في اللحظة التي تتلو ضغطة زر الكهرباء و انطفاء النور ، في تلك اللحيظة القصيرة جدا و الحاسمة ، خيل إليه أنه رأى شخصا يحدق فيه ببرود مخيف من بين طيات الظلام المنسكب. أعاد إشعال المصباح بسرعة و أرخى السمع مترقبا أي حركة تدل على وجود ذلك الشبح المتخيل ، لكن لاشيء .
أعاد إطفاء النور و بدأ يحس بتلك القشعريرة الغريبة تسري في جسده ، سرت كالتيار الكهربائي انطلاقا من رأسه نازلة عبر شرايين جسده متدفقة مع الدم لتصل إلى مفاصله، انتصب شعره و شدة هواجسه تزداد شيئا فشيئا . سبح خياله في الظلام الدامس متخيلا العفاريت و الجثث و الجنيات المتعطشة للدم و الأعضاء البشرية تحوم حوله ، أحس بعيون ما ترمقه في الظلام و أحس كأن أياد مجهولة تحاول لمسه و الامساك به ، زاد تحفزه و ارتفعت حدة سمعه حتى صارت أدق حركة تبلغه و كأنها تبت عبر مكبر صوتي .
وسواسه المزمن صار قنبلة موقوتة تفجرها أول فكرة مخيفة صورا مرعبة و قصصا قديمة و حديثة تخرجها الذاكرة المستفزة دفعة واحدة بلا منطق و بغزارة .
تكوم على نفسه تحت الغطاء و ترك حرارة جسمه ترتفع ، كان طفلا في الخمسين من عمره بقسمات جدية صارمة عجنتها سنوات من الخبرات و المواقف ، لكنه لم يكن يجد مبررات منطقية لهذه النوبات الغبية ، نصحوه كثيرا بأن يعرض نفسه على طبيب و لكنه كان يعتبر الأمر أتفه من أن يتنازل و يلجأ لمساعدة أحدهم .
-كيف لازلت تخاف الظلام في هذا السن؟ يتهكم المقربون منه .
-لا أخافه ، من قال إنني أخافه ! كل ما في الأمر أنني قضيت زمنا طويلا في العتمة فصرت أميل إلى البقاء في النور .
كان ينجح في الالتفاف على تشخيصات الآخرين لحالته بل كان يبدو واثقا من كل حرف يقوله .كثيرة هي الافتراضات التي بناها الآخرون حول حالته متعاطفين أو محاولين التفهم ، ربما يكون مريضا ، ربما يكون ممسوسا أو ربما يكون تعرض لصدمة ما في مرحلة ما هذا ما يقوله الجميع بل ويضيف بعضهم في ثقة :
-و ما الغريب ؟ إنه يخاف الظلام ، لكل إنسان ما يخافه ، ما شأننا و مخاوفه ؟ .تفصيل واحد صغير كان يهدم كل هذه الافتراضات ويزرع في الكلام مساحات تساؤلات اضافية شاسعة فقد كان صاحبنا " كفيفا".