"سألتني بنبرة الشغوف أين القوافي؟
أين جميل القول؟
أين بليغ المعنى الموشى بالدرر.. بالفسيفساء والزخرف..؟
همس الأنفاس (ص ــ 51 )
همسٌ كالصراخ، كالبوح، كالسؤال، كالصمت البليغ..
همسٌ كالروح، يخْترق السُّحب والحجُب ناشدةً رقة الكلمة، ونغمة الجرْس والإيقاع، وجمال الصورة، وبليغ البيان، رِكاباً يُنشد الجمال مبتدأً ومُنتهى..
"همسُ الأنفاس"(1)، نسجَ نصوصه كاتبٌ خبرَ لغة القلب والإحساس، فهو قبل الكتابة، موسيقي مرهفُ الذوق، رقيق الإحساس، مبدعٌ نحتَ أذواقنا زمناً بآلته "الأكورديون"(2)، وأمتعنا لحنا وإيقاعات لا زلنا نتقاسم أنغامها خلال اللقاءات. وهنا في "همس الأنفاس"، عوَّض آلته الموسيقية بالقلم، يُطرّز به حروف نصوصه قابضا على جمال اللحظة والصورة، وبهاء الدهشة..
همساتٌ جميلة تسبح بالقارئ في عوالم الحب والبوح والسؤال، وكلها نصوص رقيقة، تبني عوالمها صوراً وموسيقى وإيقاعات تجتمع و تتفرّق وهي ترفُل في بياضٍ لمّاع، تتراقص صوره على امتداد الديوان من مبتداه إلى منتهاه..
وإذا كان الشعرُ حلما نجرفُ به القبحَ الذي ران على العالم والأرواح، فإن "همس الأنفاس" في كل نصوصه، يقترب من الجمال، يواجه القبح، يفضحه، يُعرّيه ويصبُّ عليه غضباً من كلمات محاولاً إجلاءَ ما ترسّب من عفنٍ على جوانب الوجود والموجودات..
وإذا كان الشعر سرب حمام يُظلّلُ بأجنحته عوالم الجمال والبوح والرغبة والانعتاق، فإن نصوص الهمس تكاد تقترب من الذات وتُسائلها، كما تنحني على المحيط من الماء إلى الماء، تُخلخل ما ترسّخ في معتقده حتى أصبح واقعا يُعاش، عليه نصبحُ وعليه نُمسي..
وإذا كان الشعر جرحا ينفتحُ على الألم الإنساني، يسيل حبرا يُلملمُ شتات ما انْفكَّ من عُرى إنسانية الإنسان، فإن نصوص الديوان تُطلّ على الجُرح/ الجراح تُداويه، بل تنخرطُ في سؤال السبب وتبحثُ جاهدة، غاضبة، ثائرة، عبر الصورة، عن مدارجَ للنور، تستقي منها أقباسا تمْحي ظلمةً سكنتْ دواخل عالمٍ يتشظّى مُسْتكينا للخراب والموت..
وإذا كان الشعرُ اتساعا حين يضيق القولُ، فإن الشاعر حين نشر البياض أمامه، وحين أغواه بفتنته، فتح له أبواب أسراره وعوالم حياته الخفية، ووشّى بدرر الكلام البياضَ حين تجمَّع نصوصا بهية وأشعاراوقولا أعطى "همسَ الأنفاس"" ديوانا..
أمام البياض، وفي مراتع البوح، صنع الأستاذ محمد قطبي، الشاعر، لحرفه مدارج للصعود إلى سر الكلام..
أمام البياض، أطلق الشاعر العنان للحُلم أن يتَجَلّى، وللكلام أن يخْرج نقِيّا بهياً، ولِلّحنِ أن يُعزَف شجيّاً، وللأُمنِيات أن تركبَ جميلَ الإحساس يعزِفها همّاً وألماً وأملاً..
أمام البياض، فتح الشاعر للمدى انطلاقات أزهرتْ صُوراً يُطرّزها ما يصنع واقع الإنسان من آلام وآمال..
أمام البياض، دخل الشاعر روضة الكتابة، يُوزّع الحُروف دفئاً وجمالا ودهشة، يضفر منها قصائد تارة بوْحاً وتارة حبّاً ومرّات غضبا..
بالصّدقِ طرّزِ نصوص الديوان، ووهبها معاني رفيعة للحياة، ودلالات تفيض بين يدي القارئ نورا ودهشة وقلقا..
أمام البياض، ودون أن يختفي بين السطور، وبعيدا عن الغموض القاتل للمعنى وجمال الصورة، يدخل قوافيه بيُسرٍ وأناقة فاتحاً دواخله وتجاويف قلبه ـ كما بالأكورديون حين كان يعزف اللحن الجميل مقتطعا من إحساسه إيقاعات تعيش للزمن ـ تقاسيم وترانيم شعرية تحُتُّ الخطى نحو الجمال العامر بالآمال والأمنيات والانتظارات..
على البياض الفتنة، وعلى فتنة البياض الآسر، الذي لا يجد أمامه الكاتب إلا أن ينحني إجلالا وتميزا، وقف الشاعر، محمد قبي، يجر وراءه ثقل السؤال، وهموم الحياة، وأوجاع الوطن، وجميل الشوق، وتجاسر عليه فاتحاً قلبه للبوح يبُثّه دهشةً، يُفْرشُها للقارئ لينخرط في فك الرموز والصور التي انطبعت بها نصوص الديوان وميَّزتها..
1- محمد قطبي ـ همس الأنفاس ـ 2019
2- الأكورديون آلة موسيقية تُحمل باليد، وتتألف من منفاخ هوائي وأزرار أو مفاتيح شبيهة بمفاتيح البيانو لإنتاج النغمات