رجفتُ.. رجفتْ دون ارتعاشٍ..قالتْ في غيرِ خطابٍ، لأفهمَ.. فهمتُ... استنجدتْ عيناها حكايا جفْـنيّ.. حالمٌ منْ قال تعطلتْ لغة الكلامِ.. كلُّ أشياءِ الكائن ناطقةٌ.. الفمُ ..الشفتان..الأنفُ والسمعُ.. الأصابعُ.. وقفةُ القوامِ ناطقةٌ.. للشعر، جدائلَ،أو جداولَ، لَغوٌ..وكذلك العينان نابِستَان..
نحن نتراءى. كلانا يرى الآخرَ. والمسألة هنا أمتع..بيننا مسافةٌ تملؤها قِصّةٌ ..عُمقُها عُمقُ المسافةِ ..هي لا بالطّول..قصّتنا لا ..أروعُ ما في القِصصِ أنّها تملأ الكُوى والفراغات،تلك التي تحفرُها الكائناتُ في الأحيزة بمجرّد حلولِها.. ثمّة مسافةٌ قِصّةٍ .ولو قلنا قصّةَ مسافةٍ ،جاز لنا كذلك الأمرُ.لكنْ ، أيّتهما تملأ الأخرى يا ترى؟..
لا يهمُّ..الآن قصّتنا تملأ المسافةَ..المسافة باهتةٌ حين تكونُ القصّةُ مفعمة ً بنا ..نحنُ مَنْ يمنحُ الآنَ المسافةَ والقصّةَ عنفوان الحضورِ..لا قيمة للمسافةِ دون قصّةِ حنينٍ..لا قيمة للقصّةِ دون حنينٍ ضوئيٍّ يَعُمُّ المسافةَ..لا جدوى مِنْ حنينٍ لا يحتوينا: أنتِ ،أنا والقصّةَ في المسافةِ..نحن الآن نتناظرُ..أملؤكِ ..تملئينني..ونكتُبُ.. نكتُبُ المسافةَ ..ونملأ القصّةَ..
بدأ السّرْدُ..
يسْرِدُ الصّمتُ ما لا يسْـرِدُه الإفصاحُ:
أحبّك.. بلى، منذ آلاف العصور.. حكاية حبِّي السريّةُ منشأ الأساطيرِ.. مَهدُ سلالةِ الفكرِ الكونيِّ.. منذ فار التنّورُ، أحبّك.. ما قبل ذلك لا يعني ذاكرتي في شيءٍ.. طوفانيّة الزمن والتبلور والغرابة، تلك الحكاية..نوحيّةُ الأبعادِ قِصّتنا.. حبّنا أمّ الأساطير.. منبعُ إبداع أوفيد*1 للميتامورفوز.. ثمّ اشتهيْتُها، فتلعثمَ حَكْيُ ألسنتي المُضمرَةِ.. على الحبِّ أنْ يقترنَ بالشهوةِ.. اشتهيتُها،فانقطع السّردُ.. غريبة شهوتي.. ليستْ جسدانيّةً محضاً.. ولا هيَ تلك العصيرةُ منْ كمثْرى الرّوح..هي لحظة تداخلِ الذبذبات: ذبذبة الرّوح و رعشات كيانيّة أصيلة .. لحظة صراخٍ الشوق..أبَـدٌ من الشّوقِ..شوقٌ منَ أبدِ.. ينحلُّ الصراخُ ذاك، في رقصةٍ عضويّةٍ، تصوغُها الأعضاءُ.. و لا تُرَى..إذنْ، أنجزَها الدّمُ في أروقةِ الشرايين.. انقطع السردُ الصّامتُ..حين ينقطعُ، تفِـدُ علامةٌ تعبيريّةٌ بديلٌ.. هي الوصفُ..على الوصْفِ أنْ يكونَ أكفأَ في ضبْطِ اللحظةِ المختلفةِ..على الوصْفِ أنْ يختلفَ عنْ كلِّ ضديدِ.. ميّتٌ هو السردُ رغم ما يُنجِزُهُ مِنْ حياةِ الذّاكرةِ و سيرورةِ الفعلِ وسيرةِ المصيرِ.. الوصفُ عزْفٌ محايدٌ.. ومضاتٌ نغَميّةٌ.. لكلِّ ومْضةٍ لَهَبُها الفوّارُ.. لكلِّ لُهْبةٍ مشهدٌ اشتعالٍ خاصّ.. حريقٌ مستقلٌّ.. كأنّي أحبُّ الوصْفَ.. أنبــذُ الحوارَ المُعلَـنَ.. نحن الآن في لحظةٍ أبديّةٍ تنصهِرُ لِـتكونَ. لا لتفْنى.. بيننا كينونةٌ لا يستطيعُها سوى الوصفِ والمونولوج.. نَجْوَى هو المونولوج.."حديث الرّوح للأرواح يسري"*1... لم يكذبْ ...... حين تحدّثَ عن صخبِ الصّمتِ*2.. الصمتُ أصخبُ من رغاءِ الكلام.. الصمتُ أخْصَبُ مِنْ نُصوصِ الضجيجِ.. هي واقفةٌ أمامي..بازغةُ الحضور .. والأنوثة نّافرةُ. صارخة.. ماذا قالتْ مسافةُ الحنين بيننا؟
وبمَ نغّمتْ وَمْضاتُ الشّهيقِ التي تفورُ مِنْ بركانيْن متناظريْن في لحظةِ شغفٍ شفيفٍ؟عَزَفَ اللهبُ الصّامتُ:
أقبِلْ.. أتنشّقُ عبَقَ الحنين.. ريحُ الرجولةِ تنسابُ إلى المفاصلِ..
تناغم اللهَبان.. ناجاكِ لهبي النغَـمِيُّ:
هذه لحظةٌ فوق الجسدِ.. لحظةٌ تبزُغُ من الرّوحِ في الرّوحِ.. ثمّ تنبثقُ في أخاديد الكيان، حريقًا سيمفونيَّ التصاعد..ثمّ يَهطِلُ الأنْـسُ منْ غيمةٍ سَكْرى بعطورِ تشواقِ الصّميمِ..
صَمَتْنا.. ليستْ لحظة بكَـمٍ ما بيننا.. هو التأمّلُ السرّيُّ يثْـوِي في سحيقِ بواطن.. تتداركُ الرّوحُ..تستقي من نورها الأقصى ما تستقي.. شيئًا ليس يُفْهَمْ.. أكلتْها عينايَ.. تستعيرُ العينُ مِنْ آلياتِ الجمالِ ما به تحتسيها.. أنا أحتسيها .. هي تحتسيني ..تتّسعُ الحدقاتُ للحدجاتِ.. تلبسُ عينايَ قوامَها والرّوحَ، قميصًا ..تتجانسُ ذبذبتان ..ينطِقُ البكَمُ المُعْلَنُ:" أ..أ..ح.. ".. لم يستطِعْ..تنطِقُ شهقةٌ منها عاليةٌ: "أ..أ..حْ" .خُلِقْنا أبكميْن؟ولكنّنا نقولُها بالضوء والنّغمِ: "أحبّكْ".
سيف الدّين العلوي