استفاق ، أو هكذا بدا له ، استغرق عدة لحظات ليتذكر أنه على موعد لاجتياز مقابلة أخرى من أجل وظيفة معينة بتوصية ما .
غسل سحنته الداكنة و بالكاد انتبه إلى أنه لم ينزعج من برودة الماء رغم البرد القارس . وصل في الموعد المحدد بالثانية ، وتوجه مباشرة إلى أول موظفة وقع عليها بصره ، كانت تجلس خلف مكتب منظم بشكل أنيق ، سرد لها سبب حضوره بدون مقدمات طويلة ، كانت تستمع إليه و هي تشتغل على مجموعة من الأوراق أمامها كانت جميلة ، و مع ذلك لم يقف طويلا عند هذا التفصيل ، خاطرة ما أوحت له بأنها تشبه الغزال تماما ، جميلة و لكنها هادئة أكثر من اللازم بل هادئة بشكل يدعو للتخمين أنها متبلدة الفكر ، لا شيء يمكن أن يعلق بالفكر بعد الحديث معها سوى الجمال الخارجي ، هذا ما أخبرته به نظرتها الساهمة . حولته بأقل مجهود إلى مكتب يوجد في طابق آخر .
مشى و خاطرة الغزال الغابوي تمرح و تسرح في فكره ،
طرق الباب بأدب مبالغ لكن راعه أن خنزيرا ضخما كان يجلس خلف المكتب الأنيق ، خنزير بسيجار ملتهب و ربطة عنق و كل الإكسسوارات الأخرى ، متعرق الرقبة بشكل مقيت .
أشار إليه بأن يدخل ، لم يكن ودودا بشكل واضح ، و كان كلامه كخوار الثور أجش و بلا نغمة أو أفكار واضحة .
سرد عليه مرة أخرى سبب مجيئه ، لم يحفل كثيرا بالملف الذي وضعه أمامه بأدب جم ، ظل بصره مركزا عليه و على حركاته .
ثم جاء الفرج عندما دخلت موظفة بعجيزة ضخمة و عنق طويل طويل بدت له مثل أنثى النعامة ، دخولها جعل الخنزير يغير موضوع تركيزه و تنفرج شفتاه الغليظتان عن ابتسامة مائعة بليدة . تبادل معها بضع كلمات ثم انحنت عليه حتى كادت خصلات شعرها تحترق بالسيجار . كانت مبتهجة بشكل مستفز ، مع روائح غير بريئة تفوح منها .
عندما عاد المدير إليه كانت ملامحه قد استعادت خنزيريتها، ومع ذلك بدا أنه لم يقف على كلمة واحدة مما سرد له مقدما :
-قلت أنك حاصل على ..
-دبلوم من مؤسسة كذا تخصص ...
قاطعه :
-لايهم ، ستشتغل في المخزن .. أسفل .
-أي شيء ..
عندها قادته النعامة إلى المخزن ،خيل إليه أنه ينزل سردابا في غار نمل ، و فعلا في الحجيرة المنتنة المعتمة في الأسفل كانت هناك جحافل من النمل الأسود و الأبيض و الأشقر الضخم تتحرك بلا توقف . أفزعه المنظر و تباطأت خطواته ،حاول التراجع لكن أنثى النعامة سدت عليه السبيل و نفشت ريشها ، ثم تحركت بعض النملات الغاضبة نحوه بإشارة منها و حاولت الامساك به لكنه تخلص بصعوبة من مجساتها المتطفلة و حاول الركض ، كان يجري في الممر الذي صار لزجا زلقا و لذلك كانت خطواته بلا معنى .
دفع و دفع بيديه في كل اتجاه محاولا الهرب كانت صرخاته مكتومة و خطواته غير مجدية ، ظل يركل في الفراغ حتى ...
استيقظ ، كان العرق يتصبب من جبهته و جسده تحسس جسمه الذي أوشك أن يتحول تدريجيا إلى نملة سوداء بمجسات طويلة ، عاد إليه رشده بصعوبة .
خبطات ثقيلة على الباب تبعها صوت بوشعيب جاره في السكن :
-حلم جديد يا غانم ، سأل الصوت من خارج الغرفة .
- بل كابوس جديد .. غمغم دون أن يتأكد من أن صوته وصل للخارج .
نهض بعد لحظات متثاقلا إلى المغسلة ، غسل سحنته الداكنة و بالكاد انتبه إلى أنه لم ينزعج من برودة الماء رغم البرد القارس.
كان حتما على موعد مع مقابلة أخرى ، من أجل وظيفة ما ...