الشارع واسع ونظيف,على طول حافتيه تراصت أشجار شذبت أغصانها بمهارة فائقة فبدت كشريط أخضر ممتد لتتعانقا قرب قوس شامخ ...
الحركة يحكمها انضباط دقيق,لا زعيق منبهات , ولا ايادي تتوعد مخترقة النوافذ بألفاظ بذيئة أغلب الاحيان...كما هو حال شوارعنا الضيقة.
المطر غزير ,لم يتوقف منذ البارحة ,تمنيت لو ان الله أرسل هذه الامطار الى أهل قريتي,الذين يسندون الآن ظهورهم الى حيطان حجرية,تستلذ أجسامهم الباردة دفء أحجار خزنت حرارة النهار,وجوههم بسواد الارض وشحوب الزنابق...
اشتقت أن يبللني المطر,أن أغتسل,أن أقيس مدى قدرة القطرة على الاختراق فهمت دون مطرية,الامر الذى ادهش من صادفنى ـ على قلة انتباههم للآخر ـ " يا لهذا العربي ,لم ينسلخ عن صحرائه ..."
تحت غزارة المطر,تذكرت البرك التى بللتني بالكامل...
تذكرت نصوص القراءة الابتدائية التى كانت تتساوق بشكل مريع و ومظاهر فصول السنة...
فقراء ابناء قريتي...حتى حجرة درسهم...اليوم أفقر من الأمس...
ـ زياد...زياد...تناهى الي اسم لم اسمعه منذ ثلاثين سنة...
الصوت لم يكن غريبا ,لكن الأمد طال والاصوات اختلطت...
اما " زياد "فهو ببساطة اسمى الحركي منذ ثلاثين عاما مضت...
بلطف ربت على كتفي المبلل " زياد, ألم تسمعني ؟"
عانقت الحضن العربي الوحيد الذى صادفني,لم يعر اهتماما لبلل ملابسي,بل ارتمى علي,يميل قليلا الى الوراء و يده تضغط على منكبي,كأنه يريد ان يتأكد اننى أمامه,ثم يضمني اليه من جديد...
الشقراء التى كانت تصاحبه,أصابها الذهول وارتسمت على محياها ابتسامة بلهاء "لايتعانق بهذه الكيفية الا عشيقان فرقت بينهما حرب..."
سألنى عن فريدة.
عن مجيئي الى هنا ,متى وكيف...
دعاني لشراب يعيد الدفء الذى انقطع, وأضاف متداركا خوف أن يكون قد اقـتحم خلوتى " هذا ان لم تكن ملتزما بموعد ما..."
لفظتنى الدهاليز دون بوصلة ,دون هدف .كنا بعدد اصابع اليدين وسط الماء, يراقبنا شخص ظل ملثما طول الوقت ,في لحظة رفضنا الموج ومنعنا من التقدم , رمى الرجل الملثم ,كما ترمى الفضلات, زوجا بهيجا و...وعاد خلف مقوده يراقبنا ببرودة اعتادها...
أما فريدة فتلك حكاية" ما ضمها كتاب..."...
اجبت بكثير من المرح لأخفي لحظة الصمت التى امتدت "مضى زمن الالتزام يارفيق." وانخرطنا في ضحك شاركتنا فيه الشقراء دون ان تفهم سبب ضحكنا.
" من هذا المكان اختطفوا المهدي ..." وأشار الى المقهى الذى سيبتلعنا.
لماذا نكأت الجرح يارفيقي ؟ لماذا تحاول عبثا ايقاظ الذى مات بسبب لعنة السقوط؟السياسة كذب و نفاق,وكوابيس ملكت منا الفؤاد...
اختار مكان قصيا ,طلب كأسي حليب بالشاي الاسود و اردف " سوداء مركزة كعادتك ؟"
"لا ...لا...لم يعد القلب يقوى على الاحتمال...يكفيه ما يملؤ شغافه من سواد..." فطلب ثالثا لي.
تغير رفيقي كثيرا,هجر التدخين ,يتحدث بصوت خفيظ ,يبدل مواعيده بكثير من الادب واللباقة,ينصت باهتمام وهو ينظر الى عينيك. أما الشقراء فتمسحه بنظرات تتفطر هياما, تلمس ظاهر يده بكفها الناعمة...
بدأ بلل ملابسي يزعجني.
امسكت الفنجان بملء كفي ,كي يبادلنى حرارته...
وراح يحكي لها عن خلية ورياغلة ـ وشرح لها ورياغلة بلد البطل الذى تطالعين سيرته ـ واللقاءات والاماكن و الاحلام... واسهب في الحديث عني وعن فريدة...
سألته لما آنست منى قربا " أين تركها ؟"
لا يهم من ترك الآخر...
المهم ماذا ترك كلانا في الآخر...
ما حجم هذا الذى احمله منها...
ما حجم الذى سكنها مني...
انتبها لانزعاجي, ولامتلاء المرمدة بأعقاب سجائر مطفأة بغل...وشوش لها أمرا ,فردت بصوت ارادت ان اسمعه " يقضي الليلة في غرفة الصغير ..."
غيرت ملابسي بأخرى قطنية نظيفة, وبت ادون ما حكى رفيقي عنى وعن فريدة وكأن الحكاية تهم شخصا آخر غيري...
انسللت مع أول خيط غزا غرفة الصغير...
قرب الباب طاولة صغيرة من الرخام الاسود,عليها مفاتيح الشقة والعربة,وضعت ما ينبئ عن رحيلي...
"رفيقي العزيز
لم تتذكر اسمي الحقيقي,طلبت منى ان اذكرك فراوغت...
علمني صغيرك كيف انسى الحزن.
قد نلتقي.
طارق الشاهد "
" الى نزار الوديع
ان استطعت ان تمسح قضبان القفص ,دون ان تلمس ريش الطائر ـ كما قال شاعر عظيم ـ فقد كبرت.
ـ رسمت له لوحة طائر بألوان زاهية,وادخلته قفصا خططته بقلم الرصاص.ـ
سامحنى نزار فقد تطاولت على ادواتك.
احبك"
"
الى التى تحمل ملامح من فريدة
الى زوجة رفيقي
فريدة اكتشفت الزيف مبكرا,وصفت كلامي بأضغاث احلام...
كانت تبحث عن عالم خال من الضغائن والاحزان...
كانت تصنع الفرح قمرا يهتك بكارة الليل...
كانت تميز بين الحب والشوق كي لا اقول الرغبة...
كانت تجرب العيش بأكثر من حاسة...
كانت تردد كثيرا مقولة " بداية الانهيار حين يشعر الانسان انه مهم"
ليس مهما من ترك الاخر...
اعتني بنزار."