لم يسبق له أن وقف أمام المرآة كل هذا الوقت، اليوم ليس كباقي الأيام، أربعون سنة من عمره تبخرت، ذابت في بركان الضياع، تسللت منه بدهاء ثم وقفت بعيدا تودعه بسخرية وشماتة، و لكن أيضا بحسرة وشفقة.
بالأمس فقط كان شابا يافعا وأول أمس كان طفلا بريئا، إنه يتذكر صورا من الماضي وكأنها حدثت للتو، مزيج من حنين وندم يعصر قلبه إلى درجة الألم؛ لم يكن سعيدا في حياته ولكن أيضا لم يكن شقيا، كان في حالة من الوعي اللاواعي أو اللاوعي الواعي، لا يدري، كان فقط يحلم، طول الوقت يحلم، يحلم بالأفضل والأمثل، صار الحلم عنده إدمانا يرهق أعصابه ويستنزف طاقته، ولكن كان أيضا يستهويه ويستعذبه.
كان ذاهلا عن الدنيا، يحياها ولا يعيشها، كان فيها حاضرا غائبا، كان كالورقة اليابسة اليتيمة، تنقلها الرياح من مكان إلى مكان فلا تستقر في مكان، تتوق إلى اليوم الذي تعود فيه ورقة خضراء تنتمي إلى غصن وشجرة لها جذور، ورقة تنبض بالحياة.
نال شهادة الباكلوريا بمعدل كبير، كان متفوقا، من الأوائل على صعيد المدينة وضواحيها، ورغم ذلك اختار كلية عادية لا تشترط تفوقا ولا معدلا معينا، وشعبة جافة لا تستسيغها نفسه الرقيقة، فعانى من الدراسة أيما معاناة، ليس لأن الدروس صعبة مستعصية، إذ لم يكن الأمر يتطلب أكثر من رد البضاعة إلى أهلها، ولكن كان يحلم أكثر مما يتابع المحاضرات، ويفر من المقررات والشروح إلى كتب الدين والأدب والفلسفة، حتى إذا لم يبق عن موعد الامتحانات سوى أيام قام إلى مواد الدراسة يواصل الليل بالنهار.
أنهى دراسته الجامعية وحصل على وظيفة أقل من مؤهله التعليمي، لأن ظروف أسرته المالية لم تكن آنذاك بخير. ظلت أعصابه لخمس سنين تئن تحت معاول الروتين الإداري، ثم زاده عنتا أن كان على رأس المصلحة جرذ مستأسد يتربص به الدوائر، رذل التقت فيه عروق الخسة؛ فيه عجرفة الجاهل، وروغان الجبان، وجشع اللص، كوكتيل نذالة كان يجثم على صدره ثمان ساعات لخمسة أيام في الأسبوع.
كان رئيس المصلحة هذا يقسم الإدارة إلى معسكرين : المرضي عنهم ممن هم على شاكلته و الموصى بهم خيرا عنده من لدن كبير ولا كبير إلا الله، والمغضوب عليهم "أولاد الناس".
لم يكن صاحبنا ليتحمل هذا الوضع طويلا، لماذا ينتقون لهذه الكراسي السفلة الهمج، يضعون في أيديهم أسباب الحل والعقد وتدبير شؤون الناس؟
لم يكن يملك إلا أن يحلم، والحلم ضرب من ضروب الصبر، ثم جاء الفرج؛ اجتاز مباراة لولوج منصب يسيل له لعاب أكثر الناس، وكان التوفيق من الله.
تحرر من الروتين، لم يعد آلته الطائعة، وودع وجه النحس ذاك، فعمله الجديد أتاح له فرصة استثمار علمه وخبراته ومواهبه، والاستقلال بشخصيته، لم يعد يتلقى أوامر من أي قزم، ورئيسه الإداري ليس له عليه سلطة إلا التنقيط الذي يعجل بالترقية أو يؤخرها، وصاحبنا لم يكن يولي لهذا الأمر كبير اهتمام. لا رقيب عليه إلا ربه ثم ضميره.
كان قرر في أول شبابه ألا يتزوج، ثم مضى به العمر حتى نيف على الثلاثين، فساق له ربه فتاة خيرة فاضلة، فأقدم، ثم أحجم حتى كاد يضيعها من يده، ثم أقدم؛ تزوج وصار أبا، أصبح مسؤولا بكل ما تعني الكلمة من معنى، وظل رغم ذلك يحلم، ومرت السنون وألفى نفسه يوما أمام المرآة يتأمل نفسه؛ الناس على سنن واحد وهو جامح شارد، يصيحون ملء أصواتهم وهو يهمس الكلام همسا، يطئون الأرض وطئا وهو يمشي على أطراف أصابعه الهوينا.
قرر ألا يحلم بعد، تخيل نفسه كذلك فأحس بالاختناق والامتعاض؛ لم يكن ليسعه واقع الناس.
فهم أخيرا أن عليه أن يغرس قدميه في أرضهم ثم يرفع هامته إلى السماء، ينقل بصره بين نجومها، يحلم.