إلى أطفال الجبل، حيث من شيم الكرامة تقديم الدفء قبل الأكل
على الأرض بسط الثلج هيبته، وبين الأجواء باثٌ أنفاسه الرطبة؛ خرجت.. فتلقفتها أذرعُه الباردة، عصرتْ له أضلعَها وكزَّت على أسنانها لتحدَّ من ارتعاشها وتصدَّ بعض وخزاته. خطت خطوات ثم التفتت وراءها فتبدّت تحت عينيها الخضراوين أثارُ أقدامها الصغيرة على الصفحة البيضاء الطرية، استفزها الشكل فتوقفت لتقارن بين الرسم والمرسوم غير أنها سرعان.. ما انشغلت بمدّ جوربيها الممزقين على كعبيها المتشققين النازفين اتقاء عضات البرد الغاشم؛ وهي تقف سقطت بعض أضاميم نعناع بري وزعتر خضراء ندية، لملمتها على عجل وحثت الخطى تتطلع إلى الطريق الرئيس المرصوف برتل من السيارات القادمة من وراء الجبال.
الرتل متوقف.. لعل كاسحة أمامه تزيل ما تساقط من الثلج طوال الليل. استغلت بعض الأسر اللحظة و انتشرت على طرفيْ الطريق لتلقي عنها بعض العياء وتمسح عن كواحلها بعض انتفاخ؛ الجميع – دون استثناء – منتش فرح يتملى المشهد العائم في البياض ، ويستعظم جغرافيته إلا هي كانت جوارحها كسلى لا تحركها إلا نبضات قلق و رجات حزن ثقيل.
استرعى انتباهها طفلة في عمرها تجري جذلى وتزرع ضحكات صاخبة وراءها، تعتمر قبعة حمراء وتلبس معطفا من فرو ينحسر عند منبث فخذيها وفي قدميها ظهرت جزمة جلدية، وإلى صدرها كانت تضم دمية كبيرة؛ جلست القرفصاء تتابع حركاتها وسكناتها؛ تمنت لو كان لها ثياب مثلها ولها ذات الدمية بدَلا من تلك الخيطية التي صنعتْها لها ذات عاشوراء جدتُها.
ركزت على الطفلة وهي تجلس أيضا القرفصاء على مقربة منها، كم استلطفت حركاتِها وهي تضع دميتها جانبا وتجعل تجمع الثلج حول ركبتيها دون أن تزيل عن يديها قفازيها !.
" لعلها تريد أن تصنع رجل ثلج مثل ما في كتاب القراءة " تمتمت.
لما صار الركام الثلجي يطاول قدها وهي قعود ، ارتفع هدير المحركات وبدت تتزحزح أوائل السيارات واختلطتْ أصوات التنادي، نفضت عندئذ يديها من حبيبات الثلج وقصدت – جارية - سيارة العائلة.
ظلت ــ هي ــ تتابعها تتأمل عن بعد بعينين فاحصتين هندمتها الجميلة فلاحظت أنها نسيت دميتها، ركضت حيث كانت القرفصاء وحملت الدمية وانطلقت عادية وراءها وهي تصيح بأعلى صوتها: (بنت... يا بنت... ) لكن الطفلة لم تستجب ، فالضجيج كان بلا شك أقوى من ندائها...
توقفت لتأخذ أنفاسها وبيمناها كانت تضم أضاميم النعاع البري والزعتر و بيسراها لُقْيتها،غمغمت: " ليتني أسرعت أكثر... ولكن... ربما أرادها لي القدر هدية منه"
أحست وكأن روح الاستئثار تستعظم في داخلها فمجتها من قرارها اجتثاثا ورددت في داخلها " علي أن أجد صاحبتها فأنال تواب الله وأربح من رب العائلة ربما... بعض الدريهمات..."
وصلت حيث حط حجاج الثلج رحالهم ، وأضحت تطوف، وتطوف بحمولتها البائسة بينهم ، صامتة مكتفية عدا بالوقوف كتقنية عرضٍ لسلعتها، فكان ذا يشم، وتلك تأخذ صورة وهؤلاء يساومون وقلة هم من يشترون...
لم تبال لعضات القر وهي تقرص أنفها وحوافي أذنيها، لكن الجوع هزها، كان أكثر ضراوة، أخرجته من قمقمه روائح الطبيخ فبات يشغل فكرها، لتنومه أخرجت كسرة خبز من جيب لها وبدأت تلوكها على مهل وهي تمسح بعينها المثقلة بؤسا وحزنا المقاهي والمطاعم الممتلئة حد التخمة ، اقتربت أكثر لعل أحد روادها تستهويه تجارتها؛ فجأة لمحت صاحبة القبعة الحمراء من خلال زجاج المطعم فأشارت إليها أملا في أن تراها لكن الطفلة لم تبال بها ولم تهتم، عندئذ رفعت الدمية عالية وصارت تحركها فوق رأسها، نجحت الحيلة فخرجت الأم عندها.
دون مقدمات قالت الصغيرة:
ـ هذه دمية ابنتك ــ يا سيدتي ــ تركتها هناك عند طرف الطريق، قد جاهدت لألحق بها لكنها كانت للأسف أسرعَ مني.
انحنت المرأة و بحنو ضمتها وقبلتها، وقالت لها بصوت دافئ:
ــ شكرا لك يا صغيرتي ذا نُبل منك وشهامة بتنا نفتقده هذه الأيام، هل ممكن لك أن تشاركينا طعامنا يا... عفوا ما سمك؟
ــ (تِعزة .. )
أجابت الطفلة.
ــ مرة أخرى... يا ( تِعزة ) هلْ يمكن لك أن تجالسينا
اِوْردَّتْ خداها الشاحبتان، وتدفق من قلبها دم ساخن أفاض على البدن المهدود دفْئا أنعشه، وبعد تردد قالت:
ــ سأكون في غاية السعادة ــ يا سيدتي ــ وأنا بينكم .
سحبتها من يديها وعبرت باب المطعم تحت نظرات النادل المستغربة وبعض الفضوليين، ثم دعتها لتأخذ مكانا على كرسي بينهم.
من حيث لا تدري أخرجت المرأة قبعة حمراء، ومعطفا من فرو، وجزمة جلديةً، طقماً يضارع ما ترتدي ابنتها، ثم ألبستها إياه.
مرآة حائطية كانت أمامها عكست لها صورة فتاة في غاية الحسن والجمال، لا علاقة لها بتلك الصبية الجبلية التي كانت إياها قبل قليل، وهي في فرحة لا تسع صدرها الصغير قرّب لها والد الفتاة الصحون الملأى بشهي الطعام ودعاها للأكل.
انخرطت في الجو العائلي وصارت تحكي لهم عن بيتها الصغير وما تقاسيه أسرتها من شظف العيش، ولم تنس أن تحدثهم عن تفوقها الدراسي وأمنيتها بان تصير طبيبة للأطفال.
دب الدفء في أوصالها وصارت تحس بأطرافها المتيبسة من الصقيع، وعاد مارد الجوع إلى قمقمه تاركا وراءه بطنا شبه منتفخة...
فجأة سمعت همهمة كدوي الرعد، التفتت فرأت الجبل الجليدي يهوي، ينهار ويتحول فتاته مدا هائلا يطوي كل من وما في طريقه، ورأت أيضا والديها يمدان لها أياد طويلة من خلال الزجاج، حاولت أن تقوم لكن الثلج غمرها وكتم بثقله أنفاسها وشل حركاتها..
صباح اليوم الاثنين لم تحضر( تعزة ) للمدرسة، الكل كان يبكيها، أصدقاؤها، معلمتها، كان يقال: إنه لم يُكتب لها النجاة مثل والديها وماتت اختناقا بحطب التدفئة.