واقف على قدمي المتعبتين، أنظر في هدوء أبله عبر زجاج نافذة تشبه البلاستيك المبلل إلى الأرض، والأعشاب البرية تمر تحت قدمي بسرعة خاطفة، كلما ركزت النظر قريبا تزيد السرعة، وكلما نظرت إلى الأفق البعيد تصبح الصور أكثر ثباتا وأكثر إمساكا بنتوءات الذاكرة. ما هذا الوهم الجميل الذي أعيشه؟
خلفي كان المارة يعبرون جيئة وذهابا كما يعبرون عادة في الشارع في ليلة مقمرة، يبدو أن المارة لا يتعبون، يدلفون شوارع المدينة ولا يكتفون بذلك، يرجعون من نفس المكان الذي عبروا منه منذ دقائق، ويتفحصون نفس الوجوه، ونفس الجدران، ونفس الشجيرات المتآكلة. كان هذا العالم البهيج لا يمنعني من استراق النظر إلى تلك السيدة الجميلة في الجانب المقابل، كل شئ حولها مرتب بإتقان حتى كأس القهوة يبدو أنيقا وبقايا الزبد البني على حافة الكأس هادئة ومتناغمة. لا أفهم لماذا ينظر الرجال إلى النساء الجميلات دائما نظرة غير بريئة، أعتقد أن معظم الرجال يضيعون عليهم فرصا كثيرة بهذا السلوك الغبي، فيتصرفون كمن تفتح في وجهه عشرات الأبواب فيتجاهلها جميعا ويدخل من الباب الضيق.
لا أظن أن أحدا يلتفت لي من المسافرين العابرين خلف ظهري ولا تلك السيدة الجالسة في الأريكة المقابلة، لم أكن أنيقا ولا مثيرا للإنتباه، كنت كرجل عادي يسألك عن مكان ما في زحمة الشارع فتنساه بعد خمس دقائق.
كان كل شئ في مكانه، على بعد دقائق من المحطة، رن هاتف تلك السيدة الأنيقة والغامضة، تجاهلت الرنات في البداية لكن مع الوقت بدأت تضعف أمام إغواء هذا الجهاز الصغير الوردي، كانت تتكلم في هدوء وبصوت جد منخفض، حاولت أن أسترق السمع إلى ما تهمس به دون أن أثير الانتباه، تساءلت من يكون يا ترى في الطرف الآخر من الهاتف؟ أصغيت وأنا أكتم أنفاسي، كانت تقول: نعم إنه هو، إنه هنا في الطرف المقابل لي، إنه ينظر في هدوء أبله عبر زجاج نافذة تشبه البلاستيك المبلل إلى الأرض والأعشاب البرية تمر تحت قدميه، إنه لا يظهر إنه يهتم بالأمر لكن لدي إحساس غامض بأنه هو.
محمد بوهرو، تازة، كاتب من المملكة المغربية