صرّح القاضي بحكمه على ياسر دون أن يرفع إليه بصره ليحدق في عينيه، ثم راح يقلب أرواقه بيد مرتبكة وهو يقرأ بعض التفاصيل من وراء نظاراته السميكة محركا أصابعه في حركة رتيبة، وأمر مساعده بمناداة اسم المتهم الموالي، ودون اكتراث بالضجيج الذي علا في القاعة، راح يسأله عن سبب محاولته اجتياز الحدود خلسة.
"الإعدام شنقا حتى الموت"، ظلت هذه الكلمات تتردد في ذهن ياسر الليل طوله وهو يئن في ظلمة الزنزانة منتظرا حلول الساعات الأولى من صباح اليوم التالي، ففي مثل تلك الساعات اعتاد الحراس تنفيذ أحكام الموت على المحكوم عليهم بها، ففي مثل تلك الساعات يصفو الدم في الجسد وتهدأ النفس فلا تصدر الضحية ضجة أو صراخا، يأتيها الموت يسيرا، تسافر الروح لتعرج في السماء، تستقبل الموت في صمت، فللموت رهبته وهيبته وسطوته. في مثل تلك الساعات لا يرى الضحية وجوه مُعدميه، وجوههم مقنّعة لا تُرى إلا عيونهم بنظراتها الثاقبة الجافة الجارحة. لا يسمع إلا أزة الكرسي تحت قدميه، لحظات وينتهي كل شيء، يتدلى الجسد في استسلام، يُدق العنق، تكاد أذنه اليمنى تلامس الكتف، وتظل العينان مفتوحتين على آخرهما تحدقان في منفذي هذا الحكم القاسي، ففي الحدقة تنطبع صورة القاتل، وترسم ملامحه.
تململ ياسر في الزنزانة، الظلمة تحجب عليه رؤية الزوايا المعتمة، يرهف السمع، حركة خفيفة تملأ المكان، يصمت تماما، يقطع نفسه، يتكور على نفسه، يصير كقبضة اليد، يسند رأسه على الجدار، ينطبق الصمت إلا من دبيب أقدام صغيرة فوق البلاط، فأر دفعته المزاريب إلى داخل الزنزانة، جاء باحثا عن الموت، عجيب، الكل يفر من الموت وينفر من رائحته الرهيبة، وهذا الفأر يأتيه طوعا. أو ربما جاء محملا برسالة من الذين تركهم ياسر في الخارج، ماذا عساهم يقولون له سوى أن يتمنوا له الصبر.
"أنعم بحريتك أيها الفأر، وادخل واخرج كما تشاء، خذ بعضي وارحل بعيدا، أرني بعض النور، احملني إلى الشوارع والمقاهي والحدائق والحانات والساحات، أخرجني من هذا المدى الممتد من الحزن والألم والخوف، لقد ضاقت النفس، ألم تسمع أيها الفأر يوما حكما بالإعدام؟ ألم تر يوما محكوما عليه بالإعدام؟ ألم تر يوما رداء القاضي وهو يجلس على كرسيه الوثير الدوار ينهي حياة امرئ ما زال يعشق الحياة ويتعلق به؟ ألم تر يوما محكوما عليه بالإعدام يبكي لأنه ترك خلفه أمًّا بلغت من العمر عتيا، وزوجة ما زالت ترسم على كفيها أحلامها، وصغيرين تعلما للتو كتابة كلمة "بابا" وكتباها بالطبشور على جدران المنزل وعلى جذوع الأشجار وفوق المناضد وعلى كراسات القسم".
سكنت الحركة وبلغت مسامع ياسر ما يشبه اصطكاك الأسنان، فتخيل الفأر يقف على قائمتيه الخلفيتين أمامه مستندا إلى الجدار يصغي إليه وعيناه تذرفان دمعا حارا كالجمر، لكنه عاجز عن فعل أي شيء، فالحكم قد صدر، والأبواب موصدة، والمجاري ضيقة، وساعة تنفيذ الحكم تدنو على مهل، والفكر مشوش، والمدية تبلغ المدى في القلب فيتناثر الحزن وتختلط الأصوات ويتداخل صرير الأبواب بآهات المساجين وأنينهم.
الجسم المكدود، والقلب المكلوم، والتصفيق الذي ملأ القاعة عند نطق القاضي بالحكم، وصوت امرأة يرتفع "يحيا العدل"، ودموع أخرى تدير وجهها لكي لا تلتقي عيناها بعيني ياسر، وأربع أياد ترتفع في الهواء ملوحة دون أن تعي معنى كلمة إعدام. لكن الحكم صدر والقاضي أمضى عليه ومضى متبخترا في ردائه الأسود دون اكتراث بكل الذي خلّفته كلماته من أوجاع وأحزان.
اخترق صوت المؤذن الجدران وصمت الهزيع الأخير من الليل، ثم تلاه صوت صرير باب الزنزانة فأضاء ظلمتها ضوء خافت منبعث من أقصى الرواق، ورجلا أمن بزيهما الرسمي يقتادان ياسر دون أن ينبسا بكلمة.
أزفت الساعة، وياسر يسير متعثرا في حزنه وارتباكه وخوفه ويداه مشدودتان إلى الخلف، وعلى جانبيه يمشي الأمنيان في حركات موزونة، وفأر الزنزانة يسير محاذيا الجدار ليشهد أول إعدام في حياته.