أنا الموظف ع.س
أحلم منذ صباي بالسفر و التجوال و ارتياد مجاهل الدنيا . بلدتي لا تغري أحدا بالبقاء فيها . مَن الأبله الذي يتعلق فؤاده بكومة أحجار ووجوه لا تشرق ابتسامتها إلا على مضض ؟ .
لي إخوة توزعوا في أنحاء البلد , بين منخرط في سلك الجندية , و بائع متجول , و لص محترف لا يكف عن الشكوى من حظه التعس . كنت الوحيد الذي أتم دراسته , لا لشغف بالعلم طبعا , وإنما لئلا أكون أضحوكة في البلاد التي سأطوف أرجاءها .
لم تفلح كل مساعي الأقارب في ولوجي معهدا للسياحة . ربت العم على كتفي مواسيا :
على الحاجات أقفال ثقال مفاتيحها الهدايا في الظلام
لم أفهم طبعا ما يقصده لأن ما بحوزتي من معرفة بالكاد أسعفني للعمل في قبو للأرشيف بإحدى إدارات العاصمة .
لكني حتما سأرى العالم !
***
روتين قاتل يبدأ كل صباح مع الثامنة . ملزم أنا بتحمل الرطوبة ورائحة الورق العفنة . عشرات الرزم تحوي سجلات الذي قضوا دفاعا عن أرض الوطن و سمائه و أغنيائه الكسالى . تدب الحياة في هذا القبو اللعين حين تطرق الباب أرملة منهكة تستجدي معاش فقيدها .يتوجب على الصغار دوما أن يعترضوا طلقات البارود بصدورهم لتهنأ صدور الكبار بالأوسمة !
إنها الحرب ..
توازن اللاتوازن ..
حين يفقد الكائن الإنساني جدواه و قابليته للسمو !
تعود الأرملة إلى قبوي بعد استكمال الملف . تتوسل المسكينة ليُصرف معاشها في أقرب الآجال , فالصغار لا يحتملون ضنك العيش إلا أياما قلائل . أهي ضريبة الانتماء لهذا البلد , أم هي القوانين التي لا تحابي حتى الشهداء ؟
لكني حتما لن أمضي العمر في هذا القبو كأي جرذ بائس . يوما ما سأحزم أمتعتي و أحلق بعيدا لأرى العالم .
***
أعلم أني بلغت الأربعين و أني تحملت لقاء عزوبيتي و أحلامي سيلا من اللوم و الظنون , حتى باتت رجولتي مثارا للريبة و الشك !
ما ادخرته منذ سنين يكفي لرحلة قصيرة في بلدان الجوار . لا بأس ! عناء الخطوة الأولى يجلب هوس الترحال .
حذرني جليسي في المقهى من السفر هذه الأيام , فالجو يسوده التوتر نظرا لأعمال إرهابية تبادل خلالها الأشقاء تهم زعزعة النظام . ندت عنه زفرة ألم دفين ثم أردف : كل قطر مخفر كبير , شعبه مدان , و المشانق جاهزة قبل ثبوت الأدلة . لا خيار ثالث لديك في هذا البلد , إما الهجرة أو الشهادة , فدع عنك مرويات سندباد !
عدت إلى القبو و الرطوبة و توسلات الأرامل .
عدت لأنسج حلما لا حدود فيه و لانقاط تفتيش و لا تأشيرة للعبور من ضجر إلى خوف !