تنهدتُ بضيق بعد أن قضيتُ نهارا شاقا ومتعبا في تمثيل دور الأبله للأطفال، استدرتُ نحو النافذة الصغيرة المطلة على الحديقة الخلفية للبيت والجدار الإسمنتي الذي يحيط بها، تذكرتُ الغارة الكبرى والأقدام الهمجية التي وطئت بيوت أهلي بحثا عن الذهب الأسود والأصفر والرصاص الذي فَرَّقَ شمل أحبابي من على الأغصان كتساقط النبق الهشيش إثر حجارة صبي مشاغب يرمى الشجرة لان قامته الصغيرة لم تبلغ بعد حد الثمار الناضجة.
تذكرتُ أنين الأشجار حين لامست مناشيرهم الكهربائية وهم يفترسون الغابات ويفرشون الأرض بالفحم ويغلقون منافذ الهواء والغناء.
تذكرتُ السهول الخضراء التي تتحول إلى بحيرات جميلة في الشتاء نشرب منها الماء ونواصل رحلاتنا السعيدة في البر والسماء، تذكرتُ البراري الواسعة ومساحات أصواتنا الدافئة التي تتفسّح في أحضانها وأتساءل وحدي كيف وصلنا إلى هنا؟
***
اسندُ ظهري إلى القضبان كي تنفضني صلابة الحديد من رمال اليأس، باردة جدا القضبان لكنها قوية كافية لتكون الداعمة لي وأنا احضن طيفك الساكن في خيالي والدموع تنهمر على خدي، يا ليتك سمير في هذه الليلة الأخيرة كنت برفقتي... افتقدك كثيرا، اشتقاق إليك ولغنائك العذب الذي كان يحلق بیّ إلى أعلى آفاق النشوة والسرور، كم افتقد تلك النظرات الساخرة والمفعمة بالحب لي وأنا أحاول محاكاة ذالك الصوت الساحر بضوضاء لا يشبه الغناء كثيرا وانهي الضوضاء في حضنك الدافئ وأنت تهمس في أذني لا تعبثين بالطبيعة كثيرا وإلا ستغضب وتحولك إلى صخرة بكماء لا تقدر أن تغازلني طول الوقت، نضحك من محاولتي البائسة للغناء وحبي الجياش لك ونطير في السماء منشدين الأغاني و نحط في البر المناسب لنعد عشنا الدافئ، لو لا تلك الطغاة لرزقنا الآن بأطفال كما باقي أبناء جلدتنا في أنحاء العالم لكن الرياح أحيانا تحطم السفن في السواحل قبل أن تنطلق نحو البحار.
النسيم البارد يشق طريقه من النافذة إلى قفصي ويداعب أوتار حنجرتي بهدوء كأنه يحملني على تموجاته الهادئة في الآفاق حيث يتراءى لي السماء ترقص على وقع سيمفونية الحزن والصمود التي تصدح في أعماق حنجرتي منذ سنين، سيمفونية بدائية لا تستند إلى أي علم أو سلم موسيقي حديث ولا تنتمي إلى المدارس الموسيقية الراقية لدى باقي القنابر الحرائر في أنحاء العالم بل هي موسيقي مملوءة بالحزن والحنين إلى سماء لم تبق لي حصة منها سوى مشهدٍ متواضعٍ عبر النافذة وظل شجرة قصيرة الأغصان أصبحت الآن شجرة ملابس الصياد ومرمى لتدريب أبناءه على الرماية، لكن سيمفونيتي تبقى رمزا للهوية القنبرية وليست صدى صوت الصياد أم أنغام ببغاواته كما تردد عشرات القنغاء في مدينتي.
منذ الأسبوع الماضي بدأت أتمرن على تلحين أغنيتي المفضلة، الأغنية المفعمة بنشوة التحدي والحياة التي تحوّل حزني إلى جناح يحمل جسدي المتعب إلى ما خلف القضبان وعلى شجرتي الحبيبة، الأغنية التي تعدها اغلب القنابر نشيدهن الوطني لكن مُنِع عزفها بعد الغارة الكبرى بسبب احتواءها على مضامين تشجع القنابر على الغناء والتحليق بين الأرض والسماء.
أحاول الاستعداد لميلادي وثورتي في حفل عيد ميلاد "سيا"، حيث سأحضر الحفل برفقة باقي القنابر للاحتفال بعيد بميلاد ابن الصياد الأصغر وفي الواقع الاحتفال بنجاح الصياد و"سيا " على تحويلنا من قنابر بريات إلى قنغاءات أليفات. منذ الغارة الكبرى لم يسبق لي التعرف عن كثب إلى باقي القنابر في البيوت المجاورة إلا في المناسبات الرسمية مثل عيد ميلاد الصياد أم زواج أبنائه أم بداية السنة الجديدة وما شابه ذالك... وعندها نحتشد في قفص كبير تحت إشراف مدير المعهد لنردد اسم الصياد وننشد الشعر حبا وولاءً له ولأسرته، بعض القنابر الذكور سبق أن خالفوا القانون وقاموا بتغريد أغاني خالدة من التراث القنبري لكن كما يقال انتهى أمرهم على مائدة طعام الصياد وأصدقائه في سهراتهم العشوائية.
***
صدى كلماتك مازال يتردد في أذني وأنت تكرر" هل مازلت مصرة على صمتك؟ لمتى تندبين الماضي الجميل وتصومين عن الحياة؟ هل تظنين ترعبينه؟ لا يا حبيبتي سيبقي سيدا لنا ولأهل المدينة؟ والآخرون يغردون ولاءً له لكنك أنت من ستنسين آمالك! صمتك ليس حصنا يحميك من عملية المسخ التي يقوم بها الصياد بل هو بئر التهميش الذي يبلعك كل يوم أكثر حتى يقضي عليك ميتة في قعره بلا اثر".
لم يرعبني كلامك حينها ظننت إني أعرف ماذا يرفد هذا الحديث المكرر،وهو دلع تي تي وطموحك في الحياة ووعود الصياد بمنحك كرسي التدريس في كلية الطيور قسم القنغاءات. ربما أخطأت لكن غفرت لك أن لا تكون لي أما أن تكون ضدي أم ضد قضيتي، هذا أمر لا يحتمل الغفران، وقضيتُ شهورا مثقلة بالألم والشكوك، أتساءل هل ما جرى بيننا كان من غبائي أم ما حدث لك مع تي تي كان من ضعفك؟
لم أرك بعد حتى عيد رأس السنة وحينها اقتربت لي لم تفه بكلمة وعيناك كانتا تمطران حزنا عميقا، ثقله أوجع قلبي فاقتربت منك بحذر وفجأة تلامست مناقيرنا ما أنفد صبري وبغتة قبّلتك على عينيك كأني أسكب كل أغاني المسجونة في أعماق روحك، كأني ابحث في عيونك عن كل ذالك العمر الأخضر الذي حلمنا به معا عندما كنا نغنى ونحلق أحرارا في السماء حتى أقبل ذالك اليوم الأسود ووقعنا في شباك الصياد في الغارة الكبرى والتحقنا بجمع غفير من القنابر الأخريات في بيوت أقرباء الصياد. في الأشهر الأولى حيث عشنا معا في أقفاص قريبة من بعض في صالة منزل الصياد، كان يغمرني الشغف بالحياة والإيمان يوقد فيّ جمرة النضال وبقيت صامدة أمام كل التعذيب والتطميع، معتزة بذاتي القنبري وقدرته على تخطي الأزمات، لكن منذ شهرين وبعد انتقالك إلى منزل "تی تی" بنت الصياد بعد زواجها بفتی من أقرباءها، الوحدة بدأت تنخر بإيماني والشكوك تسربت إلى عروقي كالسم القاتل لو لا التعذيب الذي ينتشلني من جحري لأكلتني أفاعي الترديد في دهاليز وحدتي،
أخذتك تي تي معها إلى بيتها الجديد لأنها تحب اللعب والمرح معك كثيرا كما قلت لي في السابق متحمساً بأنكما أصدقاء لأجل الحياة وحب الحياة كالمياه المتدفقة من الأعالي تدهس كل الخلافات في مسيرها نحو البحر وحين رأيتُ بطاقة هويتك الجديدة بعد أن فقدتَ الأولي في ترتيبات الانتقال إلى منزلك الجديد، استوعبت ما عمق المياه الجارفة التي قضت عليك، اِنّك قد أزلتَ كل الحروف القنبرية الصعبة من لقبك ليبقى اسمك سليما وسهلا في لغة تي تي.
وبدأت تفلسف لي، ما كنت أكرهه فيك، ما ذنب تي تي بما حدث تاريخيا لنا؟ هل تريدين أن نعاقبها على جريمة أبيها؟ هي تبحث عن السلام والحياة المدنية معنا، نحن متشابهون في وجودنا على هذا الكون رغم اختلافنا في طرق حياتنا، كلنا نبحث عن السعادة والهناء في الحياة وهذا أفضل وأعلى شأنا من الانتماء القنبري أو الصيادي، علينا أن نتحرر من دوائر الانتماء الضيقة، وننطلق نحو بناء هوية عالمية، العالم أصبح قرية صغيرة وأنتِ مازلت تبحثين عن الحدود بيننا وبين الصياد؟ وبقى فمك يتحرك كثيرا، يُغلق ويُفتح بسرعة، ساعَدَتك ذاكرتك بسيل من الكلمات الثقيلة وغير المتجانسة، التي بقت عالقة في أسوار فكرك، من كل الكتب التي قرأناها معا ولم نفهما جيدا، وكل المكاتب الفكرية التي تنكرنا بها ولم نعرف قياساتها ولا حاجاتنا، وتهتَ في الكلمات دون أن تخرجَ بجملة مفهومة وحينئذ شَمَمْتُ رائحة المسخ من كلامك وأنت تتكلم عن تشابهك مع تي تي في الوجود وتتجاهل عجزك عن إقامة الوجود الكريم بسبب تطاولها على وجودك.
***
بَسطتُ جناحي على الأرض لكي أرتاح من عبء التمثيل الثقيل والمكرر،كنتُ اُضحكَ صغار البيت وأنا أنقر على قضبان القفص نقرا خفيفا خائفا عندما تتراءى لي أسراب الطيور في شاشة التلفاز تطير قريبا مني. لكن سرعان ما أسترجع وعيي وأرفع رجلي قليلا عن أرض القفص وأصدح في تناغم مع رقص أجنحة أصدقائي المهاجرين حتى تطفئ الشاشة وينتهي نحيبي وأعود لنفسي هامسة:
ما هذه البلاهة؟ هل بدأت اخلط بين النافذة وشاشة التلفاز؟ هل بدأت استمتع بكوني مهرّجة لهؤلاء الأطفال؟
يا ترى هل انتابني الجنون؟ وذالك الجرح العتيق بدأ يعبث بعقلي؟ كم من مرة تُرِك الباب مفتوحا وأنا بلعت صوتي وخشيت الطيران؟ بقيت منتظرة هناك، ليشفق علي الزمن بفرصة كي أناقش حقي مع الصياد في البر، والسماء والغناء؟
الأيام تمر وعلي أن أحيا زمني ولو للحظة قبل أن أموت.
أنقر على القضبان لجلب المرح للصغار، ما أتقنه كل صباح كي يعيش كل البيت من الأطفال والصياد وأنا بسلام، أعرف باِن منقاري ضعيفٌ جدا ليكسر الحديد ولابد لحريتي أن تعبرَ من الأبواب لكن لو لا اللعبة التي أقدمها لأطفال الصياد لأكلني الأخير بريشي منذ زمن بعيد.
هذه المرة تمثل أخر فرصة لأكون القنبرة الذي تغني في وطنها ولا أسيرة تصوم في زنزانتها، لأكون أيقونة للصمود ومثلا أعلى لأطفال القنابر من ولدوا في الأقفاص ولايعرفون عن تاريخهم وقدراتهم شيئا، لن اسمح لهذا الرطين المهيمن أن يعبثَ بأغانيّ، مهما عمل صيادي الحقود لن أتحول إلى قنغاء تردد أصواته، قنغاء تحفر قبرها برضاء في أقفاصه، تعاليمه الفاسدة لن تمس روحي الطاهرة ستبقى كما هي حرة تغني وتطير ولن تنضم إلى هذه القنابر الممسوخة التي تأثرن بتعاليمه وتحولن إلى بَبَّغاوات يرددن أغانيه بولاء تام ويروجن لنظريته بأنهن ينتسبن إلى عائلة خاصة تسمى قنغاء من تشبه القنرة ظاهريا لكنها تكره البر وتخشى الشجر وتعشش في الأقفاص لا تجيد الطيران سوى الوثب على الأكتاف ولا تغني باللغة القنبرية بل تردد كالببغاء ما يقرى عليها من أشعار في مدح الصياد بلغته.
***
في رسالتك الأخيرة، شَمَمْتُ رائحة دمك المهدد، نصحتني بأن أراقب أحلامي حتى لا تعكّر صَفو أيامي ولا تجلب لي المتاعب، كتبتَ بان جسدك أصبح ممتلئا وحتى الوثب على الكنبات أصبح أمرا شاقا لك وقد لاحظت تغيير نظرات مدير التعليم نحوك وبدأ يراقبك ويطعمك أكثر وشطب كثير من المواد الدراسي التي بزعمه تتعبك وتسمّم أفكار أطفال القنغاء حول الغناء و التعشيش والتحليق في البر.
***
هذا أسبوعي الثاني وأنا تابع التمثيل، حتى يسمح لي بالحضور في الحفل، البارحة رأيت عيون الصياد الوحشية وشفاهه الخشنة كيف تمزق فخذي بشهوة، قائلة "مازالت ضعيفة نتريث لأسبوع حتى عيد ميلاد جدنا..."
صديقتي السنونوة أيضا شمّت رائحة الدم واقتربت من النافذة هامسة" سمعنا بأنك مهددة واسمك ضمن القائمة المفضلة لمائدة حفلة الميلاد...نحن على وشك السفر واعدنا لك الأوراق والطريق لترحلين معنا.... الحياة جميلة تستحق الكفاح تعالى معنا..."
ابتسمتُ وأرسلتُ لها القبل من خلف القضبان والزجاج، مع السلامة يا صديقتي.... ارحلي والسفر موطنك...من اجل الحياة الجميلة أريد أن انشدها حتى النهاية.
***
وأنت ملقى على الأرض وحيدا، تسبح صورتك في دموعي، لأجلك ولأجل حلمنا الكبير سأغنى وانشد صوتك المدفون في أكوام أخطائنا وقسوة أعدائنا، حتى تبرعم أغاني أطفال القنابر في البراري فرحا وترفرف الأجنحة في السماء.
آه يا سمير ليتك ترى كيف تي تي تأكل لحمك باشتهاء... ليتك ترى إن المياه المتدفقة من عيون الحياة لا تَقدِر أحيانا أن تغسلَ كل الحقد والجهل من قلوب أعداءها وبعض الخلافات تبلع كل البحار وترمي بنا، شظايا جافة، بعيدا عن الحياة.
***
حضرتُ الحفل على كتف سيا ابن الصياد... ورأيت ما كان يخيفني في البال، رأيت جمعا كثيرا من القنغاوات تهرول بين أقدام أسيادهن وتقفز على أكتافهم بإشارة وتردد ما يقرى عليهن من كلمات وتحصل على تهليل وحبات ذرة وحشرات ميتة للأكل، ماسكات أجنحة أطفالهن المشاغبين بقوة ليمنعنهم عن غريزة الطيران.
بعد انتهاء مراسيم أهل وأصدقاء سيا، أتى دور إلقاء التحية.... تسنّم المنصة الصياد أبو سيا و أستهل كلامه بإلقاء التحية إلى جماهير القنغاء وواصل: أود أن اذكرَ اسم سيد ومدرس من أهل قنغاء من قدّم الكثير في سبيل تعليم وتثقيف أطفالنا لكن سقط ضحية لمؤامرة أجنبية، تحاول تمزيق وحدتنا من خلال التأكيد على نقاط اختلافاتنا الضئيلة، هو القنغاء سمير، من كان مدرسا ناجحا ومتعهدا لكن مع الأسف لم يصمد أمام إغراءات أعداءنا وتلاعب به هوس شيطاني وحثّه لأعمال منافية الذات القنغائي ووحدة ومصلحة البلاد وحلّق من نافذة عالية وهو مسحور بتلك الأغاني والأصوات الدخيلة والغريبة وسقط على الأرض قتيلا. الله يسكنه فسيح جناته وليكون قدوة في نجابته وعبرة في أخطاءه لأهله وأصدقائه وجميع أعزاءنا القنغاء.
"سمير ليس قنغاء...سمير لم ولن يكون فنغاء...سمير قنبرة ولم يسقط على الأرض يوما ودوما كان يغني والغناء كيانه وهويته والسماء بيته ليحلق" بدأت أهمس لنفسي بحماس واردد: لست قنغاء وأنت يا صياد من قتلت سمير، قنبري الراحل وليس قنغاء.... نظرت إلى السماء ورأيت سمير يبتسم ابتسامة بعرض السماء ويدعوني للقاء، مشيرا إلى حنجرته.. فهمت ما يقصده وهو : أطلقي عنان تلك أغانيك السجينة والعذبة... قولي لأطفالنا بأننا لسنا قنغاء نحن قنابر نسكن البراري والأشجار ونحلق ألاف الأميال ونغني في أعلى الأفاق... فتحت جناحي على كتف سيا ووثبت على رأس الصياد وتزحلقت ببطء متعمدة على عنقه حتى نلت كتفه شعرت بقوة قاتلة تحب أن تقلع عيون الصياد الوحشية وتقطع يديه القاتلة.... لكن على عاتقي قضية لم أدنسها بشهوة الانتقام. تشرئب عنقي إلى السماء و أطربتني ابتسامة سمير، فتحت أجنحتي للرقص في السماء، بدأت أتذوق الحياة ورمقت جناحي بفخر واعتزاز كأني أراهما للمرة الأولي، حلقت نظرتي إلى الأفق حيث أنامل الشمس تدغدغ سحابة منفردة وتتمرغ الغيمة فرحا في حضن السماء حتى تنزلق قطرات المطر الراقصة على أشعة الشمس وتقبل أصابع سمير وتغازل عيوني في نهاية رحلتها وهو ينتظر صوتي حتى ينطلق في الحياة، فانبثق في أغواري قرار صارم للحياة وجناحي سبقت القرار فراحت تحلق في السماء...!
مئات القنابر الحاضرات في الحفل تابعني بعيون مندهشة ومعتزة بكوني أنتمي إلى فصيلتهن......وأنا أغني أنا قنبرة لست قنغاء، أنا قنبرة انشد الحرية والسماء"
طفق الارتباك يعبث بالصياد وغدا يبحث عن بندقيته ليصيد أم يقتلني، سيا يحاول منعه خوفا من إثارة غضب وكراهية باقي القنغاء لكن حقد وغضب الصياد أكثر من أن يصبَر على قتلي، وجه البندقية نحوي وأطلق الرصاص بكثافة، رأيت الشغف يغمر أطفال القنابر من ولدوا في الأقفاص لكن أعمارهم لم تكن طويلة لتطوّق أرواحهم الأيام الحديدية، كما فعلت مع أهلهم، ومازالت الغريزة القنبرية للغناء والسماء تتدفق في عروقهم وهم يرددون "انا قنبرة لست قنغاء"، رصاصة أصابت فخذي وبدأ النزيف...لكن تابعت تحليقي بصعوبة حتى احتضنتني السماء وأنا أوكد لنفسي "عليّ أن أطيرَ إلى أعلى الأفاق وأنا اغني، قبل السقوط شهيدة على يد الصياد حتى تؤمن القنابر السجناء باِن الغناء جزء لا يتجزأ من الذات القنبري والسماء هي ساحتهن للعب والطيران والبر هو منزلهن للعش، وافضح مؤامرة الصياد لمسخنا وجريمة قتل سمير. على أن أحيا زمني ولو للحظة في آفاق الحرية قبل أن أموت.
سيا اعتلى المنصة وأرسل التحية إلى ألاف القنغاء الأوفياء وندد بالأعمال الإرهابية التي قمتُ بها بالتعاون مع السنونوات الأجنبيات ودعا جمهور القنغاء إلى الانتقال إلى مرحلة جديدة من العلاقات مع عائلة الصياد، وتابع: كان بودنا أن نعلن عن برامجنا الثقافية في بداية السنة الجديدة لكن بما إن هذه الأعمال الإرهابية البائسة تحاول أن ترسل صورة غير واقعية ومزورة عن حياة قنغاواتنا إلى العالم، استمرارا لنشاطاتنا السابقة ودعما للنشاطات السلمية والثقافية نعلن عن بدء دورات لتعليم الغناء والطيران الشرعي لأطفال القنغاوات والبالغين الراغبين في التعلم، والتسجيل سيبدأ بعد ساعات في الضلع الجنوبي من القاعة وبأسعار رخيصة جدا، فتوجّه جمع غفير من القنابر للمعاهد للتسجيل في دورات الغناء والطيران شاكرين كرم وسعة صدر الأسرة الصيادية لافتتاح هذه الدورات والاهتمام بتراثهن القنبري وواقعهن القنغاوي.
***
...وأنا بقيت عالقة في السماء، في موقف ليس بعيدا عن سمير الذي بدا لي كأنه نائم منذ زمن بعيد، جسدي لم يستطع مواصلة الطيران، قد نال منه الرصاص ودُفِن في موقع مجهول وأنا بقيتُ في حيرة من أمري، عالقة في السماء، تارة يطير بيّ الأمل وانتظر المتخرجين من هذه الدورات ليلحقون بيّ في السماء وتارة يتسرب إليّ الشك وتهمس الندامة: يا ليت رحلتِ مع السنونوة وعشتِ حياتك حرة في زاوية أخري من الكون".
... ليتني استطيع أن أنام ...