خلِّص النفس من قلقها وضيقها كأنّك تدخُلْ حضرةً صوفية وأنت تفتحُ باب السؤال، كُتب على الباب بخطٍّ يمزج بين المغربي والكوفي، في لوحات فنية جذّابة من سوداء لونِ خطوطها يشعُّ نورها بهاء وجمالا، "لا حزن لي الآن"[1].. أو كأنك تقف أمام نفسك عاريا تفتح كتاب الاعتراف، ليواجهك السؤال، لأن بداية الحضرة سؤال.
السؤال تطهيرٌ، وكشفٌ لما سكت عنه الكلام، وغاب عن منطوق الحروف في غياهب النفس. السؤال في الحضرة الشعرية، مفتتح القصيد ومنتهى.
" ياوثبتي خارج ذاتي.. أصحوٌ أنت أم صدع؟ أم كشفٌ أو سؤال؟ أم تراك ذكرى من حياة أخرى؟" (ص5)حضرةُ طُهرٍ تُخلّص النّفْس من لا اطمئنانها، بالسؤال واللوم والوقوف أمام نفسها، لتخرج من قلقها، تفتّت يقينياتها وتدفعها للصراخ في وجه الحياة، وتكتب وَصِيّتها لاآتٍ توقفها أمام نفسها لتُعيد السؤال، وتفتح للْبَوْح مقامات للطُّهر والنقاء.
أمام الحضرة الشعرية البهية، وفي محراب "لا حزن لي الآن"، تأسرُ لُبّك الكلمات/اللوحات الخطية الجميلة التي بَرَعَ في تزويقها وإعطاء حروفها من تمدد وتدوير واستقامة، حتى أصبحت كل جملة من النص الشعري لوحة تموج حياة وجمالا وسحرا، أنامل تحسن السير على فضاء هلامي شفاف، كأنها تُسبِّح وهي تعبُر إلى الماوراء، لتُلبس الحرف جمالا ورونقا وبهاء، أو في جذبة صوفية تتلاشى في حضرتها المقامات والعلامات. خطّ مغربي بلمسة كوفية/ كأنه دعوة إلى ولوج الحضرة العطرة لمواجهة نفس تموج بها الأخطاء والنكبات، وتصَدّع حصونها المواجع، تصارعها تنشد المطلق والكشف، كلمات تسبح فاتنة تلامس البياض كأنها حلم هو فاتحة الكلام ومنتهاه منثوراً حِكَماً ووشْما أسود على البياض، تملأه زخرفة وفتحا لشهية القراءة والغوص في النفس التي تبحث عن اطمئنانها وكبريائها.
تقف الشاعرة، أمام نفسها/مرآتها، تمسك بها، تخاطبها، كما باقي النفوس تميل حيث مال هواها، تنفلت، تتمنّع، تكابر، تعاند، مبتدأها الشروق ومنتهاها الغروب، ورغم السقوط تنهض لأنه، "لا أحد يفقد أحدا.. سوى نفسه.. ولا سُلّم دون عناء يُفضي" (ص11)
بين الحالات، حالات تتجدد، ذبول وحزن، يقظة وهروب وعودة، بين البهاء والعراء، والشروق والغروب، تلك حالات النفس الباحثة عن الاطمئنان العصي على القبض والسابح في مجاهل وتجاويف المستور والمخبوء عن العين والحقيقة، لتتدارك ما فات، وتُنشد الآتي الغابر في طيات النسيان، "وهل تمة زهو.. في التسلق إلى الأسفل؟"(ص13)..
هي وقفاتٌ أمام النفس والسؤال، تحاسبها، تذكّرها كيف كانت بالأمل، "ظلالا كنتِ يوم كنتُ نورا.. يُبهر ما حوله.. أفقت.. حين لا يقظة تعيد من أخمده الأجل.. فلا تتبرئي من هفواتك.. واحص مع كل هفوة عفة.. قد لا يغيب عن ذاكرة الأخطاء نُبل"(ص19ـ20)
ويستمر بحث النفس اللامطمئنة في خضم هذا الغياب، عن حلم في وضح النهار، وعن معنى للوجود والتئام الجُرح. عن الذات وأسباب هذا اللاّ اطمئنان، والتشظي والتيه في متاهات ومنعرجات النفس التي تحاسِب وتُحاسَب، حين تُضَيّع كل الجهات، فتتشظى وتسقط أسفل الذات حين لا شيء هناك كمُربِكة تستعصي عن التركيب والحل، والسؤال هو ما تبقى من فعل المواجهة، بل أصبح هو المواجهة، مواجهة البدايات، حين كان القلم رمزا للبدايات يوقع النهايات، والحبر حين يتفجّر يصبح دماً ثم حياة، والحقيقة توقِفُ النفس أمام كفن مُرجأ، ينتظر السقوط أو العَوْدةُ إلى البدْء.
السؤال يحمل في طياته كل معاني الاطمئنان، بل لعله بداية الاطمئنان، حين يكون الوقوف احترافا، لأن الوقوف لحظةُ تأملٍ وتفكير وإعادة ترتيب معاني الحياة، وكل جواب هو نهاية السؤال وموته، فيظل السؤال مشتعلا، حارقا، والعمر يجري مسرعا في انتفاضة تدفع للسقوط، والسقوط نهاية. تلك أسئلة وجودية حارقة تهدر الطاقة حين تبحث عن المعنى المنفلت، ليُصبح المعنى عمى ونهايةً للسؤال.
ولا نهاية للسؤال..
وتتعثر النفس أمام السؤال.. "خذي نفسا وانفتحي، ودعي الأقفال تسقط من ذاتها.. لا تكترثي بالسقوط الأخير.. فلا ذنب بعده.."
تحضر النّفس قوية وهي تقف أمام نفسها في بحتها عن اطمئنانها الهارب، ويصعب الوقوف حين تشتدّ المواجهة ويشقّ السؤال، فإذا كان حارس السجن لا يهرب من سجنه، فليس أمام النفس إلا استقبال الوجع والألم والترقّب والقلق، كلها حالات تشتد أمام النفس تنتظر الوصية.. وصيةٌ بلاآت توقف السؤال للحظة، ليحضر الانتظار كقوة أمام النفس، هذا الكائن، ليكون أو لا يكون، وهذا هو السؤال..
"لا تنتظري شيئا.. لا تتطلعي لشيء.. استغني عما لك.. اغرسي الوعي.. لا تبالي بأزهار الغد.. اعبري الليل.." (ص34).. فلا سر ولا مكان ولا زمن، وحده النّبض سمة تشهد على الوجود والاستمرار، فالنفس كائن، "وما سُمّي الكائن إلا ليكون فكوني أناي أو لا تكوني"(ص38)..
لاآتٌ وصايا كالسراب، تقف الشاعرة أمام نفسها، تُخرج وصاياها، بما أنها تنظر إليها تركض خلف السراب كموجة تتكسر إلى حتفها ظمأى.. تطلب منها أن تتريث، وبنفس النداء/ الوصية، " أيتها النفس اللامطمئنة.. فكل شيء إلى زوال، إذ، لا يدوم على حالٍ حال..
وفي صراع لا ينتهي مع الوجود، لأن الصراح سر الوجود، تحاول النفس إيجاد موقع قدم بين ثنايا لحظات تتسلل من بين أصابع الزمن الذي يراوح الماضي والغد في انتظار السقوط، أو النهوض..
"يا قطرة في محيط" (ص47) هي النفس حين تهجرها الطمأنينة، تصغر، تجابه الموج، تتلاشى، تنسحب تجرّ ذيول الشك، لكن النفس تعاوِد حالها، فلا تؤوب، وتُعاد البداية بدايةً في لبوس قناع، تشعل ما كان، في انتظار ما سيكون.
"كلما رثيت لحالك.. استبدلتُ كالحية جلدا، بأملس منه.. شغفك بالحياة.. كالنزيف.. لا ينضب.." (ص50)
ويحضر الخوف والسؤال والاحتضار موجعا.. "أهو ارتطامي بما يُبعدني عنك؟ أم هو أوانُ الإشاحة عنكِ قد حلّ؟ أم تراها الذّات تنفر من نفسها كطقس ملائم للاحتضار" (ص53)
وينقلب السؤال إلى احتجاج لإزاحة الألم.. "لا تسألوني.. هل يوجعُ الصخر الزبد؟" (ص58)
ويكون السقوط.. "كنهر أيامٍ تتكرر" (ص61)
ما يعتمل بداخل النفس محجوز بين الرفض والتمنّي، إذ "لا وقتَ للتمني"(ص62) فقد طغى على النفس التوتّر وسوء الفهم والحزن العتيق.. "فلا إشباع يُرجى قبل العبور إلى الماوراء" (ص64)
ويحضر في النهاية السؤال، السؤال الخلاص، وهل في الانسحاب الخلاص؟ لكن السؤال وقوفٌ أمام الذات لإعادة ترتيب معنى الحياة، لتقف النفس أمام نفسها صائحة.. "أما حان لأحدنا أن ينسحب؟" (ص 67)، وتقف النفس بين البين، بين الانفصال والإيمان، بين الحضور والانسحاب، لكن الإيمان أقوى، وسيظل، ليستمر الذهول ويكون الخلاص في الذهاب بعيدا، بعيدا.. وتدور الدائرة، ويكون العوْد على البدء.. "هكذا هي الحياة.. عودةٌ دائرية إلى ما هاجرناه" (ص71).
[1] فاتحة مرشيد، لا حزن لي الآن، شعر، المركز الثقافي للكتاب 2023