امْتثلَتْ تلك الغابات لأمطار الشتاء ،مُنتشيَّة في غَبَشِ يوْم شتوي تَتَلأْلأُ فيه قطرات الماء وقد عَلِقَتْ في الفضاء القريب ،رسمَت ألوان الطّيف وسَمَّت نفسها قوس قزح ، قطراتٌ علِقت دون إذْن منها ،رسَمَتْ ألوَان الحياة واستسلمت لتلك القِوى الخفيَّة الّتي جعلتها هناك بين السماوات والأرض. لكنني ما أردت لها الضعف والهوان .
قلت في نفسي : أيمكن أن أحدثها عما فعلت بها تلك القوى التي لا يُرى لها أثر، فنسمع لها عزيفا تارة، وحفيفا حين تدرك أوراق الشجر تارة أخرى؟.
كذلك ترسم تلك القوى علاماتها على كائنات ضعيفة ،وتَبْقَى ذلك الشيء الخفِيَّ الذي لا يُرى .
سألت عن منبعها ،لم يجبني أحد ، سألت عن شكلها ولم يزدني سؤالي إلا بعدا عن منازل الحقيقة .
قررت أن أجانب الحديث عنها، وعن مثيلاتها من الأشياء التي تخفى عن المخلوقات الضعيفة مثلي ،وعن مخلوقات أخرى كانت مسَخَّرة لي ولبني الإنسان عامة ،فكان رائدها ،ولكن السؤال لا يزال يشغلني ويقضُّ مضْجَعي .
كل هذه الأشياء الخفية جعلتني أومن بما يحدث في هذا العالم، ولا أرى الفاعل الذي فعل، أو الذي جعل الحقيقة جلية ذات يوم .
قوى خفيّة تتصرف بمصير هذا العالم ،تتركنا وشأننا مرّات ،وتوقفنا مرّات أخرى ،وقد تلازم حياتنا بما هي دؤوبة على فعله في خفاء، هذه حقائق من مظاهر شتى تملأ الكون بأرضه وسمائه .
لا نجد لها حلا مهما أعملنا فكرنا ،هكذا كانت التساؤلات تتأتى لنا أيام كنا صغارا حين كنا نتأمل هذا الكون وما يلازم حياتنا ، كنا صبية في السنوات الأولى من تعَلّمنا ،فنُسَائِل بعض اليَافعين من آبائنا ،وأمهاتنا وأعمامنا و....، ولا نجد عندهم شيئا من علم يذكر إلا قولهم الأمر كله لله .
سألني صديقي آنذاك فقال لي : أيكون هذا العالم مرتعا للأشباح التي تعبث ببهاء هذا الكون ،فتُغَيّب عن هذا العالم أُناسًا ،وتأْتِي بأناسٍ آخرين ،
وتزيد وتنقص وتجود وترحم، ثم تجعل يدها مغلولة ،وتفعل ما تشاء ؟
قلت :ولِمَ لا تقول هذا الكون فناء تحوم حوله الملائكة بأمر من خالق عظيم ؟
قال : ويكمن للشياطين أن تحوم حولنا وحوله كذلك .
قُلْت :فليكن جوابي نصفا ،وجوابك النصف الآخر ،ولنترك هذا الموضوع الذي لن نصل فيه إلى حقيقة تذكر .
قال : جعلتني أقتنع بقرارك ،فقررت الصّمت ،ولكنك لم تستطع إقناع نفسك أو إقناعي بحقيقة الأمر الذي يجعل إجابتينا أمرا حقيقيا ،تطيب له النفس وتطمئن له القلوب .
قلت : يكفيك إيمانك ،بأن ترى الأشياء في صفاء نفسك،وسمو الفطرة التي فُطِرت عليها ، آنذاك ستبزغ شمس الحقيقة على كيانك .
قال :أي إيمان وقد جعلت مني شَاكًّا مُتسَائِلا في أمور شتَّى ؟.
قلت : لا أرى قيمة لما تحاورني فيه ،وأدعوك لتتركني وشأني ،فلن يجدي حوارك معي ،لأننا لا نملك قدرة وحنكة علمية ،تُيَسِّر علينا الخَوْضَ في هذا الموضوع الذي يرجع الأمر فيه لله، كما أجمع عليه كل من تربَّيْتُ وترَعْرَعْتُ في كنفهم؟.
قال :ولِمَ تنظر إلى السماء، وتتَملى من تلك المناظر الطبيعية الجميلة ،وتعانق رحابة المكان والزمان في هذا الكون ؟
قلت: تلك نفس جُبِلَت على أشياء وإليها تَحِنّ وتعود ،وفي أفيائها ترتاح وتسمو وتتعاظم .
قال : لن نلتقي على حال، وليكن كل منَّا فيما له وما يريده ،فأنت أنت، وأنا أنا ، وإلى اللقاء في يوم سنعرف فيه الصواب من الخطأ ،ولكن إذا سِرْنا على النهج الصَّحيح نَنْهل من مشارب العلم والمعرفة ،أما الآن فلازلنا صغارا لا نملك لأنفسنا شيئا ،ولا نقدر على فك شفرات عديدة من شفرات هذا الكون الكبير ،الذي غاب عنا فيه الشيء الكثير.
بينما هَممْنا بالإنصراف من المكان ،فاجأنا رجل -وقد بدت عليه علامات الصلاح والعفة - قائلا : لقد سمعت كل شيء ،ماذا تقولان؟ وفيما تتحدثان ؟أتتحدثان عن شيء حُسِم الأمر فيه وكان القران دليلا شافيا؟.
ألم تتذكرا ما درستماه من آيات بينات دالة على وجود الله وقدرته وعظمته ؟
قلنا بلا !!
قال فما الذي سمعته ؟
قلت :ما سمِعْتُه الآن منك ،هو ما أردت قوله ، ولكن قصور علمي ،وصغر سني، يمنعاني من أن أكون لصديقي خير جليس في باب علم لا يخوض فيه إلا العارفون .
ثم انصرفنا وقد ذهب الشك ،وبزغت عَلَيَّ وعَلَى صديقي شمس الحقيقة التي أَفَلَتْ عن عَالمِنا حين عبثنا فنسينا ،وما أنسانا إلا الشيطان .