من العالم البعيد كانت تهب عليه الذكريات باردة جافة كعيون ليل متربصة بوجدانه.
كان خوفه من اللاشيء خوفا غريزيا ، وكانت الحيرة بين لا شيئين تكبر معه مثل توأم سيامي يشترك قلبا واحدا.
كان حبه مشتتا تماما كما هي أيامه، كل خطوة من حياته لم تكن إلا ليلا مظلما وعيونا لا تنظر إلا سوادا، وقطرتين من المطر، وقليلا من فتاة خبز قديم...
كان ليله عنجهي البرد، وكان سريره صلبا ، يكاد يفتك بعظامه الخائرة المترهلة.
- أوه ! أينك يا مهد طفولتي ؟!
لم يكن يتأوه على المهد لوحده ، فقد كان متضجرا شوقا إلى أيام الصبا ، حيت البياض كان يحتل نفسه احتلالا جميلا... حيث النور كان يأتيه من كل أغوار السماء ، وعقله يعربد في الصفاء... يطير في براءة حلوة إلى دراجة المرارة، ونقية إلى درجة العفن...
سالت دموعه حمراء، كلون السماء عندما تغضب من طول مكوث الحقيقة في جوفها.. فبمعنى ما مبهم كانت نظراته طافحة بحقيقة السماء تلك، أو سماء الحقيقة.. فهي من لونت دموعه بلون الدم ، وهي من أرسلت إليه الذكريات باردة جافة كعيون الليل المتربصة بوجدانه.
فرك جسمه فوق السرير الصلب، فأحس بظهره يوخز بطعنات لا قبل له بها.. أحس بأن كل ذرة من ذرات ظهره قد استحالت إلى عين تفقأ، ويسيل منها دم أبيض.
وارتعش ارتعاشة صوفي مسه ولع ، فقهقه طويلا من شدة الألم ، وساوره إحساس باللاوجود ، فعاود الضحك المسترسل وتمتم:
جمال... من هذا الأبله الذي أسماني بهذا الاسم!
ثم أردف:
-أوه...أينك يا مهد طفولتي الأصفر؟! أين أنت من هذا السرير السادي ، الأخرق؟!أين طفولتي من هذا العبث الذي يسمونه شيخوخة واسميه ميتافيزيقا الجسد...
وفتح فاه فتحة ثعبان سام يهم بقضم فريسة / بقضم صاحبنا الجاثي على هذا السرير الصلب، كأنه منضدة التشريح.
ولم يغلق فمه إلا بعد أن تجرع جرعات الليل السامة المميتة ، أف لقد أصبح الليل الآن في جوفه! ظلام الليل في رئته ! روح الليل في قلبه! والليل بارد سام.. انه إذن ميت لا محالة...
ثم أغفى ، فرأى الليل يسري في جسده كما تسري الفرحة في قلب الرضيع حين يلتقم ثدي أمه ، والصمت غالب على أمره...
ثم لم يلبث أن صحا صحوة مفاجئة فقد أحس بنفسه تحتضر. وسموم الليل تبث فيه مفعولها فتتجمد الدماء في عروقه...
فأغمض جفنيه وفرك ظهره على سطح السرير وأسلم روحه إلى السماء، تلك التي لا تزال غضبى من أسرار الملكوت، وضجرة بالحقيقة الرابضة في جوفها... وتحول الليل في داخله إلى موت وفناء...
إلى جانب السرير القاسي ، كانت الغرفة تعج بالعاب الصغار ، وتشرف نافذتها على مطبخ تفوح منه رائحة بصل ممزوجة بريح عطر الخزامى الأخضر الجاف.
وتسللت الرائحة إلى الغرفة في حضن نسيم ريح هبت من جدران المنزل. فتمايل اللحاف الذي يلتحف به جسده
، إلى أن سقط.. فقام الجسد الميت مرتعشا، وسار خطوات باردة ترسلها الرياح حيث شاءت.
وصاحت إرادة واعية في كيانه فصاح:
- أووه...جمال... يا له من اسم أبله سميت به!
وأدار وجهه في خفة فوجد جثة العجوز/ جثته لاتزال نائمة فوق السرير الصلب بدون وعي ولا حراك.
فعادت الإرادة الواعية في داخله توخزه بمشاعر مضطربة فبدأ يرغي ويزبد:
- أوف... أينك يا أيام الطفولة ؟! أينك يا مهدي الأصفر؟!
وعادت نسائم الريح تدفعه بخطواته إلى الأمام.. . لا بل إلى الوراء... إلى حيث يوجد مهده الصغير الأصفر!!!
وضاعت أفكاره ، وتشتت الصور أمامه : المهد ، الطفولة ، السرير الصلب ، جرعات الليل المسمومة...
ورغم شتات وجدانه كان قلبه يرسل إليه تنهدات صادقة : لماذا سميت بهذا الاسم: جمال ؟؟ انه أصل كل هذه المشاكل...
لم يكن يعرف كيف أو لماذا: فقط كان يؤمن طوال حياته ( وحتى الآن بعد مماته) أن اسمه هو أصل المصاعب...
ثم ألفى كل جارحة منه تصيح :
ـ إيه!! هاهو مهدي الأصفر....
وارتمى فوقه ـ وكان المهد صغيرا لا يتسع إلا لجسم رضيع ـ لكنه ارتمى فوقه ونام... نام طويلا... نام حتى الصباح...
وفي الصبح كان المهنئون يقبلون جبين المولود المزداد للتو، النائم في مهده الأصفر. ويتجهون بحركة بلهاء برؤوسهم إلى الأم قائلين :
ـ ماذا تنوين تسميته ؟
فتجيب الأم وابتسامة باردة تعلو محياها :
- سأسميه .. جمال...
فيجيبون بصوت واحد:
ـ يا سلام اسم جميل . . مبارك إن شاء الله ...
تمت
عمر الأزمي فاس المغرب
فرك جسمه فوق السرير الصلب، فأحس بظهره يوخز بطعنات لا قبل له بها.. أحس بأن كل ذرة من ذرات ظهره قد استحالت إلى عين تفقأ، ويسيل منها دم أبيض.
وارتعش ارتعاشة صوفي مسه ولع ، فقهقه طويلا من شدة الألم ، وساوره إحساس باللاوجود ، فعاود الضحك المسترسل وتمتم:
جمال... من هذا الأبله الذي أسماني بهذا الاسم!
ثم أردف:
-أوه...أينك يا مهد طفولتي الأصفر؟! أين أنت من هذا السرير السادي ، الأخرق؟!أين طفولتي من هذا العبث الذي يسمونه شيخوخة واسميه ميتافيزيقا الجسد...
وفتح فاه فتحة ثعبان سام يهم بقضم فريسة / بقضم صاحبنا الجاثي على هذا السرير الصلب، كأنه منضدة التشريح.
ولم يغلق فمه إلا بعد أن تجرع جرعات الليل السامة المميتة ، أف لقد أصبح الليل الآن في جوفه! ظلام الليل في رئته ! روح الليل في قلبه! والليل بارد سام.. انه إذن ميت لا محالة...
ثم أغفى ، فرأى الليل يسري في جسده كما تسري الفرحة في قلب الرضيع حين يلتقم ثدي أمه ، والصمت غالب على أمره...
ثم لم يلبث أن صحا صحوة مفاجئة فقد أحس بنفسه تحتضر. وسموم الليل تبث فيه مفعولها فتتجمد الدماء في عروقه...
فأغمض جفنيه وفرك ظهره على سطح السرير وأسلم روحه إلى السماء، تلك التي لا تزال غضبى من أسرار الملكوت، وضجرة بالحقيقة الرابضة في جوفها... وتحول الليل في داخله إلى موت وفناء...
إلى جانب السرير القاسي ، كانت الغرفة تعج بالعاب الصغار ، وتشرف نافذتها على مطبخ تفوح منه رائحة بصل ممزوجة بريح عطر الخزامى الأخضر الجاف.
وتسللت الرائحة إلى الغرفة في حضن نسيم ريح هبت من جدران المنزل. فتمايل اللحاف الذي يلتحف به جسده
، إلى أن سقط.. فقام الجسد الميت مرتعشا، وسار خطوات باردة ترسلها الرياح حيث شاءت.
وصاحت إرادة واعية في كيانه فصاح:
- أووه...جمال... يا له من اسم أبله سميت به!
وأدار وجهه في خفة فوجد جثة العجوز/ جثته لاتزال نائمة فوق السرير الصلب بدون وعي ولا حراك.
فعادت الإرادة الواعية في داخله توخزه بمشاعر مضطربة فبدأ يرغي ويزبد:
- أوف... أينك يا أيام الطفولة ؟! أينك يا مهدي الأصفر؟!
وعادت نسائم الريح تدفعه بخطواته إلى الأمام.. . لا بل إلى الوراء... إلى حيث يوجد مهده الصغير الأصفر!!!
وضاعت أفكاره ، وتشتت الصور أمامه : المهد ، الطفولة ، السرير الصلب ، جرعات الليل المسمومة...
ورغم شتات وجدانه كان قلبه يرسل إليه تنهدات صادقة : لماذا سميت بهذا الاسم: جمال ؟؟ انه أصل كل هذه المشاكل...
لم يكن يعرف كيف أو لماذا: فقط كان يؤمن طوال حياته ( وحتى الآن بعد مماته) أن اسمه هو أصل المصاعب...
ثم ألفى كل جارحة منه تصيح :
ـ إيه!! هاهو مهدي الأصفر....
وارتمى فوقه ـ وكان المهد صغيرا لا يتسع إلا لجسم رضيع ـ لكنه ارتمى فوقه ونام... نام طويلا... نام حتى الصباح...
وفي الصبح كان المهنئون يقبلون جبين المولود المزداد للتو، النائم في مهده الأصفر. ويتجهون بحركة بلهاء برؤوسهم إلى الأم قائلين :
ـ ماذا تنوين تسميته ؟
فتجيب الأم وابتسامة باردة تعلو محياها :
- سأسميه .. جمال...
فيجيبون بصوت واحد:
ـ يا سلام اسم جميل . . مبارك إن شاء الله ...
تمت
عمر الأزمي فاس المغرب