لنا مكانة شاسعة وواسعة في خارطة الشعر الكوني!..
شعر الماغوط دائماً يقرّب المسافة بين ذاته وبين العالم، بين الداخل والخارج. في شعره الصادر عن فطريته المتخاصمة مع الميتافيزيقيا، إذ لا نلمح تجويفات أو فجوات ميتافيزيقية في شعره، لا يسترسل ولا يستسلم للغموض والتعمية ولا يلجأ إلى الأقنعة إلا ما هو شفاف منها لاسيما تلك التي تحيكها الذات جمالياً لنفسها!.. وهذا قليل في شعر الماغوط على كل حال.
إن شعره قائم على شبكة فوضوية من الصور الحسية شديدة الصراحة والنافرة والغريبة، والتي يجمعها جامع شعري مكون من لغة مموسقة مشحونة بالتهكّم والسخرية والهجاء والحزن، ومن الإكثار من المخاطبة واستخدام أدوات النداء الصريحة والمستترة.. لغة تذهب في شتى الاتجاهات في السياسة كما في الحب، هذا الجامع الذي يكوّن النص الماغوطي، يلم كل هذه المكونات الصغرى والكبرى، ليكون الصياغة الجمالية العفوية لقصيدة الماغوط.
والماغوط من الناحية الوجودية، لا يحاور الموت ولا يقلقه الوجود أو التساؤل حول الكيفية التي انوجد عليها الوجود، أو لماذا انوجد أو وجد!.. كلها مسائل لا تعنيه ولا يريد أن يتأمل فيها، وهي مواضيع كما هو معلوم، كانت في عصره ذات جاذبية اختطفت معظم الأدباء والشعراء غيره، لاسيما الذين ينزعون إلى استحضار مواضيع عالمية شغلت الذهنية الغربية، ومن باب المحاكاة والتقليد!..
توجهات الماغوط كانت أبسط من ذلك، والأصح أن نقول أعمق من ذلك، لأنها كانت أكثر تأثيراً وحميمية ووقعاً على النفس. وتلك المواضيع المختلفة ذهبت أدراج الرياح، بينما مواضيع الماغوط الحميمية والبسيطة لا تزال تفعل فعلها وهي باقية فينا كقراء للشعر!.. فشعر الماغوط يمسّنا دوماً ويؤثر فينا ليس لأننا من المحرومين والمعذبين والبائسين الذين يتحدث عنهم في شعره، بل لأنها تشكل لنا مرآة تعكس ذواتنا المجرحة وبلا أقنعة، ولأنها عائمة على بحر من الصور المبتكرة، البكر التي لم نعتد عليها في الشعر قبله، ومن هذا التوتر المشدود الأوتار والذي لم يتراخَ مع مرور الزمن، وهذه أيضاً من ملامح عبقرية هذا الشاعر!..
في ديوانه الأول: "حزن في ضوء القمر" تغلِب الرومانسية كل ما عداها، حيث الحلم والحنين للطفولة والرغبة في عناق الطبيعة أو العودة إلى البدائية، وهي حالات ظلّت تلاحق الماغوط في كل ما كتب لاحقاً وإن كانت بشكل أخفّ وأقل، وفي الديوان أيضاً يعلو الصوت الاحتجاجي الصارخ ضد القهر والحرمان، وفيه يستعطف ويستجدي وهو يخاطب أباه أو حبيبته ليلى، يقول:
"بع أقراط أختي الصغيرة
وارسل لي نقوداً يا أبي
لأشتري محبرة
وفتاة ألهث في حضنها كالطفل
***
فأنا أسهر كثيراً يا أبي
أنا لا أنام
حياتي سواد وعبودية وانتظار
فاعطني طفولتي
وضحكاتي القديمة على شجرة الكرز
وصندلي المعلق في عريشة العنب
لأعطيك دموعي وحبيبتي وأشعاري
لأسافر يا أبي".
حزن في ضوء القمر ـ الأعمال الكالمة ـ ص35.
وفي هذا الديوان الذي يتحدث فيه الماغوط عن طفولته الشريدة والجريحة وحنينه إلى البيت الذي غادره، ويصور الماغوط حزنه الطويل والأبدي، ويربط هذا الحزن المعتق بأشعاره حتى النهاية، بعد أن غادرته البهجة إلى الأبد على أرض الوطن لاسيما بعد أن تعرض لتجربة السجن في الخمسينات، يقول:
"بيتنا الذي كان يقطن على صفحة النهر
ومن سقفه المتداعي
يخطر الأصيل والزنبق الأحمر
هجرته يا ليلى
تركت طفولتي القصيرة
تذبل في الطرقات الخاوية
كسحابة من الورد والغبار
غداً يتساقط الشتاء في قلبي
وتقفز المتنزهات من الأسمال والضفائر الذهبية
وأجهش ببكاء حزين على وسادتي
وأنا أراقب البهجة الحبيبة
تغادر أشعاري إلى الأبد".
الأعمال الكاملة ـ حزن في ضوء القمر ـ ص37.
وفي قصيدة "القتل" الطويلة من ديوانه "حزن في ضوء القمر" التي يتحدث فيها عن سجنه، وهي من أطول قصائده، يسرد الماغوط بطريقة اللاوعي حالته في السجن، وهي قصيدة ذات إيقاعات متوترة مشدودة، تتوزعها حالتا الطلب والنداء اللذان يتقاطعان مع الوصف لكي تتم سردية القصيدة وحكائيتها، وكأنها تروى على مسرح شعري يرويها ممثل واحد من خلف ستارة أو من داخل قفص:
"ضع قدمك الحجرية على قلبي يا سيدي
الجريمة تضرب باب القفص
والخوف يصدح كالكروان
ها هي عربة الطاغية تدفعها الرياح
وها نحن نتقدم
كالسيف الذي يخترق الجمجمة".
الأعمال الكاملة ـ حزن في ضوء القمر ـ ص81
وكمثال على استخدام النداء، يقول:
"أيها الجراد المتناسل على رخام القصور والكنائس
أيتها السهول المنحدرة كمؤخرة الفرس
المأساة تنحني كالراهبة"
الأعمال الكاملة ـ حزن في ضوء القمر ـ قصيدة "القتل"ـ ص82.
ويمكننا أن نلحظ في المقطع السابق غرابة الصور وفرادتها، واستخدامه كاف التشبيه في آخر المقطع..
وهكذا تمضي قصيدة "القتل" الزاخرة بالصور بين السرد والوصف، وتظهر فيها ملامح وجوه وشخصيات تعبر في أجواء القصيدة وفي أفقها البعيد أحياناً؛ صورة السجان وتصوير السجن والسجناء ومخاطبة ليلى الغائبة، يخاطبها الماغوط كما في معظم قصائد المجموعة، وهنا في هذه القصيدة بالمزيد من الحرقة والخوف والعتاب:
"اعطني فمك الصغير يا ليلى
اعطني الحلمة والمدية، إننا نجثو
نتحدث عن أشياء تافهة
وأخرى عظيمة كالسلاسل التي تصرُّ وراء الأبواب
موصدة.. موصدة هذه الأبواب الخضراء
المنتعشة بالقذارة
مكروهة صلدة
من غمامات الشوق الناحبة أمامها
نتثاءب ونتقيأ وننظر كالدجاج إلى الأفق
لقد ماتَ الحنان
وذابت الشفقة من بؤبؤ الوحش الإنساني
***
أه ما أتعسني!.. إلى الجحيم أيها الوطن الساكن في قلبي
منذ أجيال لم أرَ زهرة".
قصيدة القتل ـ الأعمال الكاملة ـ ص88.
وفي ديوانه الثاني: "غرفة بملايين الجدران" إذ تتصاعد فردية الماغوط ومماحكته، وننتقل فيه من حالة الحزن إلى حالة الغضب والرفض، ويمتزج ذلك بالعدمية واللاانتماء والإصرار على هذا اللاانتماء إلى درجة نفيه أو تأكيده لتثبيت نقيضه، فهو تعبير لاشعوري عن الانتماء، ونلاحظ فيه أيضاً نشدان السفر والتوق إلى الحرية في التحلل من الحب، ومن الالتزام وبالإصرار على المشاكسة والمناكفة:
"أريد أن أغني وأهاجر
أن أنهب وآكل وأثور
هذا من حقي
لقد ولدت حرّاً كالآخرين
بأصابع كاملة وأضلاع كاملة
ولكنني لن أموت
دون أن أغرق العالم بدموعي، وأقذف السفن بقدمي كالحصى".
الأعمال الكاملة ـ غرفة بملايين الجدران ـ ص217.
الماغوط يصر على أنه الكائن الضعيف الصغير الذي يشبه كائنات "فرانز كافكا" المذعورة أو المدحورة، إنه أي الماغوط في شعره بطل اللابطولة أو المهزوم المحطّم، العائد من هزيمته متعباً ومزهواً في آن.. ورغم الصور العنيفة واللغة القاسية التي تسود شعره، فإن صورة الإنسان الخائف الضعيف تأتي كنقيض لهذه القسوة:
"آن الأوان
لتمزيق شيء ما
للإبحار عنوة تحت مطر حزين
لا كمغامر تلفّه سيول من الحقائب والأزهار
بل كفأر خسيس
كفأر دامع العينين
يستيقظ مذعوراً
كلما ناحت إحدى البواخر
وتألّقت مصابيحها
كعيون الضباع المبللة".
الأعمال الكاملة ـ غرفة بملايين الجدران ـ قصيدة منزل قرب البحر ـ ص130.
ويصل الغضب والرفض بالماغوط حدود العدمية الوطنية! فالماغوط الذي أدمن حبَّ الوطن يريد أن يهاجر، أن يترك كل شيء خلفه، ولكنه يجد أن السفر هو مجرد تطلّع أو حلم أو تَمَنٍّ أو تهديد، أو ممارسة في المكان حيث هو جالس على كرسي في المقهى يحلم بالسفر، ويسافر إلى معظم عواصم العالم ويضاجع أميرات ونساء شهيرات، إنها الدراما الماغوطية الشهية والمثيرة غير القابلة للتحقق، لأن الماغوط في حقيقة الأمر قوي الانتماء، وهو على عكس ما تقوله قصائده، ربما لا يحب السفر، ولكنه يسند ظهره على المفارقات المأساوية الأشد غرابة، ويخلخل الركود والتكرار بالمزيد من الانفعالات المؤثرة، يقول الماغوط:
" يا أرصفة أوروبا الرائعة
أيتها الحجارة الممددة منذ آلاف السنين
تحت المعاطف ورؤوس المظلات
أما من وكر صغير
لبدوي من الشرق
يحمل تاريخه فوق ظهره كالحطاب"
الأعمال الكاملة ـ غرفة بملايين الجدران ـ ص131.
وفي مكان آخر يقول:
"لا شيء يربطني بهذه الأرض سوى الحذاء
لا شيء يربطني بهذه المروج سوى النسيم
الذي تنشقته "صدفة" فيما مضى
لكن من يلمس زهرة فيها
يلمس قلبي..".
الأعمال الكاملة ـ غرفة بملايين الجدران ـ ص153.
الحكائية في شعر الماغوط بسيطة، غير معقدة، كما أن السرد الشعري عنده بسيط أيضاً، وبما أنه يدور حول هذه الحكائية البسيطة المؤلفة من ثلاثة مواضيع أساسية هي: (الخبز والمرأة والحرية)، وإن ثورة الماغوط كلها تبدو وكأنها تدور حول هذه الحقائق الثلاث. فالمرأة عنده حبيبة ومشتهاة، وقريبة وعاهرة وأم وسبية، ولكنها ومع كل هذه المتناثرات حاضرة في شعره وهي غاية من غاياته وتكاد أحياناً تتطابق مع الوطن ومع دمشق التي يخاطبها أحياناً بالحبيبة ويشتمها أحياناً أخرى!.. وعن الجوع، فكثيراً ما يقول الماغوط وبصراحة صارخة:
"أنا جائع يا أبي، وأريد امرأة..."
يقول:
"أنا مغرم بالكسل
بعدة نساء على فراش واحد"
الأعمال الكاملة ـ حزن في ضوء القمر ـ ص96.
هذا النهم الصريح، والغريزة الفاغرة عند الماغوط هي بمثابة الغول الجائع في شعر الماغوط ويريد إشباعاً وإلا فإن كل شيء سيكون مهدداً، وفي مكان آخر يرى الماغوط أن الحرمان ضروري لكتابة الشعر، ونداء الغريزة من روافد الإبداع الشعري عنده!..
وهو لا يتناول ثالوث (الجنس والخبز والحرية) باعتباره مطلقاً أو حاملاً لمعانٍ كلية أو رمزية، بل بالمعنى الدقيق والواقعي لهذا الثالوث. فالحرية التي يتكلم عنها الماغوط هي في أن يكون هو حراً في أن يقول ما يشاء وأن يتمرد ويثور في الشارع أو يعود عارياً إلى قريته بعد أن يفرغوا الشوارع من المارة، وذلك دون أن يسجن..
الحرية في أن ينال حقه من النساء والخبز والتبغ والتسكع والكسل.. وبناء على ذلك فإن ثورة الماغوط فردية وليست جماهيرية أو طبقية وليست نابعة عن وعي ثوري بالتغيير نحو الأفضل:
"سأجعل الهموم تتراكم على شفتي
كما يتراكم الجليد على أفواه المغارات الأثرية
أترك غبار المكانس والقطارات
يملأ أذني
وألتف حول قصائدي كالذيل
لا أريد أن أسمع شيئاً
لا المطر ولا الموسيقى
لا صوت الضحية ولا صوت الجلاد
لن أسمع إلا طقطقة القصائد في جيوبي
وارتطام الحقائب على ظهري من مكان إلى مكان"
الأعمال الكاملة ـ غرفة بملايين الجدران ـ ص110.
ولنقرأ أيضاً هذه الصرخة الوحشية:
"كل امرأة في الطريق هي لي
كل نهد وكل سرير
هو لي.. لعائلتي لرفاقي الجائعين
طالما لنا شفاه وأصابع كالآخرين
ودماء فواره كالآخرين
يجب أن نأكل ونحب ونهجر
ونقذف فضلات الأثداء خلف ظهورنا".
الأعمال الكاملة ـ غرفة بملايين الجدران ـ ص218.
هذه الروح الرامبوية والبودليرية معاً، الرافضة المتمردة عند الماغوط والتي قلَّ أن نجد مثيلاً لها في شعرنا المعاصر، بهذا الزخم، تجعله يرى المدينة بمثابة ذئبة تفترس الناس، ويرى الريف مكاناً للعذوبة والطهر ومنبعاً للشعر والبراءة..
والماغوط يصر على تصوير نفسه في هذه المدينة بمثابة بدوي متنقل أو هندي أحمر على وشك الانقراض، ينشد الهرب أو الغربة والسفر والترحال، إذ لا ملاذ إلا بالهرب أو العودة إلى الرحم، إلى الطبيعة.. ولكنه ليس البدوي الأبله في المدينة، بل البدوي الشاعر القوي الذي يمتلك الصراخ وقول الشعر، الغاضب أو الفلاح الذي لا يبالي بما تدعيه المدينة الزائفة، الفلاح الماكر الذي جعله الألم والفقر والحرمان خبيراً وداهية.. هذه الصورة للفلاح التي يتقمصها الماغوط راسخة في ذهنه ونلمحها في أكثر من قصيدة:
"طفولتي بعيدة.. وكهولتي بعيدة
وطني بعيد.. ومنفاي بعيد
أيها السائح
اعطني منظارك المقرّب
علني ألمح يداً أو محرمة في هذا الكون تومئ لي
صورني وأنا أبكي
وأنا أقعي بأسمالي أمام عتبة الفندق
واكتبْ على قفا الصورة: هذا شاعر من الشرق.
***
اصرف أدلاءك ومرشديك
والقِ إلى الوحل بكل ما كتبته من حواشٍ وانطباعات
إن أي فلاح عجوز
يروي لك "ببيتين من العتابا"
كل تاريخ الشرق
وهو يدرج لفافته أمام خيمته".
الأعمال الكاملة ـ الفرح ليس مهنتي ـ قصيدة: أيها السائح ـ ص266.
وأما كل هذه الخيبات التي يلحظها الماغوط في المدن العربية لاسيما بيروت ودمشق يتعالى صوت الاحتجاج والرفض وروح التهكم والهجائية...
ويتمنى الماغوط أن يتم تبادل الأوطان كالراقصات في الملهى!.. وكل هذه المفارقات في المواقف وفي استخدام الصور الشعرية الغريبة والنادرة، ورغم استخدامه المتكرر لكاف التشبيه في تقريب الصورة أو تقريب البعيد، وهذا نابع عن بساطة آلية الكتابة عنده ومن نفوره اللاشعوري من كل تعقيد.. تتضافر كل هذه المكونات التي ذكرناها هنا في هذه القراءة لتشكل فرادة الماغوط، فالصور الشعرية عنده كما تقول الناقدة الدكتورة خالدة سعيد معلّقة على ديوان "حزن في ضوء القمر"، تقول:
"قصيدة الماغوط عقد من الصور ولو أنها غير مرتبة وفق اتجاه أو تسلسل معين.. وإن الصورة قوام التعبير الشعري عند الماغوط، وتكاد تكون الوسيلة الوحيدة لولا لمحات من الأصوات الداخلية في قصيدة أو قصيدتين من مجموعة حزن في ضوء القمر".
وبالفعل يلحظ قارئ الماغوط أن قصائده كلها هي عقد من الصور المتدفقة بلا ترتيب وبعفوية وفوضى، وكأنها باقات ورد مشلوحة أو منثورة في فضاء القصيدة، والصور الشعرية عند الماغوط طازجة، حارة على عكس ما تراه الدكتورة خالدة سعيد، وغير مستخدمة في شعرنا العربي الحديث والقديم، وهي تُكَوِّنُ نسيجاً متشابكاً من العلاقات المتنافرة فيما بين الأشياء من جهة، وفيما بين ما هو حي وما هو ذهني أو حدسي وأداة التقريب دائماً أو غالباً ما تكون كاف التشبيه!..
هذه الشعرية التي امتلكها الماغوط وبوّأته مكانة عالية بين الشعراء تليق به كمبدع وهي شعرية استثنائية وعبقرية تحتاج إلى وقفات كثيرة..
وما وقفتنا هذه إلا مجرد إشارة خاطفة لشاعر يجب أن يقرأ لكي يتذوق شعره، أولاً ولكي ندرك القوة العفوية في الشعر، ثانياً، وهذه الموهبة التي يبدو أن عناية ما قد صانتها لنا لكي تصلنا بهذه الصراحة الحادة كشفرة سيف.
المراجع:
ـ محمد الماغوط ـ الأعمال الشعرية (ديوان محمد الماغوط) دار العودة ـ بيروت ـ 1972.
ـ عبد الغفار مكاوي ـ البلد البعيد ـ دار الكاتب العربي للطباعة 1968.
ـ فريدريش شيللر ـ رسائل في التربية الجمالية ـ ترجمة: د. الياس حاجوج والدكتورة فاطمة الجيوشي ـ وزارة الثقافة ـ دمشق عام 2000م.
ـ عاطف فضول ـ النظرية الشعرية عند إليوت وأدونيس ـ ترجمة: أسامة إسبر ـ المجلس الأعلى للثقافة ـ مصر عام 2000م.
ـ خزامى صبري (خالدة سعيد) دراسة عن "حزن في ضوء القمر، ـ مجلة شعر ـ عدد 11 ـ 1959