زداااااااف...استيقظ العياشي على إثرها هلوعا من هول ما رأى فيما يرى النائم بعد وجبة عشاء عديمة الفوائد.استيقظت زوجته تردد ما تحفظه من كلمات تليق بهكذا مناسبة .
-بسم الله عليك...مالك ا العياشي؟
أجابها وهو بالكاد يلتقط أنفاسه :
-لا شيء..لا شيء..الأفضل أن تنامي حتى لا توقظي أيوب
-حسنا..إن كان حلما الله يخرجو على خير والأفضل ألا تمر من عتبة تلك الشيبانية السحارة التي تكرهنا.
-صافي صافي نعسي.. باراكا من الكلام الليل هادا..
حاول هو أيضا أن ينام مجددا أما زوجته فقد تنهدت وهي تهم بإطفاء النور. استدار هو جهة اليسار ثم أخذ يلملم تفاصيل ما رآه..كانت حقيبة مليئة بالأوراق المالية سقطت أمامه...زداااف.. ثم تناثرت أمامه ولما هم بجمعها علم أنه يحلم فأطلق تلك الصرخة التي أيقظت زوجته وكادت توقظ أصغر أبنائه، سأل زوجته عن الساعة فقالت أن الفجر لم تنبلج بعد خيوطه ثم طلب منها أن توقظه كما العادة.ولم يكن النوم ليراود العياشي بعد أن رأى ما رآه فظل يتقلب ويخمن، وفي ضيق الحال لا يكون عادة بوسع البشر إلا أن يخمنوا، وكذلك ظل إلى أن هل الصباح حيث قام دون أن ينبس ببنت شفة مما أثار استغراب زوجته التي عهدته غضوبا مكشرا عند استيقاظه ،ارتدى ما يرتديه دائما وحمل عدته ،كالمعتاد، وخرج،كما العادة، دون أن يأكل شيئا. دراهمه قليلة والأيام التي يعود فيها من الموقف خائبا جعلته يعض شفتيه حسرة على ضياع الحلم..الذي لو كان حقيقة لاشترى منزلا واسعا وأدخل أبناءه مدارس خاصة..هه، أضغاث أحلام، أما محنة العياشي فكبيرة إسمها الحياة..حتى أنه لم يعد يذكر منذ متى أصبح يدخل بيته متخفيا عن أعين البقال والجزار والخباز وصاحب البيت ولو وجد في جيبه ما هو أمر من السجائر السوداء لتناوله عن طيب خاطر..على الخواء أشعل سيجارة حتى لا ينفجر رأسه ولما بلغ الموقف وجده خاليا فعلم أنه أتى قبل الأوان فافترش بقايا ورق مقوى ثم استوى متكئا على على حائط بناية الخزينة العامة يشتم رائحة البول المعتق فلم يأبه لها لأنه اعتادها، أشعل سيجارة أخرى وبالكاد انتبه لسالم المجنون الممدد كخشبة الموتى قربه..العادة تجعل كل شيء عاديا حتى سعاله لم يضطره إلى عيادة الطبيب أما جسده فمنهك وأبناؤه جوعى وزوجته البدينة المترهلة لا تجيد شيئا غير الصراخ والعراك مع الجارات..أحياة مثل هذه تستحق أن تعاش؟..لم يبلغ به التفكير هذا المدى فالحياة لدى العياشي واجب يؤديه كل يوم..
وهاهم رفاق الكدح بدراجاتهم الهوائية القديمة يبلغون الموقف تباعا ولم يأبه كثيرا لسلامهم قدر انشغاله بانتظار بنعيسى الذي كان قد وعده بأسبوع عمل ..لكنه لم يصل بعد . قربه جلس الزايدي الأعور، تبادلا أحاديث عشوائية وأشعلا سيجارتين ولم يشعر العياشي متى بدأ يقص ما راه للزايدي الذي ضحك عميقا وقال لباقي الرفاق :
-هل سمعتم ما قاله العياشي؟
أعقب أحدهم :
-هه لم نسمع شيئا أكيد سيشتكي من زوجته..
وأعقب آخر، وكان العياشي يمقته لسلاطة لسانه وثرثرته المريضة التي بسببها وصلا إلى حد الشجار ذات مرة :
-ياكما الموطور مابقاش يديماري ههههههه
وضحكوا جميعا ، ضحك الزايدي وبنموسى وعلال والاخرون، ضحكوا جميعا وانتظروا ردا من العياشي ليسخن الطرح لكنه خيب ظنهم إذ ظل صامتا ولم يكترث لما يقولونه . الحقيبة مليئة بالمال عصب الحياة ونبضها أما العالم فليذهب إلى الجحيم .. ثم إن جنبه الأيسر منقبض و سحنته متعبة ولون وجهه ممتقع فكيف سيضحك..سعاله لا يكاد يتوقف ومع ذلك ظل يدخن حتى أتى على ما علق في جيبه من سجائر سوداء..إلى أن قدم بنعيسى بدراجته النارية ذات العنق الرقيق كالزرافة .نزل منها وقصد العياشي وبعد التحية سأله إن كان جاهزا فحرك رأسه بالإيجاب ثم أسرعا في امتطاء الدراجة وانطلقا إلى حيث اتفق.في الطريق لم تبارح صورة حقيبة الشيطان ذهن العياشي، إنها ملء عينيه.صدره يكاد ينفجر من الضيق .أراد أن يخفف ما يقض تفكيره .سأل صاحبه :
-قل لي يا بنعيسى.إن وجدت حقيبة مليئة بالمال ، فما تراك فاعل بها ؟.
ضحك بنعيسى دون أن يفقد تركيزه مع مقود الدراجة :
-أشعل فيها النار وأحرق نفسي
-أما كنت لتشتري بيتا وسيارة وتتزوج ثانية؟
أعقب بنعيسى :
-حسنا . والباقي أشتري به حبلا لأشنق نفسي
-هههههههه
-خخخخخخخخ
ولم يمض زمن طويل حتى توقفت الدراجة قرب بناية غير مكتملة الأشغال ففهم العياشي أنهما وصلا. وهو يهم بالنزول رفع رأسه إلى السماء..فقط لو تسقط الآن..لم أعد أريد حقيبة ،حسنا فلتكن رزمة أو اثنتين بها أسدد ديوني وأقتني فوق ذلك مخزنا من الدقيق قبل أن يرتفع سعره..ولن أشتري دواء..حسنا يكفي الزيت والسكر ولو بقي شيء سأقتني كيلو لحم..
أعاده بنعيسى إلى الواقع..
-هذا موقعك .لن أريك شغلك.ترى هذه الآنية . أنت تتولى ملأها بالإسمنت وأنا سأرفعها
-حسنا.قال العياشي.لكن..
-لكن؟؟ هاه.الحبل.إنه متلاشي قليلا ومربوطة أجزاؤه من المنتصف . لكن لا تخف.فقد اشتغلنا به مرارا
ثم صاح في بناءين آخرين :
-هيا يا إبراهيم وأنت يا مولاي لحسن..هيا إشرعا في إعداد الإسمنت أم تريدان أن تدركنا شمس الظهيرة الحارقة..
أما العياشي فإن فكرة الإشتغال بهذا الحبل المتلاشي لم ترق له كثيرا ،لذلك صاح بصوت يمزج بين الرفض والإستسلام
-لكن الحبل لا يصلح..
قاطعه بنعيسى بنبرة حادة هذه المرة :
-أوف يا العياشي.لن تجعلني أندم لإحضارك معي. آه لو أن الحسين لم تلد زوجته لما كنت..
قاطعه العياشي :
-صافي...صافي لا تكرر إلا الصلاة على النبي
-عليه الصلاة.. هيا إذن
عمل مولاي لحسن ما طلبه بنعيسى وأصبحت الإسمنت جاهزة.بدأ العياشي يملأ الآنية وسالم يرفعها بالآلة الرافعة فيما آخرون يتولون إفراغها وحملها إلى حيث اتفق..وهكذا مضت ساعة ثم أخرى نسي خلالها العياشي الحبل المتلاشي ولكي يقاوم التكرار المقيت الذي يطبع مثل هذا العمل فقد شغل ذهنه مجددا بالحقيبة..شعر بالتعب. أشعل سيجارة شقراء هذه المرة . في انتظار نزول الآنية جلس القرفصاء .شرع يدخن بعمق ويتأمل تقريبا في اللاشيء .إن كان مثلا ، وهو احتمال وارد جدا، يفكر أن الجدوى هي في اللاجدوى التي يعيشها ، فما قيمة الحياة وإن طالت به وهو على هذه الحالة .ثم ما الداعي للاستمرار. وهل فكر العياشي بهذه الطريقة؟ .هذا أيضا احتمال وارد الحدوث ،وإن كان من باب التخمين.وفي مثل هذه المواقف لا يكون في وسع البشر إلا أن يخمنوا. انتهت السيجارة ونزلت الآنية لذلك استقام وتفل في راحة يديه ممسكا باللوح ثم شرع يملأ الآنية تماما مثلما فعل منذ وصوله صحبة بنعيسى، ولما انتهى من ملئها أخذته نوبة سعال حادة ارتجت على إثرها رئتيه المهترئتين بعنف.رأى زرقة وحمرة في عينيه وهو يسعل وما كان منه إلا طلب السلامة من الله..الآنية ترتفع والحقيبة بين ناظريه والشمس تماما في كبد السماء.. في لحظة رفع رأسه صوبها، تماما كما في الحلم...لقد انقطع الحبل المتلاشي..انتابته الدهشة و جاهد في جزء من الثانية ليعيد تشكيل لون الحقيبة رغم أن أحلام التعساء عادة ما تكون رمادية..كرت الآنية الحديدية الثقيلة صوبه ثم تلتها صرخة في الأعالي..لقد عادت قبل أن تبلغ سطح البيت حيث ينتظرها بنعيسى..هذا صرخ :
-عنداااااك العياشي...
لكنها لم تترك له وقتا كافيا لتفاديها ،اختلطت صورتها في جزء من الثانية بمنظر الحقيبة...ثم زداااااااف...
كانت جمجمة العياشي حينها قد تهشمت... ليختلط الحلم العذب بالسواد الأبدي