لكم أحببنا ذلك العجوز الذي ظهر فجأة في حينا، أفقنا ذات صباح خريفي نديّ فوجدناه بيننا، رأيناه جميعا كما شمس سطعت فوق رؤوسنا، و اختفى فجاة ذات رحيل دون أن يخبر أحدا، و بين ظهوره و أفوله، حكايات يرويها أطفال الحي الذين جمعتهم به علاقة حميمة امتدت جسورها رغم تحذيرات الأمهات بعدم الاقتراب منه، لما يعتقد فيه بعضهن من نحس و شر يخفيهما بين جنبيه و في نظراته، فقد أدعت إحداهن أنها رأته ذات مساء يخرج قاروة خمر، و يعب منها في جوفه، و عيناه تحملقان في محجريهما كأنهما تراقبان الزقاق خوفا من أن يلحظه أحد السكان، بل و أقسمت أنها لم تصدق ذلك في البداية، و لم تشك في أنه عم العيد، لكنه حين دنا من البيت عرفته بملامحه التي لا تخطئها، و ساندها زوجها حين ذكر أنه لمحه يفعل ذلك متجاهلا نظرات الفضوليين و هو يقف داخل الخرابة التي يلجأ إليها أحيانا. أما جارتهما، فقد أكدت أن عم العيد ليس بالرجل العادي، فقد رأته في إحدى الصباحات يجلس القرفصاء أمام الموقد الملتهبة جمراته يتدفأ، و كلما عنّ له أن يلتقط جمرة و يلتهمها، فعل ذلك دون تردد و دون التياع، غير آبه بما يحدث للسانه أو للهاته و غير مكترث باندهاش العابرين. لكن لا أحد صدّق ذلك أو اهتم به و ظل عم العيد ذلك الطود الشامخ العنيد.
زارنا عم العيد في أحلامنا و في يقظتنا، في ليالينا و في نهاراتنا، زارنا مع انبلاج الفجر و مع غروب الشمس، أيقظ فينا مشاعر الحب، و ألهب فينا الإحساس برجولة مبكرة لا تناسب طفولتنا الغضة، يداه المعروقتان تشهدان له بالقِدَم، و عيناه الغائرتان الكامنتان في محجريهما تنبئان عن العذاب الذي قاساه خلال سنوات مضت، جبينه المتغضن يكاد يصرخ ألما و حزنا، و رغم كل أمارات الشقاء فلم يكن يلقانا إلا مبتسما ودودا، قانعا بما قسمه الله له، راضيا بحكم الله فيه، لا يحدث أحدا إلا و هو يحدق في الأرض كمن يبحث عن شيء، يحدث جليسه و هو يرسم خطوطا متقاطعة بالعصا التي لم تفارق يوما يده.
لكم أحببنا ذلك العجوز الذي حل بيننا و اختفى فجأة تاركا في أنفسنا الصغيرة سؤالا معلقا لم نحر له جوابا، و لم يجبنا الكبار عنه. كنا صغارا و كان شغفنا بالحكايات العجيبة كبيرا، أذكته فينا ليالي السمر حول الجدات اللاتي هجرهن الكبار و النوم فلم يجدن غيرنا يلكن به لياليهن المقفرات الموحشات، فكنا نتحلق معهن حول المواقد الطينية المستحيلة جمراتها إلى رماد و مع ذلك تظل أيدينا ممتدة نحوها في بحث طفولي عن حرارة نعلم أنها لن تنبعث منها و أن النار التي خبت فيه لن يعلو لهيبها و لن تتقد شراراتها... و كان عم العيد يعرف الكثير من تلك الحكايات، و بها كان يخيفنا و يطمئننا، ثم يعود ليخيفنا من جديد، تعودنا على أسلوبه في التلاعب بعقولنا و نحن الصغار الذين بدأنا ندرج في الحياة، أحدثت فينا بعض حكاياته رعبا حقيقيا، و في بعض الليالي التي يستبد خلالها الخوف بنا، كنا نرفض العودة إلى بيوتنا، فيقف عم العيد في وسط الزقاق و يرافقنا بنظراته و صوته الذي يتردد صداه في كل الأرجاء، في نفوسنا و في الجدران و في الأبواب الموصدة، كان يرافق كلاًّ منا حتى نلج إلى الغرف نصف المضاءة ليدس كل واحد رأسه في حضن أمه و هو يرتجف. و بقدر ما أرعبتنا حكاياته فقد كنا نحبه، كنا نحمل إليه أفراحنا و طفولتنا و أحلامنا و ننثرها أمامه فيسكب عليها عطر ذكرياته فتثمر أهازيج السعادة التي تغمرنا.
وحده حل بيننا، نبت فجأة كالفطر، لم نعرف له أهلا و لا أبناء، وحيدا جاء بلا أحبة، كأن السماء أمطرت فأنزلته، و حين رحل سرعان ما نسيته ذاكرة الحي، كأن لم يعش فيه يوما، تناساه الرجال و النساء، ظلت ذاكرتنا، نحن الزغاليل تحتفظ به في مواضع مختلفة منها، أفقنا ذات صباح فلم نلمحه، سألت عيون بعضنا البعض عنه في صمت فلم تجب إحداها الأخريات، ظننا أنه غاب لقضاء شأن و سيعود، لكنه لم يعد، بحثنا عنه كامل اليوم فلم نجده، ، ذهبنا إلى الخرابة التي يلجأ إليها بعض الأحيان، تجولنا بين الحقول بحثا عنه، بلغنا الوادي المجاور للقرية، فلم نعثر عليه، و حين وصلنا الكوخ الذي يتخذه مأوى أصابتنا بخيبة موجعة، فقد كوّم كل ملابسه و فراشه و بعض أوراق الصحف و أضرم فيها النار فأصبحت كومة من الرماد، كان كمن عزم على رحيل أبدي، أحسسنا أننا فقدنا شيئا ثمينا ما كان لنا أن نفرّط فيه، اختفى، كأن الأرض قد انشقت و ابتلعته، أحرق ذاكرته و رحل، أجج قي قلوبنا لهيبا من النيران و رحل. وقفنا ننظر إلى بعضنا البعض، ثم تفرقنا كل يؤلف في خياله سببا لرحيل عم العيد، وحده الله كان يعلم ما حدث.
ما زلت أذكر عم العيد رغم مرور كل تلك السنوات، و رغم البعد عنه فما زالت ملامح وجهه موشومة في الذاكرة لم يتلف الزمان أثرها...غاب عنا عم العيد، غيبته عنا رغبة جارفة دعته إلى الرحيل، احتوته مدائن أخرى و احتضنته أزقة أخرى، لم يألف طيبة أهل حينا فلبى نداء أحياء أخرى، اشتاقت نفسه للأزقة الضيقة و للمدن العامرة بالحانات و أكوام الفضلات فارتمى في أحضانها.
في ركن قصي من الذاكرة، يسكن عم العيد بشعره الأبيض المرجل، بجبينه المجعد، بوجهه الكالح، بصمته المتواصل الموحش، كان كأنه يحمل في ذاكرته فجيعة ماضينا و خيبات أسلافنا الذين نبشوا بأناملهم الخشنة الأرض و قبروا في جوفها أسرارهم، لكنهم نسوا أو تناسوا أن يضعوا فوق القبر شاهدة يهتدي بها إليهم العابرون أو الراغبون في العودة إلى زمن جميل أفل...كم قد بحثنا معه عن ذلك المكان، و كم قد نبشنا معه التراب، كان يستحثنا و يضحك خلسة، كان يدرك أننا عبثا نحاول، و كان يدرك أننا لن نقدر على فك طلسم تعويذة الأسلاف حتى و إن وجدنا بقاياهم. و عندما تخور قوانا و تلفح أشعة الشمس أجسادنا الغضة، كان عم العيد يرافقنا و يجلس و نحيط به في ظل شجرة الصفصاف الشاهدة على ميلاد حينا و غيره من الأحياء المتناثرة في كل مكان، يروي ظمأنا بأحاديثه العذبة و حكاياته الممتعة التي لا تنتهي، فننسى التعب و الجوع و العطش، و تطوح بنا أهازيجه إلى عوالم قصية لا ندرك خفاياها و لا نفقه كنهها، وحده عم العيد كان يتفاعل مع ما تنثره أمامه ذاكرته، فيضع راحتيه على أذنيه و تنطلق عقيرته بغناء موحش، و كثيرا ما كان ينقطع عن الغناء و ينغمس في بكاء مر حارق، و تفيض عيناه بالدموع.
سألنا آباءنا عنه فلم يجيبونا، و بحثنا عن أخباره في عيون الأمهات فنهرننا بقسوة.
تحتضن ذاكرتنا بقايا عم العيد، فحتى الخرابة التي أوى إليها قبل أن نبني له الكوخ الذي سكنه، أطلقنا عليها "قصر عم العيد"، و شجرة الصفصاف الشاهدة على لقاءاتنا أسميناها "صفصافة عم العيد"، عيد كان يوم لقائنا به، و أعياد كانت تلك الأيام الخوالي التي قضيناه و عينه ترعانا عندما كانت أمهاتنا يتناثرن بين الحقول في الصباحات الباكرة خلال مواسم الحصاد ليؤمنّ لنا عيش سنة.
ذاكرة حينا كذاكرة الأحياء المجاورة، تشيخ و تفنى سريعا، و تنمو مكانها ذاكرة جديدة بنفس السرعة، و بين فنائها و نموها، تكون قد طمرت تاريخا و شيدت تاريخا جديدا تُخَط فصوله على هوى مشيّديه.
عندما أتيحت لي ذات صيف زيارة المدينة رفقة والدي، كنت أسير خلفه متعثرا و عيناي تبحثان في الزوايا و تحت الجسور و على عتبات الدكاكين المغلقة، كنت كمن يبحث عن شيء ثمين فقده، استحالت كل الوجوه وجه عم العيد، و أصبحت أصوات الباعة أهازيجه، عبثا كنت أبحث عن إبرة في كومة قش. أمضيت ذلك اليوم و أنا ألهث بين ذاكرتي و والدي، و عندما امتطينا الحافلة بعد الزوال، لمحته يجر أسماله، نعم رأيته، بشعره المرجل المسدل على كتفيه، بتجاعيد وجهه، و غضون جبينه...لمحته و هو يمر حذو الحافلة، فرحت، صرخت، رغبت في النزول، لكن يد الوالد جذبتني بقسوة، و عندما حدقت في عينيه من وراء البلور لمحت فيهما بقايا طفولتي الآفلة و حبا يتلاشى و عمرا يتهاوى.