… ها هو السيد "سين" يعبر البوابة الكبرى كعادته، وجهه مدثر بمسحة حزن، وجسده النحيل ملفوف في معطف حائل اللون، بفعل التقادم، يتأبط تحت ذراعه الأيمن محفظة عجفاء ضامرة تعكس خواء ما تحتويه، ولا تعطي صورة حسنة عن حاملها.
بعد أن تخطى العتبة سار في المجاز، أسند دراجته الهوائية على حائط المبنى، وانسل بين الصبايا والصبيان يداري خجله، وهم يحاصرونه بنظراتهم المستفسرة عما ينتظرهم اليوم. في الرواق، وقف خلف آخرون، فرادى ومثنى وزرافات، يقتلون ما تبقى من الوقت، أو يمزحون على سخف، بعضهم يصوب نحوه نظرات فضول وهو يتجاهلها … الكل يتثاقل في مشيته، ويتبرم من نظامه اليومي المكرور، ويستأخر موعد "المواجهة" الجديدة ...
في طرفة عين، وجد السيد "سين" نفسه جالسا إلى منضدة فوق مصطبة، أمام حشد من الأطفال يلغطون ويفجون، نقر عليها لإخراسهم ولفت انتباههم، لم يكترثوا، واصلوا أحاديثهم، هوى ثانية بعصاه على المكتب الخشبي. فجأة سرى بين الأطفال شيء كتيار الكهرباء، انخرسوا وحملقوا فيه فاغري الأفواه، في تلك اللحظة سدر وانخطف لعله تذكر أشياء كثيرة، ومر أمامه شريط عديدة صوره : تذكر تجهم البقال الذي يعول عليه في إمدادات الأسبوع، والجزار الذي أوقف تعامله معه بسبب تأخره المتكرر في التسديد، تذكر والدته العليلة، وأخاه المتوعك، ووالده المفلس، وعمته المفجوعة، وتذكر أن في بلده، ليس هناك مستشفى للفقراء، ولا دار للعجزة، ولا مأوى للمشردين، ولا مؤسسة للخدمة الاجتماعية ولا … ولا …
استحضر في ذهنه صور بلده كلها، أحس بثقل ينوء على كاهله، أرسل آهة، هام في استيهاماته وخيالاته، غص، أحس بدوار، فشد رأسه بكفيه.
بعد صحوة تذكر أمورا أخرى : تذكر أن الناس عامة وعليتهم خاصة، في بلده، لا يملون من اجترار المدلولات اللفظية لقيم وسلوكات وعادات هي أضداد تلك المعيشة حقا، والمخطط لها حقا، والمشغوف بها حقا ! إنها لعبة مسلية ! يهواها الجميع، ودرج وتربى عليها الجميع، ولا أحد يرضى عنها بديلا !
استحسن الأطفال صنيعه فصاح أحدهم بعفوية : حسنا فعلت يا ... ورددوا جميعا : أجمنا الوجبات المكرورة مللنا من دروس توارثناها أبا عن جد : (كان وأخواتها، إن وأخواتها، آداب الاستبراء والاستنجاء والاستجمار في الغائط، إيه الغائط ! في زمن يتناس فيه الناس في زخرفة دورات المياه بزخارف تبز قصور العباسيين !
شخص السيد "سين" ببصره مستغربا، تدخل طفل آخر وأضاف : أنتم معشر ... تقصون علينا أمجاد الأجداد والأسلاف، ونحن في حاجة إلى من يعلمنا كيف نصنع أمجادنا نحن، أنتم منجذبون إلى الوراء، إلى الماضي إلى ما تسمونه التراث، ونحن نشرأب إلى الأمام، إلى المستقبل. أنتم ملتصقون بالشرانق، ونحن نريد فضاءات أرحب، أوسع، نشتم فيها رائحة الحياة، أنتم كقبور الفراعنة ما أن تتسرب إليها نسمة ريح حتى تتفسخ وتزنخ، ونحن جبلنا على حب التغيير والتجديد والتحديث.
أضاف "ثالث" : يا غيوم بلادي انقشعي واصح يا طقس، وأفيقوا يا نيام.
اندر السيد "سين" أمام مرافعات الأطفال وسلطانهم، انسحق تلاشى، انتابته مشاعر الهبوط والقرف من الانتماء إلى محيط لعيش بلا أفق ! أحس أنه في مكان غير مكانه، فحار طيفا انسل من خوخة الباب، وغادر المكان، غادر مقبرة الأحياء !
أما السيد "و" فماض في تفاؤله يبني قصور الرمل ي الهواء، ومن فوق منصته الموشاة بالطنافس، يرفع عقيرته ملوحا بقرب النصر، (ورائحة الشواء تفوح من خيشومه).
يقول ذلك وهو مطمئن إلى (اضماماته السبع)، مطمئن إلى علاواته وتعويضاته، إلى رصيده في البنك، إلى تحفه وخيوله، إلى، وإلى …
لحسن لكزالـي
(أستاذ التعليم الابتدائي – خنيفرة - المغرب)
بعد صحوة تذكر أمورا أخرى : تذكر أن الناس عامة وعليتهم خاصة، في بلده، لا يملون من اجترار المدلولات اللفظية لقيم وسلوكات وعادات هي أضداد تلك المعيشة حقا، والمخطط لها حقا، والمشغوف بها حقا ! إنها لعبة مسلية ! يهواها الجميع، ودرج وتربى عليها الجميع، ولا أحد يرضى عنها بديلا !
استحسن الأطفال صنيعه فصاح أحدهم بعفوية : حسنا فعلت يا ... ورددوا جميعا : أجمنا الوجبات المكرورة مللنا من دروس توارثناها أبا عن جد : (كان وأخواتها، إن وأخواتها، آداب الاستبراء والاستنجاء والاستجمار في الغائط، إيه الغائط ! في زمن يتناس فيه الناس في زخرفة دورات المياه بزخارف تبز قصور العباسيين !
شخص السيد "سين" ببصره مستغربا، تدخل طفل آخر وأضاف : أنتم معشر ... تقصون علينا أمجاد الأجداد والأسلاف، ونحن في حاجة إلى من يعلمنا كيف نصنع أمجادنا نحن، أنتم منجذبون إلى الوراء، إلى الماضي إلى ما تسمونه التراث، ونحن نشرأب إلى الأمام، إلى المستقبل. أنتم ملتصقون بالشرانق، ونحن نريد فضاءات أرحب، أوسع، نشتم فيها رائحة الحياة، أنتم كقبور الفراعنة ما أن تتسرب إليها نسمة ريح حتى تتفسخ وتزنخ، ونحن جبلنا على حب التغيير والتجديد والتحديث.
أضاف "ثالث" : يا غيوم بلادي انقشعي واصح يا طقس، وأفيقوا يا نيام.
اندر السيد "سين" أمام مرافعات الأطفال وسلطانهم، انسحق تلاشى، انتابته مشاعر الهبوط والقرف من الانتماء إلى محيط لعيش بلا أفق ! أحس أنه في مكان غير مكانه، فحار طيفا انسل من خوخة الباب، وغادر المكان، غادر مقبرة الأحياء !
أما السيد "و" فماض في تفاؤله يبني قصور الرمل ي الهواء، ومن فوق منصته الموشاة بالطنافس، يرفع عقيرته ملوحا بقرب النصر، (ورائحة الشواء تفوح من خيشومه).
يقول ذلك وهو مطمئن إلى (اضماماته السبع)، مطمئن إلى علاواته وتعويضاته، إلى رصيده في البنك، إلى تحفه وخيوله، إلى، وإلى …
لحسن لكزالـي
(أستاذ التعليم الابتدائي – خنيفرة - المغرب)