و حين هم الشيخ العارف بالله أن يغادر القرية حاملا في طيات قلبه شوقا إلى أرض الحبيب المصطفى كان قد آلف أهل القرية و تعلق قلبه بهم لما فيهم من طيبة و بساطة و تعلقت قلوبهم به لما فيه من حكمة و حب للناس، حين هم إلى ذاك تقدمت إليه فتاة فارعة العود رطبة الوجه كالغدير السلس، و في عينيها دموع الأسى و لوعة الفراق، وقالت:
- أرجو أن تدلنا أيها الشيخ الكريم عما يسكن قرحة الفراق، فإنا معشر الشباب لا نملك على الفراق صبرا و إن قلوبنا تتفتت على صخرة الوداع كما يتراشق الموج على صخور الشاطئ الهائج فتتلاشى مياهه، فهلا حدثنا في أمر المودة و الألفة و طبائعمها، فإن لنا طمعا في حكمتك أن تعلمنا تحمُّل ما لا طاقة لنا بتحمله ..
ساعتها توقف الشيخ العارف بالله و أسند لحيته البيضاء إلى عكازه المعقوف و قد تبدى في عينيه بريق مشع كنجمة الثريا، ارتكن إلى جذع زيتونة برية و الشمس صارت تحيد عن مركز السماء، أحنى رأسه طويلا تحت غطاء جلبابه وأخذ يبرم لحيته و يفكر في أمر السؤال و الجميع ينظرون إليه في تعجب و حيرة، غمغم الشيخ بدعاء ثم قال:
اسمعي يا بنيتي كلاما قد أخذته عن شيخي شيراز الدين الحَلبِي عالم الصوفية و الفلاسفة الأول رحمة الله عليه، و هو قول في جوهر الألفة و العلاقات بين الخلق،( و توجه نحو كل أهل القرية فلاحين و بحارة و مزارعين، نساء و أطفالا و رجالا...) و لكن استمعوا فتح الله قلوبكم و حشاها بالحكمة و الموعظة و نور الحب و الطيبة. فتنحنحت الحناجر و الحلوق مناغية الشيخ دلالة على دقة الانتباه و عزم الأفهام على مجاراة القول حتى نهايته.
قال الشيخ بعد أن أرسل عينيه في غمامة حُبلى ترابض فوق نخلة شامخة الذؤابة :
قال أحد حكماء الهند يوما: ما نفع أن تملك العالم بأكمله إن كان حذاؤك ضيقا و يؤلمك في رجليك، أو فيه حصاة تؤلمك..فإنها تنغص عليك المسير مدى الحياة و إن كنت تسير على بساط مزركش بالذهب و الفضة و الزبرجد المُنضّد...
إن الفضاءات كلها و الأزمنة كلها و الشخوص كلهم لا يمكن أن يوجدوا إلا ضمن سديم النفس يا أبنائي ، كل شيء في كون الله المعجز يقاس بما هو نفسي، الزمن نفسي و إن كانت الساعة بيد الخالق عز و جل، فأنت عندما تنتظر لدقائق معدودات دورك كي تسقي حقلك من مياه الساقية تقع في نفسك موقع اليوم أو أكثر، لكن ساعة مع شخص حبيب قد تمر مثل عشر ثواني متسارعات أو أقل، و قد كان الشيخ مكين الدين ولي أمر النظام التي سلبت عقل العارف بالله محيي الدين ابن عربي يقول،" إن لي مع الله ساعات في القيام و السجود و الهجود أكاد لا أدرك فيها غير نبض القلب، فكأن الوقت فيها يمر مر السحاب فوق المعمورة و هو لا يمر"..
في الحال الأولى لا تكف تنظر ساعة الرمل متأففا منتظرا أن يصير أعلاها عاقبها و يكاد قلبك يزهق من التوأدة فيضيق صدرك لأنك ناقص بحكم الخليقة، و في الحالة الثانية لا تكف تنظر في عيني معشوقك كأنهما معيار الوقت والزمن الكوني أو كأنهما مدار الأزل و الخلود و الخلود لله عز وجل..
المكان هو الآخر نفسي بالأساس يا أهل الطيبوبة ، فانظر إلى أميرة تسكن قصرا كبيرا مليئا بالخمائل و الستائر و الخدم لكنها لا تحب صاحب أمرها و لا تطيق القرب منه و الاستماع إلى اللفظ يخرج من فاه، ستكون حياتها تعيسة و متلبدة كغيوم الشتاء المُبرقة إلى الأبد، لكنها إن تعلقت بتوأم روحها وعاشت معه في بيت بسيط ستكون أسعد خلق الله و أطوعهم نفسا إلى القناعة و الطاعة، و قد حدثنا شيخنا بهي الدين الدمشقي عن محضية كسرى التي حبسها بين جدران قصره في حمص أيام كان سلطانه على بلاد الشام راسيا، فقد مدها بالخدم و الحشم و بسط لها الزرابي المزركشة و الستائر المخملية و الأواني الفضية و الذهبية و وضع تحت يدها ألفا و ألفين من الوصيفات يقمن بأمرها و مطالبها، لكنها كانت سبب هلاكه بالسم و ضياع أطراف إمبراطوريته، ذلك أنها خانته مع عدوه اللذوذ الذي نافسه في ملكه، لأن زواجه منها كان غصبا و سلبا لا عن حب و مودة، فقد أخذها سليبة في غزوة على أهل بلدها فقتل أباها و سجن إخوتها و اتخذها خليلة...
ونحن أيضا لا نرتاح في الأماكن الباذخة المترفة لأنها تشعرنا بالخوف، الخوف من فقد طبائعنا الغريزية التي عليها جبلنا الخالق، لكننا نرتاح في أكواخ الجريد الصغيرة التي نستظل فيها م الشمس و تحتمي فيها من الشتاء، لأن لنا معها ألفة و روابط الذكرى مهما كانت بسيطة وعادية، وما تكون الذكرى إن لم تكن حدثا نفسيا، إن عمر الفاروق رضي الله عنه كان ينام تحت النخلة هاني البال لا هم و لا كدر، لأن الله عز وجل جعل في قلبه قسطاس العدل، فكان نومه على الأرض عند الناس كنومه في قلوبهم لأنهم أحبوه ، إنظر إلى مشاعر الناس و أحاسيسها أيضا تلفي غرائب المشاعر و متناقضها، قد تحب فلاحا بسيطا متسخ الأسمال مرذول المنظر بالتراب و تكره ملكا مترفا يرتدي من الحلي ما غلا و يضع من التيجان المرصعة الفاخرة ما لا شبيه له على وجه المعمور، قد تحب إنسانا بسيطا في فكره و جسمه و كلامه ولا تحب خطيبا أو سياسيا مشهورا لا تخلو المجالس من حديثه و لا تكف الألسن عن ذكر مناقبه و بطولاته وأمجاده، و قد تحب أَمَةً حمقاء لها حظ قليل من الجمال و البهاء و لا تحب ملكة سبإ و إن كانت ذات سلطة و مال ، ذات جمال و فاتنة الأطراف، إذ يكون الشعور نحو المهبولة حبا و الشعور نحو الجميلة انبهارا مؤقتا أو إعجابا..لأن الأولى وقعت من نفسك موقع ألفة و رأيت نفسك و نسلك فيها و الثانية أعجبتك من شاكلتها و هيئتها لكن لم ترتح لها و لا استساغتها نفسك و تلك حكمة العزيز الحكيم كي يستمر النسل و خلافة الأرض من غير عزوف الناس عن بعضها البعض أو تصارعها على المشترك، لأن المشترك في الناس مكروه و محرم ...
إن معيار السعادة لا ينفصل عن هذه العناصر الثلاثة: الناس\ الأمكنة\ الأزمنة، و هي متضافرة تشكل نواة الشعور بمختلف تنويعاته و إيقاعاته، فنحن سعداء في أزمنة و أمكنة و مع أشخاص أو نحن تعساء مع أناس و في أمكنة و أزمنة لا توائم أمزجتنا و طبائعنا التي تستبد بأخلادنا و خياراتنا ...
إن النفس البشرية يا أبنائي هي معيار الحب أو الكره، القبول أو الرفض، الألفة أو الفرقة، و ليس فيها ما يحدد مؤشرات هذا الحب أو يبينه بيانا أكيدا، و قديما حين حدد الحكيم أفلاطون تقسيمه الثلاثي للنفس، رجح أن الإنسان العاقل هو الذي تغلب عنده النفس العاقلة في مقابل النفس الشهوانية أو الغضبية، لكنه لم يقل لنا ما يغلب عند الإنسان في المألوف، إذ اكتفى بتحديد الأنواع و بيان الحدود بينها، غير أن البادي لنا في مفاصل الحياة و السلوك الآدمي هو أن النفس العاقلة لا تحدد العلاقة مع باقي الإنس، إن الإنس لا يعقلون بعضهم بعضا، إذ العقل لا يحضر أمام نزوع النفس عند معظم الناس، فما يكون الحل إذا؟
السؤال فخ هنا يا أبنائي ، إذ ليس ضروريا أن نقدم لأنفسنا تبريرا كي نحب الناس أو ننفر منهم،إنها مزائج النفس و أخلاطها و ما اعتلق بها عبر التجارب والحدوس التي اكتسبتها عبر المحن و مكابدة التجارب و معرفة الأصناف و الأنواع من الخلق، تلك هي محددات الألفة و الفرقة و العشق و النبذ و الرفق و القسوة و القبول و الرفض، فالحدس هو ما يأتي بعد العقل على ترتيب أهل النور، أو ما يختص في الأمور التي لا يستطيع العقل إليها سبيلا كما حددها مولاي جلال الدين، الحدس يا أبنائي هو أعلى مراتب الإدارك، بل هو آلة الإدراك القصوى التي تميز إنسا عن آخر، إذ لا يخفى على الناس أن العقل نور مشترك جعله الله قسطاسا بينهم، و كثير من الناس يتساوون في الأفهام و سرعة البديهة و نباهة القول و الاستنباط، لكنهم لا يتساوون في الحضور، في الثقل و القدرة و القبول عند الآخرين، و ذلك راجع إلى عنصرين أولها الحدس وثانيهما الخيال، إن الخيال والحدس هما المحددان الرئيسان لجوهر النفس، و النفس تسير بهما، فنفس المرء لا تكون خارج خياله و حدسه، لذلك عندما يقول فلان عن فلان إنه قبيح النفس فهو يقصد أنه محدود الخيال سيء الحدس، وهكذا يكون إدراكنا للأشياء و الآخرين مبنيا على الحدوس و الأخيلة، و تكون علاقتنا بالآخرين موشوجة الأطراف موثوقة العُرى حين يكون خيالنا أوسع و حدسنا أنقى و العكس بالعكس، إن ضعيف (ة) الخيال و سيء (ة) الحدس و العياذ بالله لا ينفعان أصدقاء و لا أحبة و لا إخوة، إذ تغلب عليهما صفات الدناءة ويغيب عنهما صفاء القلب و بياضه و إن كان العقل في مستوى السمو، ذلك أن الدناءة مرض عضال ينتقل من شخص إلى غيره، و الناس على شاكلتها تسير، و قديما قال نور الله و محبوبه:" من عاشر قوما أربعين يوما صار منهم" بمعنى صار شيء في جوهره يوافق جوهرهم العام و يمتزج به، إذ يأتي الجوهر على وجهين، جوهر الفرد و جوهر المجموع،وأول صفات الفساد في الحدس و الخيال عد الفرد مجاراة الناس فيما يحبون دون تقصّد الحق و الفضيلة، فضعيف الخيال لا يرفض شيئا و يقبل كل شيء و يكتفي بالناجز أمام عينيه، و ينحو في أغلب الأحيان إلى نفاق الأقران حين لا يخبرهم عما يعتقد بينه و بين ذاته في خلوة الروح، إذ لتطول العلاقة بين نفسين لابد من بعض الصراحة المؤلمة و هو ما يغيب عن ضعيف الخيال، أما من حيث حدسهُ فالإنسان المكروه الذي لا يصلح للمحبة ينماز بقلة الحيلة و غياب الفراسة و الخبرة في وزن الناس، إذ كفة ميزانه اليسرى تغلب على الكفة اليمنى، فيقيس الناس بالجنس و اللون و المال و توافه الأمور، فإن كان ذكرا تراه لا يتقرب إلا للنساء الجميلات طامعا في ما أملاه عليه حدسه و دفعته إليه نفسه الشهوية، مهملا باقي النساء، و إن كانت أنثى تراها رافضة لكل رجل غير الذي يملك السلطة و المال والجمال، و هو أصل في علاقة الحب مقبول عند العموم بل و طبيعي، لكنه في علاقة الصداقة أو الأخوة مكروه،إذ تنحو نفس الرجل نحو امرأة للحب فيكون معياره الجمال طولا و قدا و بياضا و رقة...، و تنحو المرأة نحو الرجل في علاقة الحب فيكون معيارها المال و الجمال و القوة وذاك كله من شرعة الخلق و ناموسه، لكن ما معنى أن تبنى علاقة الصداقة على المعيار ذاته؟
لا معنى لذلك سوى نقصان النية الطيبة و غياب قيمة الصداقة في النفس، فالذي يجعل كل الناس أصدقاءه لا صديق له و الذي يجعل أكثر من محبوب لا محبوب له سوى نفسه المتكبرة المتغطرسة، و قديما قال الفُرس ما يملكه الجميع فهو ملك للا أحد، إذ نيته نحو الناس تنبني على نظام حسابي عقيم عقم البغلة، يرى في خلاّنه فرصا للمنفعة المالية أو الجسدية أو النفسية حتى فتراه(ها) تضع الناس في جداول و إمكانات حسابية بسبب عدم القدرة على الحب و إن بدى العكس من المشهود بالحواس، لكن الذي يحب الناس لا يكثرث إلا للذين يقعون من نفسه موقع مودة و تآلف، فلا يكثر من توزيع الكلام المعسول على العموم، لكنه يكثر من الفعل المقبول مع المجموع وذلك عين المروءة و الشهامة و مُنتهاهما، إن الذي يراه الناس غير محبوب و قليل الكلام و منزويا عن العموم إذا أحب يحب بصدق و إذا صادق يصادق بعمق و إذا مدح يمدح عن قناعة و إذا ذم يذم عن كره و إذا كتب يكتب عن ألم كبير أو فرحة عارمة أو حنو مدهش، إن موسى عليه السلام كان في قومه مَعيُوف الجانب مكروه الحضور منبوذا، لكن الباري عز وجل أنزل نوره الوضّاح في فجوة ثوبه و ما أنزلها في ثوب فرعون الذي تعبده الأمصار كلها، الذي لا ينافق هو الذي لا يقول إلا ما يحسه، حيث يكون الكلام صنوا لما في القلب من الاعتمال والمُكابدة، لكن امتزاج الحق بالباطل في نفوس الرعية غالب الميزان الأنقى و المعيار الأصفى بالبهتان و المجاراة في السوء و ضعف النفس فصار الأبيض أسودا و الأسود أبيضا و الكل جونٌ و العياذ بالله، و صار اليمين المفضل عند المصطفى شمالا و الشمال يمينا، و هذا حال أمة عشعشت أخلاق العبيد في مفاصلها و امتزج الصدق عند أهلها بالخوف من الغير فصار نفاقا..هذا حال أمة معتلة الأطراف و المداخل و المخارج لا وزر عليها فهي في حكم الميت.
إن علاقتنا بالناس ضمن المكان و الزمان لا تخلو أن تخضع لناموس النفس، و كل ما قلناه عن ضعف الخيال و استكراه الحدس الفاسد مُعتلق بالنفس الفردية، و قليلون هم الذين يفقهون ما المقصود بالنفس، إذ عميت أبصار العامة عن منتهى القول في نفس الخلق، فغير الجسم و الروح هناك عنصر ثالث يحدد فساد العنصرين السالفين و هو المادة الأولى التي منها قُدّ الإنسان وصيغ ، و أهل النظر قديما سمّوها الهيولى، أي المادة الأصل..
إن أصل (هيولى) ضعيف الخيال و فاسد الحدس مأخوذة من التراب الأدنى، الأبيض، ذلك التراب الذي يمتد في الأرض كبقع الملح، فتجد الذي هيولاه كذا لا يملك للناس مكانة في قلبه، إذ ساعة الفراق عنده ساعة ضياع غنيمة و فقدان صلة بنعيم كان يترف فيه دليل النفس أعمى البصيرة، و هذا في ساعة الفراق لا أهمية لوداعه و لا رغبة في وصله وصلة أخيرة، إذ به من الخبث ما يجعل الناس يستكرهونه ما عدا من لم ينفذوا إلى أصله و فصله بالحدس لأن ليست كل حدوس الناس صافية قوية، أما أصل ( هيولى ) قوي الحدس نقيه و جيد الخيال واسعه فمن تراب زكي، نديّ بماء المحبة، إذ قبل أن يعجنه الخالق مُدغة يرشه بماء الزهر كي يكون نواة طيبة في العالمين، غير أن النسل لا يكون كله وراثة في كلا النوعين، و هي من حكم الباري عز وجل، إذ كل الناس مخيرين في طيبة عرقهم أو فساده..
و طيِّب الحدس واسع الخيال يصاب في الفراق مصيبة طائر جريح، إذ عمق النفس عنده يمتد إلى عروق القلب، فترى كل ما شاهدته عيناه على طوية الصدر منشورا، على صفحة الوجه باديا..
( و هنا توجه الشيخ العارف بالله إلى الفتاة الشابة مترفقا في القول و الحركة).
و هكذا يا طفلتي يستقيم القول في حالات الفراق و من يستحق الحزن عليه و من لا يستحق، من يفطر القلب عليه و من ترتاح النفس من أدران حضوره و أوساخ أقواله و نتانة أفعاله، إن الذي نفسه ثقيلة بسبب بطلان الخيال و قصر النظر و الحدس لا يستحق من دموعك قطرة و لا حبة خرذل من الحزن، إذ يشاء الباري عز و جل أن يبعد عنك الشر من حيث لا تدرين وأنت عن ذلك غافلة ، أما الذي في قلبه نور الصداقة و المحبة و الوفاء و الألفة فإن عليك حقا في أن تحزني و تبكي، لكن البكاء و المكاء لا ينفعا في حصره، فهل تكون النفس في حالة انهيار الأوصال نفسا سوية؟
إن الحزن يا طفلتي عن فراق الناس لا يعدو أن يكون لحظة ضائعة في سُنن العارفين بالله، فما أحزن القلب الذي لا يعي حكمة الله في الفراق، و من يدري فبعد الفراق قد يكون اجتماع أحب و أقوى منزلة في النفس تشتد به الأواصر و تمتد به العشرة و تطول، إن فراق الأحبة إذا قرنه العبد بحكمة الله و بجمال الكون و اتساع أمصاره و آفاقه صار نعمة و تجربة تمر على القلب و الروح فتصقلهما بإزميل الحكمة و التروّي ، و إن قرنه – على سنة المجوس – بالدموع و البكاء و النواح صار فراقا كالجنازة لا طعم له، و لا طعم لما سبقه من حلاوة المصاحبة و طيب العشرة و المعاشرة، وكأنها لم تكن، و كأن الحبيبين أو الصديقين ما عاشا لحظة تقاسما فيها نور القلب و فيض الخاطر و حلاوة الكلمة و اللمسة، و هذا حال أغلب الخلق سامحهم الله عن جهلهم و غفلتهم، إذ يمحون حسنات الأُلفة المُستديمة بسيئات الفرقة المَوقُوتة...
إن النفس يا بنيتي لتعشق نفس غيرها، فيجمع بينهما شوق و تآلف لا يصدأ على الدّهر و طوله، و بذلك يصير للنفس على النفس حق الرعاية و المحبة في الله، فإن أخلّت بالعهد كأنها أخلت بعهد الله، أوليس البكاء عند فراق العزيز إذاية لنفس المُفارق، إذا فكأنها مسٌّ بعهد الله و الوثاق الذي ربطه بين النفس و النفس، فهل يرضى المحب أن يغضب الباري عز وجل..أرجو أن تمسحي عينيك من دموعهما يا طفلتي و تشرئبي إلى ألق الشمس و حكمة الطبيعة،( و هنا مد الشيخ يديه إلى حبة زيتون فقطفها من الشجرة و استدار نحو الناس كلهم)...
انظروا حكمة الطبيعة في الفراق، إن الطبيعة هي تجسد الله على الأرض فهو في كل شيء فيها موجود، هل تبكي الشجرة أو ترفض أن آخذ منها حبة زيتون لأطعم أطفالي و نفسي؟
إنها لا تبك لأنها تدري أن حكمة الباري في ذلك أعمق، ففي العام المقبل سينمو زيتون آخر، إن سعادة الزيتونة في أن تعطي، في أن تفارق بنتها الحبة دون بكاء، فلما لا تتأملون في هذا الناموس البديع من بدائع المولى و تفقهون ما يثوي خلفه من كنوز و نفائس و جواهر...
إن الحياة كهذه الشجرة الآباء أغصانها و الأبناء زيتونها، وكل غصن يُحادي غصن و كل زيتونة تُحادي زيتونة، فكذلك نحن وإن فرقتنا الدروب فلأن في ذلك حكمة لنا و منفعة لآخرين ...
فهذا منتهى قولي في الفراق، و أظن شيخي قد أطنب فيه فلخصته لكم محبة فيكم و رهاية لأفهام الصغير منكم و حدس الكبير فيكم، فافقهوا ...
حين انتهى الشيخ العارف بالله من كلامه استدار على عاقبيه ليأخذ طريق ميناء البحارة القديم قاصدا مغادرة أحبائه من الفلاحين و الخرازين و النجارين و الأطفال و النساء و في قلبه مرارة لا يعلمها إلا الخالق عز وجل، ساعتها كانت الشمس تغيب في كبد السماء فتصنع فرجة مدهشة يتعانق في أفقها الشفق الأحمر بألوان الطيف و ضوء الشمس الخافت الذي يكاد ينتحر..توكأ على عكازه القديم و أولى ظهره للجموع التي لم ترد البكاء عملا بنصيحته، فقد كانوا يحبونه وإن كتموا عنه مقدار ذاك الحب، في الطريق كان الشيخ يستند كتف مريده الصغير فسقطت على كتف المريد دمعة حارة بعد أن أحس بأكف الشيخ ترتعش ارتعاشة خفيفة.