ما من شك أن مقاربة واقع القراءة بطريقة فعالة وناجعة أمر غير ممكن ولا متيسر ما دمنا لا نتوفر في المغرب على معطيات تفصيلية تلخص نتائج الدراسات الميدانية التي تقوم بها مراكز بحثية متخصصة تتيح تشخيص الوضع القرائي بشكل موضوعي ودقيق، لكن ذلك لا يمنعنا من القول إن واقع القراءة في المغرب لا يبعث حاليا على الارتياح، حيث ترتفع أصوات عديدة معلنة تذمرها من واقع ثقافي تهيمن عليه مظاهر التأخر والتراجع. ويمكن تلخيص أزمة الثقافة المغربية، في الوقت الراهن، في تزايد العرض وضعف المقروئية، حيث صار المعروض من النصوص أكثر من المقروء. وهو ما جعل المتابعين لظاهرة الإنتاج النصي، في الوقت الحالي، يطلقون على هذا الوضع مصطلحا دالا هو "استنزاف الخطاب". فما هي علاقة القراءة بالتنمية؟ وكيف تساعد القراءة على تحقيق مجتمع المعرفة؟.
القراءة والتنمية:
تمثل المعرفة، في عصر الانفجار المعلوماتي، المدخل الرئيس لكل تحول مجتمعي أو إقلاع حضاري منشود. إذ "المعرفة وسيلة إلى تسريع حركة التنمية، حيث يمكن من خلالها استحداث بدائل مبتكرة لتعويض التخلف وحرق المراحل"[1]. وما من شك أن المعرفة لا تنشأ من فراغ، ولكنها تتكوّن وتتطور انطلاقا من إسهامات سابقة يؤدي تحصيلها والبناء عليها إلى طفرة معرفية تكون نتيجتها الطبيعية بزوغ مجتمع المعرفة. ويعني ذلك أن المعرفة نتيجة عملية تحصيل متواصلة ومستمرة. وهنا تبرز أهمية القراءة باعتبارها أداة مهمة في كل تحول تاريخي وحضاري مرتقب، لأنه إذا "أردنا أن نعطي فعالية لعملنا الجماعي وإبداعية حقيقية لممارستنا السياسية والثقافية فلا بد من ثورة ثقافية تعم المجتمع بجميع فئاته''[2]. وما من شك أن تجاهل مشكلة القراءة التي تلقي بظلالها على المجتمع المغربي لن يقود إلا إلى تعميق مظاهر التأخر الحضاري في هذا البلد. إذ تمثل القراءة الوسيلة المثلى التي تمكن الفرد من شحذ فكره وتنمية ثقافته، لأنها تكسبه مهارة التعلم الذاتي التي تتيح له تجديد معلوماته وتعميق معارفه في مجالات الثقافة والعلوم التي تشهد اليوم تطورا مشهودا على مختلف الأصعدة والمستويات.
لم تنجح التحولات المتسارعة التي طرأت على المجتمعات العربية في تغيير التصور السائد عن القراءة. ولذلك لم يرتق النشاط القرائي إلى أن يصبح سلوكا يوميا راسخا يمارسه أفراد المجتمع في جميع الأوقات وفي كل الفضاءات. وما دام الأمر لم يصر إلى هذه الحال فمن البدهي أن يرصد الباحثون والمهتمون بشؤون الثقافة والفكر خللا كبيرا فيما يخص الوضع القرائي في المجتمعات العربية بشكل عام. إذ الأمر عندنا يختلف تماما عن الوضع في الغرب، حيث يشيع الاحتفاء بالمعرفة وتشجيع الباحثين مما لا نكاد نجد له أثرا في واقعنا الثقافي؛ فهناك تقاليد قرائية تجعل الإنسان الأوروبي يقبل على التثقيف الذاتي من خلال قراءة الكتب والمجلات في المقهى والحدائق العامة ومحطات القطار مما يجعل فعل القراءة سلوكا يوميا. أما في المجتمعات العربية فهناك تبخيس ملحوظ للكتاب الذي لا تقبل عليه سوى فئة قليلة تكاد تنحصر في الطلبة والباحثين. ولذلك نجد بعض الكتاب الذين خاضوا مغامرة طبع كتبهم على نفقتهم الخاصة يحتفظون بها في بيوتهم أو يوزعونها بأنفسهم على المكتبات والأكشاك ليكون مصيرها التلف أو النسيان. ومن التجارب التي تنضح بالمرارة أن يقوم الكاتب بإهداء إصداراته الجديدة إلى زملائه من المحسوبين على الثقافة والإبداع، فإذا بعضهم لا يتورع عن التخلص منها. فقد وجد عديد من الكتاب إصداراتهم التي مهروها بتوقيعهم وقدموها هدية إلى أصدقائهم تباع على أرصفة الشوارع بأثمان زهيدة تشعرهم بهوان بضاعتهم وبشاعة ما اقترفته أيديهم.
ومما يزيد من تفاقم أزمة القراءة النظرة الاجتماعية التي تحصر فعل القراءة في فئة خاصة يمثلون نخبة المجتمع وصفوته كما تشهد على ذلك الأرقام الهزيلة الخاصة بتوزيع الكتب والمطبوعات. إذ لا تتجاوز النسخ المطبوعة من الإصدار الجديد ألفين نسخة في أحسن الأحوال. وفي مجال الترجمة لا يتجاوز الإنتاج التراكمي لكل ما ترجمه العرب من عصر المأمون إلى اليوم عشرة آلاف كتابا. وهو يساوي ما تترجمه إسبانيا حاليا في سنة واحدة[3]. وقد تولدت عن هذا الوضع قناعة راسخة مؤداها أن الاشتغال بالكتابة والقراءة عندنا تجارة بائرة والثقافة سلعة كاسدة. ولولا الشغف بالقراءة لدى بعض الأفراد، وهم قلة، لكان العزوف عن تأليف الكتب ونشرها "عين العقل".
ومن المفارقات اللافتة أن بعض الدراسات التي تناولت واقع القراءة في المغرب دأبت على حصرها في المدرسة باعتبارها فضاء وحيدا لممارسة النشاط القرائي. مما يجعل مشكلة القراءة تنحصر في فئة بعينها هي طلاب المدارس والجامعات. وبذلك تغدو مسؤولية تردي الوضع القرائي من نصيب وزارة التربية الوطنية وحدها باعتبارها مكلفة بتدبير قطاع التعليم. وما من شك أن هذا التشخيص قاصر ولا يمكن من وضع اليد على مكامن الخلل بدقة، لأن مسألة انتشار النشاط القرائي أو انحساره لا تخص الأشخاص الذين هم في سن التمدرس فقط، ولكنها حالة اجتماعية تهم جميع فئات المجتمع بقطع النظر عن السن أو المهنة أو الانتماء الطبقي. إذ القراءة هي المدخل الرئيس لمجتمع المعرفة الذي يمثل عماد كل تحول مجتمعي مرتقب. ويستدعي تحقيق هذه الغاية تضافر جهود مختلف الفاعلين (الباحثين والتربويين والمثقفين والسياسيين) من أجل النهوض بأوضاع القراءة والعمل على جعلها سلوكا يوميا يمارسه الناس في المنازل والمقاهي والطرقات.
القراءة واللغة:
لا شك أن عوامل عديدة تبرر الدعوة إلى التخلي عن التدريس باللغة العربية الفصيحة من أبرزها الجمود الذي أصاب معجم اللغة العربية بسبب تقصير أصحابها في تطويرها وتجديدها بما يتلاءم مع مستجدات العصر الذي شهد تحولا هائلا في مجال الاتصال والمعلومات. إذ تقتصر جهود الإصلاح التربوي داخل منظومة التعليم المغربي، فيما يخص تحسين الاكتساب اللغوي، على طرائق تدريس اللغة العربية في انفصال يكاد يكون تاما عن واقع باقي المواد التي يدرسها المتعلم مع أن التوجيهات الرسمية تنص على ضرورة أخذ مبدأ "تكامل" اللغة العربية مع باقي المواد الدراسية بعين الاعتبار[4]. والنتيجة المترتبة عن ذلك أنه عوض أن تسهم المواد الأخرى في ترسيخ تعلمات التلميذ وإغناء حصيلته اللغوية، في إطار تكامل المواد، فإنها تقوم على العكس من ذلك بالتشويش على ما تعلمه التلميذ وحصله في حصص اللغة العربية، لأن أساتذة المواد الأخرى خاصة المواد العلمية يدرسون بطريقة تمتزج فيها اللغة المحكية باللغة الفرنسية في غالب الأحيان. وما من شك أن هذه الطريقة في التعليم لن تقود إلى تعزيز القدرات اللغوية للتلميذ بقدر ما تعمل على تكريس التعثر في تعلم اللغات الذي يعاني منه المتعلم التلميذ أصلا. وتمثل القواعد النحوية أبرز العقبات التي تواجه المتعلم بسبب التفاصيل الكثيرة والمعقدة التي يتعين حفظها. إذ يجري التعامل، في غالب الأحيان، مع قواعد النحو باعتبارها غاية وليست وسيلة لتنمية القدرات التعبيرية والتبليغية لدى المتعلم. ولذلك نجد عددا كبيرا من التلاميذ يحفظون القواعد عن ظهر قلب، لكنهم يعجزون عن القراءة بطريقة سليمة. ويترتب عن ذلك عزوف التلاميذ عن تعلم لغتهم وتعرف تراثهم الثقافي والحضاري. ومن أجل تجاوز المشكلات التي يطرحها تعلم اللغة العربية يتعين التعامل مع دروس النحو تعاملا وظيفيا يركز على الجانب التطبيقي وليس النظري كما هو سائد في المدارس المغربية حاليا.
ومن المظاهر الدالة على أزمة تعليم اللغة العربية أن الإسهام العربي فيما يخص البحوث والدراسات المنشورة بالعربية على شبكة الإنترنت لا يزال ضعيفا مقارنة مع البحوث المتوفرة باللغات الأجنبية. ولا نرى من سبب لذلك سوى ضعف الإنتاج العلمي للباحثين العرب وعدم مسايرته لمتطلبات العصر الذي أضحى فيه امتلاك التقنية الرقمية علامة على التحديث والعصرنة .
القراءة والأسرة:
تعد الأسرة دعامة رئيسة في مجتمع المعرفة الذي تشكل القراءة رافعته الأساس، لكن تحقيق هذه الغاية يظل هدفا بعيد المنال ما دامت معظم الأسر المغربية لا تدرك قيمة فعل القراءة وأهميته بالنسبة إلى الفرد والمجتمع يحول بينها وبين ذلك عوائق عديدة ومتنوعة أبرزها الفقر والأمية. ولذلك لا تعي أغلب الأسر دور القراءة الحرة في بناء شخصية الفرد وتشكيل وعيه بل وتحديد مستقبله ومصيره؛ ففي أحسن الأحوال يتركز الاهتمام على المقررات المدرسية دون الانتباه إلى أهمية المطالعة الحرة في تدعيم وترسيخ المعارف والمهارات التي يحصلها في المدرسة. والنتيجة المترتبة عن هذا الوضع أن غدت المحفظة التي تشتمل على المقرر الدراسي هي الوسيلة الوحيدة لدخول الكتاب إلى المنزل. وفي كثير من الأحيان لا يفتح الكتاب إلا في المدرسة. مما يؤثر سلبا على تجديد المعرفة وتحصيل الثقافة بالنسبة إلى كثير من أفراد وفئات المجتمع.
يتمثل أهم إجراء يمكن أن يقود إلى تشجيع الأطفال على اكتساب عادة القراءة في تقديم الأنموذج الذي يتعين احتذاؤه ومحاكاته، لأنه إذا نشأ الطفل في وسط تنتشر فيه عادة القراءة فإنه سيكتسب هذه العادة. إذ يبدأ الطفل في تقليد سلوكات الكبار وإعادة إنتاجها. فإذا وجد عادة القراءة منتشرة في محيطه العائلي، فإن ذلك سيدفعه حتما إلى الاتصال بالكتاب من أجل إشباع نهمه إلى المعرفة. ومن ثم إدمان القراءة التي تتحول عنده إلى طقس يومي يترقبه بشغف ما دام يحقق له المتعة والفائدة في نفس الآن. لذلك يتعين على الأسرة أن تعمل على الاعتناء بأنشطة الأطفال واكتشاف ميولاتهم من أجل احتضان المواهب التي قد يظهرونها وتعهدها بالرعاية والاهتمام، فإذا أظهر الطفل ميلا إلى القراءة سارعت الأسرة إلى تأمين الوسائل الملائمة التي تدعم هذا الميل وتحفز الطفل على الاستمرار في التواصل مع الكتاب. وفي مقدمة ذلك إنشاء مكتبة في المنزل تتوفر على كتب ومجلات متنوعة تلائم ذوق الطفل ومرحلته العمرية. إذ المضمون المفيد لا يكفي وحده لإثارة اهتمام الطفل. ولذلك يتعين على واضعي الكتاب المدرسي العمل على جذب انتباه الصغار عن طريق الاعتناء بأسلوب العرض والإخراج مثل استعمال الحروف الكبيرة والألوان المناسبة وتزيين الكتاب بالصور والرسوم التوضيحية. ويمكن الاستعانة في هذا المجال بالإمكانات الهائلة التي تتيحها تكنولوجيا المعلومات.
القراءة والمدرسة:
ما من شك أن واقع التعليم، كما تشهد على ذلك أوضاع المدرسة المغربية، لا يساعد على تحقيق مجتمع المعرفة بوصفه مشروعا مجتمعيا ترنو إليه القوى الوطنية الحية في هذا البلد. إذ كيف يمكن المراهنة على المدرسة لتحقيق مشروع نهضوي طموح في ظل منظومة تربوية تقف عاجزة أمام تراجع مهارة القراءة والكتابة لدى المتعلم بسبب عوامل عديدة ومتنوعة لا يتسع المجال هنا لتفصيل القول فيها. وإن كنا نستطيع أن نشير، في هذا المقام، إلى عاملين اثنين لا نتصور أن تقوم للمدرسة المغربية معهما قائمة رغم كل مقترحات الإصلاح التي يمكن أن تتعاقب على منظومة التربية والتعليم. يتعلق الأمر بالاكتظاظ في المدن والأقسام المشتركة في البوادي. فمن المسلم به أن تمهير التلميذ على القراءة يتطلب غلافا زمنيا ملائما يسمح بتدبير أنشطة القراءة وترسيخ مبادئها في أذهان الناشئة. إذ تتحدد وظيفة القراءة المنهجية بالتعليم الثانوي التأهيلي في كونها "إجراء ديداكتيكيا هدفه تصحيح مسار المتعلم القرائي وتنمية رصيده الثقافي وقدرته على الانتقال من فك الرموز والعلامات اللغوية إلى تحليل الخطاب وتفكيك مكوناته"[5]. وهو أمر يتعذر في كثير من الأحوال بسبب الظروف التي يشتغل فيها المدرس المغربي. إذ تسند إليه أقسام مكتظة (تصل الخمسين تلميذا أحيانا). وفي البادية تكون معظم أقسام الابتدائي متعددة المستويات وأحيانا مزدوجة اللغة (عربية- فرنسية) وبنفس الغلاف الزمني المخصص للأقسام العادية. مما يجعل إنجاز واكتساب التعلمات أمرا صعبا ومتعذرا في بعض الأحيان. إذ يجري التركيز، في أنشطة القراءة مثلا، على التلاميذ الذين تمكنوا من فك شفرة الحروف وإهمال التلاميذ الآخرين الذين لم ينجحوا في اكتساب مبادئ القراءة. ومما يزيد في تعميق أزمة القراءة أن الخريطة المدرسية تلزم المدرسين بإنجاح عدد كبير من التلاميذ الذين ينتقلون إلى مستويات أعلى تتطلب كفايات قرائية لا يتوفرون عليها. مما يجعل الفشل الدراسي، في هذه الحال، أمرا محتما خاصة إذا استحضرنا غياب استراتيجية الدعم الموازي غيابا تاما في المدارس المغربية. إذ يقدم هذا الصنف من الدعم عادة للتلاميذ المتعثرين حتى يتمكنوا من اكتساب المهارات المطلوبة في متعلم المستوى الذي يتابعون به دراستهم. والنتيجة المنطقية لكل ذلك أن التلميذ يغادر مقاعد الدراسة دون أن ينجح في امتلاك مهارة القراءة والكتابة. وبذلك نكون أمام مدرسة مغربية غير قادرة على محاربة الأمية والقضاء عليها في صفوف المتعلمين. مما يجعل الدعوة إلى ترسيخ عادة القراءة والتشجيع عليها يبدو، في ظل هذا الوضع، ترفا عقليا أكثر منها حاجة مجتمعية ملحة.
من المظاهر البارزة لأزمة القراءة في المدرسة المغربية سيطرة أسلوب الحفظ والتلقين على حساب تنمية مهارات التحليل والتركيب. والنتيجة المنطقية لذلك ضمور ملكات التواصل قراءة وكتابة، وهي التي تمثل القاعدة التي تتأسس عليها مختلف البنى المعرفية لدى الصغار والكبار على حد سواء بدءا من التعليم الأولي في رياض الأطفال وصولا إلى التعليم العالي في المعاهد والجامعات.
ومن العوامل التي تعمق أزمة القراءة في المغرب عدم الاهتمام بالمكتبة المدرسية هذا إن وجدت أصلا. فهي إما مقفلة في وجه مرتاديها من التلاميذ أو أنها لا تستجيب لحاجتهم بسبب اقتصارها على كتب متقادمة لا يرى القائمون عليها ضرورة تجديدها من أجل مسايرة التحول الحاصل في البرامج والمناهج المقررة ناهيك عن التحديات الكبيرة التي يفرضها التطور الهائل في مجال المعرفة الإنسانية اليوم.
ومما يزيد في تفاقم مشكلة القراءة الاقتصار على الكتاب المدرسي وعدم الانفتاح على مصادر المعرفة الأخرى التي لا تدخل ضمن المقرر الدراسي. فقد ترسخت في أذهان الآباء وبعض المدرسين قناعة ثابتة مؤداها أن القراءة خارج المنهاج الدراسي مجرد مضيعة للوقت الذي يتعين على التلميذ صرفه في تحصيل المعرفة المدرسية التي ستكون موضوع الاختبار. وقد نجم عن ذلك ارتباط القراءة بالمدرسة وحصر الكتاب في المقرر الدراسي الذي لا يشجع على اكتساب عادة القراءة واستمرارها خارج فضاء المدرسة، لأنه في الوقت الذي تركز فيه منظومة التعليم على بناء المعرفة وتوفير المعلومة، فإنها لا تولي أي اهتمام لمتعة القراءة. إذ "يبدو وكأن هناك اتفاقا أزليا، وفي كل بقع العالم، على أن المتعة لا مكان لها في المناهج الدراسية"[6]. إذ تتركز الممارسة البيداغوجية في المدرسة على المناهج التي توظف في تحليل النصوص وتفسيرها من دون التفات في الغالب إلى الأعمال الإبداعية في حد ذاتها. مما يدفع الطلاب إلى النفور من درس القراءة لأنه لا يستجيب لأفق توقعاتهم.
من أجل تشجيع التلاميذ على القراءة يتعين اختيار نصوص تثير فضولهم وتلبي رغباتهم، لأن فعل "قرأ" لا يتحمل صيغة الأمر[7]. ومن شأن وعي الفرد بأهمية القراءة والفوائد العظيمة التي يجنيها من مرافقة الكتاب أن تمثل دافعا قويا لإدمان القراءة. يقول العقاد عن تجربته الخاصة مع الكتاب: "أهوى القراءة لأن عندي حياة واحدة في هذه الدنيا. وحياة واحدة لا تكفيني، ولا تحرك كل ما في ضميري من بواعث الحركة. والقراءة دون غيرها هي التي تعطيني أكثر من حياة واحدة في مدى عمر الإنسان الواحد، لأنها تزيد هذه الحياة من ناحية العمق وإن كانت لا تطيلها بمقادير الحساب"[8].
وما من شك أن ربط القراءة بالمتعة كفيل بأن يدفع طلاب المدارس إلى الإقبال على القراءة، لأن الغاية النهائية من التواصل مع النصوص والخطابات أن يجد فيها القارئ "معنى يتيح له فهما أفضل للإنسان والعالم، وليكتشف فيها جمالا يثري وجوده، وهو إذ يفعل ذلك، يفهم نفسه فهما أفضل"[9]. ولا سبيل إلى تحقيق هذه الغاية من دون تربية التلميذ على القراءة الذاتية. ويمكن اعتبار حصة تدريس مادة المؤلفات فرصة مناسبة يتعين استثمارها من أجل تنمية الكفاية القرائية لدى التلميذ بما يقود إلى تمهيره على قراءة المؤلفات الكاملة التي تتطلب طريقة مختلفة عن الطريقة التي يجري التعامل بها مع النصوص المجتزأة. وبذلك يكتسب التلميذ عادة القراءة الذاتية التي تستمر معه بعد انتهاء فترة الدراسة النظامية. مما يجعل من القراءة فعلا وجوديا يساعدنا على العيش بعمق وليس مجرد سلوك معياري مقنن يقترن بالواجب المدرسي. ولذلك يتحرر منه التلميذ بمجرد مغادرته لمقاعد المدرسة التي تحولت إلى فضاء طارد ينفر منه التلميذ والأستاذ على حد سواء.
القراءة والإعلام:
تكتسي وسائل الإعلام بمختلف أنواعها وأصنافها أهمية قصوى في الوقت الراهن نظرا لقدرتها الفائقة فيما يتعلق بنشر الوعي وقيم الاستنارة. إذ يقوم الإعلام، في النموذج التواصلي الجديد، على وظائف ثلاث هي الإخبار والترفيه والتثقيف. وهي من هذه الناحية تمثل داعما قويا للأسرة والمدرسة في إقامة مجتمع المعرفة. إذ يكتشف المتأمل في المشهد الإعلامي المغربي أن كتابات بعض الإعلاميين كانت تحظى بمتابعة عالية. يظهر ذلك جليا من خلال نسبة المقروئية المرتفعة التي كان تحظى بها أعمدة الرأي التي كان يواظب على كتابتها كل من عبد الكريم غلاب (مع الشعب) وعبد الرفيع الجواهري (نافذة) ومحمد الأشعري (عين العقل). لقد نجح هؤلاء الكتاب في جذب انتباه القراء، لأنهم تناولوا قضايا لها ارتباط وثيق بحياة الناس ومشاغلهم، كما أن تمكن هؤلاء من وسائل الأداء جعلهم ينجحون في إقامة تواصل مؤثر وفعال مع قرائهم؛ فهؤلاء الثلاثة جاؤوا إلى الصحافة من بوابة الأدب وجميعهم يحترفون الكتابة الأدبية ويزاوجون بين الصحافة وممارسة جنس أدبي واحد أو أكثر. وهو ما مكنهم من اكتساب أدوات التعبير بطريقة تدفع القارئ إلى التفاعل مع المضامين الفكرية والسياسية والاجتماعية التي تنطوي عليها كتاباتهم. ويمكن أن ينضاف إلى ذلك التزام كاتب الرأي تجاه قارئه مما يجعل القارئ يثق في آرائه ويتبع توجيهاته. أما في الوقت الراهن فقد تغيرت الأوضاع تماما خاصة بعد التطور الهائل الذي شهدته وسائط الاتصال الحديثة، مما نجم عنه ظهور الصحافة الإلكترونية التي أصبحت تمثل منافسا قويا للصحافة المكتوبة. كما أنها أتاحت للأشخاص مساحة أكبر للتعبير عن الأفكار وتصريف القناعات من خلال التعليق المباشر على الأحداث والتفاعل معها. وربما يكون عمود رشيد نيني "شوف تشوف" حالة استثناء بين كتاب أعمدة الرأي في الصحافة المغربية حيث كان يحظى بنسبة متابعة عالية بالنظر الى القضايا السياسية والاجتماعية التي كان يثيرها ثم أسلوب الكتابة الذي يجمع بين اللغة المبسطة المطعمة بالدارجة وبين السخرية المحببة التي تفتح شهية قارئ الصحف الذي هو قارئ عام في الأعم الأغلب، لكن هجرة الخبر إلى المواقع الإلكترونية (المدوّنات والمنتديات والمواقع الشخصية بالإضافة إلى مواقع التواصل الاجتماعي) يجعلنا في حاجة ماسة إلى إعادة النظر في مفهوم الكتابة الصحفية والأدوات التي تعتمدها لتوصيل الفكرة والتعبير عن الرأي. لقد أصبح الخبر متاحا في المواقع الإلكترونية وما نحتاجه هو التحليل والتعليق والرأي بدل التركيز على المعلومة.
ومما يثير انتباه المتابع للصحافة الثقافية في الإعلام المغربي أنها لا تحظى سوى بحيز ضئيل لا يستجيب لحاجة القراء إلى مادة ثقافية تغذي عقولهم وترضي فضولهم المعرفي. وما من شك أن الإعلام يقوم بوظيفة على جانب كبير من الأهمية فيما يتعلق بنشر الوعي الثقافي عبر التعريف بالكتب وعرض محتوياتها في أفق التشجيع على اقتنائها وقراءتها. غير أن مهمة الإشراف على هذه الصفحات الثقافية يتكل في الغالب إلى إعلاميين غير مختصين في شؤون الثقافة والفكر. مما يجعل الحديث عن الكتب في كثير من الأحيان يتحول إلى مجرد متابعة تنحصر مهمتها في توفير معلومات تقنية حول الإصدار دون أن يقترن ذلك بعرض تحليلي للأفكار والمضامين التي تناولها الكتاب.
يغلب على الإعلام الثقافي العربي قضايا الأدب التي تحظى بمتابعة جمهور عريض من قراء الصحف في حين تغيب الموضوعات ذات الطابع العلمي. مما يجعل القارئ يفتقر إلى الثقافة العلمية التي تمثل مدخلا أساسا لنشر التفكير العلمي الذي يقود إلى تغيير الواقع نتيجة تغير الأفكار والذهنيات. ويرجع ذلك إلى عجز الباحثين والعلماء العرب عن تبسيط المعرفية العلمية وتقديمها إلى الجمهور بأسلوب واضح يجمع بين الفائدة والمتعة في نفس الآن. وما من شك أن اعتناء الإعلام بنشر الثقافة العلمية سيزيد من إقبال القراء على هذا الصنف من المعرفة. مما يجعل قراءة الصحف تتحول إلى عامل مساعد على تحقيق مجتمع المعرفة الذي ترنو إليه النخبة المثقفة.
القراءة والمقهى:
ارتبطت المقهى في مخيال المجتمع التقليدي بصورة سلبية تنظر إليها بوصفها فضاء لا يرتاده سوى الفاشلين في الدراسة وكبار السن من الباحثين عن التسلية وتزجية الفراغ، لكن هذه الصورة النمطية ما لبثت أن تغيرت مع التحولات المتسارعة التي يعرفها المجتمع المديني الحديث. لقد أصبحت المقهى شيئا آخر خاصة بعدما باتت مجهزة بأحدث وسائل التقنية وأدوات الاتصال. وبذلك أصبح فضاء المقهى يتيح للكاتب فرصة الالتحام بجموع الناس واقتحام معترك الحياة بدل العيش على هامشها في برج عاجي منفصل عن الحياة وتيارها الجارف. وهذا الأمر يساعد على توفير المادة الأولية لنصوص إبداعية قادمة تتخذ من مشاهد المقهى وأحاديثها منطلقا لها؛ ففي المقهي يلتقي أصحاب الفكر والمنشغلون بقضايا الإبداع من أجل تدارس أوضاع الأدب وقضايا تداول الكتاب الإبداعي وتلقيه. كما يرتاده الفاعلون الجمعويون من أجل الترتيب للقاء شعري أو ندوة نقدية. مما يسهل على المشتغلين بحقل الكتابة والقراءة فرصة التعارف فيما بينهم والاطلاع على كتاباتهم ومقروءاتهم. وهو ما يجعل من المقهى فضاء ثقافيا، حيث تروج أخبار المؤلفين وكواليس الجوائز الأدبية وآخر الإصدارات.ويمكن للمقهى أن تصبح منطلقا لانتشار عدوى القراءة؛ إذ يمكن أن يتأثر كثير من رواد المقاهي بالمثقفين الذين يرتادونها من أجل الانهماك في قراءة كتاب أو مجلة. وهو ما يساعد على انتشار "عادة القراءة" في صفوف رواد المقاهي. وما من شك أن هذه الممارسات من شأنها أن تجعل من المقهى رافدا من روافد الفعل الإبداعي والثقافي بشكل عام؛ فعديدة هي الأفكار الأدبية والنصوص الإبداعية التي رأت النور في المقاهي كما تشهد على ذلك سير المبدعين واعترافاتهم. فقد تولدت فكرة مسرحية "أهل الكهف" في مقهى تعود توفيق الحكيم أن يجلس عندها كل جمعة حيث تنتهي إليه أصوات المقرئين وهم يتلون سورة الكهف فلمعت في ذهنه فكرة تأليف مسرحية تتناول قصة شباب الكهف وقد استقى نجيب محفوظ كثيرا من أحداث وشخوص رواياته من المقاهي الشعبية التي تعود ارتيادها فقد استلهم شخصية أحمد بن عبد الجواد (السي السيد) بطل الثلاثية الشهير من الحاج فهمي الفيشاوي صاحب "قهوة الفيشاوي" المعروفة في مصر والذي كان فتوة "حي الجمالية".
لقد أصبحت المقهى اليوم جزءا جوهريا من الوعي المجتمعي الجديد باعتبارها فضاء لبث المعرفة وتأصيل قيم التنوير. أما بالنسبة إلى الكتاب والأدباء فإن المقهى تشكل فضاء ملائما لاقتراف الفعل الثقافي واجتراح الكتابة الإبداعية على نحو يمكن من انتشار فعل القراءة وفتحه على آفاق شاسعة تؤمن تداول الكتاب ومعه تنتشر القيم الحضارية والثقافية التي تمكن من ولوج مجتمع المعرفة.
القراءة والرقمنة:
القراءة الرقمية ظاهرة فرضها التطور الهائل الذي شهدته وسائط الاتصال في العصر الحديث بفضل الثورة التكنولوجية التي جعلت من العالم "قرية كوكبية صغيرة". وقد أسهمت المنابر الإلكترونية عامة ومواقع التواصل الاجتماعي بشكل خاص في خلق حراك اجتماعي شمل مختلف مناحي الحياة. وهو ما نجم عنه تحول عميق في الحياة المعاصرة على جميع الأصعدة والمستويات لكونها مثلت فضاء حرا لتدفق المعلومات والتعليق على الأحداث.
وقد اتخذ هذا التحول تجليات مختلفة أبرزها الواقع الافتراضي الذي أدى إلى تغيير كبير في أساليب التعبير وأشكال التواصل كما يكشف عن ذلك فضاء الإنتاج الإلكتروني الذي يتشكل من علامات ضوئية ونصوص أثيرية ورسائل لغوية وغير لغوية سابحة في الفضاء الإلكتروني وجوالة في عوالم افتراضية غير مادية. وهو ما جعل الجميع يوقن بأن هناك عالما جديدا آخذا في التشكل أساسه الحاسبات الذكية والبرامج المعلوماتية وشبكات الاتصال الضخمة. إنه عالم يضج بالكائنات الافتراضية التي لا تعترف بالحدود والمسافات، حيث يجري البث في الواقع الافتراضي من مكان إلى آخر بسرعة الضوء وبصورة فورية تجعل حدود المكان بالمفهوم التقليدي تتآكل وتتضاءل.
لقد أسهمت هجرة النصوص إلى المواقع الإلكترونية (المدوّنات والمنتديات والمواقع الشخصية بالإضافة إلى مواقع التواصل الاجتماعي) في حل أزمة القراءة والنشر. إذ فتحت المجال أمام المبدعين، سواء أكانوا مشهورين أو مغمورين، لعرض أعمالهم والتعريف بإنتاجهم من دون الحاجة إلى المرور من مصفاة دور النشر التي تعتمد في كثير من الأحيان معايير غير منصفة، لأن ما يحركها هو منطق الربح وليس مقاييس الجودة. وهو ما جعل الناشرين يعزفون عن نشر الكتاب مادام لا يحقق لهم عائدات مادية بل إنه يعجز أحيانا عن تغطية مصاريف الطبع وتكاليف النشر والتوزيع. ولذلك تتهافت هذه الدور على نشر أعمال كتاب حققوا شهرة واسعة وحازوا حظوة لدى القراء في حين تعزف عن نشر نصوص الكتاب المبتدئين إلا إذا قبلوا بأن يدفعوا تكاليف الطبع والنشر من جيوبهم. وما من شك أن دور النشر معذورة في ذلك لأن هدفها تجاري ولا يمكن أن تغامر بنشر أعمال ربحها غير مضمون. لذلك ينبغي على المسؤولين عن تدبير الشأن الثقافي في هذا البلد أن يضعوا خطة واضحة المعالم لدعم نشر الكتاب وتيسير اقتنائه. فقد أصبح ارتفاع ثمن الكتاب عائقا يحول بين قطاع عريض من فئات المجتمع من ذوي الدخل المحدود وبين الحصول على حقهم من الثقافة والتنوير.
إن هذه التحولات غير المسبوقة تؤكد أن ثمة ثورة فكرية وجمالية من ملامحها أن مفاهيم كثيرة بدأت تتصدع مثل مفهوم المؤلف والنص والقارئ والجنس الأدبي. وهي المفاهيم التي كان يعتقد أنها صلبة وثابتة. وعليها كانت تتأسس عملية تحليل النصوص وتفسير الخطابات.
خلاصة:
لقد توخينا من هذه المقاربة تشخيص واقع القراءة في المغرب تشخيصا واضحا وكاشفا انطلاقا من تصور يرى أن الوضع القرائي شأن مجتمعي لا ينفصل عن أسئلة الثقافة المغربية في كل الأوقات. ولذلك انطلق البحث من فرضية منهجية أساس مؤداها أن النهوض بأوضاع القراءة شرط أساس لولوج مجتمع المعرفة. ونظرا للأهمية القصوى التي تحظى بها مسألة القراءة، فإن الأمر يتطلب تضافر جهود مختلف الشركاء والفاعلين من أجل بلورة مشروع وطني تحتل فيه القراءة مكانة مركزية باعتبارها رهانا مجتمعيا يأتي في مقدمة مختلف مشاريع الإصلاح التي يمكن أن تبلورها وتدعو إليها القوى الوطنية الحية. إذ ما من شك أن الاعتناء بأوضاع القراءة يمثل البداية الحقيقية لكل تحول تاريخي مرتقب.
[1] -نبيل علي، العقل العربي ومجتمع المعرفة، المجلي الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ع 369- 2009 ص: 73
[2] - عبد الله العروي، العرب والفكر التاريخي، المركز الثقافي العربي، البيضاء، ط 5_ 2006، ص: 43.
[3] -نبيل علي، الثقافة العربية وعصر المعلومات، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الأعلى الوطني للثقافة و الفنون والآداب، الكويت، ع 265-2001ص: 33
[4] - وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين الأطر (المملكة المغربية)، البرامج والتوجيهات الخاصة بسلك التعليم الابتدائي، شتنبر،2011،ص: 19
[5] -وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي (المملكة المغربية)، التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس مادة اللغة العربية بسلك التعليم الثانوي التأهيلي، نونبر، 2007، ص: 36
[6] -دنيال بناك، متعة القراءة، تر. يوسف الحمادة، دار الساقي، بيروت، ط1- 2015ص: 72
[7] -دنيال بناك، متعة القراءة، ، ص: 13
[8] -عباس محمود العقاد، أنا، المجموعة الكاملة، المجلد الثاني، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط1- 1982 ص: 103
[9] --تزيفتان تودوروف، الأدب في خطر، تر. عبد الكبير الشرقاوي، دار توبقال للنشر، البيضاء، ط1- 2007، ص: 15
د.مصطفى الغرافي
أستاذ البلاغة والنقد/ جامعة مولاي اسماعيل بمكناس