أكمل سذجان تعليمه الجامعي بكلية الطب أخيرا، و توج طبيبا بعد رفاق فوجه بسنين. اختصر الإجابة على ملاحظات الأساتذة المكلفين بمناقشته في أطروحته في إذعان و ارتباك، و أدى القسم الشهير. أقام أهله الذين لم يفهموا شيئا مما دار في المناقشة الاحتفال برحاب الكلية على شرف أساتذته و الحاضرين، تغمرهم نشوة حيازة ابنهم اللقب الكبير:"الطبيب" ! الذي يعرفون أنه ظل لحد زمن جد قريب حكرا على أبناء أسر بعينها، وأبناء العشيرة و القبيلة و الحي و المدينة إما معلمون أو ممرضون أو عسكر أو مستخدمون في أجود الحالات، عاطلون منحرفون و عالات على أسرهم في فادحها. و استكملوا الاحتفالات بمجرد العودة إلى مدينتهم ليعلم الأحباب و الحساد و الأعداء بأن العائلة اليوم هي عائلة "طبيب" !. ثم هدأت الأحوال و إن كانت الأم فاضت منها و عليها علامات النشوة حد الطيش، و كذلك الأب و إن بدرجة أخف، فلا حديث له بعد اليوم إلا عن الطب و جلاله و الطبيب و هيبته...، بل و مكانته و عظمته. أما سذجان، و بعد أن استعاد قسطا من توازنه بعد طوفان فرحة الانتصار أخيرا، فهو عمر بكليته، لم ير أمامه غير أمر واقع واحد لا ثاني له: انتظار توظيفه. لم تراوده أبدا فكرة متابعة مشوار التخصص بأرض الوطن ما دام ذلك من نصيب المتفوقين طيلة سنوات التكوين، و هو على النقيض تماما من ذلك.
و لم يفكر في مفاتحة أبيه حول مسألة السعي إلى "الانتصار الأكبر" بأرض "العجم" كما فعل رفاقه الحاذقون الذين سبقوه، و منهم من أسرته ليست بأحسن حال من أسرته، فهو تعب و مل الدراسة، ثم إنه منكمش و منغلق على ذاته و طموحاته محدودة. و المسالك مرسومة، لكل مسلكه الذي يفضي به إلى حيث يراد له. و الاختراق عسير ما دامت الهندسة دقيقة و الحراسة مشددة. و في أحسن الحالات يسمح بشبه للاختراق لمن توفرت فيه الإرادة القوية و الشخصية المتفتحة على العالم من حولها و الوثابة، و هو ما ينقصه و نبهه إليه بعض أساتذته، خصوصا أستاذه الذي أشرف على أطروحته الذي كثيرا ما حذره من خطورة اختزال الطب في أسماء الأعضاء و الأدوية، و أن المفروض أن ينفتح الطبيب على الحياة...و على عوالم أخرى أرحب...ما دام التواصل روح رسالة الطبيب...، و هو ما لم يدرك سذجان مغازيه . ثم إن كثيرا من رفاقه الذين ناقشوا أطروحاتهم منذ مدة و شقوا طريقهم في مشوار التخصص كثيرا ما نبهوه هم الآخرون إلى خطورة الارتباط المرضي بدفاتره و عدم الانفتاح على فضاءات توسع المدارك و الأفهام، إلا أنه لم يعط لكلامهم وزنا و لا هو تأمله. و كثيرا ما كان يجد نفسه حائرا أمام أحد أولئك الرفاق الذي يقضي وقته في قراءة رواية أحيانا و مجلة أحيانا أخرى و يستمتع بالموسيقى و يسافر مع شبان و شابات مرحا في رحلات، بل و يشرب من حين لآخر ببار هادئ مع رفاقه، و لا يجد أدنى صعوبة في هضم كل دروسه كلما اقترب الامتحان في ظرف وجيز و دون معاناة، و ينجح بتفوق، بينما يرسب هو الذي لا يبرح دفاتره و يجد صعوبة بالغة في تذكر ما حفظه...سذجان بعيد كل البعد عن إدراك كون تنشيط الميتا-معرفي بالذي يقبل عليه هذا الرفيق مثلا، ينعكس على الذاكرة و يجعلها خصبة و يخلص صاحبها من المعاناة. هو الآخر بدأ يتذوق الخمر، و لكن بطريقته الغريبة في رأي كل أصدقائه، فهو بأتي بقنينة إلى غرفته و يشربها في عزلة كما يشرب اللبن و ينام.
بعد انتظار طويل، كان معظم رفاقه من نفس فوجه من المتفوقين انتزعوا لقب "الطبيب المتخصص" من نفس الكلية، وآخرون من أبناء الميسورين و من "المغامرين" من أبناء البسطاء عادوا به مظفرين من الخارج، و فتح بعضهم عيادته بمدن مختلفة، و اشترك البعض الآخر من أبناء الميسورين و قليل جدا من الذين لا يملكون غير فطنتهم الزائدة و مرحهم الباذخ و أسسوا مصحات عصرية بدعم من آباء الميسورين، نودي أخيرا على سذجان لتوظيفه ببلدة صغيرة نائية بعيدة عن مدينته. سارع إلى جمع مستلزمات بسيطة بعد أن زوده أبوه بمبلغ مالي لمواجهة تكاليف الحياة و رحل و علامات حيرة بادية عليه. إلا أن أمه على العكس تماما، استشاطت نشوة و فرحا، و كل حديثها مع الجيران و الأهل عن ابنها "الطبيب".."الدكتور".. (تنطقها بكسر الدال و كثير من التشديد) الذي يشفي الأمراض و تهابه الأوبئة، يجله الناس و يجالس الكبار !فهو الطبيب !نعم الطبيب…الدكتور...
تدبر سذجان مسكنا متواضعا بالبلدة ، و قضى ليلته الأولى تحت نير البرد يفتك به و يتحسر ندما على عدم الإنصات لأبيه الذي اقترح عليه حمل غطاء أو غطاءين قديمين من زاد العائلة. و في الصباح، ارتدى لباسا كان أعده لهذه المناسبة، صفف شعره و وضع نظارة على عينيه لإخفاء تنكيل البرد به، و قصد المستوصف الذي كان صاحب البيت الذي اكتراه أرشده إليه بالأمس. كان قلبه يخفق بضراوة كلما اقترب من الموقع الذي يقصده، ربما فرحا بتوظيفه أخيرا و إفلاته من ألسن بعض الأقارب الحاقدين و الجيران و أبناء الحي الضائعين التي بدأت تلوك كون مصيره بات في كف عفريت رغم تتويجه و تمكنه من اختراق الحواجز أخيرا، "فهو تأخر كثيرا و الدكاترة العاطلون بلا عد" ! يقول بعضهم، بل "المسكين انتهى أخيرا إلى حال من لا يدين للعمل و لا وجه لطلب الصدقة !" يمعن البعض الآخر في التجريح و التخفيف بذلك عن الذات الضائعة. هي مشاعر عند القوم مألوفة. و قد يكون خفقان القلب متصلا بغموض و ارتباك أمام المستجد الذي كسر رتابة الانتظار. قد يكون خائفا، و قد تكون أمور أخرى تجول في خاطره، إنه مضطرب. فبعد لحظات قليلة سيكون هو الطبيب الفعلي، هي وضعية جديدة عليه بكل معنى الكلمة، لا علاقة لها بوضعيته كمتدرب خلال آخر سنة من تكوينه، كان آنذاك مجرد منفذ لما يأمر به الأطباء الفعليون، أولئك الذين وجدهم متجبرين متكبرين، يمعنون في إهانة المتدرب. و هي حكاية قديمة تلوكها الألسن و يتناقلها فوج عن أخر، و يستعد لها القادم الجديد بشكل رهيب، و غير وارد طرحها ل:"التشريح"، فلا تشريح إلا للأعضاء، و إلا فالفاعل يدخل في الطب ما ليس منه !.
عبر سذجان شارع البلدة الرئيسي، و هو عبارة عن مقاه شبه متلاصقة، تسيل منها القذارة، و منظر كراسيها و طاولاتها و ألوانها يؤذي العين. و دخل شبه حارة بئيسة بيوتها واطئة، و بجانبها مزبلة سائبة تكاد الروائح الفظيعة المنبعثة منها تخسر ضحيتها حاسة الشم إلى الأبد. سارع سذجان الخطى للإفلات من الموقف و تمنى ألا يكون فأل سوء. و ما كاد يفلت حتى خطفت عينيه بنظارتهما على الجانب الأيمن للمزبلة بناية بسيطة متهالكة أسوارها، متلاشية صباغتها، يقف ببابها شخص بالبذلة البيضاء التي لا يمكن أن يخطئها، ازداد قلبه خفقانا حتى خاله سينقذف من صدره، إلا أنه كابر للتظاهر برباطة الجأش، فهو الطبيب !. تقدم نحو الشخص الواقف بالباب، و قبل أن ينطق ببنت شفة، بادره هو بثعلبية غير متحكم في إخفائها: "أهلا ! لا شك أنكم الطبيب الجديد عندنا، مرحبا بكم، أنا ممرض البلدة منذ سنين، و ابنها أيضا، أعرف الصغيرة و الكبيرة عنها، كل مشكلة و كل جائحة إلا و عندي لها الحل !، أعرف كل واحد هنا و سريرته، و أعرف أيضا كيف أجعل الجميع ينصرفون إلى حال سبيلهم بدون مشاكل. و الممرض الثاني معنا هنا بالمستوصف، سيلتحق بعد قليل، تفضل هذا يوم عظيم بقدومكم، لا شك أنك من أسرة طيبة ! كل شيء واضح ! سيماهم على وجوههم !.أما الطبيب الذي رحل، فكان فظا، لا يحسن التصرف ! يخلق المشاكل ! يا ما نصحته و أنرت له الطريق إلا أنه لا يسمع ! الحمد لله على رحيله ! ، تقدم، ادخل سأطلعك على مكتبك و مكتبنا أنا و صديقي، و كذلك غرفة الحقن و العلاجات، وضعيتها جد سيئة و تحتاج إلى إصلاحات، لنا وعود بذلك...".
كان سذجان واقفا و الممرض يقصفه بدون توقف و كأنه حفظ متربعا ما يقذفه به ثم خطا خطوتين و الممرض يتقدمه ." هذا مكتبنا أنا و الممرض الذي سيلتحق بنا بعد قليل" يرشده. غرفة صغيرة جد متواضعة يتوسطها مكتب قديم يشي بالصناعة الخشبية البائدة، و وراءه كرسيان صدئان و فوقه يومية غير مقروءة الأيام و الشهور المسجلة عليها من فرط عدم تجديدها، و لا أثر بالغرفة لما يشير إلى الطب و أدواته و فتوحاته. تقدم الممرض خطوة أخرى بعد أن وفر لسدجان لحظة لاستيعاب المشهد، ثم أردف: " و هذه غرفة الحقن و العلاجات، انظر إلى حالها"، و كانت خالية تماما. ثم أضاف و هو يخطو خطوة ثالثة: " و هذا مكتبكم أنتم الطبيب ! و له نافذة على الخلاء يمكنكم أن تستريحوا به، و في الفصول التي لا يبقى فيها موسم الحصاد وعدا، تخضر الدنيا خلف المستوصف !". لم يكن سذجان يجيب عما يقوله الممرض، كانت شفتاه جفتا و يحسهما خشبتين. فمكتبه هو الآخر نظير لمكتب الممرضين، مهترئ، فوقه يومية أقل اتساخا بقليل من يوميتهما و وريقات تافهة بحجم وريقات عملة عملاقة لقوم متحضرين، و كرسي وإن كان غير صدئ إلا أنه عمر طويلا و تهالك، و دولاب أكثر تهالكا. شعر الممرض المحنك بثقل الصدمة و أضاف قبل أن ينصرف إلى الباب: " استرح، فالمرضى لن يشرعوا في التوافد إلا بعد نصف ساعة من الآن !".
تملك سذجان دوار عنيف، و سارع إلى الكرسي المتهالك بعد إغلاق الباب بإحكام، أطبق على رأسه بكلتي يديه و كأنه يعصره مما سمع و يرى، أزاح النظارة و بدأ يحملق في أركان المكان الغريب الذي يضمه، انتبه إلى أن هناك أيضا سريرا في الزاوية للفحص !، هو الآخر أكثر اهتراء من المكتب و الكرسي، فتح الدولاب، و لم يكن به سوى قليل جدا من حبوب و كييسات أدوية مبعثرة لا يمكن أن تشفي من مرض، و كثير من حبوب منع الحمل. و بينما هو لم يستجمع رباطة جأشه بعد، طرق الباب شخص ثان و دخل، حياه و رحب به و هو يقدم نفسه: "أنا الممرض الثاني إلى جانبكم بالمستوصف، تأخرت قليلا، كانت لي مصائب في البيت، الله ينجيك من المصائب !. و لا بد أن أنبهك، هذا واجبي !، المرضى وصلوا، و الناس هنا كلهم مرضى و يقصدوننا نحن، أنتم وأنا و صديقي الممرض الثاني لنتدبر لهم الدواء و كأننا أصحاب شركة أدوية !. و نحن لا حول لنا ولا دواء، أعتقدك فتحت الدولاب...، و الدفعة النصف سنوية يلزمها شهران آخران لكي تصل، احذر ! أعتقدك فهمتني، تبارك الله ! فأنت الطبيب ! و الحر بالغمزة. طيب خاطر هذا ببضع حبات و ذاك بكييسات، و الأغلبية بالكلام الحلو و وصفة أدوية بأرخص الأثمان، هم لا حول لهم ولا قوة، لا يملكون ثمن الدقيق و السكر ، فبالأحرى ثمن الدواء !!".
قصف ثان هذا كان كافيا لينتصب سذجان مذعورا كمن يستعد لعدو مباغت. أخرج بذلته، بذلة الطبيب و ارتداها، و تبت النظارة على عينيه ملتصقة بحاجبيه كمن يحرص على إخفاء هويته، و بدأ المرضى يدخلون.
كانت معظم أمراض من استقبلهم اليوم الأول مستعصية بشكل مهول، قرحات معدة جد متقدمة، التهابات قولون و أمعاء صغيرة توحي آلام أصحابها بسرطانات حقيقية، أوجاع في الرأس مبرحة تدفع إلى افتراض أورام دماغية بدرجة كبيرة من الثقة، التهابات رئوية مزمنة و أخرى روماتزمية كارثية، إسهال قديم عند أطفال عديدين حولهم إلى هياكل عظمية صغيرة، و بثور تقيحية فظيعة قد لا تجدي معها أكثر المضادات الحيوية غلاء في السوق !، و ضعف عام للبنيات الجسدية يشي بسوء تغذية فتاك و مزمن...، و بالدولاب بضع حبات و كييسات يتيمة.
تذكر سذجان تحذيرات و "توجيهات" الممرض الذي وصل متأخرا، و التزم ب "الوصفة" بكل دقة، قدم حبات لهذا و كييسات لذاك مصحوبة بمجاملات و عبارات مؤازرة و دعاء بالشفاء...، و للباقي وصفات أدوية رخيصة اسود وجه كل من تسلمها و انسحب بتردد، و هكذا...، و مر صباحه الأول طبيبا فعليا بسلام...
و في المساء، و بمجرد أن التحق بمكتبه و ارتدى بذلته، دخل الممرضان معا و على وجهيهما علامات انشراح زائدة، و بادره الأول: " بارك الله فيك و في أمثالك ! كل المرضى الذين استقبلتهم هذا الصباح عادوا إلى حال سبيلهم منشرحين !، أنت طبيب ماهر، لن نعرف مشكلا منذ اليوم، هذا ما كنا نتمناه، وهو ما لم يكن الطبيب السابق يفهمه !. و للإشارة، فالمساء لنا، لن يزورنا مرضى، الناس هنا متعودون على زيارة الطبيب صباحا إلا في حالات حوادث ضرب و جرح...و واصل الثاني دون أن يسمح بأدنى لحظة للجواب أو التفكير: "هذا ما كنت أقصده حين نبهتك، بارك الله فيك، نحن في غنى عن المشاكل و أنت تتقن مهنتك عكس الطبيب السابق!، يا ما نصحناه و لم يسمع !! وأقسم بالله أن تتناول العشاء معي ببيتي اليوم، هذه تقاليدنا ! و واجب الضيافة لك علينا دين !!.
أذعن سذجان للمدح و الإطراء المنافقين ، و استثمر الممرضان الموقف بسرد نكت تكسر الحواجز التي انمحت فعلا منذ اليوم الأول. و انسحبا إلى باب المستوصف مغموران بنشوة من أزاح كابوسا هائلا. لا شك أنهما هندسا العملية منذ مغادرة الطبيب السابق، فالمراتبية هنا خارج مواطنها الأصلية تتخذ أبعادا فظيعة، تتحول معها الكاتبة في علاقتها مع المدير مثلا إلى زوجة ثانية أكثر خضوعا، و من غير نفقة !.
يوحي هوس الممرضين و كأنهما يرتكبان جرائم داخل هذه البناية المتهالكة، و يجاهدان من أجل ضمان تستر الطبيب عليها، إلا أن كل ما في الأمر بسيط و تافه ، فكل رهاناتهما أن يسمح لهما بالتحكم في قليل من الأدوية التي يزود بها المستوصف مرتين في العام، يقدمانها لبعض الأهل و الأقارب و الأصدقاء و المعارف...، و يغمض عينيه عن بعض التغيبات خصوصا يوم السوق الأسبوعي بالنسبة لأحدهما، و كذا أن يوقع لهما من حين لآخر شهادة لقريب أو صاحب أو...أو...، تعرض للضرب في خصومة أو هوجم في بيته أو تعدى عليه جاره في حقله...، و هي حوادث مألوفة بالبلدة، و القضايا المرفوعة بشأنها بمحاكم المدينة هائلة أغرت محاميين لحد الآن بفتح مكتب لهما بعين المكان. تكاد تكون لكل أسرة قضية على الأقل مرفوعة من هذا الصنف، و فعلا تلعب شهادة الطبيب دورا أساسيا في العديد من الحالات في مسار هذه القضايا، طبعا كلما كانت مدة العجز أطول مما أفاد به الخصم و حجم الجروح و الرضوض و الكسور الموصوفة فظيع... و الغالب أن الطبيب السابق كان حازما في مثل هذه الأمور.
لبى سذجان دعوة الممرض، و حضر الثاني أيضا، و كانت ليلة أنسته بطش برد الليلة الأولى بالبلدة به و قسوة غذاء من خبز رديء و معلب سردين. المائدة هذه الليلة باذخة، صحن من لحم غنمي وافر، مبخر لا مطبوخ، و آخر بديكين بلديين فائقي اللذة، و فواكه و قنينتي نبيذ من النوع الممتاز أخرجهما صاحب البيت في اللحظة الحاسمة كمن أجرى مسحا نفسيا و روحيا لما كان يعتمل داخل صدر سذجان الذي خبر معاقرة الخمرة من حين لآخر على طريقته خلال الحياة الطلابية الطويلة، و لم يكن يجد لها سبيلا خلال شهور انتظاره للوظيفة.
أكل الثلاثة و شربوا، و أكل سذجان أكثر بإيعاز من مضيفه و هو يمتدح جودة لحم الدجاج و الغنم و لذته و استفزازه للشهية !. و هو لم يكن يبالغ أبدا لأن ما ألفه بمدينته هو لحم ذلك الدجاج "الاصطناعي" الذي تقذفه في فمك و كأنك انتزعته من جيفة، و لحم الغنم الذي ما أن تضعه على النار حتى يسود لونه و تصدم في الأخير بأن لا طعم له. " نحن لا نأكل إلا الدجاج البلدي"، يقول صاحب البيت باعتزاز. و يضيف موضحا بلغة العارف، و بعد أن تأكد من التواضع الكبير لخبرة سذجان: "و أما اللحوم و جودتها، فكل شيء متوقف على الأعلاف التي تقدم للماشية، نحن هنا بالبلدة محظوظون، الفلاحون يستمرون في اعتماد الشعير و الفول و النخالة في التسمين...، أما عندكم بالمدينة و محيطها القريب، فالقوم "تقدموا !" و باتوا يقدمون لمواشيهم مواد مصنعة هي في الأصل خاصة بالدجاج "الاصطناعي"، تسرع التسمين و تضاعفه و تخفض من تكاليفه، إلا أنها تفسد مذاق اللحوم". كان سذجان ينصت بإمعان و استغراب للتوضيحات الدقيقة وكأن صاحبها خريج معهد عال للبيطرة و الفلاحة، لا مركز ممرضين، و هي بالفعل كذلك، فمضيفه ابن البلدة أولا، و ثانيا، فهو يحرص منذ توظيفه بها على الاشتراك في استثمارات مع بسطاء الفلاحين لتسمين عجول يشتريها شتاء هزيلة ويبيعها في عز الصيف، و خرفان أيضا كلما اقترب عيد النحر. قد تكون خبرته في هذا الميدان تجاوزت بكثير خبرته الغير متجددة أبدا في ميدان التمريض.
عند منتصف الليل أو قبله بقليل، استأذن سذجان للمغادرة و هو في غاية النشوة و العافية، أثنى كثيرا على صاحب البيت و على صديقه أيضا، و أصر الاثنان على مرافقته إلى باب بيته تجنبا لأي مكروه، مما ضاعف فضلهما عليه.
توالت الأيام مكرورة، وصلت خلالها دفعة الأدوية المرصودة للمستوصف، و ارتاح سذجان من عناء جعل المرضى الذين يقصدونه يدبرون خاويي الوفاض لا يؤتمن التجهم على وجوههم، لأسابيع معدودة، ثم عادت الأمور إلى حالها. و بعد شهور تسعة و بضعة أيام، توصل سذجان الذي عاشها أعواما، باستدراك رواتب الشهور و الأيام التي اشتغلها كامل غير منقوص، و هو الذي شعر بثقل المبلغ المالي الشهري الذي واضب والده على مده به عبر البريد، على عائلته. ثم إن كل ملابسه تآكلت و شارفت حال الفضيحة في اعتقاده، فهو الطبيب ! و كم هو متعطش إلى ليلة شراب لينسى...
سافر صبيحة يوم سبت في الصباح الباكر إلى المدينة القريبة، طاف بشوارعها و حدد مجال و حدود تحركه خلال اليومين أو الثلاثة التي سيقضيها بها، فندق بدا له مناسبا وسط الشارع الرئيسي، و محل تجهيزات منزلية خلف الفندق تماما، و بار تفصله عنه ثلاثة مقاه أو أربعة، و على يمينه مطعم تبدو عليه علامات اهتمام بالنظافة و الجودة !. قصد محل التجهيزات أولا و حسم في طاولة عصرية و أربعة كراس عصرية أيضا و تلفاز و جهاز استقبال رقمي كثيرا ما تمناه خلال شهور انتظاره لاستدراك رواتبه، و موقد متوسط ، و فراش نوم و بعض مرفقاته يخلصه من ذلك الإسفنجي الذي تعذب عليه كلما فكر في النوم طيلة الشهور الماضية، ثم صحون و كؤوس و ملاعق و شوكات تغير منظر مطبخه الكئيب. أدى ثمن مقتنياته و ترجى صاحب المحل أن يجمعها و يحتفظ بها عنده على أساس أن يأخذها في اليوم الموالي أو الذي بعده. و وافق صاحب المحل بعد أن تأكد من كون سذجان طبيب بالبلدة القريبة، مرشح لأن يكون زبونا دائما !.
عاد إلى الشارع الرئيسي و اشترى بذلتين رسميتين و حذاءين و ملابس داخلية و قميصين و جوارب و حزاما من الجلد الرفيع و حقيبة ملابس، ثم قصد الفندق الذي حدده ليتخلص من مشترياته. عين له صاحب الفندق غرفة رآها ملائمة خصوصا و هو طمأنه على الأمن و الأمان بالمحل و هو ينظر إلى مقتنياته. رتب الملابس في الحقيبة و هو يتفحصها مرة ثانية، ثم غادر الفندق في اتجاه مقهى مجاور. جلس يدخن و يرتشف قهوته و سرعان ما غادر في اتجاه البار القريب و الوقت منتصف النهار تقريبا. البار هادئ و الزبناء قليلون، شرب جعتين أو ثلاثة و أحس بالجوع، أدى الثمن و خرج إلى المطعم القريب، طلب سمكا التهمه بنهم، و طلب لحم غنم إلا أنه وجده نظيرا تماما للحم غنم مدينته، و أكل منه قليلا و كل البرقوق الذي يصاحبه، ثم عاد إلى نفس البار و شرب.
عند الليل، كان ما يزال على قيد الشرب، فهو قرر أن يشرب إلى آخر رمق !، و صال و جال بالفضاء الذي رسمه لحركته، انتقل إلى بار آخر مقابل للأول وجده أكثر نشاطا و حيوية من كثرة البنات به. وختم ليلته بتجرع أنوثة ضائعة أحسها ملاكا من فرط حرمانه.
قضى يومه الثاني بالمدينة على نفس إيقاع اليوم الأول تقريبا، و إن كان شرب أكثر، فهو بدأ منذ الصباح و قرر أن يتغيب عن العمل يوم الاثنين، إلا أنه مطمئن، فالممرضان حذقان و علاقته بهما تؤمن الاطمئنان.
عاد في اليوم الثالث بمشترياته إلى البلدة، و كانت الأمور روتينية كالعادة، مرضى مستفحلة أمراضهم يتوافدون على المستوصف كل صبيحة، أدمنوا الالتجاء إليه كمن يقصد ضريحا يلتمس بركته، و الممرضان بارعان في توزيع "البركات" و تطييب الخواطر المجرّحة بالأمراض و العوز، إلا أنه يجد اليوم بيته ملاذا، فهو وضع فراش النوم و مرفقاته في غرفة، و الطاولة و الكراسي في الغرفة الثانية، و رتب الموقد و الأواني بالمطبخ، و ساعده صاحب البيت الذي يقطن بالطابق العلوي في تتبيث الصحن المقعر على السطح، و يستطيع اليوم أن يتفرج على كل الدنيا و خصوصا على دنيا المتقدمين الذين يسميهم "الملائكة" !، ثم إنه جاء من المدينة وسط مقتنياته بصندوقي جعة و آخر نبيذ أخبر بها صاحب الشاحنة الصغيرة التي أقلته و لم يمانع، فهو يعرفه و يتردد من حين لآخر على المستوصف. هو يشعر هذه الأيام بدفء حقيقي بالبيت و لا يبرحه إلا مكرها باتجاه المستوصف.
ركن مساء يوم عودته من المدينة إلى طاولته العصرية بعد أن رتب عليها صحون أطعمة و فواكه لم يألفها بيته، و قنينة نبيذ و كأسا جديدا، و شغل تلفازه على قناة من قنوات "الملائكة" اللاتحصى، فتح القنينة و شرب الكأس الأول و شعر بسخونته، فبنيته الجسدية ضعيفة، نخرها التدخين بضراوة، و مذاق القدح معيار جازم للصحة البدنية، استشعر الحاجة القصوى للمبردة، أشعل سيجارة و مد يده إلى جيبه، أخرج مجموع ما تبقى من استدراك رواتبه و عده، فهو بالكاد يكفي لرد المبالغ التي لم يتأخر أبوه في بعثها له طيلة تسعة أشهر، و للسفر إلى مدينته و الإتيان و لو بما هو رمزي تجاه أسرته . و مد يده إلى القنينة و شرب كأسين متتابعين دون أن ينشغل بالسخونة أو المرارة...
و في نهاية نفس الأسبوع، أخبر الممرضين أنه سيسافر إلى مدينته لزيارة أهله، ملمحا إلى كونه قد يتغيب يومين أو ثلاثة مرة أخرى، فهو اشتاق إلى أمه ! و كذلك إلى أبيه و أخته !، و الرحلة طويلة...، يوم للذهاب و يوم للإياب...، و مطبات النقل مشهورة...و...و... . طمأنه الممرضان على أن بإمكانه أن يتغيب و لو أسبوعا كاملا، فلا حملة تلقيح في الأفق القريب، و لن يزور مستوصفهم مسؤول. و شددا على أن الوالدين لا يمكن أن يقنعا بيوم أو يومين ! خصوصا الأم !!.
كان سذجان اشترى لأمه من المدينة ثوب جلباب رفيع و آخر لأبيه مع طربوش مزركش، و حذاء جميلا لأخته. و تدبر له أحد الممرضين كيسا من زيتون أسود ممتاز و شيئا من آخر محمض و سلة بيض بلدي ألح الممرض على كون المسنين يعشقونه !. جمع سذجان أمتعته و ارتدى أحسن بذلة من اللتين اشتراهما و حذاء جديدا و جوارب جديدة، و تبت ربطة عنق زاهية على صدره و رحل.
استقبلته أمه استقبال الأبطال، و من وطأة الفرح زغردت و زغردت و تصادت زغاريدها في أرجاء الحي، و فرح الأب بثوب الجلباب و بالطربوش و ألوانه، فجلبابه بات بدون سمك من فرط الاستعمال، لا يقي بردا إن لم يكن يجلبه !.
حرص سذجان طيلة أيام زيارته لعائلته على أن يخرج هو إلى السوق كل صباح للتسوق، يشتري لحما زائدا و خضرا كثيرة و فواكه لم تعتدها مائدتهم. صحيح أن اللحوم هنا بمدينته بدون مذاق، و لكن لا يهم، فالمسألة لا تطرح إلا بالنسبة له، أما أهله الذين ألفوا تذوق اللحم القليل مرة كل أسبوع، و طبعا كل عيد مشهور، يجدونه فائق اللذة، و هو يعرف ذلك جيدا.
كانت الأم المسكينة في غاية النشوة، تتحرك في كل الاتجاهات بالبيت، تنظف، تعد الشاي في غير وقته المعتاد، و زغردت مرات أخرى قبل أن يوقفها الأب و ينبهها إلى كونها تثير عيون الحساد !. و ما أن يغادر سذجان البيت للتسوق أو إلى المقهى بالمدينة الجديدة، مقهاه التي تكبد فيها مرارة الانتظار، و يحرص اليوم على الظهور فيها بمظهر الفوز و الانتصار !، حتى تسارع إلى جاراتها البئيسات و تشرع تهذي عن ابنها الطبيب ! الدكتور ! (تنطقها دائما بكسر الدال و كثير من التشديد) الذي بات له شأن عظيم، تهابه الأمراض و يلعب بالطب كالساحر !، و حتى النساء اللائي وجدهن عاقرات بالبلدة و حار في أمرهن السابقون، حل معضلاتهن، و هن اليوم إما حوامل أو أنجبن ! ربما نال رفاه الاستهلاك هذه الأيام القلائل من الأم !.
أما الأب، فما أن يجتمع مع سذجان على مائدة الطعام أو في جلسات الشاي الغير منقطعة اليوم، حتى يغتنم الفرصة لإفادته بشأن قطع أرضية للعمارات في مواقع إستراتيجية بين المدينة القديمة و الأخرى الجديدة، و الفيلات الجاهزة الفاخرة بموقع آخر غير بعيد عن الأول، وأن عليه التفكير في الأمر بكل جدية كي لا تفلت منه الفرص. ثم حتى إذا هو انتقل للعمل بمدينتهم يوما، يجد "قبر الدنيا" جاهزا و مشروعا يذر عليهم كلهم المدخول كما فعل أطباء و محامون سبقوه يلعب أهلهم اليوم بالمال. فالأب يعتقد جازما أن ابنه توصل بمبلغ مالي هائل عن شهور الانتظار ! أليس طبيبا ! و عموما فالطبيب و المحامي و المهندس في تمثلاته لهم مقترنون بالثراء و لا يكلف نفسه ، أو هو لا يستطيع إقامة تمايزات بين طبيب بعيادة أو مصحة خاصة يحصل الملايين يوميا، و طبيب موظف ينتظر "التقطير" عند نهاية كل شهر. و حتى عندما رد إليه سذجان المبالغ الشهرية التي كان يزوده بها طيلة مدة انتظاره دون أدنى زيادة، حسب المسألة استعدادا منه لما يحرضه عليه، و تظاهر بالرضي ما دام المانع أجمل و أغرى. و لم يكن سذجان ليصارحه بالحقيقة،بل يأتي بما يفاقم أوهامه، و هو نفسه دوخه المبلغ الذي توصل به في البداية.
في اليوم الرابع، ادعى سذجان أنه مدعو لحفل زفاف صديق له بمدينة قريبة من مدينتهم، و نبه أمه إلى كونه سيبيت عند صديقه تجنبا للآفات !، و وافقت الأم خوفا عليه خصوصا و مدينتهم باتت اليوم بمواصفات الغابة... . كان سذجان دعا صديق دراسة قديم يعمل بمدينتهم إلى أن يسهرا معا على شرف توظيفه و الإفراج عن استدراك أجوره، و وافق الصديق المدمن الغارق في الديون. التقيا بالمقهى المشهورة و انتقلا مباشرة إلى الحانة التي يجتمع بها معظم أبناء المدينة المدمنين، هي أو التي بجانبها، شربا من الجعة الكثير، و طلبا مأكولات مختلفة من مطعم جد قريب ينشط مع رواد البارين أساسا، شواء و دجاج مشوي و طاجين من اختصاص المدينة أيضا. و انضاف إليهما طفيليان أذلهما الإدمان من الأصدقاء القدامى المفلسين بعد ملاحظتهما يسر الحال على سذجان الذي زاده ذلك انتشاء، فتمادى يطلب للأربعة كل حسب هواه، و يؤدي الثمن بتظاهر زائد بالرفاه. و أغدق عليه الطفيليان مدحا لرجولته !و عصاميته و نبوغه ! وهما اللذان روجا خلال مدة انتظاره للوظيفة كون مصيره بات في كف عفريت !.
شرب سذجان بشراهة، فهو متعطش لمثل هذه الليلة، يريد أن يشرب حتى ينسى كل شيء، يريد أن ينسى البلدة و معاناته بها، و وجه تلك العجوز الطيبة التي نهش السرطان نصف وجهها و تقف في الطابور كل صباح أمام مكتبه، و توسلات ذلك الشيخ الهرم الذي كاد يفقد عقله من آلام بكل بطنه، يريد أن ينسى الوساوس التي تؤرقه حول الممرضين، و "أوهام" أبيه و رهاناته حوله و عليه. و فعلا شرب إلى أن ضاع ، و جره صديقه القديم إلى ختم ليلتهما بتجرع أنوثة مطحونة إلا أنه وجدها أكثر ملائكية مما تجرعه بالمدينة المجاورة للبلدة، أو على الأقل هذا ما خيل إليه و هو في حالة الضياع.
نام مع صديقه ببيته، و في الصباح أدى لبائعتي ما تبقى من أنوثتهما له و لصديقه بسخاء، ودع صديقه و سارع إلى بيت عائلته بعد أن اشترى لحما و خضرا و فواكه و حلويات أيضا شغلت الأم عن أي شكوك، و أوهمت الأب بكون ابنه اليوم "ناضج" "يعرف وطأة الزمن" و "لا خوف عليه" !!.
و في اليوم الخامس، حزم حقيبة ملابسه بعد أن أقنع والديه بكونه لا يمكنه أن يتغيب أكثر، و بالفعل فهو متغيب منذ ثلاثة أيام، و لكنه مطمئن من هذه الناحية، فالممرضان الماكران يضمنان ذلك.
عاد إلى البلدة، و كانت الأمور عادية تماما، روتينية حد التطابق، طابور المرضى المشرفين على الهلاك نفسه، و الممرضان الماهران في جعله يذوب في البلدة في غيابه و بدون خسائر ذاتهما، و الفراغ نفسه، و المقاهي بالشارع الرئيسي الذي يعبره أربع مرات اليوم يستفحل حالها أكثر تحت تأثير قوافل سكان التجمعات المعزولة المجاورة للبلدة الذين يئسوا من دنياهم و حطوا الرحال بها طمعا في شيء ما يتوهمونه. فيعتكف ببيته و يلوذ بقنوات "الملائكة" و سجائره التي يحرص على شرائها بالجملة و قنينات خمر أو جعة يجلبها من المدينة القريبة.
توالت الشهور و السنين، و بدأ سذجان يشعر بالاختناق خصوصا خلال العشرة الأخيرة من كل شهر، إذ تتبخر الحوالة من بين يديه و هو في ذهول، الأثمنة في ارتفاع لا يعرف التوقف، و الليلة الواحدة التي يقنع بها اليوم بالمدينة القريبة أخر كل شهر تكلفه الكثير، البنات آبار و لايشبعن و يشترطن الشراب بالبار إلى آخر رمق قبل الالتحاق بالفندق ! و قنوات "الملائكة" لم تعد بنفس طعم الشهور الأولى. الحيرة و اختلاط الأمور عليه يتفاحشان، تفاقمت نحافته و اسود وجهه بفعل التدخين بجنون و تجرع قنينة خمر أو أكثر كل ليلة في صمت رهيب، و الممرضان إلى جانبه يسطع نجمهما يوما بعد يوم، أينع وجهاهما و توردا أكثر، لا بل تكرشا و فاضت منهما و عليهما علامات الرفاه. الأول ينافس اليوم كبار الكسابين بالبلدة في تربية أحسن العجول و توريدها إلى المدينة، و جودة خرفانه يضرب بها المثل كل عيد نحر، و ذاك سر تغيبه صبيحة كل يوم السوق الأسبوعي . و الثاني بات خبيرا في أمور العقار و البناء، يبني و يبيع، و يربح الكثير خصوصا عند عودة أبناء البلدة المهاجرين في بلاد "الملائكة". اشترى كل منهما سيارة و شيد "الخبير" منهما في العقار بيتا فاخرا فسيحا تحيط به الأشجار و الأزهار من كل جانب على أطراف البلدة، و أرسل ابنيه التوأمين لمتابعة دراستهما بجامعة من جامعات "الملائكة". أما سذجان، فتزداد دوخته و حيرنه، اتسع إدمانه في الآونة الأخيرة على الهروب إلى المدينة و طقوسه المعتادة بها و أفلس تماما، و أذعن للممرضين يتناوبان على إقراضه مبلغا محدودا كلما انتصف الشهر يرده يوم وصول الحوالة في عجل.
اسودت البلدة في عينيه إلى أفظع الحدود، خصوصا و قد ذل و صغر أمام الممرضين اللذين يستشعر استصغارهما له، لا بل تماديهما في تجاوز "اختصاصاته". و كبار البلدة يحترمونهما و يستشيرونهما أكثر مما يفعلان معه. هل يكونان أفشيا سره؟ ! لا يعرف، فهو معزول عن الناس و هما في ارتباط وثيق بهم، و تزداد دوخته. خالطه الخوف على وظيفته، و في ليلة ما، جلس إلى طاولته العصرية بعد أن فتح قنينته الأبدية و تجرع كأسين أو ثلاثة، أخد ورقة و قلما و كتب طلبا يلتمس فيه تنقيله إلى مدينته، فهو علم رسميا منذ يومين عن مناصب شاغرة هناك. لم يخبر الممرضين بالأمر، إلا أنه أبدى صرامة غير معهودة في توقيع تلك الشواهد التي يطلبانها لأقاربهما و معارفهما...، و استمر في استقبال الطابور اليومي من المرضى الذين يقصدونه، و بالغ في تطييب الخواطر و عبارات المواساة. و ما أن ينصرف آخرهم حتى يغرق في تخيل انتقاله للعمل بمدينته، على الأقل سيتخلص من افتضاح أمره أمام الممرضين اللعينين و من عذابات شكوكه حولهما، ثم إنه سيسكن في البداية مع عائلته إلى أن يخرج من الأزمة المالية التي لحقت به. أما والداه، فلن يشعرا بورطته، سيتظاهر بالرجولة و الحرص على جمع الأموال لبناء عمارة ! كما يحلم أبوه، و شقة فاخرة بالمدينة الجديدة ينتقل إليها عند زواجه كما هو التقليد الراسخ عند كل أبناء المدينة القديمة لإشهار ارتقائهم الاجتماعي ! و كما يتمنى أبوه و أمه معا. و لم لا يدعي لأبيه أنه يفكر في المضاربة في العقار كذلك الممرض الإبليس ! ثم إنه سيحرص على اقتناء لحم و خضر و فواكه وحلويات أيضا و بانتظام حتى تطمئن أمه. و يخلص إلى أنه عموما ليس من حق والديه أن يحاسبانه، فهو اليوم طبيب ! أما مشكل الخمرة التي لا غنى له عنها، فسيجد لها الحل !.إلى هذا ينتهي دوما، سواء في مكتبه أو على طاولته العصرية بالبيت.
مرت بضع أسابيع انتظر خلالها سذجان على أحر من السعير، ثم جاء الجواب على طلبه، فتحه و هو يرتعد، و كاد يطير من مكتبه و مريض جالس أمامه في ذهول، قفز من كرسيه و اتجه نحو الشيخ المريض و عانقه و قبل رأسه و هو يخاطبه: "أنت فأل خير و فرج، سأفحصك بكل ما أوتيت من طب ! و خبرة بالأعضاء ! الله يشفيك و يخلصك من مرضك كما خلصني من هذا الجحيم" !، و لم يفهم الشيخ المريض ما الذي يقصده.
و ما أن غادر آخر مريض من الطابور مكتبه، حتى سارع سذجان إلى بيته بخطى سريعة واثقة من نفسها عكس ما اشتهر به في البلدة، فتح الباب بسرعة، تناول قليلا من طعام ما و فتح فنينة اليوم قبل الأوان، شرب كأسين أوثلاثة ثم قفز من كرسيه، يجب أن يجمع أثاثه في أسرع وقت ممكن و أن يغادر هذا الجحيم في أسرع وقت ممكن أيضا، لن يشعر أحدا، و لن يخبر عائلته أيضا، سيجعلها لهم مفاجأة !. و عموما فهم سيسرون بذلك ! و خصوصا أمه. أما أخوه الطالب اليوم بالكلية الذي ترك غرفته الضيقة بدون نافدة و انتقل إلى غرفته هو بعد توظيفه، فسيقنعه بالعودة إلى "جحره"، فهو ما يزال صغيرا !! و لن يعاكس أخاه الطبيب ! أو يرفض له طلبا رغم البرودة الفادحة التي تلف علاقته به و نظراته المستفزة إليه خصوصا بعد التحاقه بالكلية. هكذا كان يهذي و يتحرك بين غرفتي البيت و المطبخ و يعود من حين لآخر لقنينته، يصب كأسا و يفرغه في جوفه بعنف. و " عموما فالأثاث ليس بالحجم الذي يطرح مشكلا" يقول بصوت مسموع و كأنه يخاطب أحدا بجانبه.
جمع كل أواني المطبخ في كارطون و الموقد في كارطونه الأصلي الذي يحتفظ به، و جمع ملابسه في حقيبته، و لف التلفزيون في غطاء. أما فراش النوم و الطاولة العصرية و الكراسي الأربعة فسيتم شحنها كما هي، يكفي أن يتم ترتيبها بعناية كي لا تخدش أو يصيبها مكروه !.
خرج ليلا إلى البلدة على غير عادته بعد أن شرب ملعقتي زيت بلدي أو ثلاثة للتمويه على رائحة الخمر، و هي حيلة قديمة فعالة تعلمها منذ زمان من أقرانه. قصد بيت صاحب شاحنة صغيرة سبق أن استقبله و أولاده و زوجته بالمستوصف، دق بالباب، خرج صاحب الشاحنة و طلب منه الدخول و ألح عليه "ما دام طعام العشاء على المائدة و لن يكلف نفسه شيئا ! بالرغم من أن الحادث لن يكون في مستوى طبيب البلدة"!!. مانع سذجان بكل قواه ملحا على أن كل ما يطلبه هو أن يقله هو و أثاثه إلى مدينته و هذه الليلة بالضبط. تردد صاحب الشاحنة في البداية إلا أنه وافق في النهاية اعترافا بالجميل و مجاراة لادعاءات سذجان بكونه ملزم بالحضور إلى مقر عمله الجديد صبيحة اليوم الموالي، بالرغم من عدم اقتناعه بما يقوله و عدم ارتياحه لحاله.
عاد سذجان إلى البيت، و شرع يسحب الكراسي الأربعة و الطاولة و الحقيبة و الكارطونين إلى القريب جدا من الباب. تذكر أنه لم يشعر صاحب البيت برحيله، خرج و نادى عليه، و ناوله مبلغا ماليا كان بذمته و أخبره بالأمر. لم يستغرب صاحب البيت شيئا، فهو كان ينظر إلى "طبيب البلدة" دوما بشفقة، و كثيرا ما أسر إلى زوجته بأن الطبيب الساكن "تحتهم" ليس له أدنى خبرة في أمور الدنيا و مقالب هذا الزمن الرديء، و أن الممرضين هما الطبيبان الفعليان...، و ودعه داعيا له بأن يكون انتقاله إلى مدينته صفحة جديدة في حياته !.
بعد حوالي الساعة، وصل صاحب الشاحنة، و بدأ الاثنان يخرجان الأثاث القريب من الباب و يرتبانه على ظهرها، و سذجان يشير في كل مرة إلى ضرورة الحرص على أن تسلم الطاولة العصرية و الكراسي أيضا من كل مكروه...
كانت الساعة حوالي منتصف الليل حين ركب سذجان إلى جانب صاحب الشاحنة التي انطلقت في اتجاه مدينته، و ما أن غادرت آخر بيوت البلدة، حتى شرع يحكي له عن عذاباته طيلة السنوات التي قضاها بها، و عن الممرضين الشيطانين اللذين سلطا عليه ! و عن خروجه منها كما دخلها ! و هي المدة التي تحول خلالها الممرضان إلى منافسين لأغنيائها، بسيارة لكل واحد منهما ! و زوجة و أملاك و أبناء يتعلمون بأرض "الملائكة"...، و كذا عن فشله في ربط علاقات مع السكان و خوفه منهم ! و عن البنات اللائي يطاردنه بنظراتهن ! و لا يقدرن أنه الطبيب !!.
أيقن صاحب الشاحنة أن الجالس إلى جانبه لم يستقم عوده بعد، لا بل إنه بعقل طفل، و هي الصورة التي كثيرا ما راودته عنه بالرغم من عدم الاقتراب منه، اللهم تلك اللقاءات العابرة في المستوصف. و سرح يفكر في ابنه العزيز، المجاز في مادة لا يذكر اسمها بدقة، لا الدكتور !، ابنه الذي سدت كل الأبواب في وجهه و تم توظيفه مؤخرا معلما بقرية صغيرة بأعلى الجبل، ذلك الحكيم الذي لا ينطق عن الهوى، و الذي علم أسرته عن آخرها الحياة و خلصها من الأساطير و الأوهام و الأحلام الغير مشروعة. حتى جدته خلصها قبل رحيلها من اعتقادها في الأضرحة و الخرافات و رحلت بعقل حي في آخر العمر. و هو الذي نصحه بعدم التوجه إلى مستوصف البلدة إلا لحقن دواء أو تلقيح يكون اشتراهما مسبقا، وكذلك فعل على الدوام، و فتح عينيه على الدنيا من حوله و أنار طريقه، و أفهمه معنى أن يكون المرء إنسانا ، أصيلا، صلبا، مادا جذوره عميقا في التراب، لا واهما و لا ممزقا، شامخا لا يتهاوى و لا يتعثر بالتافه، فيمسخ...و يضيع. ابنه الغالي الذي تتجاوز كتلة كتبه كتلة أثاث الطبيب !، ابنه الذي لا يجد صعوبة في التواصل مع كل الناس، لا بل يعشق الجميع بالبلدة و في القرية الصغيرة التي يشتغل بها مجالسته و الإنصات له، و يجنح لهم، يحترمه الجميع و يحترم الجميع، و لا يتعذب بالصغائر، ما أكبر أحلامه و ما أجملها !!. سرح صاحب الشاحنة بعيدا ثم بدأ بالدعاء للابن الغالي بأن يبارك فيه و في أمثاله و يجنبهم كل شر و يبعد عن طريقهم كل مكروه و يجعل منهم "أقلية هائلة" ، و تتحقق أحلامهم الجميلة و المشروعة، و كان سذجان يهذي و يهذي و في اعتقاده أن صاحب الشاحنة متورط في الإنصات إليه و يشاركه "همومه"، و عندما لم يجبه أبدا ، نام. نظر إليه السائق بامتعاض و شفقة و واصل الطريق و في صدره كمد.
عند مدخل المدينة أيقظه، فقفز من مقعده مذعورا و هو يعتذر عن نومه الغير متعمد ! و أشار إلى الطريق المؤدي إلى حي عائلته. كانت الشوارع خالية إلا من المشردين هنا و هناك متحلقين حول نار أشعلوها في أي شيء صادفوه. أشار سذجان إلى بيت متواضع في زاوية حي متواضع، أوقف صاحب الشاحنة مركبته أمام الباب تماما، قفز سذجان و دق بالباب، خرج والده في هلع عندما سمع صوت ابنه الطبيب، إلا أن هذا الأخير سارع إلى طمأنته، و أنه سيشرح له كل شيء فيما بعد. فتحا الباب، ثم نزل صاحب الشاحنة و شاركهما إدخال فراش النوم و الكراسي الأربعة و الطاولة العصرية و الكارطونين و التلفزيون و حقيبة الملابس إلى وسط الدار، في صمت. أصر سذجان و كذلك أبوه عليه كي يدخل و يستريح من عناء الطريق، إلا أنه رفض و انسحب بعد أن نظر في عيني الأب نظرة يفهم منها الكثير بالنسبة لجيلهما، وانسحب في اتجاه مقهى إلى جانب مطحنة بانتظار فتح أبوابها لشراء حصة نخالة يعيد بيعها للكسابين المتهافتين عليها بالبلدة، و يعوض بذلك عن خساراته مع طبيبها السابق الهارب منها بدون سبب معقول، و في كنف الليل !.
استيقظت الأم و كادت تزغرد لولا تدخل أبيه، و استيقظت أخته أيضا، إلا أن أخاه الطالب الجامعي اليوم سمع كل شيء و لم يهتم بالأمر.
حاول سذجان إقناع أبيه وأمه و أخته بأنه حصل على انتقال للعمل بمدينتهم، وأن الأمر مفخرة لهم ! و أنه حرص على أن يجعل من الحدث السعيد مفاجأة لهم ! و أن صاحب الشاحنة من سكان البلدة التي كان يعمل بها، يحترمه و يقدره إلى أبعد الحدود ! و هو الذي أصر على أن يحمل أثاثه ما دام قادما إلى مدينتهم في مهمة تخصه ! و أقسم أيضا على ألا يأخذ مقابلا !و...و... . لم يقتنع الأب بالرواية، خصوصا و أن نظرة صاحب العربة في عينيه لا يمكن أن يخطئ مغازيها البصير !. أما أمه، فلا يهمها كل ذلك ما دام الأهم هو أن ابنها اليوم طبيب بالمدينة، تفاخر به الأهل و الأحباب، و الحساد و الجيران !!.
أعدت الأم الفطور، و جلس سذجان مكتفيا بشرب القهوة و هو يتحاشى أن تلتقي عيناه بعيني أبيه الذي كان يتأمل حالته التي لم ترقه أبدا. ثم سارع إلى غرفة الضيوف و نام. و هرعت أمه إلى الجارات تزف لهن خبر قدوم ابنها الطبيب...الدكتور(تنطقها بكسر الدال دائما) للعمل بمدينتهن...بالحي القريب من حيهن...، فهو اليوم طبيب المدينة...، و سيطارد أمراضهن ...فالأمراض تهابه ! و لا مرض مهما كان خبيثا يستعصي عليه علاجه !! شهرته على الألسن ! و لذلك استعطفوه للقدوم إلى مدينته بعد فشل السابقين عليه !. هي المسكينة تهذي كالعادة و سذجان لا يوقفها و لا يساعدها على الفهم، أو ربما يتلذذ بافتخارها به . أما أخوه حذقان، الطالب الرزين و الهادئ، فكثيرا ما حاول أن يشرح لها كي لا تطيش، إلا أنها لا تنصت له أبدا و تحسب كلامه مجرد شعور بالغيرة من مرتبة أخيه الأكبر، و ربما بالحسد...! و تستسلم لهذيانها.
خرج المتهم بالغيرة و الحسد من غرفته، غرفة أخيه سابقا، و وقف يتأمل أثاث أخيه المنشور وسط الدار، تناول فطوره، و من غير أن يفاتحه أحد، طلب من أخته مساعدته في نقل فراش نومه البسيط و مكتبه الذي اشتراه من منحته الأولى و كتبه الكثيرة إلى غرفته الصغيرة القديمة، و سارعت الأم إلى مساعدتهما في حمل الكتب و هي تشكو من ثقلها و تتساءل عن الجدوى منها و من تبذير كل تلك الأموال في شرائها ! و الحال أن ابنها الدكتور...الطبيب وصل درجته العلا بكتب لا يتعدى عددها إلا قليلا عدد أصابع اليدين... . حرصت على تنظيف الغرفة المفرغة بعناية زائدة، و شرعت ترتب بها فراش نوم سذجان و طاولته العصرية و كراسيه و حقيبة ملابسه و تلفازه...
استيقظ سذجان و فوجئ بانتقال أخيه إلى غرفته القديمة في هدوء عكس ما توقعه، جلس إلى مائدة الطعام وسط عناية خاصة من أمه، و من أخته أيضا ، أخته التي انقطعت عن الدراسة دون أن ينتبه هو إلى الأمر و تعلق عليه و على قدومه للعمل بمدينتهم آمالا مبهمة. أما الأب و الأخ، فأكلا في صمت استفزه.
بعد الغذاء، شعر برغبة عارمة في التدخين كعادته، حاول أن يقاوم بتمدده على سرير ببيت الضيوف، إلا أنه فشل و سرعان ما ارتدى أقل بدلاته تضررا و حزم ربطة عنق و خرج عازما أن يجلس منفردا بمقهى بالمدينة الجديدة ليستعيد توازنه ! استعدادا للالتحاق بعمله في اليوم الموالي.
ركب سيارة أجرة قذفته ببداية الشارع الرئيسي، خطا خطوات على الرصيف و استوقفته لوحات عديدة نحاسية لأطباء و محامين و مهندسين، اقترب منها و قرأ، الأولى لصديق قديم له في الرحلة الجامعية، حرص على إكمال دراسته بأرض "الملائكة" بدل الانخراط في الوظيفة رغم تواضع حال أسرته. تذكر أنه كان نزقا و أنانيا داخل أسرته و على حساب إخوته’ و واصل قراءة اللوحة: " اختصاصي في أمراض القلب و الشرايين و..." ، اشتعلت في صدره مشاعر متناقضة، حنق و حقد و حسد و حنين إلى الماضي ومشاعر أخرى تكاد تكون طفولية...، و قرر أن يزوره. صعد إلى الطابق المحدد على اللوحة، دخل "العيادة" و كانت غاصة بالمرضى...، هو طابور و لكن على النقيض تماما من ذلك الذي أمضى سنوات يكابد استقباله. المرضى هنا جالسون في نظام و خضوع بقاعة فسيحة نظيفة و جميلة بكراسيها الفاخرة ولون صباغتها الزاهي، و لوحات معلقة على أسوارها ترمز بشكل شبه مباشر إلى جلال الطب و الطبيب و فعالية الأدوية، و تلفازها المعلق الذي يؤازر المنتظرين لدورهم في محنة الانتظار المفاقمة لمحنة المرض. قدم نفسه لكاتبة أنيقة جالسة على مكتب نصف دائري أنيق، باعتباره صديقا قديما للطبيب. و طلبت منه هي أن يتفضل بالجلوس إلى أن تشعر "الدكتور". جلس على كرسي وسط الطابور و بدأ ينتظر هو الآخر. خرج المريض الأول و اتجه نحو الكاتبة يدفع الثمن، نادت هي على المريض الثاني و دخل و هي ترافقه لتشعر "الدكتور" بحضور "صديقه" إلى العيادة. اعتقد أنه لن ينتظر طويلا، خرجت الكاتبة و نظرت إلى سذجان نظرة غريبة لم ترقه. خرج المريض الثاني و دفع، نادت على الثالث، دخل و خرج و دفع، الرابع، دخل و خرج و دفع، الخامس...، السادس...، لم تعد تهتم بحضور سذجان أبدا، و كان هو انشغل بعد الأموال المدفوعة و كاد يفقد عقله، هي لحد الآن تكاد تضاهي نصف أجرته الشهرية، إذن قد يكون مدخول يوم صديقه القديم أربعة أضعاف أجرته ...، فكم يكون مدخوله الشهري !؟ شعر باختناق في صدره...، و في لحظة ما أحس بالإهانة، وما أن انشغلت الكاتبة مع مريض في تحصيل أثمان إضافية عن "متاعب إضافية" حتى انسحب في ذل فظيع. تمنى و هو يتهاوى فارا من العمارة لو أن الأرض زلزلت و انشقت و ابتلعته. و تناسلت الأسئلة في داخله: لماذا لم يستقبلني صديقي على وجه السرعة؟ و بالاحترام الذي أستحقه؟ لماذا لا يعاملني الناس بكل إجلال و أنا الطبيب؟ ! لماذا لا يفعلون كما أمي تفعل؟ لماذا تجاوزني الممرضان الماكران بالبلدة اللعينة؟ و أخي الأصغر مني سنا و الذي لا هو بطبيب و لا حتى ممرضا، ما الذي يجعل علامات الوقار تبدو فادحة عليه؟ و صاحب الشاحنة الذي أقلني و أثاثي، ما الذي جعله يستصغرني بسرعة مفرطة؟و...و... . و قصد مقهى جانبية غير تلك المتلاصقة على طول الشارع، جلس بركن معزول، طلب قهوة و جاءه بها النادل مع كأس ماء شربه و طلب آخر، و شرع يشعل سيجارة تلو الأخرى و كأنه يراهن على الاحتراق.
لم يجد جوابا لأي من الأسئلة التي تتهاطل عليه لأن طرحها مغلوط و تقتضي إعادة الصياغة تجعله هو المحوري فيها لا الآخرين، إلا أنه لا ينتبه إلى ذلك، أو على الأصح غير مؤهل له. و بينما هو في حالة شرود، ربت على كتفه شخص، فقفز من مكانه، ثم تدارك الأمر، لم يكن سوى أحد أصدقائه القدامى بالثانوية، لم يكمل دراسته رغم أحلامه اللاتحد بأن يكون رجل سلطة، و اضطر لتوريط رسالة التعليم به رغم حقده الفظيع على التعليم وأهله !!. أشعل هو الآخر سيجارة طلبها من سذجان، و دون مقدمات، بل و خارج أي سياق بدأ يهذي عن أجرته الشهرية التي لا تكفي لشيء ! و انتظاره ترقيته إلى "السلم" الموالي ليودع المعاناة ! ما دام الأجر يتضاعف. و عن مدرسين يشتغلون معه بنفس المؤسسة ومع نفس الفصول تمت ترقيتهم إلى "السلم" المنتظر منذ مدة لأقدميتهم و ودعوا الفقر إلى الأبد!. ثم عن صديقهما القديم هما معا الذي عاد من الخارج بعد أن تخصص في طب الأطفال و هو اليوم يلعب بالمال، شيد شبه قصر و له سيارات عديدة لا واحدة !، و الثاني الذي تشبه عيادته يوميا سوقا من فرط الإقبال عليه، تخصص في الجهاز الهضمي و الناس كلهم يشكون من أمراض المعدة و الأمعاء، شيد هو الآخر شبه قصر و عمارة و اقتنى مؤخرا سيارة لا يقربها إلا أصحاب الملايير ! و أخرى رباعية الدفع للعطل. و الثالث الذي تخصص في أمراض النساء و التوليد الذي ينافس اليوم أثرياء المدينة...
مرت في هذه اللحظة سيارة فاخرة مسرعة، و صرخ صديقه في وجهه و هو يشير إلى صاحبها: " و هذا الذي كنت أراه معك أيام الدراسة لم يعد يقبل أن يدعي أحد أصدقاء الماضي صلته به...". في هذه اللحظة، ازداد وجه سذجان سوادا و أفلت كأس الماء الذي بين يديه، و سارع صديقه إلى استفساره إن كانت وقعت له واقعة مع هذا الأخير، "فهو تنكر للجميع بعد أن غرق في المال !!.
لم يكن سذجان يجيب صديقه القديم، و ظل يشعل السيجارة تلو الأخرى و وضع العلبة على الطاولة بعد أن كرر جليسه طلب واحدة كلما أنهى حديثه عن صديق قديم. كانت هذه الأخبار المفصلة بحجم الصاعقة عليه، إلا أنه حاول التظاهر بالعكس أمام المدرس، فليس من مصلحته أن يفتضح حاله منذ أول يوم له بمدينته ! فهو الطبيب !، ثم نهض الصديق وانصرف بعد أن طلب منه أداء ثمن قهوته، فأجرته الشهرية يلزمها أسبوع كامل لكي تصل !.
عند المغيب، استجمع سذجان قواه المتبقية و انفصل عن كرسي المقهى بعد أن أدى ثمن القهوتين و زاد عليه للنادل الذي حرص على مده بكؤوس الماء طيلة المساء، و قرر أن يقصد المدينة القديمة مشيا على الأقدام، فيعرج على الحي الذي سيلتحق ابتداء من الغد للعمل بمستوصفه، و يطمئن إلى أن موقع المستوصف هو الذي حددته أمه. كان يمشي كمريض نال منه المرض إلى ابعد الحدود، تأكد من موقع المستوصف، هو الآخر عبارة عن بناية بسيطة خلف بيوت أهل الحي المتواضعة، لم يخطر بباله يوما أن يكون بتلك الزاوية مستوصف ! و هو الذي عبر الحي مئات المرات في حياته ! و على كل حال، فالمستوصف لا تحيط به مزبلة كما الحال بالنسبة لمستوصف البلدة !.
وصل إلى البيت، و كانت أمه أعدت عشاء استثنائيا احتفالا بحضوره و انتقاله، و هو لا شهية لديه مطلقا للأكل، إلا أنه تظاهر باشتياق أطباق العائلة تحت وطأة نظرات أبيه إليه الغير مطمئنة. و بعد العشاء، ادعى رغبته في المشي و هو يؤكد على المسألة حسب علم الطب !، ابتعد عن البيت قليلا ثم وقف في ركن مظلم بعيدا عن أعين آخر الداخلين إلى الحي، وشرع يدخن سيجارة تلو الأخرى، ربما أربعة وربما خمسة، المهم أنها كانت كافية لكي يشعر بأن دماغه كاد أن يتوقف عن أي "تفكير" و رئتيه ككتلتي دخان ثقيل تخنفان أنفاسه، و سيكون من الممكن أن ينام دون حاجة لطول سهر مع خمرته كالعادة. رمى السيجارة الأخيرة بمجرد إشعالها، و أسرع إلى البيت كديك مذبوح بسكين جد حادة. كانت أمه واقفة بالباب، أثنى لها على براعتها في الطبخ للتمويه، و تسلل إلى غرفته القديمة التي غادرها أخوه و نام على الفور.
و في الصباح، استيقظت الأم باكرا ة أعدت فطورا استثنائيا أيضا، فاليوم يوم عيد بالنسبة لها، هذا أول يوم لابنها الطبيب...الدكتور...طبيب بمدينتها ! يراه الأحباب و الحساد ! و يسمع به البعيد و القريب ! و يختار من بين بنات أعيان المدينة اللائي سيتهافتن عليه، أجملهن و أعرقهن نسبا ! فهو الطبيب !. استيقظ سذجان، تناول قليلا مما أعدته أمه إرضاء لها، و إلا فلا شهية له للأكل. ارتدى بذلته التي قاومت لحد الآن، و حزم ربطة عنق و غادر في اتجاه مقر عمله بعد أن كالت له أمه كل أشكال الدعاء بأن يوفق في عمله و يبعد عنه كل سوء و يرزقه بنت حلال و جاه و ينجيه من عيون الحساد و...و... .
وصل إلى المستوصف، و كان ثلاثة ممرضين، ممرضان و ممرضة واقفين بالباب كما الحال تماما يوم وصل إلى مستوصف البلدة، قدم نفسه لهم، و أجابه الثلاثة بعبارات ترحيب فيها الكثير من البرودة، أو هذا ما شعر به هو على الأقل. و بادرت الممرضة المكتنزة إلى تقديم كل واحد منهم على حدة: " أنا الممرضة فلانة، أشتغل بهذا المستوصف منذ سنين، أسكن بالحي المجاور لحي عائلتك، أنا ابنة المدينة، أظنك تعرفني و تعرف إخوتي. و هذا زميلي فلان سبقني إلى هنا بسنين. أما السيد علان( أي الثالث) فهو ماجورنا". ثم تقدم هذا الأخير ليدل سذجان على مكتبه، هو شبيه تماما لنفس المكتب الذي خلفه بالبلدة، بل البناية تكاد تكون نفسها إذا استثنينا المكتب الزائد الخاص برئيس الممرضين. أخبره هذا الأخير بنفاذ كل الأدوية، و أن المستوصف بانتظار الدفعة الثانية المتأخرة الخاصة بالنصف الثاني من السنة الماضية، ثم انصرف.
ارتدى سذجان بذلة الطبيب، و رتب وريقات كانت مبعثرة على المكتب، تذكر الممرضين الماكرين بالبلدة القادرين على جعل الطابور اليومي يعود أدراجه بدون مشاكل و في غيابه، و عقد العزم على أن يتصرف منذ اليوم بذكاء !!، فهو بمدينته و لا خيار أمامه، و كل مشكل سيحسب عليه. فأولو الأمر حسموا في كون كل الشروط تضافرت لإعلان الصحة بثمن رغم "ادعاء" بعض "المجانين" كون نمط العيش العام لا يتناسب أبدا مع لغة الأثمان... . هل يقبل أن يعيدوه إلى البلدة ؟ هل يفرط في وظيفته؟ ! ماذا سيكون موقف أمه؟ و خصوصا أبيه؟. و بينما هو غارق في نفس نمط أسئلته، إذا بالممرضة تدق بالباب معلنة تضخم الطابور اليومي. صرح لها سذجان باستعداده، و أقبل أول المرضى، كان شابا قوي البنية، بشعر منفوش و على وجهه آثار جروح و كدمات متعددة، قديمة و متوسطة العمر، تقدم و جلس دون أن يأذن له، وبدأ يسرد آلاما يشعر بها في بطنه بصوت كالرعد، قام سذجان من مكانه و طلب منه أن يتمدد على سرير متهالك، "فحصه" و عادا للجلوس حيث كانا. أخذ سذجان وريقة و أخرج قلمه و كتب له أسماء بعض الأدوية و هو يؤكد له أن ليس هناك من خطر على صحته، ناوله الوريقة بعد أن ختمها بخاتمه، وهو يودعه داعيا له بالشفاء، فانتفض الشاب الغليظ كثور هائج و هو يصرخ: " أين هو الدواء؟ هل تحملت محنة الاستيقاظ فجرا و مشقة القدوم إلى هنا لتهزأ بي بهذه الوريقة؟ لو كان لي المال لشراء الدواء لقصدت أسيادك في عياداتهم ! يعطونكم الدواء لتقديمه للمساكين و تسرقونه أيها اللصوص !". و سمعه سذجان يضيف بعد مغادرته المكتب : " الله يلعن أمهاتكم و آباءكم و...و...". كان صراخه يدوي في البناية الصغيرة، و سارع رئيس الممرضين لإنقاذ الموقف، و لم يعرف سذجان ما الذي أقنعه به حتى جعله ينسحب.
دخل المريض الثاني، كانت امرأة بعينين حمراوين كالجمر من شدة الألم، "فحصها" سذجان و كتب لها على الوريقة أيضا و هو يبالغ في مجاملتها، و ما أن قدمها لها حتى صرخت في وجهه: "الله يلعن كل اللصوص و من رباهم، اعتقدنا أن الطبيب اليوم ابن المدينة، ستمسه الشفقة على حالنا، فإذا به أقبح من كل السابقين ! يزودكم المسؤولون بالأدوية و تقدمونها لأهلكم أو تبيعونها أيها اللصوص ! الله يلعن ...و يلعن..." ، وتدخلت الممرضة و هدأت الأمور.ثم تقدم المريض الثالث، الوريقة نفسها و السب ذاته. الرابع، الوريقة و السب حد الهيجان المنذر بالأسوأ. الخامس، سب و ضرب على مكتب سذجان جعل الوريقات تتطاير في المكان... .
حوالي الظهر، كان الطابور ذاب في الحي و المدينة رغم أن العمل بالمستوصف بنظام التوقيت المستمر، أي إلى غاية العصر تقريبا، إلا أن الناس هنا متعودون هم الآخرون على التوافد صباحا لاغير كما الحال بالبلدة تماما. أغلق سذجان الباب بإحكام كمن يخاف من اعتداء وارد، و تهاوى على كرسيه، أمسك رأسه بكلتي يديه و كأنه يخشاه أن يتصدع، و تراءت له صور عديدة سريعة التلاحق و كأنها تتزاحم، صورة المرضى الوديعين في غرفة انتظار عيادة صديقه القديم الذي تجنب استقباله، و صورتهم و هم يدفعون في مسكنة و خضوع، و انسحابهم ب"الأوراق" بأدب في اتجاه الصيدليات، خاشعين كالماشين في جنازة، وصورة أمه و هي تهلل بقدومه للعمل بمدينتهم، و صوره "صديقه" الذي مر البارحة أمام المقهى بالسيارة الفاخرة و بكل علامات الرفاه و السعادة، و نظرات أبيه المستفزة، وصورة أخيه الذي يكاد يمتنع عن الكلام في حضوره...، و تشابكت الصور و اختلطت و شعر كالقابع في قعر بئر شديد الظلمة. واصل بكل جهده يضغط على رأسه بكلتي يديه وكأنه يعتصره لطرد تلك الصور، ثم قاوم و استقام، تخلص من بذلة الطبيب بعناء و ارتدى سترته، وخرج من مكتبه متجها نحو باب المستوصف. كان الثلاثة، الممرضان و رئيسهما واقفين بالباب، نظر إليهم و بدوا له يتلذذون بما تفرجوا عليه هذا اليوم الأول. فالمراتبية قاسية في تربتها الأصلية، أما حين تنقل نسخة منها ممسوخة إلى الصحراء دون أدنى إعداد للرمال، تكون المحاصيل في غاية التشوه، بل تقيم العاهات في الأرواح. و كمن يصب الملح على الجرح، بادره رئيس الممرضين: " هذا جحيمنا اليومي !". طأطأ سذجان رأسه و غادر في اتجاه بيت عائلته، تمنى لو أن أسرته تناولت غداءها قبل عودته حتى يفلت من نظرات أبيه التي تربكه، إلا أن الأمر لم يكن كذلك، فالأم المسكينة أقنعت الجميع بالانتظار باستثناء أخيه الذي تغذى و راح إلى كليته. جلس سذجان إلى المائدة و هو يستنجد بكل ما تبقى له من قدرة على التظاهر بنقيض حاله، و هو ما لم ينطل على أبيه الذي تضاعفت شكوكه، بل و كأن العدوى بدأت تنتقل إلى أمه. بعد الغداء، دخل إلى غرفته، تمدد على سريره دون أن يزيح حذاءه، أغمض عينيه لحظة، و سرعان ما عاود الوقوف. و بعد تردد، غادر البيت بعد أن أوهم أمه بأنه على موعد باجتماع ما.... قصد المدينة الجديدة و هو يهذي: "هذه كارثة أبشع من كارثة البلدة، على الأقل كنت هناك بعيدا عن الأسرة. هنا ستكون الكارثة بحجم الفضيحة...، لابد أن أجد حلا...، يلزمني أن أنسى و إلا سأجن...،كما يلزمني اقتناء لحوم و خضر و فواكه لأمي عساها تكبح جماح شكوك أبي...، و إذا شربت و نسيت، لا يمكنني المبيت ببيت العائلة، سيفتضح أمري...، و صديقي المفلس الذي أبيت عنده في حالة الطوارئ يكلفني الكثير...، فهو لا يشبع و ليس له على الدوام ما يدفع...، إذن لابد أن أتدبر شقة متواضعة متخفية بضواحي المدينة الجديدة، لن يكلفني ثمن كرائها أكثر مما يكلفني صديقي المفلس للمبيت عنده. و لكن ما أتوفر عليه من نقود لا يكفي لشيء...، يلزم إذن أن أقترض مبلغا محترما أغطي به كل هذه المصاريف". و شركات القروض منصوبة بكل ركن من أركان المدينة الجديدة... . مقدمات مغلوطة، كبيرها و صغيرها، تفضي إلى نتائج يمشي من يأخذ بها بتبات نحو الهاوية لأنها منفلتة من الأرض و تكره التراب...
هكذا كان سذجان يهذي طيلة المسافة الفاصلة بين المدينة القديمة و الأخرى الجديدة، و أمام أول شركة قروض توقف، التفت يمينا و يسارا كمن يقدم على سرقة ودخل، و من حسن طالعه ! لم يكن هناك من ازدحام كما هو مألوف، تقدم تحو العميلة الجميلة التي رحبت به و هي تدعوه للجلوس. جلس و قدم نفسه و ازداد ترحيبها به، نطق بالمبلغ و عرضت عليه أكثر و بشروط تفضيلية !، وافق و فتحت الملف شريطة أن يحضر بعض الوثائق البسيطة. خرج مسرعا مبتهجا كرابح في يانصيب، و اتجه مباشرة نحو الإدارة المكلفة بتسليم الوثيقة الوحيدة التي لا يتوفر عليها المرتبطة بإثبات وظيفته و سلامة أجرته أو على الأقل مبلغ الاقتطاع الشهري المتفق عليه و قليل آخر يفيض عليه يستمر في الوصول كحوالة... . حصل عليها بسهولة و أضاف إليها نسخا من وثائق عادية و عقدا صادق عليه و أرجعها إلى العميلة الجميلة قبل أن تغلق المؤسسة أبوابها. تأكدت من سلامة الوثائق و وعدته بتسلم الشيك خلال اليوم الموالي، في أي وفت يختاره.
غادر المكان و انزوى في ركن بمقهى، و دخن بشراهة، ثم قصد بيت عائلته بعد أن اقتنى بعض حلويات عصرية في علبة جميلة، و تأمل أبوه الذي كان وسط الدار يكمل وضوءه ما بيديه باستفزاز أكبر. تعشى في صمت و خرج للتدخين بنفس الحيلة ثم عاد و قاسى الكثير لينام.
كان في الصباح متجها إلى المستوصف كالمساق إلى سعير، و أحس أن الزمن سيتختر أكثر بانتظار الشيك. دخل و الممرضان و رئيسهما يحرقونه بنظراتهم التي يجدها متشفية، تحسبها جرعات دواء يخفف عنهم وطأة الدهر...، ثم بدأت «الكارثة": المريض الأول، سب و قذف و تجريح. الثاني، لعنة للآباء و الأجداد و الأصول. الثالث، اتهام بسرقة حقوق الناس التي يضمنها أولو الأمر... ! . الرابع، تهديد و سب و وعيد. الخامس، صراخ و ارتطام بباب المكتب تهتز له أسوار البناية البسيطة...و هكذا... أما سذجان، فلا حول له و لا حيلة، دولاب الأدوية فارغ تماما، و عبارات مواساته و مجاملاته لا تجدي، و كل رد على الإهانة و تطور الأمور إلى الأقبح سيحسب عليه لأنه هو الذي لا يتقن تصريف الأمور...، فهو الطبيب !و هذه مهمته... !، هو يوم أفظع من سابقه. و ما أن توقف سيل المرضى حتى هرع إلى إزاحة بذلته و حمل سترته و غادر المستوصف كالهارب من سجن رهيب. وصل إلى البيت و هو يلهث، أكل قليلا من طعام على عجل مدعيا لأمه كونه على موعد مع رؤسائه للبت في قضايا متوقف حلها عليه ! و غادر في اتجاه مؤسسة القرض، فنصف اليوم أو أكثر قليلا تمثله هو عاما و الشيك بالمبلغ المحترم يتراقص أمام عينيه.
وصل إلى المؤسسة في أسرع وقت ممكن، فهو استقل سيارة أجرة ربحا للوقت...، خصوصا و أن السمسار الذي أوصاه البارحة عن شقة وعده بكون واحدة في عمارة بعيدة عن الأعين ستكون فارغة مساء هذا اليوم. دخل و كان زبون جالسا أمام العميلة الفاتنة و آخران ينتظران. أشارت له بالجلوس قليلا ريثما تنهي مع الذي أمامها. جلس و كله أمل أن تيسر أموره !. حسمت مع الجالس أمامها ، قام واحد من الجالسين و اتخذ مكان المنسحب و هو يفرك يديه، و بدت علامات توتر شديد على وجه سذجان، إلا أن العميلة نادت عليه، و من دون أن يجلس طلبت منه توقيع أوراق إضافية ثم سلمته الشيك و هي تبارك له !. شكرها بمبالغة و تمنى لو كان أحضر لها هدية !، و سارع إلى الوكالة البنكية و سحب المبلغ الذي وزعه بين جيوبه، و اتجه مباشرة نحو الوكالة العقارية. كان السمسار في انتظاره، لا شيء يخفى على السمسار هنا، فهو أدرك بعمق كل "حسابات" سذجان و قرر أن يتدبر له شقة و لو من تحت الأرض ! فالطبيب "جاد" في طلبه و جد متعجل عليه... . صاحبه إلى عمارة بعيدة شيئا ما عن قلب المدينة الجديدة، و ذلك ما يتمناه سذجان، صعدا إلى الطابق الثاني حيث الشقة المعينة، فتح الباب و طوفه بالغرفتين و الحمام و المطبخ و الفناء و هو يكيل المدح لصاحب العمارة و للساكنين بها و انغماسهم فيما يهمهم غير آبهين بما يدور حولهم !. و لم يتردد سذجان أبدا، دفع له ثمن الشهر المسبق و ثمن الشهر الجاري و مقابلا عن أتعابه بسخاء. تسلم المفاتيح و شكر السمسار على وفائه بالعهد ! و عادا معا إلى وسط المدينة الجديدة.
جلس بنفس الزاوية بنفس المقهى، جاءه النادل بقهوة و كأس ماء كالعادة، و شرع "يخطط" لكيفية صرف جزء من المبلغ المحترم الذي في جيوبه مع ضمان الاحتفاظ بالجزء الآخر...، يلزم ألا يكرر ما فعله باستدراك حوالاته الذي انتظره طويلا و طار من بين يديه ! ثم إن حوالته ستصل بعد اليوم منقوص منها الثلث تقريبا و على امتداد ثلاث سنوات، و مطلوب أن يحتفظ بمبلغ يوازن به طيلة هذه المدة !! سيشتري فراشا للنوم بمستلزماته و طاولة عصرية و أربعة كراس عصرية أيضا و جهاز تلفزيون و لو صغيرا و جهاز استقبال رقمي و بذلة أو بذلتين جديدتين و حذاء أو حذاءين . و سيحافظ على غرفته ببيت عائلته كما هي و قد يضيف إليها شيئا و لو بسيطا تجنبا لأية شكوك تحوم حوله... المهم أن كل ذلك لن يتطلب بأي حال من الأحوال أكثر من نصف المبلغ المحترم.
غادر المقهى هذه المرة قبل المعتاد بعد جزمه بدقة حساباته، توجه إلى سوق المدينة القديمة و اشترى لحما و خضرا و فواكه كثيرة، و عاد محملا إلى بيت عائلته. رأى أبوه الذي كان بالبيت ما بيديه إلا أن استجابته لم تكن أبدا بالشكل الذي راهن عليه هو. كانت الشكوك نالت منه. لم يكن وجه سذجان الذي يزداد سوادا يوما بعد يوم و لا نحافته المخيفة و ملابسه القديمة لتبقي على أحلامه بالعمارة و الشقق الكثيرة التي تدر الملايين شهريا، على قيد الانتعاش، هو شبه متيقن اليوم من أن هناك شيئا على غير ما يرام و يشتهى.
كان اليوم الموالي يوم عطلة، و فرحة سذجان بالمثنى أو الجمع، فهو من جهة لن يكابد كل ذلك "السلخ" حيا و الممرضان و رئيسهما يتفرجون، و من جهة أخرى، سيكون له كل الوقت لترتيب أمور شقته. ادعى لأمه ليلا أنه مدعو في الغد إلى حقل زفاف صديق له بالمدينة المجاورة، وأن لا داعي للقلق عليه، فهو قد يبيت هناك ما دام السفر ليلا محفوف بالمخاطر. وافقته أمه و دعت له بالسلامة، و باركت مسبقا لصديقه ! و هي تشير له بأن الوقت حان ليحسم هو الآخر مثله، و ما عليه إلا أن يسارع بشراء شقة بالمدينة الجديدة، و الطبيبات و الصيدلانيات كثيرات !!.
استيقظ في الصباح الباكر و غادر البيت دون أن يتناول طعام الفطور الذي كانت الأم بصدد إعداده، انقذف داخل أول حافلة نقل صادفها على الطريق و قصد المدينة الجديدة، تناول واقفا حلوى و كأس حليب بأول محلبة، و جلس بمقهى يدخن بانتظار فتح المتاجر أبوابها. حوالي التاسعة، قصد متجرا عصريا لاحظ مسبقا أنه يبيع كل أنواع الأثاث و التجهيزات المنزلية، طاف بين الأروقة عدة مرات، و استقر رأيه على فراش نوم متواضع ما دامت أثمنة الأخرى خيالية، و طاولة عصرية و كراسي أربعة و جهاز تلفزيون و آخر للاستقبال الرقمي بعد أن تأكد من كون الثمن لن يتجاوز نصف المبلغ المحترم. أدى المتفق عليه و جمع له الأعوان المطلوب و حملوه له على ظهر شاحنة المتجر إلى الشقة. كل الأمور ميسرة هنا !عكس البلدة المشؤومة ! تناسى تماما ما يعانيه يوميا بالمستوصف في غمرة انغماسه في استعداداته لطقوسه... .
رتب مشترياته، الفراش و مرفقاته بغرفة، و الطاولة العصرية و الكراسي بالغرفة الثانية. تأمل المنظر قليلا و خصوصا جهة المطبخ، و خرج مسرعا، لا وقت للتضييع ! يلزم ألا تغرب شمس هذا اليوم إلا و الشقة جاهزة. استقل أول سيارة أجرة صادفها و قصد متجرا للأواني. بدأ بعصارة القهوة، أضاف طنجرة صغيرة و مقلاة و بعض الصحون و الكؤوس الصغيرة للقهوة و النبيذ و الكبيرة للبيرة...، ثم تردد كثيرا أمام أثمنة المواقد و استقر على واحد متواضع، فهو بدأ ينال من الشطر الثاني من المبلغ المحترم... . جمع له أحد الأعوان مقتنياته، أدى الثمن و تدبر طاكسيا و سارع إلى الشقة، كان يسرع كالهارب، أو كمن مدينته مرشحة لحالة حظر التجول . رتب الأواني بالمطبخ بشكل يجعله لا يبدو خاليا، و نزل مسرعا عند صاحب دكان بنفس العمارة، اشترى قنينة غاز، أوصلها بصعوبة بالغة إلى المطبخ، ربطها بالموقد و تنفس عميقا كمحرر من أعمال شاقة. و قف وسط الشقة بعد أن أشعل سيجارة، يتأمل المنظر من جديد، و تأكد من أن لا شيء ينقص الآن سوى "الأساسي" الذي من أجله كل هذه المعاناة !. كانت الساعة تتجاوز الظهر بقليل، و كان الوقت جد مناسب بالنسبة له، فالمدينة في هذه اللحظة تكاد تموت، تتوقف الحركة تماما...، خرج مسرعا و قصد سوقا ممتازا قريبا، الحركة شبه متوقفة فيه كما تمنى، و قف أمام رواق اللحوم و طلب شرائح كبد و لحم، ثم جمع من على الرفوف جبنا و زيتونا و فواكه، و اندلف إلى الزاوية الجانبية الخاصة بالخمور. وقف يتأمل كل تلك الأنواع من النبيذ و ذلك الكم الهائل من أصناف الجعة من مختلف بقاع الدنيا. فكر في كونه لم يعد يقو بما فيه الكفاية على الأول و قرر أن يكتفي بخمس قنينات منه على أساس أن يغتنم الفرصة و يوفر كارطونين دفعة واحدة من جعة "الملائكة" فادح مذاقها و مفيدة للصحة !. رتبت له الجالسة وراء صندوق الأداء ما اختاره بعد لفه، أدى الثمن و غادر. كانت سيارة أجرة واقفة بباب السوق، ركبها بعد أن اعتذر لصاحبها على ثقل مشترياته و سارع به إلى الشقة.
وصل، و شرع يرتب مقتنياته، و إذا به يصعق بكون كل ما اشتراه من الأغذية سيضيع، فهو لا يملك مبردة، غضب و أشعل سيجارة، و قرر ألا يكرر نفس مأساته بالبلدة خصوصا و أن الصيف هنا بمدينته يكون كالجحيم. لا بد إذن من اقتناء مبردة مهما كان حجمها. غادر الشقة من جديد ، و أسرع باتجاه السوق الممتاز مرة أخرى، كل شيء متوفر به عكس البلدة اللعينة التي لم يكن يعثر بها و لو على خبز يلائمه ! ولج السوق من جديد، طاف بين المبردات جميعها، ثمن بعضها يتجاوز ما تبقى له من المبلغ المحترم، صار يتحاشى قراءة أثمانها، فلا حاجة له بها ! هي صالحة لعائلة كبيرة ! و اتجه نحو أخرى صغيرة خاصة بالمكاتب و اشترى واحدة.
ساعده صاحب النقالة الصغيرة التي أقلته هو و مبردته على حملها إلى الشقة، إلا أن السائق لم يلتزم حدوده في اعتقاد سذجان حين نبهه إلى صغر حجمها و كونها غير صالحة لشيء على الإطلاق ما دام جوفها لا يتسع لأكثر من كيلوغرامات قليلة من الخضر و الفواكه و قليل من الماء، و الصيف هنا سعير. لم يهتم سذجان كثيرا بما قاله صاحب النقالة بالرغم من شعوره بالإهانة !، أدى له الثمن و أغلق الباب بإحكام. سارع إلى وضع بضع قنينات جعة في مبردته بالمنطقة السريعة التبريد، و رتب بها شرائح اللحم و الكبد بعد أن احتفظ باثنتين لغذاء جد متأخر. شعر بالتعب من كثرة الحركة، قصد الغرفة التي خصصها للنوم و تمدد على السرير الجديد و هو يغمض عينيه. كان يفكر و لا يفكر ! يحلم و لا يحلم ! نائما و غير نائم !. ظل على هذا الحال برهة ثم قفز باتجاه المطبخ، يلزم أن يبدأ ليرتاح ! أشعل الموقد و وضع المقلاة على النار و وضع فيها الشريحتين. حمل صحنين بزيتون و فواكه إلى الطاولة و عاد يقلب الشريحتين، و بينما هو كذلك، مد يده إلى المبردة، أخرج القنينة الأولى، صبها في كأس كبير و أفرغه في جوفه، أشعل سيجارة، قلب الشريحتين مرة أخرى و أخرج قنينة ثانية و تذوقها بتلذذ، ثم تمتم: "شتان بين بيرتنا و بيرتهم ! إنهم ملائكة، كل شيء عندهم جميل و نحن وحوش" !!. حمل شريحتيه و قنينتين إلى الطاولة و جلس، أكل قليلا و اكتفى بالشراب و التدخين بعد أن شغل تلفازه و سرح مع روبورطاج حول مدينة خلابة بمعمارها و حدائقها و آدمييها بدنيا "الملائكة" !.
عند المغيب كان سذجان اشتعل، و قرر أن يتوج هذا اليوم المشهود بمعقله الآمن، بالسهر إلى آخر رمق، و احتساء أنوثة من مدينته، خصوصا و المسألة هنا لا تطرح أي مشكل على الإطلاق !، فالبنات ليلا بالبارات و بارات الفنادق يفوق عددهن عدد الذكور، لا بل إن من الذكور هم الآخرون من...، كما أخبره صديقه المدرس، و الآخر صاحب الشقة المفلس الذي لا يشبع. يكفي أن تدفع... . وضع نظارة قاتمة على عينيه، و غادر العمارة، قصد الشارع الرئيسي و بدأ يتأمل واجهات المتاجر و يتحاشى المقاهي التي كان الرواد ما يزالون منشورين بها، تذكر ضرورة اقتناء ملابس جديدة و حذاء أو حذاءين، فأعين الجيران و أسرته تستفزه و يلزم أن يوقفها عند حدها ! دخل محلا أنيقا شديدة الإغراء واجهته، و أوقع به صاحبه بسهولة، أقنعه ببذلتين رسميتين و قميصين و أربطة عنق و جوارب أيضا، و بأثمنة تتجاوز قيمتها بكثير بعدما استشعر حاله. و كذلك الشأن بالنسبة لصاحب متجر الأحذية الذي ورطه بسهولة في حذاءين بادعائه أنه يستورد كل سلعته من بلاد "الملائكة" !.
عاد بمشترياته من جديد مسرعا إلى شقته، و إلا فسيبدو في حال دخوله بها إلى بار كبدوي في المدينة !، اغتنم الفرصة و ارتدى قميصا و بذلة رسمية و تبت ربطة عنق زاهية على صدره، كلها جديدة، و تخلص من حذائه القديم الذي استفحل حاله من كثرة المشي طيلة هذا اليوم، ثم غادر باتجاه الشارع المعلوم الذي بدأ يتخلص من المدمنين على المشي و لفظت مقاهيه معظم المنشورين على كراسيها. قصد بارا غير الذي لا يبرحه صديقه المفلس صاحب الشقة، دخل و كان البار كموقع حريق أخمدت للتو ألسنة نيرانه، من كثرة الدخان و الضجيج، و البنات منشورات على كل الطاولات، قليلات منهن من تمكن لحد الآن من الالتصاق بضحية، رمق في ركن واحدة منفردة ألهب جمالها الظاهر و المعروض مشاعره، لم يتردد لحظة، خطا باتجاهها، ابتسمت، جلس إلى جوارها و جاء النادل يستفسر عن الطلبات، طلب بيرة محلية و طلبت أخرى من النوع الرفيع المستورد، تبادلا النظرات، و كانت هي بارعة في تصنع علامات الهيام على ملامحها. اشتعلت جوارحه، طلبت سيجارة و سارع هو إلى وضع العلبة قريبة من يديها، أفرغت بيرتها في جوفها دفعة واحدة و بتلذذ، فمنذ ساعة أو أكثر و هي تنتظر و الخوف ينهشها من أن تكون ليلتها بيضاء مثل سابقتها، و كان هو لم يمسس بيرته بعد، نادى على النادل و طلب لها الثانية، و صلتها في الحين، و هكذا...، قد تكون شربت عشرة و لم يتجاوز هو الثلاثة...، انشغل أكثر عن الشرب حين قصدت وضع رجل على أخرى و كاد فخداها القاسيين ببياضهما يتعريان تماما و هي تقربهما منه. عرض عليها مرافقته، و وافقت في تغنج شريطة أن يشربا هنا بالبار بيرات أخر، فهي تعشق ذلك ! وافق تلبية لما تعشقه ! و لم يكن يدري أنها لو تجرأت و غادرت البار بصحبته قبل أن يستنزفه صاحبه إلى أبعد حد، فلن يسمح لها بولوجه بعد اليوم، و غيرها الأصغر سنا منها و الأجمل ، القادمات الجديدات إلى الجحيم كالسيل. و هذا مصدر رزقها و لا يمكنها التفريط فيه.
واصلت هي الشرب بعد أن طلبت طعاما التهمته، و واصل هو تأمل جمالها و هو يدخن، و يشرب من حين لآخر، ربما تكون شربت أكثر مما شربته في المرة الأولى. و عند منتصف الليل، نادى على النادل و أدى الثمن و مكافأة مجزية، و غادرا باتجاه المعقل الآمن بعد أن حرص سذجان على اقتناء علب سجائر وفيرة.
نبهها عند الاقتراب من العمارة أن تمشي خلفه و تقتفي أثره "احتراما" للجيران و ضمانا للأمن و الأمان. و طبقت تعليماته حرفيا، تباطأت في مشيتها قليلا، صعد إلى حيث الشقة، فتح الباب و دخل و إذا بها إلى جانبه كملاك !. طافت بالشقة للاطمئنان على كونها لن تكون فريسة هذه الليلة كما حصل لها مرارا، و هي تشيد بها و بموقعها الاستراتيجي، بينما هو سارع إلى التخلص من بذلته الرسمية و أخرج كل ما تبقى من بيرات في صندوق و زاحمها إلى جانب أخريات باردة في مبردته الصغيرة، و أشعل في نفس الوقت الموقد و نشر شرائح وفيرة على المقلاة، ثم وضع زيتونا و جبنا و فواكه في صحون و سارع بها إلى الطاولة العصرية، رتبها ثم عاد مسرعا إلى المطبخ، قلب الشرائح و عاد للطاولة بكأسين كبيرين و مدخنة جديدة. و بينما هو في حركة دائبة بين المطبخ و الطاولة العصرية، دخلت هي إلى الحمام ، و إذا بها تخرج أفدح من ملاك !، ارتدت ثوبا قصيرا أكثر، جد ليبرالي و شفاف، أحمر و أبيض، و أعادت تصفيف شعرها و تلوين شفتيها. و بينما هو مشدوه، تمادت هي في إغوائها بعد أن أدركت حاله و طبعت قبلة على شفتيه أشعلت جسده النحيف و كاد يجن.
أكملت هي إعداد الشرائح حين شعرت باشتعاله، ثم ركنا إلى الطاولة و شرعا يشربان بعد أن حرصت أن تفرغ هي بيرته في كأسه و تمد قطعة من شريحة إلى فمه، مما فاقم حاله...، و انطلقت تشرب. هي تشرب بجنون، و كما الحال بالبار، لم يكن هو يكمل بيرة حتى تكون هي شربت أربعة أو خمسة، هو يدخن أكثر مما يشرب، و كل مرة يسرع إلى المبردة و يأتي بدفعة و كله أمل في أن تشبع.... تنبه إلى أن ما بالمبردة كاد يخلص، سارع إلى الصندوق الثاني و ألقى بما اتسعت له، و عاد إلى الطاولة، و ما أن يجلس و عيناه تكادان تنفلتان من رأسه و ترتطمان بمواقع محددة من جسدها، لا بل بكل جسدها، حتى تستقيم هي متظاهرة بالحاجة إلى غسل يديها أو الدخول إلى الحمام و تمشي أمام ناظريه في تغنج لتفاقم اشتعاله.
هو الآن سكر، أما هي، و بعد أن لاحظت قرب نفاذ مخزونه من البيرة، و رمقت في غفلة منه قنينات النبيذ في الدولاب، عبرت له عن تمنيها لو كان أحضر قنينة نبيذ ! لأنها تشتهي دوما أن تختم به. سارع إلى الدولاب في نشوة لقدرته على تلبية شهيتها و أمنيتها، و أحضر قنينتين دفعة واحدة، ثم جاء بكأسين صغيرين، فتح الأولى و أخذتها هي من يديه، صبت في كأسه قبل كأسها، رفعه باتجاه فمه و ارتشف جرعة فإذا بها كالعلقم، صحته لم تعد تطيقه و لم تعد أبدا كذلك منذ مدة، إلا أنه تظاهر بالعكس. و شعرت هي المحنكة عميقا بوضعه، ثم واصلت مع ما تشتهيه ختاما. أفرغت القنينة الأولى و أتت على كل الطعام الذي على الطاولة، و جاءت بما تبقى من جبن و فواكه بالمبردة، هي تأكل و تشرب بتبات و هو يتفرج و يدخن، فهو سكر. و في أوج ثمالته، و في لحظة مستدرجة، انطلق يحكي ل"الملاك" الذي إلى جانبه عن عذاباته بالبلدة اللعينة مع العزلة و الوحدة، و مع الممرضين الماكرين، و عن فراره منها ليلا انتقاما منها و من الممرضين أساسا !، و يتساءل عن سر نجاحهما و فشله، و ارتقائهما و تقهقره، و عن أصدقائه الذين تابعوا دراستهم و حصلوا على درجة التخصص، و يسألها إن كانت تعرفهم، فهم الآن من علية المدينة، بالفيلات الشبيهة بالقصور و السيارات الفاخرة و الأخرى الرباعية الدفع، و عن ذلك اللعين "صديقه القديم" الذي أهانه و لم يستقبله، و أخيه الطالب الجامعي الذي يحضى باحترام الجميع، ببيت العائلة و الحي، و هو مجرد طالب ليس إلا! و الذي يتكلم بخشوع كفقيه ! و عن أبيه الذي تغيرت نظرته إليه كثيرا و يعذبه بنظراته الارتيابية. ثم عن أهل المدينة الذين لا يحترمون الطبيب ! و لا يقدرون مكانته ! و...و... . هي نفس الأسئلة المغلوطة و الزائفة التي تقتضي إعادة الصياغة، و إلا فالجواب مغلوط بل يفاقم الحيرة و الدوخة، و مفض بصاحبه إلى التشرد و الضياع .
كانت "الملاك" تتظاهر بكونها تنصت و تشارك الحاكي المجروح أوجاعه، إلا أنها لم تبرح القنينة تلو الأخرى و ما تبقى من جبن و فواكه. تخيلها سذجان في لحظة ما و هي تأتي على أخر مخزونه بئرا بدون قعر، و لكنها بئر عسل !!.
في آخر ساعة من الليل، كان سذجان يتثاءب متجها نحو غرفة النوم، أكملت هي ما تبقى في آخر قنينة، دخلت إلى الحمام، غسلت أسنانها و تبعته، أشعلت النور الخافت و تمددت إلى جانبه و قد تفرطح جسدها من هول ما التهمت و شربت. رأته يلحس جسدها من أخمص قدميها إلى آخر شعرة في رأسها وهو يترنح و أشفقت عليه...ثم نام.
في الصباح الباكر، استيقظت و هو جامد كالميت، اغتسلت و صففت شعرها و نمقت وجهها بعد أن ارتدت ملابسها و جمعت ثوب الإغواء في محفظتها. يلزم أن تغادر بأمان، هذه عادتها. ثم إن هناك من ينتظر محصولها من الليلة، خصوصا أخوها، ذلك الشبيه في بنيته الجسدية بسبع ضار، إن لم تمده بثمن علبة سجائره الفاخرة و قهوتين على الأقل، يكسر عظامها و يقوم ب "ثورة" كاملة بالبيت، لا تسلم منها لا الأبواب و لا الأواني...، رغم توسلات الأم. أيقظت سذجان و كان كمن هشمت عصابة كل جزء من جسده، غادر الفراش بصعوبة و تأمل" فتنتها" من جديد، أدى لها بسخاء لم يفاجئها، و دعته بعد أن تبادلا رقمي هاتفيهما الجوال، فهو اقتنى واحدا منذ قدومه للعمل بمدينته. كل الناس اقتنوه و لا يعرف على وجه الدقة ما الذي يوظفونه من أجله، حتى مساحو الأحذية و بعض المتسولين تراهم يكلمون أحدا ما في الجوال !، ثم غابت.
هرع سذجان يغتسل و يرتدي بذلته القديمة، خرج بسرعة و قصد محل حلويات و خبز، اشترى كثيرا من الأولى و بعضا من الثانية، و سارع في اتجاه بيت عائلته حتى يطمئن الأهل ! قبل أن يتوجه إلى مقر عمله. كانت الأم في انتظاره، قدم لها الحلويات و الخبز و هي تستفسره عن حفل زفاف صديقه ! الذي دعت له، مكررة التأكيد على أن لا شيء يبرر تأخيره بالزواج هو الآخر ! أجابها بأن الزفاف كان مهيبا، و أن صديقه رزق بنت حلال ك «ملاك"، من أسرة عريقة ميسورة أبا عن جد، و أن أهله رحبوا به هو بشكل استثنائي، و صديقه كان شديد الفرح بحضوره !!.
تناول حلوى من التي أحضرها و نصف كأس حليب، و سارع إلى المستوصف و هو يدخن. كان في الطريق كما آدم في التمثلات الشعبية و هو يساق خارج الجنة بعد أن تجرأ و ذاق من التفاح الممنوع !. و هو لم يذق، اكتفى باللحس... .
وصل إلى المستوصف، و كانت الأمور كعادتها، الممرضان و رئيسهما واقفون بالباب، حياهم و أجابوا ببرودة. ثم نفس الطابور و نفس الصراخ و الاحتجاج و القذف و التجريح... .
توالت الشهور و بضع سنين، كانت أمور انقلبت كليا حوله و هو ماض في غرقه، ذاب المبلغ المحترم الذي اقترضه في غفلة منه بعد ليال معدودة مسروقة من أهله بادعاءات عن زفاف صديق آخر بمدينة أخرى، أو موت والد أو أم أو زوجة ثان، أو عن استدعائه للعاصمة للمشاركة في أمر ما...، و تورط في قرض ثان سهلته العميلة الجميلة أكثر من السابق، ثم ثالث لم يبق سوى على أقل من ربع حوالته. و كان أخوه حذقان نال الليسانس بامتياز و التحق بمعهد لتكوين المدرسين و تخرج منه بامتياز أيضا، هو و رفيقته خلال الحياة الطلابية، و التي عرفته صريحا واضحا رزينا، كارها للأقنعة و الزيف، ضاربا بجذوره في الأرض، لا متوهما و لا ممزقا، و عاشقا أيضا بالمعنى النبيل و الفسيح. و تم تعيينهما بنفس مدينتهما ، كل بثانوية. تزوجا و اكتريا شقة تناسب شرطهما، أثثاها بالمطلوب و أضافتها رونقا و وقارا كتبه الهائلة التي لم تتسع لها غرفة بكاملها، و رتبا الباقي إلى جانبهما بغرفة النوم، أليست أحسن زينة في البيت حتى و إن لم تقرأ !! كما اشتريا سيارة عملية متوسطة يتنقلان بها بين مؤسستيهما و بيتهما، و كذا بيتي عائلته و عائلتها التي تكن له كل الاحترام و التقدير و لا تتردد في مد يد العون لهما رغم كبريائه اللايحد. و هو اليوم يجمع بين رسالة التدريس التي يعشقها، مما جعل تلامذته يعشقونه، و كذلك الشأن بالنسبة لزوجته التي ارتوت منه و ارتوى منها، و كثيرا ما يشمئزان من شكوى بعض المدرسين الذين لا يتوقفون عن الحديث عما يسمونه عزوف تلامذتهم عن التعلم !! و غياب الرغبة عندهم فيه !! و إن هي إلا أزمتهم هم يلبسونها لضحاياهم، و بين تحضيره لدكتوراه اختار موضوعا لها شعراء "منبوذين" و "مارقين" بالشام، منهم من قضى نحبه مغبونا و منهم الحي الذي ينام على الرصيف !. وحرصا منه على الدقة و الأمانة العلمية و أخلاق العلماء، اغتنم فرصة عطلة و سافر هو و زوجته إلى دمشق و الشهباء و بيروت لإحضار دواوين لهم مفقودة و جمع معطيات عنهم تنير الطريق، ولم لا الاتصال بمن لا يزال منهم على قيد التشرد !، و فرصة ثانية زار فيها بلدين من التي يسميها سذجان "أرض الملائكة" استنادا إلى ما ينقله له جهاز استقباله الرقمي فقط، اقتنى منهما حذقان كتبا ثمينة و جد حديثة تخدم في الصميم عمله العلمي، و لم يجد لا هو و لا زوجته أهلها لا "ملائكة" و لا "شياطين"، بل فقط آدميين فرضوا جعل آدميتهم غير قابلة للمس بها، ثم إن الصدق و الصراحة و الوضوح من أهم صفات أصحابها الشامخة بهم. كما زوج سذجان أخته لأحد أصدقائه المتخرجين معه لتأكده من استقامته و نضجه، و إصراره على الزواج من غير الموظفة. هذا موقفه، لا بل هي استعداداته التي طبعها فيه انتماؤه إلى أسرة ميسورة و محافظة. و كم تكون سعادة سذجان عارمة حين يزور أخته و زوجها و يجدهما سعيدين، و إن كان في قرارة قناعاته يتمنى لو أن أخته أكملت تعليمها و لم تعد إنتاج شرط للمرأة يمقته.
لم يحضر سذجان لا حفل زفاف أخيه و لا الآخر الخاص بأخته، يختلق كل مرة كارثة فظيعة حلت بأحد أصدقائه الذي لا أحد له غيره ! و يأوي إلى "قلعته" يمارس طقوسه ليطير... و ينسى، هو يكره الحالة التي يشعر فيها بقربه من الأرض...، و لا يعلم – وهو الطبيب- أن الخمر يجلب غبطة عابرة، إلا أنه يحفر ما يراد نسيانه و يضخمه. و حذقان يدرك حاله جيدا. إلا أنه لم يتصور الدرك الأسفل الذي أودى بنفسه إليه، ذلك الذي فصله له أخ زوجته النزق، الموظف بمؤسسة بنكية، و الذي يتردد هو الآخر على عالم الخمر و ما يستتبعه، و لكن بحساب و عقلانية، حكى له عن أخيه الطبيب الذي لم يعد يتقاضى من أجرته المحترمة في سياقها سوى ما يتجاوز قليلا ربعها، و عن الشقة التي اكتراها منذ مدة و يختفي بها، و بنات الهوى اللائي يتسابقن للإيقاع به و يتهامسن بكرمه ! و بأشياء أخرى لم يتمكن من البوح بها له للاحترام الكبير الذي يخصه به، فهو يبدو له عند مجالسته كشيخ جليل جد متفتح، عالم على طريقة القدامى العظام، و زادته حداثة فكره. و بالفعل، فرجل تعليم و قور متقاعد بحي عائلة حذقان يلقبه ب"شيخ الشباب" بعد أن رأى أبناءه يجدون فيه قدوة و نجحوا. و كل أبناء الحي يجلونه، حتى الثلاثة منحرفين المشهورين يعبرون بطريقتهم عن خجل أو استحياء و ارتباك عندما يصادفونه يعبر الحي هو و زوجته، و قبل أن يتزوج أيضا. و هو يتواصل مع الجميع، لا عقد عنده، و لا أوهام أبدا... .
فزع حذقان بما سمعه عن أخيه، و ارتكب خطأ فادحا في لحظة غضب على ما فعله أخوه بمصيره، ربما لم يقصد ذلك أو هذا هو الأصح في الغالب، إذ أثناء زيارته لوالديه، و بينما أمه تهذي عن "عيون الحساد" التي نالت من أخيه، و عن حاله الذي لم يعد يعجبها ، و هو الطبيب ! الدكتور ! الذي تهابه الأمراض ! و تتمناه كل البنات!، لم ينتبه لوالده الذي كان ممددا على سريره بغرفة نومه بانتظار صلاة، و كشف لأمه حقيقة ابنها الطبيب ! الدكتور ! بالتفاصيل لعلها تتوقف عن هذيانها و ترتاح، و تريحه، فهو فشل في تغيير طريقة تفكيرها خصوصا فيما يتعلق بأمور تخص سذجان، فهي رأت فيه دوما الأمل و المثال و المفخرة... . و كم هو عسير تكسير هذه الصورة عندما تطبع في مخيال بسيط لصاحبها عن عزيز عليه.
سمع الأب الحالم بالعمارة و الشقق و الأكرية التي تعوضه عذابات عمر بأكمله من أجل أن يرى أبناءه "رجالا"، و ما أن غادر حذقان البيت حتى أصيب بنوبة شلت نصف جسده و أفقدته القدرة على الكلام، و بعد أيام قلائل رحل.
حضر حذقان و زوجته، وحضرت أخته و زوجها، و نظموا مراسيم العزاء و الجنازة بالشكل المطلوب، و ظل سذجان بعد حضوره متأخرا، إما واقفا غائبا و السواد يلف وجهه، أو جالسا في زاوية و رأسه بين يديه كمن يخاف على انفجاره. حضر كل الأهل و الأصهار و الجيران، و العديد من أصدقاء حذقان، يقدمون التعازي له و فيها الكثير من التقدير، و يصافحون سذجان ببرودة أو يتحاشونه، فأخباره على كل لسان و هو لا يعلم. اعتقد أن مدينتهم هي بالفعل مدينة و ليست كالبلدة حيث غرام بخور يبخرها و يزيد، لم يخطر بباله أبدا أن مدينتهم إن هي إلا قرى متلاصقة و مزدحمة، و أنها أبعد ما تكون عن "الجحيم الذي يشبه لندن" كما عرفها أحد "المجانين"، المدينة الفعلية، المدينة الثقافة الحضرية و الإنتاجية المادية و الرمزية الهائلة، المدينة التي لا يهتم فيها أحد بأحد حين يتعلق الأمر بالحرية الفردية و الخصوصية و الفردانية و التفرد، و حتى الشذوذ...، لم يدرك سذجان و لا يمكنه أن يدرك و هو على حاله الغير متغير ! و الغير منتبه إلى ما يدور حوله أن مدينتهم هي الأخرى يكفيها و يفيض إلى ضواحيها غرام بخور !.
انتهت مراسيم العزاء، و بينما حرص حذقان و زوجته، و أخته و زوجها على التناوب على مؤانسة الأم المكلومة التي قلت حركتها و تلاشى هذيانها، غاب سذجان عن بيت العائلة نهائيا، فهو ركن إلى "قلعته" يقصد المستوصف صباحا، و غالبا ما يختلق طارئا يدعيه لرئيس الممرضين الذي وصله هو و الممرض و الممرضة كل شيء عنه، ثم يغادر في اتجاه "القلعة"، يشرب و يدخن إلى أن يضيع. لم يعد يقتني البيرة، اكتفى بالنبيذ يخلطه بالماء لتهوين أهوال مذاقه في فمه، فالأحوال المالية تسوء يوما بعد يوم، ثم إن اللائي يصطحبهن من البارات أو من الرصيف اليوم، هن آبار. و إذا كانت "الملاك" التي جاء بها إلى الشقة أول مرة، بدت له بئر عسل، فإنه يجدهن اليوم بالوعات - "مزابل" !.
في إحدى الليالي، بعد أسابيع قليلة من رحيل أبيه، شرب بمفرده و دخن بشراهة بشعة، لا يطفئ سيجارة حتى يشعل الأخرى، شرب كثيرا و هو يكلم نفسه بصوت مسموع عن البلدة القديمة و مصائبها، و مدينته و جوائحها التي حاصرته ! و أصدقائه القدامى الذين هم اليوم من أثرياء المدينة، و عن سر حظه الأجرب ! و عن الممرضين و رئيسهما الذين يتهامسون كلما رأوه، و طابور "وحوش" يتهيأ للانقضاض عليه... ! . هو نفس الطرح المغلوط دوما، و المغلوط يفضي إلى نظير له و يفاقمه. خلص شرابه في وقت متأخر من الليل، إلا أنه خرج و قصد الباعة الليليين في أماكن الخطر، و اقتنى قنينة من النوع الرديء الذي يروج في تلك الساعة، ثم عاد و واصل و هو يهذي. لم ينم أبدا و في الصباح، قصد المستوصف في حالة زعزعت الممرضين و ماجورهم تماما.
جلس إلى مكتبه، و بدأ المرضى يتوافدون عليه، دخل الأول فتراءى له برأس نمر حقيقي يهم بالانقضاض عليه، فزع و قفز خارج المكتب و المريض في حالة ذهول تام، نظر في وجوه المرضى المصطفين أمام المكتب، و رآهم كلهم برؤوس أسود و نمور و ذئاب...، رآهم بأفواههم مشرعة و أنيابهم مكشرة تهم بالانقضاض عليه دفعة واحدة، بدأ يصرخ و يستغيث و هو يركض في اتجاه مكتب رئيس الممرضين، ازدادت حدة صراخه، ثم قصد باب المستوصف و غاب في الحي و هو يركض و يصرخ... مر بالقرب من باب إحدى المدارس، و اعتقده الأطفال الواقفون من المهلوسين الجدد العدوانيين الذين اكتظت بهم المدينة في السنوات الأخيرة، فصاروا يرشقونه بالحجارة، التقط شبه عصا من الأرض و ضاعف من ركضه و هو يلوح بها في السماء، تعثر و سقط، تمرغ في التراب و تمزقت ثيابه، اقترب الأطفال منه أكثر و هم يصيحون، قاوم و نهض، تخلص من حذائه و كأنه يعيق ركضه !، و ما أن توقف سماعه لصراخ الأطفال، حتى توقف و هو يلهث. ثم تابع طريقه في اتجاه المدينة الجديدة و العصا في يده، يصرخ حينا و يتمتم أحيانا أخرى. وصل إلى الشارع الرئيسي حيث "العيادات" و "مكاتب الخبرات" و "مؤسسات المهندسين"، قصد عيادة أحد أصدقائه القدامى، دخل قاعة الانتظار، و كانت غاصة بالمنتظرين أدوارهم في صمت، وهو يصرخ و يلوح بالعصا و اللعاب يتطاير من فمه: " يعطونكم الأدوية لتوزعونها علينا، و تسرقونها يا أولاد الق....، و تشترون السيارات الفاخرة و الرباعية الدفع...، لا لن أغادر إلا و الدواء في جيبي، أريد دواء...أريد دواء... !. كان يصرخ و يصرخ و يلوح بالعصا في اتجاه باب مكتب صديقه القديم. اهتزت العيادة و خاف المنتظرون، و أطل الطبيب صاحب المحل من باب مكتبه كراهب، ثم أعاد إغلاقه بعد أن أشار إلى الكاتبة بالقدوم إليه. إلا أن شابا كان من بين المنتظرين يرافق أمه المريضة تدخل، هو صديق لحذقان، طمأن المنتظرين وخصوصا الطبيب و هو يتصل به و يحثه على ضرورة الحضور في أسرع وقت ممكن. وصل حذقان بكل السرعة الممكنة، اقترب هو و صديقه من سذجان الذي هدأ يعد أن التقت عيناه بعيني أخيه كمن سرت منه إليه مهدئات "فوق-كيماوية" !، زودهم الطبيب بمهدئ عيني ناوله حذقان لأخيه في هدوء بعد أن أجلسه على كرسي بعيدا عن المنتظرين. و بعد لحظة و جيزة، كان سذجان في عداد النائمين. حمله أخوه و صديقه إلى سيارته، و قصد بيت أمه، أدخلاه إلى غرفته التي هجرها، و مدداه على سريره، و غطاه حذقان بحنان ثم خرج و أغلق الباب. حكى لأمه ما حصل و ما كان يتوقع حصوله كل لحظة، و أكد عليها التزام الهدوء و عدم فتح غرفة أخيه إلى أن يعود. ثم سارع باتجاه طبيب نفساني بعد أن أعاد صديقه لمرافقة أمه. انتظر دوره و دخل، قص الحكاية كاملة – حكاية أخيه – للطبيب، مركزا على " تحليقه في فضاء ليس له، و طرحه الدائم لأسئلة مغلوطة، و فشله الذريع في التواصل، و جهله التام بما يجري في الواقع حوله، و غرقه في الديون، و خداعه لأبويه و إيهامهما بصورة عنه غير صورته، و تماديه في الخطأ، و غياب الكتاب في حياته، و كرهه للتراب...". كان الطبيب النفساني ينصت بإمعان لدقة التشخيص و عمقه، و تطابق كل المواصفات مع أعراض مرض مشهور، و أكد أن لا حاجة لاستقدام المريض إلى العيادة كما اقترح حذقان إن لم يقتنع سعادة الطبيب بما سمع. أخذ ورقة و وصف أدوية و مهدئات تتماشى كلية مع دقة تشخيص الأخ الذي يدرك بعمق أعماق أخيه و خواءها...، على أساس أن يزوره بالبيت مساء، فهو يعرفه !.
سارع حذقان إلى زوجته، ثم سارعا معا إلى بيت أمه، و كانت أخته و زوجها وصلا هما الآخران، فالخبر تطاير و تناسل في " القرى المتلاصقة" التي توهمها سذجان مدينة. و ما كان أمامهم سوى أن يتناوبوا هم الأربعة على الحضور و المبيت إلى جوار سذجان و أمه درءا لكل غير مرغوب فيه. جاء الأهل من كل مكان بعد أن وصلهم الخبر، و جاء من بينهم خاله من بادية غير بعيدة، تألموا لحاله أو هذا ما كانوا يصرحون به. و في غفلة من الأربعة المداومين على الحضور باستمرار و تقديم الأدوية و المهدئات لسذجان في الوقت المحدد كما أوصى بذلك الطبيب النفساني و أعاد التأكيد عليه عند زيارته له بالبيت، و دون أن يبدل أو يضيف أو ينقص و لو دواء واحدا بعد تيقنه من سداد تشخيص حذقان لمرض أخيه، أوعز خاله للأم المسكينة بضرورة عرض "الطبيب" على فقيه مشهور بقريته، يقصده الناس من كل فج عميق ! يهابه الجن و يركع أمامه، و ما من مصاب بشر أشرس جن إلا و شفي على يديه !، فالجن يضرب المتعلمين على علمهم و تفقههم !!، و قد يكون الجن انتقل إليه من مريض...، و أعين الحساد لا تنام ! و من غير أن يوفر لها أية فرصة لاستعادة ما يقوله حذقان و بدأت تتذوقه في المدة الأخيرة حول "الخرافات" و مخاطرها، و الشعوذة و مهالكها و أسرار استفحالها، و الرابحون و الخاسرون من رواجها...، تابع الخال بحماس و إغراء حول زوجة جاره الفلاح الكبير المقعد و المنهك، الفاتنة، و " لا حياء في الدين" ! التي "ضربها" جن و أخذت تهذي بكلام فاحش، فعرضوها على الفقيه المذكور، وحضر هو العملية من بدايتها إلى نهايتها !، إذ بعد صراع ضروس مع الجن، طلب منه هو و ابنتها مغادرة الغرفة التي كانوا يتواجدون بها تجنيبا لهما لكل مكروه !، و أحكم إغلاق الباب كي لا يفلت منه ذلك الجن اللعين !، و بعد لحظة لم تكن بالطويلة، خرجت المرأة سالمة و على وجهها علامات استحياء، ربما خجلا مما كان يصدر منها من تصرفات ! بعد أن أحرق الفقيه الجن في النار !
اقتنعت الأم أو انساقت، و تجاهلت كل ما يقوله حذقان و كل محاولاته لعتقها، فهي ظلت لمدة طويلة لا تسمعه أبدا لانسياقها البغيض وراء فكرة أن كل ما يقوله إن هي إلا مشاعر غيرة من أخيه و محاولة اكتساب قيمة هو الآخر قبل الأوان !، حتى أنها اعتقدت أياما أن حذقان هو المرشح للجنون بغرقه في كل تلك الكتب و إغراق البيت بها كما غمز سذجان بذلك يوما.
وافقت أخاها، و سارع هو في الحين إلى إحضار سيارة من تلك التي تقصد البوادي، حمله خاله و هو شبه نائم تحت تأثير المهدئات، كما يحمل طفل طويل القامة في مهالك الاستبداد و المجاعات، وضعه في المقعد الخلفي و ركب إلى جانبه، و ركبت الأم في الجانب الآخر، و انطلقت السيارة في اتجاه القرية و فقيهها.
و بينما السائق يسابق الزمن للتخلص من الراكبين تجنبا لكل ورطة، فحال ثالثهم لا تبعث على الاطمئنان، و هو لا يتوفر على رخصة نقل، كانت الأم تتمزق بين ضم فلذة كبدها إلى كتفها الواهن، و الحيرة فيما ستجيب به حذقان الذي لا يقبل مطلقا بالتي هي فاعلته، و كذلك زوجته التي طمأنتها على كون الأدوية و المهدئات ستعطي أكلها، و أن لا خوف على سذجان، فحالته هي حالة كل من حرم جذوره من الانغراس في الأرض و يتوجع الوجع الكبير للتافه الصغير، فتجرفه الرياح كما تجرف أوراق الخريف في كل الاتجاهات ما دامت انفصلت عن أصلها...
و بينما الأم على حالها، توقفت السيارة، وصاح أخوها و هو يفتح الباب: "كل الأمور ميسرة، ها هو سيدي الفقيه واقف أمام بيته، سيتحقق المراد و نعود في أسرع وقت، قد نعود قبل أن يحضر حذقان إلى البيت يا أختاه !. نزل السائق و تعاونا مع الخال و الأم التي ظلت إلى جانب ابنها على جعله يقف على الأرض، فهو بدأ يفيق من آثار المهدئات و يحملق فيهم بعينين ذابلتين دون أن يتكلم. لم يكن بيت الفقيه بعيدا عن قارعة الطريق، و هو متميز جدا عن كل بيوت القرية، فهو أولا معزول عنها كلها، مطلية جدرانه بأناقة، و خاضع في بنائه لنظام. تحيط به أشجار منظم غرسها و بادية عليها علامات العناية، و بئر نظيف مغطى بالقرب من الباب. و الفقيه ببنيته القوية و لباسه التقليدي الأنيق يسرح بصره في قطيع أبقار و أغنام غير بعيد عن البيت. " هو قطيعه" يقول خال سذجان لأخته. و " كل تلك الأرض أرضه، زاده الله خيرا على خير بفعل بركته و عمله الصالح في مقارعة الجن". تقدموا باتجاه الفقيه و الخال يكاد يحمل ابن أخته رغم إبدائه القدرة على المشي، و استدار الفقيه باتجاههم و هو يفرك يديه. حياه الخال بتعظيم كبير، و كذلك فعلت أخته بعد أن رأت في وجهه الكبير النابض وجه المرحوم زوجها أيام شبابه و قوته...، و طمأنهما و هو يربت على كتف سذجان الصامت بأن "أمرهم مقضي" !، و ليتفضلوا إلى الغرفة المعزولة عن البيت، المفتوح بابها على أراضيه. دخلوا الغرفة، كانت نظيفة يغطي حصير جديد أرضيتها و عليه أفرشة واطئة. و لم تكن لها نوافذ. أمسك سذجان و أجلسه في ركن و أمر أمه و خاله بالجلوس في ركن آخر بعيد عنه، و أغلق الباب بعد أن أشعل شمعة. جلس إلى جانب سذجان بعد أن قرب إليهما إناء غريبا به بضع جمرات، بعثر عليها بخورا تصاعد منها دخان كثيف غطى كل الغرفة المغلقة و كاد يخنق سذجان العليل صدره من فداحة التدخين، شمر على ساعديه القويين كمن يستعد لمبارزة و هو يتمتم بكلام لم تفهم منه الأم شيئا و سبق لأخيها أن سمع نظيرا له عندما حضر "صرعه للجن" الذي سكن زوجة جاره المقعد، و لم يفهم منه هو الآخر شيئا. لعن الفقيه الإنس الحسود و الجن الخارج عن الطريق، وقفت الأم و اتجهت نحوه في خشوع و وضعت بالقرب من يديه أوراقا نقدية ثم عادت إلى مكانها كما أوصاها أخوها تماما. تظاهر الفقيه بعم الانتباه لما فعلته و تصاعد صوته و هو يمسك بإحدى يدي سذجان المستسلم له، و يتحسس ما بين أظافره و ما تبقى من لحم قليل على عظامها. سأل و هو ينظر في عيني سذجان : " هل أنت جني مسلم أم نصراني؟"، و واصل تمتمته، ثم أضاف كمن سمع الجواب : "ما دمت مسلما، فلك الاختيار، أن تخرج في الماء و تعلن التوبة، و إلا أخرجتك في النار و أحرقتك، لا شأن لك بهذا المسكين ! انظر إلى حال أمه، و خاله أيضا". أضاف بخورا على الجمرات و تصاعد دخان كثيف جعل الرؤية شبه مستحيلة، ثم تبت ظفر أصبعه الأكبر الذي يحرص على عدم تقليمه و الشبيه في صلابته بطرف حافر حاد أو رأس منجل، و غرزه عميقا بين أحد أظافر سذجان و ما تبقى من لحم على عظم أصبعه و هو يصبح :" سأحرقك، سأحرقك...، ها أنت تحترق !! خيرتك و لم تسمع !". صرخ سذجان صرخة من بتر أحد أعضاء جسمه دون تخدير،و قفز واقفا بعد أن خلص يده منه و هو يشعر و كأن انفجارا وقع في دماغه من شدة الألم في أصبعه و الذي امتد إلى كل جسده. اتجه نحو أمه و عانقها باكيا و هو يدعو لأبيه بالرحمة. قبل رأسها و يديها مرات عديدة، وقبل رأس خاله أيضا، ثم التفت إلى الفقيه الذي اتجه إلى الباب و فتحها في هدوء، وأجابه و هو ينظر إلى أحد أصابعه الذي انفصل ظفره عن لحمه و يقطر دما : " بل "سأخرج" منذ اليوم إلى الطريق الذي اجترحها حذقان، أنا بالفعل أكبر سنا منه، إلا أنه هو الآخر أكبر مني ! و يلزمني أن أتعلم منه، ما المانع في ذلك؟". و كان هذا أول سؤال غير مغلوط يطرحه سذجان في حياته و عليها. و أضاف الفقيه بدهاء بعد استيعابه جيدا لكل ما قاله عن هذا " الحذقان"، و لدلالات تقبيله لرأس و يدي أمه: " حمدا لله على سلامتك، ما كان ينبغي أن تنزل إلى هذا الحضيض...".
كانت الأم في حالة ذهول مطبق، لا تصدق الذي يجري أمامها و سذجان يدعوها للإسراع بالعودة إلى البيت. خرجوا من الغرفة و الأم تعد الفقيه ب"الذبيحة"، و الخال يمازح ابن أخته "الطبيب" حول طلباته له المتكررة أدوية و لوازم طبية بسيطة لم يف بها. عرجوا إلى الجهة الأمامية للبيت بعد توديع الفقيه، و على قارعة الطريق حيث تخلص منهم صاحب السيارة التي أقلتهم إلى هنا، كان حذقان و زوجته واقفين في هدوء، و حذقان يتأمل بيت الفقيه المميز عن كل بيوت القرية، و الأشجار المحيطة به في نظام، و مخزون التبن المحفوظ بعناية و إتقان، و قطيع أبقاره و أغنامه الذي يحاكي إلى حد ما ما رآه ببلاد "الملائكة" كما يتوهمها سذجان، و حضرته تلك النظرية المشهورة في تفسير أصل التفاوت بين الناس على أساس أن الذين سبقوا الآخرين في الذكاء استعبدوهم. أما هنا و الآن، فالذي يسبقهم هو الفقيه.... و كانت تبدو على حذقان علامات اطمئنان قبل خروج أمه و خاله و سذجان ، و كأن أخاه بين يدي فرويد جديد.. ! أمي هذه المرة...و يقصده حتى الطبيب !.و عوض التنويم المغناطيسي و استدراج المرضى للبوح بمقموعاتهم، يكتفي بصعقهم بفصل أظفارهم عن لحم عظامهم ليفيقوا من نومهم و يتخلصوا من أوهامهم و عقدهم و زائف أسئلتهم.
بعد انتظار طويل، كان معظم رفاقه من نفس فوجه من المتفوقين انتزعوا لقب "الطبيب المتخصص" من نفس الكلية، وآخرون من أبناء الميسورين و من "المغامرين" من أبناء البسطاء عادوا به مظفرين من الخارج، و فتح بعضهم عيادته بمدن مختلفة، و اشترك البعض الآخر من أبناء الميسورين و قليل جدا من الذين لا يملكون غير فطنتهم الزائدة و مرحهم الباذخ و أسسوا مصحات عصرية بدعم من آباء الميسورين، نودي أخيرا على سذجان لتوظيفه ببلدة صغيرة نائية بعيدة عن مدينته. سارع إلى جمع مستلزمات بسيطة بعد أن زوده أبوه بمبلغ مالي لمواجهة تكاليف الحياة و رحل و علامات حيرة بادية عليه. إلا أن أمه على العكس تماما، استشاطت نشوة و فرحا، و كل حديثها مع الجيران و الأهل عن ابنها "الطبيب".."الدكتور".. (تنطقها بكسر الدال و كثير من التشديد) الذي يشفي الأمراض و تهابه الأوبئة، يجله الناس و يجالس الكبار !فهو الطبيب !نعم الطبيب…الدكتور...
تدبر سذجان مسكنا متواضعا بالبلدة ، و قضى ليلته الأولى تحت نير البرد يفتك به و يتحسر ندما على عدم الإنصات لأبيه الذي اقترح عليه حمل غطاء أو غطاءين قديمين من زاد العائلة. و في الصباح، ارتدى لباسا كان أعده لهذه المناسبة، صفف شعره و وضع نظارة على عينيه لإخفاء تنكيل البرد به، و قصد المستوصف الذي كان صاحب البيت الذي اكتراه أرشده إليه بالأمس. كان قلبه يخفق بضراوة كلما اقترب من الموقع الذي يقصده، ربما فرحا بتوظيفه أخيرا و إفلاته من ألسن بعض الأقارب الحاقدين و الجيران و أبناء الحي الضائعين التي بدأت تلوك كون مصيره بات في كف عفريت رغم تتويجه و تمكنه من اختراق الحواجز أخيرا، "فهو تأخر كثيرا و الدكاترة العاطلون بلا عد" ! يقول بعضهم، بل "المسكين انتهى أخيرا إلى حال من لا يدين للعمل و لا وجه لطلب الصدقة !" يمعن البعض الآخر في التجريح و التخفيف بذلك عن الذات الضائعة. هي مشاعر عند القوم مألوفة. و قد يكون خفقان القلب متصلا بغموض و ارتباك أمام المستجد الذي كسر رتابة الانتظار. قد يكون خائفا، و قد تكون أمور أخرى تجول في خاطره، إنه مضطرب. فبعد لحظات قليلة سيكون هو الطبيب الفعلي، هي وضعية جديدة عليه بكل معنى الكلمة، لا علاقة لها بوضعيته كمتدرب خلال آخر سنة من تكوينه، كان آنذاك مجرد منفذ لما يأمر به الأطباء الفعليون، أولئك الذين وجدهم متجبرين متكبرين، يمعنون في إهانة المتدرب. و هي حكاية قديمة تلوكها الألسن و يتناقلها فوج عن أخر، و يستعد لها القادم الجديد بشكل رهيب، و غير وارد طرحها ل:"التشريح"، فلا تشريح إلا للأعضاء، و إلا فالفاعل يدخل في الطب ما ليس منه !.
عبر سذجان شارع البلدة الرئيسي، و هو عبارة عن مقاه شبه متلاصقة، تسيل منها القذارة، و منظر كراسيها و طاولاتها و ألوانها يؤذي العين. و دخل شبه حارة بئيسة بيوتها واطئة، و بجانبها مزبلة سائبة تكاد الروائح الفظيعة المنبعثة منها تخسر ضحيتها حاسة الشم إلى الأبد. سارع سذجان الخطى للإفلات من الموقف و تمنى ألا يكون فأل سوء. و ما كاد يفلت حتى خطفت عينيه بنظارتهما على الجانب الأيمن للمزبلة بناية بسيطة متهالكة أسوارها، متلاشية صباغتها، يقف ببابها شخص بالبذلة البيضاء التي لا يمكن أن يخطئها، ازداد قلبه خفقانا حتى خاله سينقذف من صدره، إلا أنه كابر للتظاهر برباطة الجأش، فهو الطبيب !. تقدم نحو الشخص الواقف بالباب، و قبل أن ينطق ببنت شفة، بادره هو بثعلبية غير متحكم في إخفائها: "أهلا ! لا شك أنكم الطبيب الجديد عندنا، مرحبا بكم، أنا ممرض البلدة منذ سنين، و ابنها أيضا، أعرف الصغيرة و الكبيرة عنها، كل مشكلة و كل جائحة إلا و عندي لها الحل !، أعرف كل واحد هنا و سريرته، و أعرف أيضا كيف أجعل الجميع ينصرفون إلى حال سبيلهم بدون مشاكل. و الممرض الثاني معنا هنا بالمستوصف، سيلتحق بعد قليل، تفضل هذا يوم عظيم بقدومكم، لا شك أنك من أسرة طيبة ! كل شيء واضح ! سيماهم على وجوههم !.أما الطبيب الذي رحل، فكان فظا، لا يحسن التصرف ! يخلق المشاكل ! يا ما نصحته و أنرت له الطريق إلا أنه لا يسمع ! الحمد لله على رحيله ! ، تقدم، ادخل سأطلعك على مكتبك و مكتبنا أنا و صديقي، و كذلك غرفة الحقن و العلاجات، وضعيتها جد سيئة و تحتاج إلى إصلاحات، لنا وعود بذلك...".
كان سذجان واقفا و الممرض يقصفه بدون توقف و كأنه حفظ متربعا ما يقذفه به ثم خطا خطوتين و الممرض يتقدمه ." هذا مكتبنا أنا و الممرض الذي سيلتحق بنا بعد قليل" يرشده. غرفة صغيرة جد متواضعة يتوسطها مكتب قديم يشي بالصناعة الخشبية البائدة، و وراءه كرسيان صدئان و فوقه يومية غير مقروءة الأيام و الشهور المسجلة عليها من فرط عدم تجديدها، و لا أثر بالغرفة لما يشير إلى الطب و أدواته و فتوحاته. تقدم الممرض خطوة أخرى بعد أن وفر لسدجان لحظة لاستيعاب المشهد، ثم أردف: " و هذه غرفة الحقن و العلاجات، انظر إلى حالها"، و كانت خالية تماما. ثم أضاف و هو يخطو خطوة ثالثة: " و هذا مكتبكم أنتم الطبيب ! و له نافذة على الخلاء يمكنكم أن تستريحوا به، و في الفصول التي لا يبقى فيها موسم الحصاد وعدا، تخضر الدنيا خلف المستوصف !". لم يكن سذجان يجيب عما يقوله الممرض، كانت شفتاه جفتا و يحسهما خشبتين. فمكتبه هو الآخر نظير لمكتب الممرضين، مهترئ، فوقه يومية أقل اتساخا بقليل من يوميتهما و وريقات تافهة بحجم وريقات عملة عملاقة لقوم متحضرين، و كرسي وإن كان غير صدئ إلا أنه عمر طويلا و تهالك، و دولاب أكثر تهالكا. شعر الممرض المحنك بثقل الصدمة و أضاف قبل أن ينصرف إلى الباب: " استرح، فالمرضى لن يشرعوا في التوافد إلا بعد نصف ساعة من الآن !".
تملك سذجان دوار عنيف، و سارع إلى الكرسي المتهالك بعد إغلاق الباب بإحكام، أطبق على رأسه بكلتي يديه و كأنه يعصره مما سمع و يرى، أزاح النظارة و بدأ يحملق في أركان المكان الغريب الذي يضمه، انتبه إلى أن هناك أيضا سريرا في الزاوية للفحص !، هو الآخر أكثر اهتراء من المكتب و الكرسي، فتح الدولاب، و لم يكن به سوى قليل جدا من حبوب و كييسات أدوية مبعثرة لا يمكن أن تشفي من مرض، و كثير من حبوب منع الحمل. و بينما هو لم يستجمع رباطة جأشه بعد، طرق الباب شخص ثان و دخل، حياه و رحب به و هو يقدم نفسه: "أنا الممرض الثاني إلى جانبكم بالمستوصف، تأخرت قليلا، كانت لي مصائب في البيت، الله ينجيك من المصائب !. و لا بد أن أنبهك، هذا واجبي !، المرضى وصلوا، و الناس هنا كلهم مرضى و يقصدوننا نحن، أنتم وأنا و صديقي الممرض الثاني لنتدبر لهم الدواء و كأننا أصحاب شركة أدوية !. و نحن لا حول لنا ولا دواء، أعتقدك فتحت الدولاب...، و الدفعة النصف سنوية يلزمها شهران آخران لكي تصل، احذر ! أعتقدك فهمتني، تبارك الله ! فأنت الطبيب ! و الحر بالغمزة. طيب خاطر هذا ببضع حبات و ذاك بكييسات، و الأغلبية بالكلام الحلو و وصفة أدوية بأرخص الأثمان، هم لا حول لهم ولا قوة، لا يملكون ثمن الدقيق و السكر ، فبالأحرى ثمن الدواء !!".
قصف ثان هذا كان كافيا لينتصب سذجان مذعورا كمن يستعد لعدو مباغت. أخرج بذلته، بذلة الطبيب و ارتداها، و تبت النظارة على عينيه ملتصقة بحاجبيه كمن يحرص على إخفاء هويته، و بدأ المرضى يدخلون.
كانت معظم أمراض من استقبلهم اليوم الأول مستعصية بشكل مهول، قرحات معدة جد متقدمة، التهابات قولون و أمعاء صغيرة توحي آلام أصحابها بسرطانات حقيقية، أوجاع في الرأس مبرحة تدفع إلى افتراض أورام دماغية بدرجة كبيرة من الثقة، التهابات رئوية مزمنة و أخرى روماتزمية كارثية، إسهال قديم عند أطفال عديدين حولهم إلى هياكل عظمية صغيرة، و بثور تقيحية فظيعة قد لا تجدي معها أكثر المضادات الحيوية غلاء في السوق !، و ضعف عام للبنيات الجسدية يشي بسوء تغذية فتاك و مزمن...، و بالدولاب بضع حبات و كييسات يتيمة.
تذكر سذجان تحذيرات و "توجيهات" الممرض الذي وصل متأخرا، و التزم ب "الوصفة" بكل دقة، قدم حبات لهذا و كييسات لذاك مصحوبة بمجاملات و عبارات مؤازرة و دعاء بالشفاء...، و للباقي وصفات أدوية رخيصة اسود وجه كل من تسلمها و انسحب بتردد، و هكذا...، و مر صباحه الأول طبيبا فعليا بسلام...
و في المساء، و بمجرد أن التحق بمكتبه و ارتدى بذلته، دخل الممرضان معا و على وجهيهما علامات انشراح زائدة، و بادره الأول: " بارك الله فيك و في أمثالك ! كل المرضى الذين استقبلتهم هذا الصباح عادوا إلى حال سبيلهم منشرحين !، أنت طبيب ماهر، لن نعرف مشكلا منذ اليوم، هذا ما كنا نتمناه، وهو ما لم يكن الطبيب السابق يفهمه !. و للإشارة، فالمساء لنا، لن يزورنا مرضى، الناس هنا متعودون على زيارة الطبيب صباحا إلا في حالات حوادث ضرب و جرح...و واصل الثاني دون أن يسمح بأدنى لحظة للجواب أو التفكير: "هذا ما كنت أقصده حين نبهتك، بارك الله فيك، نحن في غنى عن المشاكل و أنت تتقن مهنتك عكس الطبيب السابق!، يا ما نصحناه و لم يسمع !! وأقسم بالله أن تتناول العشاء معي ببيتي اليوم، هذه تقاليدنا ! و واجب الضيافة لك علينا دين !!.
أذعن سذجان للمدح و الإطراء المنافقين ، و استثمر الممرضان الموقف بسرد نكت تكسر الحواجز التي انمحت فعلا منذ اليوم الأول. و انسحبا إلى باب المستوصف مغموران بنشوة من أزاح كابوسا هائلا. لا شك أنهما هندسا العملية منذ مغادرة الطبيب السابق، فالمراتبية هنا خارج مواطنها الأصلية تتخذ أبعادا فظيعة، تتحول معها الكاتبة في علاقتها مع المدير مثلا إلى زوجة ثانية أكثر خضوعا، و من غير نفقة !.
يوحي هوس الممرضين و كأنهما يرتكبان جرائم داخل هذه البناية المتهالكة، و يجاهدان من أجل ضمان تستر الطبيب عليها، إلا أن كل ما في الأمر بسيط و تافه ، فكل رهاناتهما أن يسمح لهما بالتحكم في قليل من الأدوية التي يزود بها المستوصف مرتين في العام، يقدمانها لبعض الأهل و الأقارب و الأصدقاء و المعارف...، و يغمض عينيه عن بعض التغيبات خصوصا يوم السوق الأسبوعي بالنسبة لأحدهما، و كذا أن يوقع لهما من حين لآخر شهادة لقريب أو صاحب أو...أو...، تعرض للضرب في خصومة أو هوجم في بيته أو تعدى عليه جاره في حقله...، و هي حوادث مألوفة بالبلدة، و القضايا المرفوعة بشأنها بمحاكم المدينة هائلة أغرت محاميين لحد الآن بفتح مكتب لهما بعين المكان. تكاد تكون لكل أسرة قضية على الأقل مرفوعة من هذا الصنف، و فعلا تلعب شهادة الطبيب دورا أساسيا في العديد من الحالات في مسار هذه القضايا، طبعا كلما كانت مدة العجز أطول مما أفاد به الخصم و حجم الجروح و الرضوض و الكسور الموصوفة فظيع... و الغالب أن الطبيب السابق كان حازما في مثل هذه الأمور.
لبى سذجان دعوة الممرض، و حضر الثاني أيضا، و كانت ليلة أنسته بطش برد الليلة الأولى بالبلدة به و قسوة غذاء من خبز رديء و معلب سردين. المائدة هذه الليلة باذخة، صحن من لحم غنمي وافر، مبخر لا مطبوخ، و آخر بديكين بلديين فائقي اللذة، و فواكه و قنينتي نبيذ من النوع الممتاز أخرجهما صاحب البيت في اللحظة الحاسمة كمن أجرى مسحا نفسيا و روحيا لما كان يعتمل داخل صدر سذجان الذي خبر معاقرة الخمرة من حين لآخر على طريقته خلال الحياة الطلابية الطويلة، و لم يكن يجد لها سبيلا خلال شهور انتظاره للوظيفة.
أكل الثلاثة و شربوا، و أكل سذجان أكثر بإيعاز من مضيفه و هو يمتدح جودة لحم الدجاج و الغنم و لذته و استفزازه للشهية !. و هو لم يكن يبالغ أبدا لأن ما ألفه بمدينته هو لحم ذلك الدجاج "الاصطناعي" الذي تقذفه في فمك و كأنك انتزعته من جيفة، و لحم الغنم الذي ما أن تضعه على النار حتى يسود لونه و تصدم في الأخير بأن لا طعم له. " نحن لا نأكل إلا الدجاج البلدي"، يقول صاحب البيت باعتزاز. و يضيف موضحا بلغة العارف، و بعد أن تأكد من التواضع الكبير لخبرة سذجان: "و أما اللحوم و جودتها، فكل شيء متوقف على الأعلاف التي تقدم للماشية، نحن هنا بالبلدة محظوظون، الفلاحون يستمرون في اعتماد الشعير و الفول و النخالة في التسمين...، أما عندكم بالمدينة و محيطها القريب، فالقوم "تقدموا !" و باتوا يقدمون لمواشيهم مواد مصنعة هي في الأصل خاصة بالدجاج "الاصطناعي"، تسرع التسمين و تضاعفه و تخفض من تكاليفه، إلا أنها تفسد مذاق اللحوم". كان سذجان ينصت بإمعان و استغراب للتوضيحات الدقيقة وكأن صاحبها خريج معهد عال للبيطرة و الفلاحة، لا مركز ممرضين، و هي بالفعل كذلك، فمضيفه ابن البلدة أولا، و ثانيا، فهو يحرص منذ توظيفه بها على الاشتراك في استثمارات مع بسطاء الفلاحين لتسمين عجول يشتريها شتاء هزيلة ويبيعها في عز الصيف، و خرفان أيضا كلما اقترب عيد النحر. قد تكون خبرته في هذا الميدان تجاوزت بكثير خبرته الغير متجددة أبدا في ميدان التمريض.
عند منتصف الليل أو قبله بقليل، استأذن سذجان للمغادرة و هو في غاية النشوة و العافية، أثنى كثيرا على صاحب البيت و على صديقه أيضا، و أصر الاثنان على مرافقته إلى باب بيته تجنبا لأي مكروه، مما ضاعف فضلهما عليه.
توالت الأيام مكرورة، وصلت خلالها دفعة الأدوية المرصودة للمستوصف، و ارتاح سذجان من عناء جعل المرضى الذين يقصدونه يدبرون خاويي الوفاض لا يؤتمن التجهم على وجوههم، لأسابيع معدودة، ثم عادت الأمور إلى حالها. و بعد شهور تسعة و بضعة أيام، توصل سذجان الذي عاشها أعواما، باستدراك رواتب الشهور و الأيام التي اشتغلها كامل غير منقوص، و هو الذي شعر بثقل المبلغ المالي الشهري الذي واضب والده على مده به عبر البريد، على عائلته. ثم إن كل ملابسه تآكلت و شارفت حال الفضيحة في اعتقاده، فهو الطبيب ! و كم هو متعطش إلى ليلة شراب لينسى...
سافر صبيحة يوم سبت في الصباح الباكر إلى المدينة القريبة، طاف بشوارعها و حدد مجال و حدود تحركه خلال اليومين أو الثلاثة التي سيقضيها بها، فندق بدا له مناسبا وسط الشارع الرئيسي، و محل تجهيزات منزلية خلف الفندق تماما، و بار تفصله عنه ثلاثة مقاه أو أربعة، و على يمينه مطعم تبدو عليه علامات اهتمام بالنظافة و الجودة !. قصد محل التجهيزات أولا و حسم في طاولة عصرية و أربعة كراس عصرية أيضا و تلفاز و جهاز استقبال رقمي كثيرا ما تمناه خلال شهور انتظاره لاستدراك رواتبه، و موقد متوسط ، و فراش نوم و بعض مرفقاته يخلصه من ذلك الإسفنجي الذي تعذب عليه كلما فكر في النوم طيلة الشهور الماضية، ثم صحون و كؤوس و ملاعق و شوكات تغير منظر مطبخه الكئيب. أدى ثمن مقتنياته و ترجى صاحب المحل أن يجمعها و يحتفظ بها عنده على أساس أن يأخذها في اليوم الموالي أو الذي بعده. و وافق صاحب المحل بعد أن تأكد من كون سذجان طبيب بالبلدة القريبة، مرشح لأن يكون زبونا دائما !.
عاد إلى الشارع الرئيسي و اشترى بذلتين رسميتين و حذاءين و ملابس داخلية و قميصين و جوارب و حزاما من الجلد الرفيع و حقيبة ملابس، ثم قصد الفندق الذي حدده ليتخلص من مشترياته. عين له صاحب الفندق غرفة رآها ملائمة خصوصا و هو طمأنه على الأمن و الأمان بالمحل و هو ينظر إلى مقتنياته. رتب الملابس في الحقيبة و هو يتفحصها مرة ثانية، ثم غادر الفندق في اتجاه مقهى مجاور. جلس يدخن و يرتشف قهوته و سرعان ما غادر في اتجاه البار القريب و الوقت منتصف النهار تقريبا. البار هادئ و الزبناء قليلون، شرب جعتين أو ثلاثة و أحس بالجوع، أدى الثمن و خرج إلى المطعم القريب، طلب سمكا التهمه بنهم، و طلب لحم غنم إلا أنه وجده نظيرا تماما للحم غنم مدينته، و أكل منه قليلا و كل البرقوق الذي يصاحبه، ثم عاد إلى نفس البار و شرب.
عند الليل، كان ما يزال على قيد الشرب، فهو قرر أن يشرب إلى آخر رمق !، و صال و جال بالفضاء الذي رسمه لحركته، انتقل إلى بار آخر مقابل للأول وجده أكثر نشاطا و حيوية من كثرة البنات به. وختم ليلته بتجرع أنوثة ضائعة أحسها ملاكا من فرط حرمانه.
قضى يومه الثاني بالمدينة على نفس إيقاع اليوم الأول تقريبا، و إن كان شرب أكثر، فهو بدأ منذ الصباح و قرر أن يتغيب عن العمل يوم الاثنين، إلا أنه مطمئن، فالممرضان حذقان و علاقته بهما تؤمن الاطمئنان.
عاد في اليوم الثالث بمشترياته إلى البلدة، و كانت الأمور روتينية كالعادة، مرضى مستفحلة أمراضهم يتوافدون على المستوصف كل صبيحة، أدمنوا الالتجاء إليه كمن يقصد ضريحا يلتمس بركته، و الممرضان بارعان في توزيع "البركات" و تطييب الخواطر المجرّحة بالأمراض و العوز، إلا أنه يجد اليوم بيته ملاذا، فهو وضع فراش النوم و مرفقاته في غرفة، و الطاولة و الكراسي في الغرفة الثانية، و رتب الموقد و الأواني بالمطبخ، و ساعده صاحب البيت الذي يقطن بالطابق العلوي في تتبيث الصحن المقعر على السطح، و يستطيع اليوم أن يتفرج على كل الدنيا و خصوصا على دنيا المتقدمين الذين يسميهم "الملائكة" !، ثم إنه جاء من المدينة وسط مقتنياته بصندوقي جعة و آخر نبيذ أخبر بها صاحب الشاحنة الصغيرة التي أقلته و لم يمانع، فهو يعرفه و يتردد من حين لآخر على المستوصف. هو يشعر هذه الأيام بدفء حقيقي بالبيت و لا يبرحه إلا مكرها باتجاه المستوصف.
ركن مساء يوم عودته من المدينة إلى طاولته العصرية بعد أن رتب عليها صحون أطعمة و فواكه لم يألفها بيته، و قنينة نبيذ و كأسا جديدا، و شغل تلفازه على قناة من قنوات "الملائكة" اللاتحصى، فتح القنينة و شرب الكأس الأول و شعر بسخونته، فبنيته الجسدية ضعيفة، نخرها التدخين بضراوة، و مذاق القدح معيار جازم للصحة البدنية، استشعر الحاجة القصوى للمبردة، أشعل سيجارة و مد يده إلى جيبه، أخرج مجموع ما تبقى من استدراك رواتبه و عده، فهو بالكاد يكفي لرد المبالغ التي لم يتأخر أبوه في بعثها له طيلة تسعة أشهر، و للسفر إلى مدينته و الإتيان و لو بما هو رمزي تجاه أسرته . و مد يده إلى القنينة و شرب كأسين متتابعين دون أن ينشغل بالسخونة أو المرارة...
و في نهاية نفس الأسبوع، أخبر الممرضين أنه سيسافر إلى مدينته لزيارة أهله، ملمحا إلى كونه قد يتغيب يومين أو ثلاثة مرة أخرى، فهو اشتاق إلى أمه ! و كذلك إلى أبيه و أخته !، و الرحلة طويلة...، يوم للذهاب و يوم للإياب...، و مطبات النقل مشهورة...و...و... . طمأنه الممرضان على أن بإمكانه أن يتغيب و لو أسبوعا كاملا، فلا حملة تلقيح في الأفق القريب، و لن يزور مستوصفهم مسؤول. و شددا على أن الوالدين لا يمكن أن يقنعا بيوم أو يومين ! خصوصا الأم !!.
كان سذجان اشترى لأمه من المدينة ثوب جلباب رفيع و آخر لأبيه مع طربوش مزركش، و حذاء جميلا لأخته. و تدبر له أحد الممرضين كيسا من زيتون أسود ممتاز و شيئا من آخر محمض و سلة بيض بلدي ألح الممرض على كون المسنين يعشقونه !. جمع سذجان أمتعته و ارتدى أحسن بذلة من اللتين اشتراهما و حذاء جديدا و جوارب جديدة، و تبت ربطة عنق زاهية على صدره و رحل.
استقبلته أمه استقبال الأبطال، و من وطأة الفرح زغردت و زغردت و تصادت زغاريدها في أرجاء الحي، و فرح الأب بثوب الجلباب و بالطربوش و ألوانه، فجلبابه بات بدون سمك من فرط الاستعمال، لا يقي بردا إن لم يكن يجلبه !.
حرص سذجان طيلة أيام زيارته لعائلته على أن يخرج هو إلى السوق كل صباح للتسوق، يشتري لحما زائدا و خضرا كثيرة و فواكه لم تعتدها مائدتهم. صحيح أن اللحوم هنا بمدينته بدون مذاق، و لكن لا يهم، فالمسألة لا تطرح إلا بالنسبة له، أما أهله الذين ألفوا تذوق اللحم القليل مرة كل أسبوع، و طبعا كل عيد مشهور، يجدونه فائق اللذة، و هو يعرف ذلك جيدا.
كانت الأم المسكينة في غاية النشوة، تتحرك في كل الاتجاهات بالبيت، تنظف، تعد الشاي في غير وقته المعتاد، و زغردت مرات أخرى قبل أن يوقفها الأب و ينبهها إلى كونها تثير عيون الحساد !. و ما أن يغادر سذجان البيت للتسوق أو إلى المقهى بالمدينة الجديدة، مقهاه التي تكبد فيها مرارة الانتظار، و يحرص اليوم على الظهور فيها بمظهر الفوز و الانتصار !، حتى تسارع إلى جاراتها البئيسات و تشرع تهذي عن ابنها الطبيب ! الدكتور ! (تنطقها دائما بكسر الدال و كثير من التشديد) الذي بات له شأن عظيم، تهابه الأمراض و يلعب بالطب كالساحر !، و حتى النساء اللائي وجدهن عاقرات بالبلدة و حار في أمرهن السابقون، حل معضلاتهن، و هن اليوم إما حوامل أو أنجبن ! ربما نال رفاه الاستهلاك هذه الأيام القلائل من الأم !.
أما الأب، فما أن يجتمع مع سذجان على مائدة الطعام أو في جلسات الشاي الغير منقطعة اليوم، حتى يغتنم الفرصة لإفادته بشأن قطع أرضية للعمارات في مواقع إستراتيجية بين المدينة القديمة و الأخرى الجديدة، و الفيلات الجاهزة الفاخرة بموقع آخر غير بعيد عن الأول، وأن عليه التفكير في الأمر بكل جدية كي لا تفلت منه الفرص. ثم حتى إذا هو انتقل للعمل بمدينتهم يوما، يجد "قبر الدنيا" جاهزا و مشروعا يذر عليهم كلهم المدخول كما فعل أطباء و محامون سبقوه يلعب أهلهم اليوم بالمال. فالأب يعتقد جازما أن ابنه توصل بمبلغ مالي هائل عن شهور الانتظار ! أليس طبيبا ! و عموما فالطبيب و المحامي و المهندس في تمثلاته لهم مقترنون بالثراء و لا يكلف نفسه ، أو هو لا يستطيع إقامة تمايزات بين طبيب بعيادة أو مصحة خاصة يحصل الملايين يوميا، و طبيب موظف ينتظر "التقطير" عند نهاية كل شهر. و حتى عندما رد إليه سذجان المبالغ الشهرية التي كان يزوده بها طيلة مدة انتظاره دون أدنى زيادة، حسب المسألة استعدادا منه لما يحرضه عليه، و تظاهر بالرضي ما دام المانع أجمل و أغرى. و لم يكن سذجان ليصارحه بالحقيقة،بل يأتي بما يفاقم أوهامه، و هو نفسه دوخه المبلغ الذي توصل به في البداية.
في اليوم الرابع، ادعى سذجان أنه مدعو لحفل زفاف صديق له بمدينة قريبة من مدينتهم، و نبه أمه إلى كونه سيبيت عند صديقه تجنبا للآفات !، و وافقت الأم خوفا عليه خصوصا و مدينتهم باتت اليوم بمواصفات الغابة... . كان سذجان دعا صديق دراسة قديم يعمل بمدينتهم إلى أن يسهرا معا على شرف توظيفه و الإفراج عن استدراك أجوره، و وافق الصديق المدمن الغارق في الديون. التقيا بالمقهى المشهورة و انتقلا مباشرة إلى الحانة التي يجتمع بها معظم أبناء المدينة المدمنين، هي أو التي بجانبها، شربا من الجعة الكثير، و طلبا مأكولات مختلفة من مطعم جد قريب ينشط مع رواد البارين أساسا، شواء و دجاج مشوي و طاجين من اختصاص المدينة أيضا. و انضاف إليهما طفيليان أذلهما الإدمان من الأصدقاء القدامى المفلسين بعد ملاحظتهما يسر الحال على سذجان الذي زاده ذلك انتشاء، فتمادى يطلب للأربعة كل حسب هواه، و يؤدي الثمن بتظاهر زائد بالرفاه. و أغدق عليه الطفيليان مدحا لرجولته !و عصاميته و نبوغه ! وهما اللذان روجا خلال مدة انتظاره للوظيفة كون مصيره بات في كف عفريت !.
شرب سذجان بشراهة، فهو متعطش لمثل هذه الليلة، يريد أن يشرب حتى ينسى كل شيء، يريد أن ينسى البلدة و معاناته بها، و وجه تلك العجوز الطيبة التي نهش السرطان نصف وجهها و تقف في الطابور كل صباح أمام مكتبه، و توسلات ذلك الشيخ الهرم الذي كاد يفقد عقله من آلام بكل بطنه، يريد أن ينسى الوساوس التي تؤرقه حول الممرضين، و "أوهام" أبيه و رهاناته حوله و عليه. و فعلا شرب إلى أن ضاع ، و جره صديقه القديم إلى ختم ليلتهما بتجرع أنوثة مطحونة إلا أنه وجدها أكثر ملائكية مما تجرعه بالمدينة المجاورة للبلدة، أو على الأقل هذا ما خيل إليه و هو في حالة الضياع.
نام مع صديقه ببيته، و في الصباح أدى لبائعتي ما تبقى من أنوثتهما له و لصديقه بسخاء، ودع صديقه و سارع إلى بيت عائلته بعد أن اشترى لحما و خضرا و فواكه و حلويات أيضا شغلت الأم عن أي شكوك، و أوهمت الأب بكون ابنه اليوم "ناضج" "يعرف وطأة الزمن" و "لا خوف عليه" !!.
و في اليوم الخامس، حزم حقيبة ملابسه بعد أن أقنع والديه بكونه لا يمكنه أن يتغيب أكثر، و بالفعل فهو متغيب منذ ثلاثة أيام، و لكنه مطمئن من هذه الناحية، فالممرضان الماكران يضمنان ذلك.
عاد إلى البلدة، و كانت الأمور عادية تماما، روتينية حد التطابق، طابور المرضى المشرفين على الهلاك نفسه، و الممرضان الماهران في جعله يذوب في البلدة في غيابه و بدون خسائر ذاتهما، و الفراغ نفسه، و المقاهي بالشارع الرئيسي الذي يعبره أربع مرات اليوم يستفحل حالها أكثر تحت تأثير قوافل سكان التجمعات المعزولة المجاورة للبلدة الذين يئسوا من دنياهم و حطوا الرحال بها طمعا في شيء ما يتوهمونه. فيعتكف ببيته و يلوذ بقنوات "الملائكة" و سجائره التي يحرص على شرائها بالجملة و قنينات خمر أو جعة يجلبها من المدينة القريبة.
توالت الشهور و السنين، و بدأ سذجان يشعر بالاختناق خصوصا خلال العشرة الأخيرة من كل شهر، إذ تتبخر الحوالة من بين يديه و هو في ذهول، الأثمنة في ارتفاع لا يعرف التوقف، و الليلة الواحدة التي يقنع بها اليوم بالمدينة القريبة أخر كل شهر تكلفه الكثير، البنات آبار و لايشبعن و يشترطن الشراب بالبار إلى آخر رمق قبل الالتحاق بالفندق ! و قنوات "الملائكة" لم تعد بنفس طعم الشهور الأولى. الحيرة و اختلاط الأمور عليه يتفاحشان، تفاقمت نحافته و اسود وجهه بفعل التدخين بجنون و تجرع قنينة خمر أو أكثر كل ليلة في صمت رهيب، و الممرضان إلى جانبه يسطع نجمهما يوما بعد يوم، أينع وجهاهما و توردا أكثر، لا بل تكرشا و فاضت منهما و عليهما علامات الرفاه. الأول ينافس اليوم كبار الكسابين بالبلدة في تربية أحسن العجول و توريدها إلى المدينة، و جودة خرفانه يضرب بها المثل كل عيد نحر، و ذاك سر تغيبه صبيحة كل يوم السوق الأسبوعي . و الثاني بات خبيرا في أمور العقار و البناء، يبني و يبيع، و يربح الكثير خصوصا عند عودة أبناء البلدة المهاجرين في بلاد "الملائكة". اشترى كل منهما سيارة و شيد "الخبير" منهما في العقار بيتا فاخرا فسيحا تحيط به الأشجار و الأزهار من كل جانب على أطراف البلدة، و أرسل ابنيه التوأمين لمتابعة دراستهما بجامعة من جامعات "الملائكة". أما سذجان، فتزداد دوخته و حيرنه، اتسع إدمانه في الآونة الأخيرة على الهروب إلى المدينة و طقوسه المعتادة بها و أفلس تماما، و أذعن للممرضين يتناوبان على إقراضه مبلغا محدودا كلما انتصف الشهر يرده يوم وصول الحوالة في عجل.
اسودت البلدة في عينيه إلى أفظع الحدود، خصوصا و قد ذل و صغر أمام الممرضين اللذين يستشعر استصغارهما له، لا بل تماديهما في تجاوز "اختصاصاته". و كبار البلدة يحترمونهما و يستشيرونهما أكثر مما يفعلان معه. هل يكونان أفشيا سره؟ ! لا يعرف، فهو معزول عن الناس و هما في ارتباط وثيق بهم، و تزداد دوخته. خالطه الخوف على وظيفته، و في ليلة ما، جلس إلى طاولته العصرية بعد أن فتح قنينته الأبدية و تجرع كأسين أو ثلاثة، أخد ورقة و قلما و كتب طلبا يلتمس فيه تنقيله إلى مدينته، فهو علم رسميا منذ يومين عن مناصب شاغرة هناك. لم يخبر الممرضين بالأمر، إلا أنه أبدى صرامة غير معهودة في توقيع تلك الشواهد التي يطلبانها لأقاربهما و معارفهما...، و استمر في استقبال الطابور اليومي من المرضى الذين يقصدونه، و بالغ في تطييب الخواطر و عبارات المواساة. و ما أن ينصرف آخرهم حتى يغرق في تخيل انتقاله للعمل بمدينته، على الأقل سيتخلص من افتضاح أمره أمام الممرضين اللعينين و من عذابات شكوكه حولهما، ثم إنه سيسكن في البداية مع عائلته إلى أن يخرج من الأزمة المالية التي لحقت به. أما والداه، فلن يشعرا بورطته، سيتظاهر بالرجولة و الحرص على جمع الأموال لبناء عمارة ! كما يحلم أبوه، و شقة فاخرة بالمدينة الجديدة ينتقل إليها عند زواجه كما هو التقليد الراسخ عند كل أبناء المدينة القديمة لإشهار ارتقائهم الاجتماعي ! و كما يتمنى أبوه و أمه معا. و لم لا يدعي لأبيه أنه يفكر في المضاربة في العقار كذلك الممرض الإبليس ! ثم إنه سيحرص على اقتناء لحم و خضر و فواكه وحلويات أيضا و بانتظام حتى تطمئن أمه. و يخلص إلى أنه عموما ليس من حق والديه أن يحاسبانه، فهو اليوم طبيب ! أما مشكل الخمرة التي لا غنى له عنها، فسيجد لها الحل !.إلى هذا ينتهي دوما، سواء في مكتبه أو على طاولته العصرية بالبيت.
مرت بضع أسابيع انتظر خلالها سذجان على أحر من السعير، ثم جاء الجواب على طلبه، فتحه و هو يرتعد، و كاد يطير من مكتبه و مريض جالس أمامه في ذهول، قفز من كرسيه و اتجه نحو الشيخ المريض و عانقه و قبل رأسه و هو يخاطبه: "أنت فأل خير و فرج، سأفحصك بكل ما أوتيت من طب ! و خبرة بالأعضاء ! الله يشفيك و يخلصك من مرضك كما خلصني من هذا الجحيم" !، و لم يفهم الشيخ المريض ما الذي يقصده.
و ما أن غادر آخر مريض من الطابور مكتبه، حتى سارع سذجان إلى بيته بخطى سريعة واثقة من نفسها عكس ما اشتهر به في البلدة، فتح الباب بسرعة، تناول قليلا من طعام ما و فتح فنينة اليوم قبل الأوان، شرب كأسين أوثلاثة ثم قفز من كرسيه، يجب أن يجمع أثاثه في أسرع وقت ممكن و أن يغادر هذا الجحيم في أسرع وقت ممكن أيضا، لن يشعر أحدا، و لن يخبر عائلته أيضا، سيجعلها لهم مفاجأة !. و عموما فهم سيسرون بذلك ! و خصوصا أمه. أما أخوه الطالب اليوم بالكلية الذي ترك غرفته الضيقة بدون نافدة و انتقل إلى غرفته هو بعد توظيفه، فسيقنعه بالعودة إلى "جحره"، فهو ما يزال صغيرا !! و لن يعاكس أخاه الطبيب ! أو يرفض له طلبا رغم البرودة الفادحة التي تلف علاقته به و نظراته المستفزة إليه خصوصا بعد التحاقه بالكلية. هكذا كان يهذي و يتحرك بين غرفتي البيت و المطبخ و يعود من حين لآخر لقنينته، يصب كأسا و يفرغه في جوفه بعنف. و " عموما فالأثاث ليس بالحجم الذي يطرح مشكلا" يقول بصوت مسموع و كأنه يخاطب أحدا بجانبه.
جمع كل أواني المطبخ في كارطون و الموقد في كارطونه الأصلي الذي يحتفظ به، و جمع ملابسه في حقيبته، و لف التلفزيون في غطاء. أما فراش النوم و الطاولة العصرية و الكراسي الأربعة فسيتم شحنها كما هي، يكفي أن يتم ترتيبها بعناية كي لا تخدش أو يصيبها مكروه !.
خرج ليلا إلى البلدة على غير عادته بعد أن شرب ملعقتي زيت بلدي أو ثلاثة للتمويه على رائحة الخمر، و هي حيلة قديمة فعالة تعلمها منذ زمان من أقرانه. قصد بيت صاحب شاحنة صغيرة سبق أن استقبله و أولاده و زوجته بالمستوصف، دق بالباب، خرج صاحب الشاحنة و طلب منه الدخول و ألح عليه "ما دام طعام العشاء على المائدة و لن يكلف نفسه شيئا ! بالرغم من أن الحادث لن يكون في مستوى طبيب البلدة"!!. مانع سذجان بكل قواه ملحا على أن كل ما يطلبه هو أن يقله هو و أثاثه إلى مدينته و هذه الليلة بالضبط. تردد صاحب الشاحنة في البداية إلا أنه وافق في النهاية اعترافا بالجميل و مجاراة لادعاءات سذجان بكونه ملزم بالحضور إلى مقر عمله الجديد صبيحة اليوم الموالي، بالرغم من عدم اقتناعه بما يقوله و عدم ارتياحه لحاله.
عاد سذجان إلى البيت، و شرع يسحب الكراسي الأربعة و الطاولة و الحقيبة و الكارطونين إلى القريب جدا من الباب. تذكر أنه لم يشعر صاحب البيت برحيله، خرج و نادى عليه، و ناوله مبلغا ماليا كان بذمته و أخبره بالأمر. لم يستغرب صاحب البيت شيئا، فهو كان ينظر إلى "طبيب البلدة" دوما بشفقة، و كثيرا ما أسر إلى زوجته بأن الطبيب الساكن "تحتهم" ليس له أدنى خبرة في أمور الدنيا و مقالب هذا الزمن الرديء، و أن الممرضين هما الطبيبان الفعليان...، و ودعه داعيا له بأن يكون انتقاله إلى مدينته صفحة جديدة في حياته !.
بعد حوالي الساعة، وصل صاحب الشاحنة، و بدأ الاثنان يخرجان الأثاث القريب من الباب و يرتبانه على ظهرها، و سذجان يشير في كل مرة إلى ضرورة الحرص على أن تسلم الطاولة العصرية و الكراسي أيضا من كل مكروه...
كانت الساعة حوالي منتصف الليل حين ركب سذجان إلى جانب صاحب الشاحنة التي انطلقت في اتجاه مدينته، و ما أن غادرت آخر بيوت البلدة، حتى شرع يحكي له عن عذاباته طيلة السنوات التي قضاها بها، و عن الممرضين الشيطانين اللذين سلطا عليه ! و عن خروجه منها كما دخلها ! و هي المدة التي تحول خلالها الممرضان إلى منافسين لأغنيائها، بسيارة لكل واحد منهما ! و زوجة و أملاك و أبناء يتعلمون بأرض "الملائكة"...، و كذا عن فشله في ربط علاقات مع السكان و خوفه منهم ! و عن البنات اللائي يطاردنه بنظراتهن ! و لا يقدرن أنه الطبيب !!.
أيقن صاحب الشاحنة أن الجالس إلى جانبه لم يستقم عوده بعد، لا بل إنه بعقل طفل، و هي الصورة التي كثيرا ما راودته عنه بالرغم من عدم الاقتراب منه، اللهم تلك اللقاءات العابرة في المستوصف. و سرح يفكر في ابنه العزيز، المجاز في مادة لا يذكر اسمها بدقة، لا الدكتور !، ابنه الذي سدت كل الأبواب في وجهه و تم توظيفه مؤخرا معلما بقرية صغيرة بأعلى الجبل، ذلك الحكيم الذي لا ينطق عن الهوى، و الذي علم أسرته عن آخرها الحياة و خلصها من الأساطير و الأوهام و الأحلام الغير مشروعة. حتى جدته خلصها قبل رحيلها من اعتقادها في الأضرحة و الخرافات و رحلت بعقل حي في آخر العمر. و هو الذي نصحه بعدم التوجه إلى مستوصف البلدة إلا لحقن دواء أو تلقيح يكون اشتراهما مسبقا، وكذلك فعل على الدوام، و فتح عينيه على الدنيا من حوله و أنار طريقه، و أفهمه معنى أن يكون المرء إنسانا ، أصيلا، صلبا، مادا جذوره عميقا في التراب، لا واهما و لا ممزقا، شامخا لا يتهاوى و لا يتعثر بالتافه، فيمسخ...و يضيع. ابنه الغالي الذي تتجاوز كتلة كتبه كتلة أثاث الطبيب !، ابنه الذي لا يجد صعوبة في التواصل مع كل الناس، لا بل يعشق الجميع بالبلدة و في القرية الصغيرة التي يشتغل بها مجالسته و الإنصات له، و يجنح لهم، يحترمه الجميع و يحترم الجميع، و لا يتعذب بالصغائر، ما أكبر أحلامه و ما أجملها !!. سرح صاحب الشاحنة بعيدا ثم بدأ بالدعاء للابن الغالي بأن يبارك فيه و في أمثاله و يجنبهم كل شر و يبعد عن طريقهم كل مكروه و يجعل منهم "أقلية هائلة" ، و تتحقق أحلامهم الجميلة و المشروعة، و كان سذجان يهذي و يهذي و في اعتقاده أن صاحب الشاحنة متورط في الإنصات إليه و يشاركه "همومه"، و عندما لم يجبه أبدا ، نام. نظر إليه السائق بامتعاض و شفقة و واصل الطريق و في صدره كمد.
عند مدخل المدينة أيقظه، فقفز من مقعده مذعورا و هو يعتذر عن نومه الغير متعمد ! و أشار إلى الطريق المؤدي إلى حي عائلته. كانت الشوارع خالية إلا من المشردين هنا و هناك متحلقين حول نار أشعلوها في أي شيء صادفوه. أشار سذجان إلى بيت متواضع في زاوية حي متواضع، أوقف صاحب الشاحنة مركبته أمام الباب تماما، قفز سذجان و دق بالباب، خرج والده في هلع عندما سمع صوت ابنه الطبيب، إلا أن هذا الأخير سارع إلى طمأنته، و أنه سيشرح له كل شيء فيما بعد. فتحا الباب، ثم نزل صاحب الشاحنة و شاركهما إدخال فراش النوم و الكراسي الأربعة و الطاولة العصرية و الكارطونين و التلفزيون و حقيبة الملابس إلى وسط الدار، في صمت. أصر سذجان و كذلك أبوه عليه كي يدخل و يستريح من عناء الطريق، إلا أنه رفض و انسحب بعد أن نظر في عيني الأب نظرة يفهم منها الكثير بالنسبة لجيلهما، وانسحب في اتجاه مقهى إلى جانب مطحنة بانتظار فتح أبوابها لشراء حصة نخالة يعيد بيعها للكسابين المتهافتين عليها بالبلدة، و يعوض بذلك عن خساراته مع طبيبها السابق الهارب منها بدون سبب معقول، و في كنف الليل !.
استيقظت الأم و كادت تزغرد لولا تدخل أبيه، و استيقظت أخته أيضا، إلا أن أخاه الطالب الجامعي اليوم سمع كل شيء و لم يهتم بالأمر.
حاول سذجان إقناع أبيه وأمه و أخته بأنه حصل على انتقال للعمل بمدينتهم، وأن الأمر مفخرة لهم ! و أنه حرص على أن يجعل من الحدث السعيد مفاجأة لهم ! و أن صاحب الشاحنة من سكان البلدة التي كان يعمل بها، يحترمه و يقدره إلى أبعد الحدود ! و هو الذي أصر على أن يحمل أثاثه ما دام قادما إلى مدينتهم في مهمة تخصه ! و أقسم أيضا على ألا يأخذ مقابلا !و...و... . لم يقتنع الأب بالرواية، خصوصا و أن نظرة صاحب العربة في عينيه لا يمكن أن يخطئ مغازيها البصير !. أما أمه، فلا يهمها كل ذلك ما دام الأهم هو أن ابنها اليوم طبيب بالمدينة، تفاخر به الأهل و الأحباب، و الحساد و الجيران !!.
أعدت الأم الفطور، و جلس سذجان مكتفيا بشرب القهوة و هو يتحاشى أن تلتقي عيناه بعيني أبيه الذي كان يتأمل حالته التي لم ترقه أبدا. ثم سارع إلى غرفة الضيوف و نام. و هرعت أمه إلى الجارات تزف لهن خبر قدوم ابنها الطبيب...الدكتور(تنطقها بكسر الدال دائما) للعمل بمدينتهن...بالحي القريب من حيهن...، فهو اليوم طبيب المدينة...، و سيطارد أمراضهن ...فالأمراض تهابه ! و لا مرض مهما كان خبيثا يستعصي عليه علاجه !! شهرته على الألسن ! و لذلك استعطفوه للقدوم إلى مدينته بعد فشل السابقين عليه !. هي المسكينة تهذي كالعادة و سذجان لا يوقفها و لا يساعدها على الفهم، أو ربما يتلذذ بافتخارها به . أما أخوه حذقان، الطالب الرزين و الهادئ، فكثيرا ما حاول أن يشرح لها كي لا تطيش، إلا أنها لا تنصت له أبدا و تحسب كلامه مجرد شعور بالغيرة من مرتبة أخيه الأكبر، و ربما بالحسد...! و تستسلم لهذيانها.
خرج المتهم بالغيرة و الحسد من غرفته، غرفة أخيه سابقا، و وقف يتأمل أثاث أخيه المنشور وسط الدار، تناول فطوره، و من غير أن يفاتحه أحد، طلب من أخته مساعدته في نقل فراش نومه البسيط و مكتبه الذي اشتراه من منحته الأولى و كتبه الكثيرة إلى غرفته الصغيرة القديمة، و سارعت الأم إلى مساعدتهما في حمل الكتب و هي تشكو من ثقلها و تتساءل عن الجدوى منها و من تبذير كل تلك الأموال في شرائها ! و الحال أن ابنها الدكتور...الطبيب وصل درجته العلا بكتب لا يتعدى عددها إلا قليلا عدد أصابع اليدين... . حرصت على تنظيف الغرفة المفرغة بعناية زائدة، و شرعت ترتب بها فراش نوم سذجان و طاولته العصرية و كراسيه و حقيبة ملابسه و تلفازه...
استيقظ سذجان و فوجئ بانتقال أخيه إلى غرفته القديمة في هدوء عكس ما توقعه، جلس إلى مائدة الطعام وسط عناية خاصة من أمه، و من أخته أيضا ، أخته التي انقطعت عن الدراسة دون أن ينتبه هو إلى الأمر و تعلق عليه و على قدومه للعمل بمدينتهم آمالا مبهمة. أما الأب و الأخ، فأكلا في صمت استفزه.
بعد الغذاء، شعر برغبة عارمة في التدخين كعادته، حاول أن يقاوم بتمدده على سرير ببيت الضيوف، إلا أنه فشل و سرعان ما ارتدى أقل بدلاته تضررا و حزم ربطة عنق و خرج عازما أن يجلس منفردا بمقهى بالمدينة الجديدة ليستعيد توازنه ! استعدادا للالتحاق بعمله في اليوم الموالي.
ركب سيارة أجرة قذفته ببداية الشارع الرئيسي، خطا خطوات على الرصيف و استوقفته لوحات عديدة نحاسية لأطباء و محامين و مهندسين، اقترب منها و قرأ، الأولى لصديق قديم له في الرحلة الجامعية، حرص على إكمال دراسته بأرض "الملائكة" بدل الانخراط في الوظيفة رغم تواضع حال أسرته. تذكر أنه كان نزقا و أنانيا داخل أسرته و على حساب إخوته’ و واصل قراءة اللوحة: " اختصاصي في أمراض القلب و الشرايين و..." ، اشتعلت في صدره مشاعر متناقضة، حنق و حقد و حسد و حنين إلى الماضي ومشاعر أخرى تكاد تكون طفولية...، و قرر أن يزوره. صعد إلى الطابق المحدد على اللوحة، دخل "العيادة" و كانت غاصة بالمرضى...، هو طابور و لكن على النقيض تماما من ذلك الذي أمضى سنوات يكابد استقباله. المرضى هنا جالسون في نظام و خضوع بقاعة فسيحة نظيفة و جميلة بكراسيها الفاخرة ولون صباغتها الزاهي، و لوحات معلقة على أسوارها ترمز بشكل شبه مباشر إلى جلال الطب و الطبيب و فعالية الأدوية، و تلفازها المعلق الذي يؤازر المنتظرين لدورهم في محنة الانتظار المفاقمة لمحنة المرض. قدم نفسه لكاتبة أنيقة جالسة على مكتب نصف دائري أنيق، باعتباره صديقا قديما للطبيب. و طلبت منه هي أن يتفضل بالجلوس إلى أن تشعر "الدكتور". جلس على كرسي وسط الطابور و بدأ ينتظر هو الآخر. خرج المريض الأول و اتجه نحو الكاتبة يدفع الثمن، نادت هي على المريض الثاني و دخل و هي ترافقه لتشعر "الدكتور" بحضور "صديقه" إلى العيادة. اعتقد أنه لن ينتظر طويلا، خرجت الكاتبة و نظرت إلى سذجان نظرة غريبة لم ترقه. خرج المريض الثاني و دفع، نادت على الثالث، دخل و خرج و دفع، الرابع، دخل و خرج و دفع، الخامس...، السادس...، لم تعد تهتم بحضور سذجان أبدا، و كان هو انشغل بعد الأموال المدفوعة و كاد يفقد عقله، هي لحد الآن تكاد تضاهي نصف أجرته الشهرية، إذن قد يكون مدخول يوم صديقه القديم أربعة أضعاف أجرته ...، فكم يكون مدخوله الشهري !؟ شعر باختناق في صدره...، و في لحظة ما أحس بالإهانة، وما أن انشغلت الكاتبة مع مريض في تحصيل أثمان إضافية عن "متاعب إضافية" حتى انسحب في ذل فظيع. تمنى و هو يتهاوى فارا من العمارة لو أن الأرض زلزلت و انشقت و ابتلعته. و تناسلت الأسئلة في داخله: لماذا لم يستقبلني صديقي على وجه السرعة؟ و بالاحترام الذي أستحقه؟ لماذا لا يعاملني الناس بكل إجلال و أنا الطبيب؟ ! لماذا لا يفعلون كما أمي تفعل؟ لماذا تجاوزني الممرضان الماكران بالبلدة اللعينة؟ و أخي الأصغر مني سنا و الذي لا هو بطبيب و لا حتى ممرضا، ما الذي يجعل علامات الوقار تبدو فادحة عليه؟ و صاحب الشاحنة الذي أقلني و أثاثي، ما الذي جعله يستصغرني بسرعة مفرطة؟و...و... . و قصد مقهى جانبية غير تلك المتلاصقة على طول الشارع، جلس بركن معزول، طلب قهوة و جاءه بها النادل مع كأس ماء شربه و طلب آخر، و شرع يشعل سيجارة تلو الأخرى و كأنه يراهن على الاحتراق.
لم يجد جوابا لأي من الأسئلة التي تتهاطل عليه لأن طرحها مغلوط و تقتضي إعادة الصياغة تجعله هو المحوري فيها لا الآخرين، إلا أنه لا ينتبه إلى ذلك، أو على الأصح غير مؤهل له. و بينما هو في حالة شرود، ربت على كتفه شخص، فقفز من مكانه، ثم تدارك الأمر، لم يكن سوى أحد أصدقائه القدامى بالثانوية، لم يكمل دراسته رغم أحلامه اللاتحد بأن يكون رجل سلطة، و اضطر لتوريط رسالة التعليم به رغم حقده الفظيع على التعليم وأهله !!. أشعل هو الآخر سيجارة طلبها من سذجان، و دون مقدمات، بل و خارج أي سياق بدأ يهذي عن أجرته الشهرية التي لا تكفي لشيء ! و انتظاره ترقيته إلى "السلم" الموالي ليودع المعاناة ! ما دام الأجر يتضاعف. و عن مدرسين يشتغلون معه بنفس المؤسسة ومع نفس الفصول تمت ترقيتهم إلى "السلم" المنتظر منذ مدة لأقدميتهم و ودعوا الفقر إلى الأبد!. ثم عن صديقهما القديم هما معا الذي عاد من الخارج بعد أن تخصص في طب الأطفال و هو اليوم يلعب بالمال، شيد شبه قصر و له سيارات عديدة لا واحدة !، و الثاني الذي تشبه عيادته يوميا سوقا من فرط الإقبال عليه، تخصص في الجهاز الهضمي و الناس كلهم يشكون من أمراض المعدة و الأمعاء، شيد هو الآخر شبه قصر و عمارة و اقتنى مؤخرا سيارة لا يقربها إلا أصحاب الملايير ! و أخرى رباعية الدفع للعطل. و الثالث الذي تخصص في أمراض النساء و التوليد الذي ينافس اليوم أثرياء المدينة...
مرت في هذه اللحظة سيارة فاخرة مسرعة، و صرخ صديقه في وجهه و هو يشير إلى صاحبها: " و هذا الذي كنت أراه معك أيام الدراسة لم يعد يقبل أن يدعي أحد أصدقاء الماضي صلته به...". في هذه اللحظة، ازداد وجه سذجان سوادا و أفلت كأس الماء الذي بين يديه، و سارع صديقه إلى استفساره إن كانت وقعت له واقعة مع هذا الأخير، "فهو تنكر للجميع بعد أن غرق في المال !!.
لم يكن سذجان يجيب صديقه القديم، و ظل يشعل السيجارة تلو الأخرى و وضع العلبة على الطاولة بعد أن كرر جليسه طلب واحدة كلما أنهى حديثه عن صديق قديم. كانت هذه الأخبار المفصلة بحجم الصاعقة عليه، إلا أنه حاول التظاهر بالعكس أمام المدرس، فليس من مصلحته أن يفتضح حاله منذ أول يوم له بمدينته ! فهو الطبيب !، ثم نهض الصديق وانصرف بعد أن طلب منه أداء ثمن قهوته، فأجرته الشهرية يلزمها أسبوع كامل لكي تصل !.
عند المغيب، استجمع سذجان قواه المتبقية و انفصل عن كرسي المقهى بعد أن أدى ثمن القهوتين و زاد عليه للنادل الذي حرص على مده بكؤوس الماء طيلة المساء، و قرر أن يقصد المدينة القديمة مشيا على الأقدام، فيعرج على الحي الذي سيلتحق ابتداء من الغد للعمل بمستوصفه، و يطمئن إلى أن موقع المستوصف هو الذي حددته أمه. كان يمشي كمريض نال منه المرض إلى ابعد الحدود، تأكد من موقع المستوصف، هو الآخر عبارة عن بناية بسيطة خلف بيوت أهل الحي المتواضعة، لم يخطر بباله يوما أن يكون بتلك الزاوية مستوصف ! و هو الذي عبر الحي مئات المرات في حياته ! و على كل حال، فالمستوصف لا تحيط به مزبلة كما الحال بالنسبة لمستوصف البلدة !.
وصل إلى البيت، و كانت أمه أعدت عشاء استثنائيا احتفالا بحضوره و انتقاله، و هو لا شهية لديه مطلقا للأكل، إلا أنه تظاهر باشتياق أطباق العائلة تحت وطأة نظرات أبيه إليه الغير مطمئنة. و بعد العشاء، ادعى رغبته في المشي و هو يؤكد على المسألة حسب علم الطب !، ابتعد عن البيت قليلا ثم وقف في ركن مظلم بعيدا عن أعين آخر الداخلين إلى الحي، وشرع يدخن سيجارة تلو الأخرى، ربما أربعة وربما خمسة، المهم أنها كانت كافية لكي يشعر بأن دماغه كاد أن يتوقف عن أي "تفكير" و رئتيه ككتلتي دخان ثقيل تخنفان أنفاسه، و سيكون من الممكن أن ينام دون حاجة لطول سهر مع خمرته كالعادة. رمى السيجارة الأخيرة بمجرد إشعالها، و أسرع إلى البيت كديك مذبوح بسكين جد حادة. كانت أمه واقفة بالباب، أثنى لها على براعتها في الطبخ للتمويه، و تسلل إلى غرفته القديمة التي غادرها أخوه و نام على الفور.
و في الصباح، استيقظت الأم باكرا ة أعدت فطورا استثنائيا أيضا، فاليوم يوم عيد بالنسبة لها، هذا أول يوم لابنها الطبيب...الدكتور...طبيب بمدينتها ! يراه الأحباب و الحساد ! و يسمع به البعيد و القريب ! و يختار من بين بنات أعيان المدينة اللائي سيتهافتن عليه، أجملهن و أعرقهن نسبا ! فهو الطبيب !. استيقظ سذجان، تناول قليلا مما أعدته أمه إرضاء لها، و إلا فلا شهية له للأكل. ارتدى بذلته التي قاومت لحد الآن، و حزم ربطة عنق و غادر في اتجاه مقر عمله بعد أن كالت له أمه كل أشكال الدعاء بأن يوفق في عمله و يبعد عنه كل سوء و يرزقه بنت حلال و جاه و ينجيه من عيون الحساد و...و... .
وصل إلى المستوصف، و كان ثلاثة ممرضين، ممرضان و ممرضة واقفين بالباب كما الحال تماما يوم وصل إلى مستوصف البلدة، قدم نفسه لهم، و أجابه الثلاثة بعبارات ترحيب فيها الكثير من البرودة، أو هذا ما شعر به هو على الأقل. و بادرت الممرضة المكتنزة إلى تقديم كل واحد منهم على حدة: " أنا الممرضة فلانة، أشتغل بهذا المستوصف منذ سنين، أسكن بالحي المجاور لحي عائلتك، أنا ابنة المدينة، أظنك تعرفني و تعرف إخوتي. و هذا زميلي فلان سبقني إلى هنا بسنين. أما السيد علان( أي الثالث) فهو ماجورنا". ثم تقدم هذا الأخير ليدل سذجان على مكتبه، هو شبيه تماما لنفس المكتب الذي خلفه بالبلدة، بل البناية تكاد تكون نفسها إذا استثنينا المكتب الزائد الخاص برئيس الممرضين. أخبره هذا الأخير بنفاذ كل الأدوية، و أن المستوصف بانتظار الدفعة الثانية المتأخرة الخاصة بالنصف الثاني من السنة الماضية، ثم انصرف.
ارتدى سذجان بذلة الطبيب، و رتب وريقات كانت مبعثرة على المكتب، تذكر الممرضين الماكرين بالبلدة القادرين على جعل الطابور اليومي يعود أدراجه بدون مشاكل و في غيابه، و عقد العزم على أن يتصرف منذ اليوم بذكاء !!، فهو بمدينته و لا خيار أمامه، و كل مشكل سيحسب عليه. فأولو الأمر حسموا في كون كل الشروط تضافرت لإعلان الصحة بثمن رغم "ادعاء" بعض "المجانين" كون نمط العيش العام لا يتناسب أبدا مع لغة الأثمان... . هل يقبل أن يعيدوه إلى البلدة ؟ هل يفرط في وظيفته؟ ! ماذا سيكون موقف أمه؟ و خصوصا أبيه؟. و بينما هو غارق في نفس نمط أسئلته، إذا بالممرضة تدق بالباب معلنة تضخم الطابور اليومي. صرح لها سذجان باستعداده، و أقبل أول المرضى، كان شابا قوي البنية، بشعر منفوش و على وجهه آثار جروح و كدمات متعددة، قديمة و متوسطة العمر، تقدم و جلس دون أن يأذن له، وبدأ يسرد آلاما يشعر بها في بطنه بصوت كالرعد، قام سذجان من مكانه و طلب منه أن يتمدد على سرير متهالك، "فحصه" و عادا للجلوس حيث كانا. أخذ سذجان وريقة و أخرج قلمه و كتب له أسماء بعض الأدوية و هو يؤكد له أن ليس هناك من خطر على صحته، ناوله الوريقة بعد أن ختمها بخاتمه، وهو يودعه داعيا له بالشفاء، فانتفض الشاب الغليظ كثور هائج و هو يصرخ: " أين هو الدواء؟ هل تحملت محنة الاستيقاظ فجرا و مشقة القدوم إلى هنا لتهزأ بي بهذه الوريقة؟ لو كان لي المال لشراء الدواء لقصدت أسيادك في عياداتهم ! يعطونكم الدواء لتقديمه للمساكين و تسرقونه أيها اللصوص !". و سمعه سذجان يضيف بعد مغادرته المكتب : " الله يلعن أمهاتكم و آباءكم و...و...". كان صراخه يدوي في البناية الصغيرة، و سارع رئيس الممرضين لإنقاذ الموقف، و لم يعرف سذجان ما الذي أقنعه به حتى جعله ينسحب.
دخل المريض الثاني، كانت امرأة بعينين حمراوين كالجمر من شدة الألم، "فحصها" سذجان و كتب لها على الوريقة أيضا و هو يبالغ في مجاملتها، و ما أن قدمها لها حتى صرخت في وجهه: "الله يلعن كل اللصوص و من رباهم، اعتقدنا أن الطبيب اليوم ابن المدينة، ستمسه الشفقة على حالنا، فإذا به أقبح من كل السابقين ! يزودكم المسؤولون بالأدوية و تقدمونها لأهلكم أو تبيعونها أيها اللصوص ! الله يلعن ...و يلعن..." ، وتدخلت الممرضة و هدأت الأمور.ثم تقدم المريض الثالث، الوريقة نفسها و السب ذاته. الرابع، الوريقة و السب حد الهيجان المنذر بالأسوأ. الخامس، سب و ضرب على مكتب سذجان جعل الوريقات تتطاير في المكان... .
حوالي الظهر، كان الطابور ذاب في الحي و المدينة رغم أن العمل بالمستوصف بنظام التوقيت المستمر، أي إلى غاية العصر تقريبا، إلا أن الناس هنا متعودون هم الآخرون على التوافد صباحا لاغير كما الحال بالبلدة تماما. أغلق سذجان الباب بإحكام كمن يخاف من اعتداء وارد، و تهاوى على كرسيه، أمسك رأسه بكلتي يديه و كأنه يخشاه أن يتصدع، و تراءت له صور عديدة سريعة التلاحق و كأنها تتزاحم، صورة المرضى الوديعين في غرفة انتظار عيادة صديقه القديم الذي تجنب استقباله، و صورتهم و هم يدفعون في مسكنة و خضوع، و انسحابهم ب"الأوراق" بأدب في اتجاه الصيدليات، خاشعين كالماشين في جنازة، وصورة أمه و هي تهلل بقدومه للعمل بمدينتهم، و صوره "صديقه" الذي مر البارحة أمام المقهى بالسيارة الفاخرة و بكل علامات الرفاه و السعادة، و نظرات أبيه المستفزة، وصورة أخيه الذي يكاد يمتنع عن الكلام في حضوره...، و تشابكت الصور و اختلطت و شعر كالقابع في قعر بئر شديد الظلمة. واصل بكل جهده يضغط على رأسه بكلتي يديه وكأنه يعتصره لطرد تلك الصور، ثم قاوم و استقام، تخلص من بذلة الطبيب بعناء و ارتدى سترته، وخرج من مكتبه متجها نحو باب المستوصف. كان الثلاثة، الممرضان و رئيسهما واقفين بالباب، نظر إليهم و بدوا له يتلذذون بما تفرجوا عليه هذا اليوم الأول. فالمراتبية قاسية في تربتها الأصلية، أما حين تنقل نسخة منها ممسوخة إلى الصحراء دون أدنى إعداد للرمال، تكون المحاصيل في غاية التشوه، بل تقيم العاهات في الأرواح. و كمن يصب الملح على الجرح، بادره رئيس الممرضين: " هذا جحيمنا اليومي !". طأطأ سذجان رأسه و غادر في اتجاه بيت عائلته، تمنى لو أن أسرته تناولت غداءها قبل عودته حتى يفلت من نظرات أبيه التي تربكه، إلا أن الأمر لم يكن كذلك، فالأم المسكينة أقنعت الجميع بالانتظار باستثناء أخيه الذي تغذى و راح إلى كليته. جلس سذجان إلى المائدة و هو يستنجد بكل ما تبقى له من قدرة على التظاهر بنقيض حاله، و هو ما لم ينطل على أبيه الذي تضاعفت شكوكه، بل و كأن العدوى بدأت تنتقل إلى أمه. بعد الغداء، دخل إلى غرفته، تمدد على سريره دون أن يزيح حذاءه، أغمض عينيه لحظة، و سرعان ما عاود الوقوف. و بعد تردد، غادر البيت بعد أن أوهم أمه بأنه على موعد باجتماع ما.... قصد المدينة الجديدة و هو يهذي: "هذه كارثة أبشع من كارثة البلدة، على الأقل كنت هناك بعيدا عن الأسرة. هنا ستكون الكارثة بحجم الفضيحة...، لابد أن أجد حلا...، يلزمني أن أنسى و إلا سأجن...،كما يلزمني اقتناء لحوم و خضر و فواكه لأمي عساها تكبح جماح شكوك أبي...، و إذا شربت و نسيت، لا يمكنني المبيت ببيت العائلة، سيفتضح أمري...، و صديقي المفلس الذي أبيت عنده في حالة الطوارئ يكلفني الكثير...، فهو لا يشبع و ليس له على الدوام ما يدفع...، إذن لابد أن أتدبر شقة متواضعة متخفية بضواحي المدينة الجديدة، لن يكلفني ثمن كرائها أكثر مما يكلفني صديقي المفلس للمبيت عنده. و لكن ما أتوفر عليه من نقود لا يكفي لشيء...، يلزم إذن أن أقترض مبلغا محترما أغطي به كل هذه المصاريف". و شركات القروض منصوبة بكل ركن من أركان المدينة الجديدة... . مقدمات مغلوطة، كبيرها و صغيرها، تفضي إلى نتائج يمشي من يأخذ بها بتبات نحو الهاوية لأنها منفلتة من الأرض و تكره التراب...
هكذا كان سذجان يهذي طيلة المسافة الفاصلة بين المدينة القديمة و الأخرى الجديدة، و أمام أول شركة قروض توقف، التفت يمينا و يسارا كمن يقدم على سرقة ودخل، و من حسن طالعه ! لم يكن هناك من ازدحام كما هو مألوف، تقدم تحو العميلة الجميلة التي رحبت به و هي تدعوه للجلوس. جلس و قدم نفسه و ازداد ترحيبها به، نطق بالمبلغ و عرضت عليه أكثر و بشروط تفضيلية !، وافق و فتحت الملف شريطة أن يحضر بعض الوثائق البسيطة. خرج مسرعا مبتهجا كرابح في يانصيب، و اتجه مباشرة نحو الإدارة المكلفة بتسليم الوثيقة الوحيدة التي لا يتوفر عليها المرتبطة بإثبات وظيفته و سلامة أجرته أو على الأقل مبلغ الاقتطاع الشهري المتفق عليه و قليل آخر يفيض عليه يستمر في الوصول كحوالة... . حصل عليها بسهولة و أضاف إليها نسخا من وثائق عادية و عقدا صادق عليه و أرجعها إلى العميلة الجميلة قبل أن تغلق المؤسسة أبوابها. تأكدت من سلامة الوثائق و وعدته بتسلم الشيك خلال اليوم الموالي، في أي وفت يختاره.
غادر المكان و انزوى في ركن بمقهى، و دخن بشراهة، ثم قصد بيت عائلته بعد أن اقتنى بعض حلويات عصرية في علبة جميلة، و تأمل أبوه الذي كان وسط الدار يكمل وضوءه ما بيديه باستفزاز أكبر. تعشى في صمت و خرج للتدخين بنفس الحيلة ثم عاد و قاسى الكثير لينام.
كان في الصباح متجها إلى المستوصف كالمساق إلى سعير، و أحس أن الزمن سيتختر أكثر بانتظار الشيك. دخل و الممرضان و رئيسهما يحرقونه بنظراتهم التي يجدها متشفية، تحسبها جرعات دواء يخفف عنهم وطأة الدهر...، ثم بدأت «الكارثة": المريض الأول، سب و قذف و تجريح. الثاني، لعنة للآباء و الأجداد و الأصول. الثالث، اتهام بسرقة حقوق الناس التي يضمنها أولو الأمر... ! . الرابع، تهديد و سب و وعيد. الخامس، صراخ و ارتطام بباب المكتب تهتز له أسوار البناية البسيطة...و هكذا... أما سذجان، فلا حول له و لا حيلة، دولاب الأدوية فارغ تماما، و عبارات مواساته و مجاملاته لا تجدي، و كل رد على الإهانة و تطور الأمور إلى الأقبح سيحسب عليه لأنه هو الذي لا يتقن تصريف الأمور...، فهو الطبيب !و هذه مهمته... !، هو يوم أفظع من سابقه. و ما أن توقف سيل المرضى حتى هرع إلى إزاحة بذلته و حمل سترته و غادر المستوصف كالهارب من سجن رهيب. وصل إلى البيت و هو يلهث، أكل قليلا من طعام على عجل مدعيا لأمه كونه على موعد مع رؤسائه للبت في قضايا متوقف حلها عليه ! و غادر في اتجاه مؤسسة القرض، فنصف اليوم أو أكثر قليلا تمثله هو عاما و الشيك بالمبلغ المحترم يتراقص أمام عينيه.
وصل إلى المؤسسة في أسرع وقت ممكن، فهو استقل سيارة أجرة ربحا للوقت...، خصوصا و أن السمسار الذي أوصاه البارحة عن شقة وعده بكون واحدة في عمارة بعيدة عن الأعين ستكون فارغة مساء هذا اليوم. دخل و كان زبون جالسا أمام العميلة الفاتنة و آخران ينتظران. أشارت له بالجلوس قليلا ريثما تنهي مع الذي أمامها. جلس و كله أمل أن تيسر أموره !. حسمت مع الجالس أمامها ، قام واحد من الجالسين و اتخذ مكان المنسحب و هو يفرك يديه، و بدت علامات توتر شديد على وجه سذجان، إلا أن العميلة نادت عليه، و من دون أن يجلس طلبت منه توقيع أوراق إضافية ثم سلمته الشيك و هي تبارك له !. شكرها بمبالغة و تمنى لو كان أحضر لها هدية !، و سارع إلى الوكالة البنكية و سحب المبلغ الذي وزعه بين جيوبه، و اتجه مباشرة نحو الوكالة العقارية. كان السمسار في انتظاره، لا شيء يخفى على السمسار هنا، فهو أدرك بعمق كل "حسابات" سذجان و قرر أن يتدبر له شقة و لو من تحت الأرض ! فالطبيب "جاد" في طلبه و جد متعجل عليه... . صاحبه إلى عمارة بعيدة شيئا ما عن قلب المدينة الجديدة، و ذلك ما يتمناه سذجان، صعدا إلى الطابق الثاني حيث الشقة المعينة، فتح الباب و طوفه بالغرفتين و الحمام و المطبخ و الفناء و هو يكيل المدح لصاحب العمارة و للساكنين بها و انغماسهم فيما يهمهم غير آبهين بما يدور حولهم !. و لم يتردد سذجان أبدا، دفع له ثمن الشهر المسبق و ثمن الشهر الجاري و مقابلا عن أتعابه بسخاء. تسلم المفاتيح و شكر السمسار على وفائه بالعهد ! و عادا معا إلى وسط المدينة الجديدة.
جلس بنفس الزاوية بنفس المقهى، جاءه النادل بقهوة و كأس ماء كالعادة، و شرع "يخطط" لكيفية صرف جزء من المبلغ المحترم الذي في جيوبه مع ضمان الاحتفاظ بالجزء الآخر...، يلزم ألا يكرر ما فعله باستدراك حوالاته الذي انتظره طويلا و طار من بين يديه ! ثم إن حوالته ستصل بعد اليوم منقوص منها الثلث تقريبا و على امتداد ثلاث سنوات، و مطلوب أن يحتفظ بمبلغ يوازن به طيلة هذه المدة !! سيشتري فراشا للنوم بمستلزماته و طاولة عصرية و أربعة كراس عصرية أيضا و جهاز تلفزيون و لو صغيرا و جهاز استقبال رقمي و بذلة أو بذلتين جديدتين و حذاء أو حذاءين . و سيحافظ على غرفته ببيت عائلته كما هي و قد يضيف إليها شيئا و لو بسيطا تجنبا لأية شكوك تحوم حوله... المهم أن كل ذلك لن يتطلب بأي حال من الأحوال أكثر من نصف المبلغ المحترم.
غادر المقهى هذه المرة قبل المعتاد بعد جزمه بدقة حساباته، توجه إلى سوق المدينة القديمة و اشترى لحما و خضرا و فواكه كثيرة، و عاد محملا إلى بيت عائلته. رأى أبوه الذي كان بالبيت ما بيديه إلا أن استجابته لم تكن أبدا بالشكل الذي راهن عليه هو. كانت الشكوك نالت منه. لم يكن وجه سذجان الذي يزداد سوادا يوما بعد يوم و لا نحافته المخيفة و ملابسه القديمة لتبقي على أحلامه بالعمارة و الشقق الكثيرة التي تدر الملايين شهريا، على قيد الانتعاش، هو شبه متيقن اليوم من أن هناك شيئا على غير ما يرام و يشتهى.
كان اليوم الموالي يوم عطلة، و فرحة سذجان بالمثنى أو الجمع، فهو من جهة لن يكابد كل ذلك "السلخ" حيا و الممرضان و رئيسهما يتفرجون، و من جهة أخرى، سيكون له كل الوقت لترتيب أمور شقته. ادعى لأمه ليلا أنه مدعو في الغد إلى حقل زفاف صديق له بالمدينة المجاورة، وأن لا داعي للقلق عليه، فهو قد يبيت هناك ما دام السفر ليلا محفوف بالمخاطر. وافقته أمه و دعت له بالسلامة، و باركت مسبقا لصديقه ! و هي تشير له بأن الوقت حان ليحسم هو الآخر مثله، و ما عليه إلا أن يسارع بشراء شقة بالمدينة الجديدة، و الطبيبات و الصيدلانيات كثيرات !!.
استيقظ في الصباح الباكر و غادر البيت دون أن يتناول طعام الفطور الذي كانت الأم بصدد إعداده، انقذف داخل أول حافلة نقل صادفها على الطريق و قصد المدينة الجديدة، تناول واقفا حلوى و كأس حليب بأول محلبة، و جلس بمقهى يدخن بانتظار فتح المتاجر أبوابها. حوالي التاسعة، قصد متجرا عصريا لاحظ مسبقا أنه يبيع كل أنواع الأثاث و التجهيزات المنزلية، طاف بين الأروقة عدة مرات، و استقر رأيه على فراش نوم متواضع ما دامت أثمنة الأخرى خيالية، و طاولة عصرية و كراسي أربعة و جهاز تلفزيون و آخر للاستقبال الرقمي بعد أن تأكد من كون الثمن لن يتجاوز نصف المبلغ المحترم. أدى المتفق عليه و جمع له الأعوان المطلوب و حملوه له على ظهر شاحنة المتجر إلى الشقة. كل الأمور ميسرة هنا !عكس البلدة المشؤومة ! تناسى تماما ما يعانيه يوميا بالمستوصف في غمرة انغماسه في استعداداته لطقوسه... .
رتب مشترياته، الفراش و مرفقاته بغرفة، و الطاولة العصرية و الكراسي بالغرفة الثانية. تأمل المنظر قليلا و خصوصا جهة المطبخ، و خرج مسرعا، لا وقت للتضييع ! يلزم ألا تغرب شمس هذا اليوم إلا و الشقة جاهزة. استقل أول سيارة أجرة صادفها و قصد متجرا للأواني. بدأ بعصارة القهوة، أضاف طنجرة صغيرة و مقلاة و بعض الصحون و الكؤوس الصغيرة للقهوة و النبيذ و الكبيرة للبيرة...، ثم تردد كثيرا أمام أثمنة المواقد و استقر على واحد متواضع، فهو بدأ ينال من الشطر الثاني من المبلغ المحترم... . جمع له أحد الأعوان مقتنياته، أدى الثمن و تدبر طاكسيا و سارع إلى الشقة، كان يسرع كالهارب، أو كمن مدينته مرشحة لحالة حظر التجول . رتب الأواني بالمطبخ بشكل يجعله لا يبدو خاليا، و نزل مسرعا عند صاحب دكان بنفس العمارة، اشترى قنينة غاز، أوصلها بصعوبة بالغة إلى المطبخ، ربطها بالموقد و تنفس عميقا كمحرر من أعمال شاقة. و قف وسط الشقة بعد أن أشعل سيجارة، يتأمل المنظر من جديد، و تأكد من أن لا شيء ينقص الآن سوى "الأساسي" الذي من أجله كل هذه المعاناة !. كانت الساعة تتجاوز الظهر بقليل، و كان الوقت جد مناسب بالنسبة له، فالمدينة في هذه اللحظة تكاد تموت، تتوقف الحركة تماما...، خرج مسرعا و قصد سوقا ممتازا قريبا، الحركة شبه متوقفة فيه كما تمنى، و قف أمام رواق اللحوم و طلب شرائح كبد و لحم، ثم جمع من على الرفوف جبنا و زيتونا و فواكه، و اندلف إلى الزاوية الجانبية الخاصة بالخمور. وقف يتأمل كل تلك الأنواع من النبيذ و ذلك الكم الهائل من أصناف الجعة من مختلف بقاع الدنيا. فكر في كونه لم يعد يقو بما فيه الكفاية على الأول و قرر أن يكتفي بخمس قنينات منه على أساس أن يغتنم الفرصة و يوفر كارطونين دفعة واحدة من جعة "الملائكة" فادح مذاقها و مفيدة للصحة !. رتبت له الجالسة وراء صندوق الأداء ما اختاره بعد لفه، أدى الثمن و غادر. كانت سيارة أجرة واقفة بباب السوق، ركبها بعد أن اعتذر لصاحبها على ثقل مشترياته و سارع به إلى الشقة.
وصل، و شرع يرتب مقتنياته، و إذا به يصعق بكون كل ما اشتراه من الأغذية سيضيع، فهو لا يملك مبردة، غضب و أشعل سيجارة، و قرر ألا يكرر نفس مأساته بالبلدة خصوصا و أن الصيف هنا بمدينته يكون كالجحيم. لا بد إذن من اقتناء مبردة مهما كان حجمها. غادر الشقة من جديد ، و أسرع باتجاه السوق الممتاز مرة أخرى، كل شيء متوفر به عكس البلدة اللعينة التي لم يكن يعثر بها و لو على خبز يلائمه ! ولج السوق من جديد، طاف بين المبردات جميعها، ثمن بعضها يتجاوز ما تبقى له من المبلغ المحترم، صار يتحاشى قراءة أثمانها، فلا حاجة له بها ! هي صالحة لعائلة كبيرة ! و اتجه نحو أخرى صغيرة خاصة بالمكاتب و اشترى واحدة.
ساعده صاحب النقالة الصغيرة التي أقلته هو و مبردته على حملها إلى الشقة، إلا أن السائق لم يلتزم حدوده في اعتقاد سذجان حين نبهه إلى صغر حجمها و كونها غير صالحة لشيء على الإطلاق ما دام جوفها لا يتسع لأكثر من كيلوغرامات قليلة من الخضر و الفواكه و قليل من الماء، و الصيف هنا سعير. لم يهتم سذجان كثيرا بما قاله صاحب النقالة بالرغم من شعوره بالإهانة !، أدى له الثمن و أغلق الباب بإحكام. سارع إلى وضع بضع قنينات جعة في مبردته بالمنطقة السريعة التبريد، و رتب بها شرائح اللحم و الكبد بعد أن احتفظ باثنتين لغذاء جد متأخر. شعر بالتعب من كثرة الحركة، قصد الغرفة التي خصصها للنوم و تمدد على السرير الجديد و هو يغمض عينيه. كان يفكر و لا يفكر ! يحلم و لا يحلم ! نائما و غير نائم !. ظل على هذا الحال برهة ثم قفز باتجاه المطبخ، يلزم أن يبدأ ليرتاح ! أشعل الموقد و وضع المقلاة على النار و وضع فيها الشريحتين. حمل صحنين بزيتون و فواكه إلى الطاولة و عاد يقلب الشريحتين، و بينما هو كذلك، مد يده إلى المبردة، أخرج القنينة الأولى، صبها في كأس كبير و أفرغه في جوفه، أشعل سيجارة، قلب الشريحتين مرة أخرى و أخرج قنينة ثانية و تذوقها بتلذذ، ثم تمتم: "شتان بين بيرتنا و بيرتهم ! إنهم ملائكة، كل شيء عندهم جميل و نحن وحوش" !!. حمل شريحتيه و قنينتين إلى الطاولة و جلس، أكل قليلا و اكتفى بالشراب و التدخين بعد أن شغل تلفازه و سرح مع روبورطاج حول مدينة خلابة بمعمارها و حدائقها و آدمييها بدنيا "الملائكة" !.
عند المغيب كان سذجان اشتعل، و قرر أن يتوج هذا اليوم المشهود بمعقله الآمن، بالسهر إلى آخر رمق، و احتساء أنوثة من مدينته، خصوصا و المسألة هنا لا تطرح أي مشكل على الإطلاق !، فالبنات ليلا بالبارات و بارات الفنادق يفوق عددهن عدد الذكور، لا بل إن من الذكور هم الآخرون من...، كما أخبره صديقه المدرس، و الآخر صاحب الشقة المفلس الذي لا يشبع. يكفي أن تدفع... . وضع نظارة قاتمة على عينيه، و غادر العمارة، قصد الشارع الرئيسي و بدأ يتأمل واجهات المتاجر و يتحاشى المقاهي التي كان الرواد ما يزالون منشورين بها، تذكر ضرورة اقتناء ملابس جديدة و حذاء أو حذاءين، فأعين الجيران و أسرته تستفزه و يلزم أن يوقفها عند حدها ! دخل محلا أنيقا شديدة الإغراء واجهته، و أوقع به صاحبه بسهولة، أقنعه ببذلتين رسميتين و قميصين و أربطة عنق و جوارب أيضا، و بأثمنة تتجاوز قيمتها بكثير بعدما استشعر حاله. و كذلك الشأن بالنسبة لصاحب متجر الأحذية الذي ورطه بسهولة في حذاءين بادعائه أنه يستورد كل سلعته من بلاد "الملائكة" !.
عاد بمشترياته من جديد مسرعا إلى شقته، و إلا فسيبدو في حال دخوله بها إلى بار كبدوي في المدينة !، اغتنم الفرصة و ارتدى قميصا و بذلة رسمية و تبت ربطة عنق زاهية على صدره، كلها جديدة، و تخلص من حذائه القديم الذي استفحل حاله من كثرة المشي طيلة هذا اليوم، ثم غادر باتجاه الشارع المعلوم الذي بدأ يتخلص من المدمنين على المشي و لفظت مقاهيه معظم المنشورين على كراسيها. قصد بارا غير الذي لا يبرحه صديقه المفلس صاحب الشقة، دخل و كان البار كموقع حريق أخمدت للتو ألسنة نيرانه، من كثرة الدخان و الضجيج، و البنات منشورات على كل الطاولات، قليلات منهن من تمكن لحد الآن من الالتصاق بضحية، رمق في ركن واحدة منفردة ألهب جمالها الظاهر و المعروض مشاعره، لم يتردد لحظة، خطا باتجاهها، ابتسمت، جلس إلى جوارها و جاء النادل يستفسر عن الطلبات، طلب بيرة محلية و طلبت أخرى من النوع الرفيع المستورد، تبادلا النظرات، و كانت هي بارعة في تصنع علامات الهيام على ملامحها. اشتعلت جوارحه، طلبت سيجارة و سارع هو إلى وضع العلبة قريبة من يديها، أفرغت بيرتها في جوفها دفعة واحدة و بتلذذ، فمنذ ساعة أو أكثر و هي تنتظر و الخوف ينهشها من أن تكون ليلتها بيضاء مثل سابقتها، و كان هو لم يمسس بيرته بعد، نادى على النادل و طلب لها الثانية، و صلتها في الحين، و هكذا...، قد تكون شربت عشرة و لم يتجاوز هو الثلاثة...، انشغل أكثر عن الشرب حين قصدت وضع رجل على أخرى و كاد فخداها القاسيين ببياضهما يتعريان تماما و هي تقربهما منه. عرض عليها مرافقته، و وافقت في تغنج شريطة أن يشربا هنا بالبار بيرات أخر، فهي تعشق ذلك ! وافق تلبية لما تعشقه ! و لم يكن يدري أنها لو تجرأت و غادرت البار بصحبته قبل أن يستنزفه صاحبه إلى أبعد حد، فلن يسمح لها بولوجه بعد اليوم، و غيرها الأصغر سنا منها و الأجمل ، القادمات الجديدات إلى الجحيم كالسيل. و هذا مصدر رزقها و لا يمكنها التفريط فيه.
واصلت هي الشرب بعد أن طلبت طعاما التهمته، و واصل هو تأمل جمالها و هو يدخن، و يشرب من حين لآخر، ربما تكون شربت أكثر مما شربته في المرة الأولى. و عند منتصف الليل، نادى على النادل و أدى الثمن و مكافأة مجزية، و غادرا باتجاه المعقل الآمن بعد أن حرص سذجان على اقتناء علب سجائر وفيرة.
نبهها عند الاقتراب من العمارة أن تمشي خلفه و تقتفي أثره "احتراما" للجيران و ضمانا للأمن و الأمان. و طبقت تعليماته حرفيا، تباطأت في مشيتها قليلا، صعد إلى حيث الشقة، فتح الباب و دخل و إذا بها إلى جانبه كملاك !. طافت بالشقة للاطمئنان على كونها لن تكون فريسة هذه الليلة كما حصل لها مرارا، و هي تشيد بها و بموقعها الاستراتيجي، بينما هو سارع إلى التخلص من بذلته الرسمية و أخرج كل ما تبقى من بيرات في صندوق و زاحمها إلى جانب أخريات باردة في مبردته الصغيرة، و أشعل في نفس الوقت الموقد و نشر شرائح وفيرة على المقلاة، ثم وضع زيتونا و جبنا و فواكه في صحون و سارع بها إلى الطاولة العصرية، رتبها ثم عاد مسرعا إلى المطبخ، قلب الشرائح و عاد للطاولة بكأسين كبيرين و مدخنة جديدة. و بينما هو في حركة دائبة بين المطبخ و الطاولة العصرية، دخلت هي إلى الحمام ، و إذا بها تخرج أفدح من ملاك !، ارتدت ثوبا قصيرا أكثر، جد ليبرالي و شفاف، أحمر و أبيض، و أعادت تصفيف شعرها و تلوين شفتيها. و بينما هو مشدوه، تمادت هي في إغوائها بعد أن أدركت حاله و طبعت قبلة على شفتيه أشعلت جسده النحيف و كاد يجن.
أكملت هي إعداد الشرائح حين شعرت باشتعاله، ثم ركنا إلى الطاولة و شرعا يشربان بعد أن حرصت أن تفرغ هي بيرته في كأسه و تمد قطعة من شريحة إلى فمه، مما فاقم حاله...، و انطلقت تشرب. هي تشرب بجنون، و كما الحال بالبار، لم يكن هو يكمل بيرة حتى تكون هي شربت أربعة أو خمسة، هو يدخن أكثر مما يشرب، و كل مرة يسرع إلى المبردة و يأتي بدفعة و كله أمل في أن تشبع.... تنبه إلى أن ما بالمبردة كاد يخلص، سارع إلى الصندوق الثاني و ألقى بما اتسعت له، و عاد إلى الطاولة، و ما أن يجلس و عيناه تكادان تنفلتان من رأسه و ترتطمان بمواقع محددة من جسدها، لا بل بكل جسدها، حتى تستقيم هي متظاهرة بالحاجة إلى غسل يديها أو الدخول إلى الحمام و تمشي أمام ناظريه في تغنج لتفاقم اشتعاله.
هو الآن سكر، أما هي، و بعد أن لاحظت قرب نفاذ مخزونه من البيرة، و رمقت في غفلة منه قنينات النبيذ في الدولاب، عبرت له عن تمنيها لو كان أحضر قنينة نبيذ ! لأنها تشتهي دوما أن تختم به. سارع إلى الدولاب في نشوة لقدرته على تلبية شهيتها و أمنيتها، و أحضر قنينتين دفعة واحدة، ثم جاء بكأسين صغيرين، فتح الأولى و أخذتها هي من يديه، صبت في كأسه قبل كأسها، رفعه باتجاه فمه و ارتشف جرعة فإذا بها كالعلقم، صحته لم تعد تطيقه و لم تعد أبدا كذلك منذ مدة، إلا أنه تظاهر بالعكس. و شعرت هي المحنكة عميقا بوضعه، ثم واصلت مع ما تشتهيه ختاما. أفرغت القنينة الأولى و أتت على كل الطعام الذي على الطاولة، و جاءت بما تبقى من جبن و فواكه بالمبردة، هي تأكل و تشرب بتبات و هو يتفرج و يدخن، فهو سكر. و في أوج ثمالته، و في لحظة مستدرجة، انطلق يحكي ل"الملاك" الذي إلى جانبه عن عذاباته بالبلدة اللعينة مع العزلة و الوحدة، و مع الممرضين الماكرين، و عن فراره منها ليلا انتقاما منها و من الممرضين أساسا !، و يتساءل عن سر نجاحهما و فشله، و ارتقائهما و تقهقره، و عن أصدقائه الذين تابعوا دراستهم و حصلوا على درجة التخصص، و يسألها إن كانت تعرفهم، فهم الآن من علية المدينة، بالفيلات الشبيهة بالقصور و السيارات الفاخرة و الأخرى الرباعية الدفع، و عن ذلك اللعين "صديقه القديم" الذي أهانه و لم يستقبله، و أخيه الطالب الجامعي الذي يحضى باحترام الجميع، ببيت العائلة و الحي، و هو مجرد طالب ليس إلا! و الذي يتكلم بخشوع كفقيه ! و عن أبيه الذي تغيرت نظرته إليه كثيرا و يعذبه بنظراته الارتيابية. ثم عن أهل المدينة الذين لا يحترمون الطبيب ! و لا يقدرون مكانته ! و...و... . هي نفس الأسئلة المغلوطة و الزائفة التي تقتضي إعادة الصياغة، و إلا فالجواب مغلوط بل يفاقم الحيرة و الدوخة، و مفض بصاحبه إلى التشرد و الضياع .
كانت "الملاك" تتظاهر بكونها تنصت و تشارك الحاكي المجروح أوجاعه، إلا أنها لم تبرح القنينة تلو الأخرى و ما تبقى من جبن و فواكه. تخيلها سذجان في لحظة ما و هي تأتي على أخر مخزونه بئرا بدون قعر، و لكنها بئر عسل !!.
في آخر ساعة من الليل، كان سذجان يتثاءب متجها نحو غرفة النوم، أكملت هي ما تبقى في آخر قنينة، دخلت إلى الحمام، غسلت أسنانها و تبعته، أشعلت النور الخافت و تمددت إلى جانبه و قد تفرطح جسدها من هول ما التهمت و شربت. رأته يلحس جسدها من أخمص قدميها إلى آخر شعرة في رأسها وهو يترنح و أشفقت عليه...ثم نام.
في الصباح الباكر، استيقظت و هو جامد كالميت، اغتسلت و صففت شعرها و نمقت وجهها بعد أن ارتدت ملابسها و جمعت ثوب الإغواء في محفظتها. يلزم أن تغادر بأمان، هذه عادتها. ثم إن هناك من ينتظر محصولها من الليلة، خصوصا أخوها، ذلك الشبيه في بنيته الجسدية بسبع ضار، إن لم تمده بثمن علبة سجائره الفاخرة و قهوتين على الأقل، يكسر عظامها و يقوم ب "ثورة" كاملة بالبيت، لا تسلم منها لا الأبواب و لا الأواني...، رغم توسلات الأم. أيقظت سذجان و كان كمن هشمت عصابة كل جزء من جسده، غادر الفراش بصعوبة و تأمل" فتنتها" من جديد، أدى لها بسخاء لم يفاجئها، و دعته بعد أن تبادلا رقمي هاتفيهما الجوال، فهو اقتنى واحدا منذ قدومه للعمل بمدينته. كل الناس اقتنوه و لا يعرف على وجه الدقة ما الذي يوظفونه من أجله، حتى مساحو الأحذية و بعض المتسولين تراهم يكلمون أحدا ما في الجوال !، ثم غابت.
هرع سذجان يغتسل و يرتدي بذلته القديمة، خرج بسرعة و قصد محل حلويات و خبز، اشترى كثيرا من الأولى و بعضا من الثانية، و سارع في اتجاه بيت عائلته حتى يطمئن الأهل ! قبل أن يتوجه إلى مقر عمله. كانت الأم في انتظاره، قدم لها الحلويات و الخبز و هي تستفسره عن حفل زفاف صديقه ! الذي دعت له، مكررة التأكيد على أن لا شيء يبرر تأخيره بالزواج هو الآخر ! أجابها بأن الزفاف كان مهيبا، و أن صديقه رزق بنت حلال ك «ملاك"، من أسرة عريقة ميسورة أبا عن جد، و أن أهله رحبوا به هو بشكل استثنائي، و صديقه كان شديد الفرح بحضوره !!.
تناول حلوى من التي أحضرها و نصف كأس حليب، و سارع إلى المستوصف و هو يدخن. كان في الطريق كما آدم في التمثلات الشعبية و هو يساق خارج الجنة بعد أن تجرأ و ذاق من التفاح الممنوع !. و هو لم يذق، اكتفى باللحس... .
وصل إلى المستوصف، و كانت الأمور كعادتها، الممرضان و رئيسهما واقفون بالباب، حياهم و أجابوا ببرودة. ثم نفس الطابور و نفس الصراخ و الاحتجاج و القذف و التجريح... .
توالت الشهور و بضع سنين، كانت أمور انقلبت كليا حوله و هو ماض في غرقه، ذاب المبلغ المحترم الذي اقترضه في غفلة منه بعد ليال معدودة مسروقة من أهله بادعاءات عن زفاف صديق آخر بمدينة أخرى، أو موت والد أو أم أو زوجة ثان، أو عن استدعائه للعاصمة للمشاركة في أمر ما...، و تورط في قرض ثان سهلته العميلة الجميلة أكثر من السابق، ثم ثالث لم يبق سوى على أقل من ربع حوالته. و كان أخوه حذقان نال الليسانس بامتياز و التحق بمعهد لتكوين المدرسين و تخرج منه بامتياز أيضا، هو و رفيقته خلال الحياة الطلابية، و التي عرفته صريحا واضحا رزينا، كارها للأقنعة و الزيف، ضاربا بجذوره في الأرض، لا متوهما و لا ممزقا، و عاشقا أيضا بالمعنى النبيل و الفسيح. و تم تعيينهما بنفس مدينتهما ، كل بثانوية. تزوجا و اكتريا شقة تناسب شرطهما، أثثاها بالمطلوب و أضافتها رونقا و وقارا كتبه الهائلة التي لم تتسع لها غرفة بكاملها، و رتبا الباقي إلى جانبهما بغرفة النوم، أليست أحسن زينة في البيت حتى و إن لم تقرأ !! كما اشتريا سيارة عملية متوسطة يتنقلان بها بين مؤسستيهما و بيتهما، و كذا بيتي عائلته و عائلتها التي تكن له كل الاحترام و التقدير و لا تتردد في مد يد العون لهما رغم كبريائه اللايحد. و هو اليوم يجمع بين رسالة التدريس التي يعشقها، مما جعل تلامذته يعشقونه، و كذلك الشأن بالنسبة لزوجته التي ارتوت منه و ارتوى منها، و كثيرا ما يشمئزان من شكوى بعض المدرسين الذين لا يتوقفون عن الحديث عما يسمونه عزوف تلامذتهم عن التعلم !! و غياب الرغبة عندهم فيه !! و إن هي إلا أزمتهم هم يلبسونها لضحاياهم، و بين تحضيره لدكتوراه اختار موضوعا لها شعراء "منبوذين" و "مارقين" بالشام، منهم من قضى نحبه مغبونا و منهم الحي الذي ينام على الرصيف !. وحرصا منه على الدقة و الأمانة العلمية و أخلاق العلماء، اغتنم فرصة عطلة و سافر هو و زوجته إلى دمشق و الشهباء و بيروت لإحضار دواوين لهم مفقودة و جمع معطيات عنهم تنير الطريق، ولم لا الاتصال بمن لا يزال منهم على قيد التشرد !، و فرصة ثانية زار فيها بلدين من التي يسميها سذجان "أرض الملائكة" استنادا إلى ما ينقله له جهاز استقباله الرقمي فقط، اقتنى منهما حذقان كتبا ثمينة و جد حديثة تخدم في الصميم عمله العلمي، و لم يجد لا هو و لا زوجته أهلها لا "ملائكة" و لا "شياطين"، بل فقط آدميين فرضوا جعل آدميتهم غير قابلة للمس بها، ثم إن الصدق و الصراحة و الوضوح من أهم صفات أصحابها الشامخة بهم. كما زوج سذجان أخته لأحد أصدقائه المتخرجين معه لتأكده من استقامته و نضجه، و إصراره على الزواج من غير الموظفة. هذا موقفه، لا بل هي استعداداته التي طبعها فيه انتماؤه إلى أسرة ميسورة و محافظة. و كم تكون سعادة سذجان عارمة حين يزور أخته و زوجها و يجدهما سعيدين، و إن كان في قرارة قناعاته يتمنى لو أن أخته أكملت تعليمها و لم تعد إنتاج شرط للمرأة يمقته.
لم يحضر سذجان لا حفل زفاف أخيه و لا الآخر الخاص بأخته، يختلق كل مرة كارثة فظيعة حلت بأحد أصدقائه الذي لا أحد له غيره ! و يأوي إلى "قلعته" يمارس طقوسه ليطير... و ينسى، هو يكره الحالة التي يشعر فيها بقربه من الأرض...، و لا يعلم – وهو الطبيب- أن الخمر يجلب غبطة عابرة، إلا أنه يحفر ما يراد نسيانه و يضخمه. و حذقان يدرك حاله جيدا. إلا أنه لم يتصور الدرك الأسفل الذي أودى بنفسه إليه، ذلك الذي فصله له أخ زوجته النزق، الموظف بمؤسسة بنكية، و الذي يتردد هو الآخر على عالم الخمر و ما يستتبعه، و لكن بحساب و عقلانية، حكى له عن أخيه الطبيب الذي لم يعد يتقاضى من أجرته المحترمة في سياقها سوى ما يتجاوز قليلا ربعها، و عن الشقة التي اكتراها منذ مدة و يختفي بها، و بنات الهوى اللائي يتسابقن للإيقاع به و يتهامسن بكرمه ! و بأشياء أخرى لم يتمكن من البوح بها له للاحترام الكبير الذي يخصه به، فهو يبدو له عند مجالسته كشيخ جليل جد متفتح، عالم على طريقة القدامى العظام، و زادته حداثة فكره. و بالفعل، فرجل تعليم و قور متقاعد بحي عائلة حذقان يلقبه ب"شيخ الشباب" بعد أن رأى أبناءه يجدون فيه قدوة و نجحوا. و كل أبناء الحي يجلونه، حتى الثلاثة منحرفين المشهورين يعبرون بطريقتهم عن خجل أو استحياء و ارتباك عندما يصادفونه يعبر الحي هو و زوجته، و قبل أن يتزوج أيضا. و هو يتواصل مع الجميع، لا عقد عنده، و لا أوهام أبدا... .
فزع حذقان بما سمعه عن أخيه، و ارتكب خطأ فادحا في لحظة غضب على ما فعله أخوه بمصيره، ربما لم يقصد ذلك أو هذا هو الأصح في الغالب، إذ أثناء زيارته لوالديه، و بينما أمه تهذي عن "عيون الحساد" التي نالت من أخيه، و عن حاله الذي لم يعد يعجبها ، و هو الطبيب ! الدكتور ! الذي تهابه الأمراض ! و تتمناه كل البنات!، لم ينتبه لوالده الذي كان ممددا على سريره بغرفة نومه بانتظار صلاة، و كشف لأمه حقيقة ابنها الطبيب ! الدكتور ! بالتفاصيل لعلها تتوقف عن هذيانها و ترتاح، و تريحه، فهو فشل في تغيير طريقة تفكيرها خصوصا فيما يتعلق بأمور تخص سذجان، فهي رأت فيه دوما الأمل و المثال و المفخرة... . و كم هو عسير تكسير هذه الصورة عندما تطبع في مخيال بسيط لصاحبها عن عزيز عليه.
سمع الأب الحالم بالعمارة و الشقق و الأكرية التي تعوضه عذابات عمر بأكمله من أجل أن يرى أبناءه "رجالا"، و ما أن غادر حذقان البيت حتى أصيب بنوبة شلت نصف جسده و أفقدته القدرة على الكلام، و بعد أيام قلائل رحل.
حضر حذقان و زوجته، وحضرت أخته و زوجها، و نظموا مراسيم العزاء و الجنازة بالشكل المطلوب، و ظل سذجان بعد حضوره متأخرا، إما واقفا غائبا و السواد يلف وجهه، أو جالسا في زاوية و رأسه بين يديه كمن يخاف على انفجاره. حضر كل الأهل و الأصهار و الجيران، و العديد من أصدقاء حذقان، يقدمون التعازي له و فيها الكثير من التقدير، و يصافحون سذجان ببرودة أو يتحاشونه، فأخباره على كل لسان و هو لا يعلم. اعتقد أن مدينتهم هي بالفعل مدينة و ليست كالبلدة حيث غرام بخور يبخرها و يزيد، لم يخطر بباله أبدا أن مدينتهم إن هي إلا قرى متلاصقة و مزدحمة، و أنها أبعد ما تكون عن "الجحيم الذي يشبه لندن" كما عرفها أحد "المجانين"، المدينة الفعلية، المدينة الثقافة الحضرية و الإنتاجية المادية و الرمزية الهائلة، المدينة التي لا يهتم فيها أحد بأحد حين يتعلق الأمر بالحرية الفردية و الخصوصية و الفردانية و التفرد، و حتى الشذوذ...، لم يدرك سذجان و لا يمكنه أن يدرك و هو على حاله الغير متغير ! و الغير منتبه إلى ما يدور حوله أن مدينتهم هي الأخرى يكفيها و يفيض إلى ضواحيها غرام بخور !.
انتهت مراسيم العزاء، و بينما حرص حذقان و زوجته، و أخته و زوجها على التناوب على مؤانسة الأم المكلومة التي قلت حركتها و تلاشى هذيانها، غاب سذجان عن بيت العائلة نهائيا، فهو ركن إلى "قلعته" يقصد المستوصف صباحا، و غالبا ما يختلق طارئا يدعيه لرئيس الممرضين الذي وصله هو و الممرض و الممرضة كل شيء عنه، ثم يغادر في اتجاه "القلعة"، يشرب و يدخن إلى أن يضيع. لم يعد يقتني البيرة، اكتفى بالنبيذ يخلطه بالماء لتهوين أهوال مذاقه في فمه، فالأحوال المالية تسوء يوما بعد يوم، ثم إن اللائي يصطحبهن من البارات أو من الرصيف اليوم، هن آبار. و إذا كانت "الملاك" التي جاء بها إلى الشقة أول مرة، بدت له بئر عسل، فإنه يجدهن اليوم بالوعات - "مزابل" !.
في إحدى الليالي، بعد أسابيع قليلة من رحيل أبيه، شرب بمفرده و دخن بشراهة بشعة، لا يطفئ سيجارة حتى يشعل الأخرى، شرب كثيرا و هو يكلم نفسه بصوت مسموع عن البلدة القديمة و مصائبها، و مدينته و جوائحها التي حاصرته ! و أصدقائه القدامى الذين هم اليوم من أثرياء المدينة، و عن سر حظه الأجرب ! و عن الممرضين و رئيسهما الذين يتهامسون كلما رأوه، و طابور "وحوش" يتهيأ للانقضاض عليه... ! . هو نفس الطرح المغلوط دوما، و المغلوط يفضي إلى نظير له و يفاقمه. خلص شرابه في وقت متأخر من الليل، إلا أنه خرج و قصد الباعة الليليين في أماكن الخطر، و اقتنى قنينة من النوع الرديء الذي يروج في تلك الساعة، ثم عاد و واصل و هو يهذي. لم ينم أبدا و في الصباح، قصد المستوصف في حالة زعزعت الممرضين و ماجورهم تماما.
جلس إلى مكتبه، و بدأ المرضى يتوافدون عليه، دخل الأول فتراءى له برأس نمر حقيقي يهم بالانقضاض عليه، فزع و قفز خارج المكتب و المريض في حالة ذهول تام، نظر في وجوه المرضى المصطفين أمام المكتب، و رآهم كلهم برؤوس أسود و نمور و ذئاب...، رآهم بأفواههم مشرعة و أنيابهم مكشرة تهم بالانقضاض عليه دفعة واحدة، بدأ يصرخ و يستغيث و هو يركض في اتجاه مكتب رئيس الممرضين، ازدادت حدة صراخه، ثم قصد باب المستوصف و غاب في الحي و هو يركض و يصرخ... مر بالقرب من باب إحدى المدارس، و اعتقده الأطفال الواقفون من المهلوسين الجدد العدوانيين الذين اكتظت بهم المدينة في السنوات الأخيرة، فصاروا يرشقونه بالحجارة، التقط شبه عصا من الأرض و ضاعف من ركضه و هو يلوح بها في السماء، تعثر و سقط، تمرغ في التراب و تمزقت ثيابه، اقترب الأطفال منه أكثر و هم يصيحون، قاوم و نهض، تخلص من حذائه و كأنه يعيق ركضه !، و ما أن توقف سماعه لصراخ الأطفال، حتى توقف و هو يلهث. ثم تابع طريقه في اتجاه المدينة الجديدة و العصا في يده، يصرخ حينا و يتمتم أحيانا أخرى. وصل إلى الشارع الرئيسي حيث "العيادات" و "مكاتب الخبرات" و "مؤسسات المهندسين"، قصد عيادة أحد أصدقائه القدامى، دخل قاعة الانتظار، و كانت غاصة بالمنتظرين أدوارهم في صمت، وهو يصرخ و يلوح بالعصا و اللعاب يتطاير من فمه: " يعطونكم الأدوية لتوزعونها علينا، و تسرقونها يا أولاد الق....، و تشترون السيارات الفاخرة و الرباعية الدفع...، لا لن أغادر إلا و الدواء في جيبي، أريد دواء...أريد دواء... !. كان يصرخ و يصرخ و يلوح بالعصا في اتجاه باب مكتب صديقه القديم. اهتزت العيادة و خاف المنتظرون، و أطل الطبيب صاحب المحل من باب مكتبه كراهب، ثم أعاد إغلاقه بعد أن أشار إلى الكاتبة بالقدوم إليه. إلا أن شابا كان من بين المنتظرين يرافق أمه المريضة تدخل، هو صديق لحذقان، طمأن المنتظرين وخصوصا الطبيب و هو يتصل به و يحثه على ضرورة الحضور في أسرع وقت ممكن. وصل حذقان بكل السرعة الممكنة، اقترب هو و صديقه من سذجان الذي هدأ يعد أن التقت عيناه بعيني أخيه كمن سرت منه إليه مهدئات "فوق-كيماوية" !، زودهم الطبيب بمهدئ عيني ناوله حذقان لأخيه في هدوء بعد أن أجلسه على كرسي بعيدا عن المنتظرين. و بعد لحظة و جيزة، كان سذجان في عداد النائمين. حمله أخوه و صديقه إلى سيارته، و قصد بيت أمه، أدخلاه إلى غرفته التي هجرها، و مدداه على سريره، و غطاه حذقان بحنان ثم خرج و أغلق الباب. حكى لأمه ما حصل و ما كان يتوقع حصوله كل لحظة، و أكد عليها التزام الهدوء و عدم فتح غرفة أخيه إلى أن يعود. ثم سارع باتجاه طبيب نفساني بعد أن أعاد صديقه لمرافقة أمه. انتظر دوره و دخل، قص الحكاية كاملة – حكاية أخيه – للطبيب، مركزا على " تحليقه في فضاء ليس له، و طرحه الدائم لأسئلة مغلوطة، و فشله الذريع في التواصل، و جهله التام بما يجري في الواقع حوله، و غرقه في الديون، و خداعه لأبويه و إيهامهما بصورة عنه غير صورته، و تماديه في الخطأ، و غياب الكتاب في حياته، و كرهه للتراب...". كان الطبيب النفساني ينصت بإمعان لدقة التشخيص و عمقه، و تطابق كل المواصفات مع أعراض مرض مشهور، و أكد أن لا حاجة لاستقدام المريض إلى العيادة كما اقترح حذقان إن لم يقتنع سعادة الطبيب بما سمع. أخذ ورقة و وصف أدوية و مهدئات تتماشى كلية مع دقة تشخيص الأخ الذي يدرك بعمق أعماق أخيه و خواءها...، على أساس أن يزوره بالبيت مساء، فهو يعرفه !.
سارع حذقان إلى زوجته، ثم سارعا معا إلى بيت أمه، و كانت أخته و زوجها وصلا هما الآخران، فالخبر تطاير و تناسل في " القرى المتلاصقة" التي توهمها سذجان مدينة. و ما كان أمامهم سوى أن يتناوبوا هم الأربعة على الحضور و المبيت إلى جوار سذجان و أمه درءا لكل غير مرغوب فيه. جاء الأهل من كل مكان بعد أن وصلهم الخبر، و جاء من بينهم خاله من بادية غير بعيدة، تألموا لحاله أو هذا ما كانوا يصرحون به. و في غفلة من الأربعة المداومين على الحضور باستمرار و تقديم الأدوية و المهدئات لسذجان في الوقت المحدد كما أوصى بذلك الطبيب النفساني و أعاد التأكيد عليه عند زيارته له بالبيت، و دون أن يبدل أو يضيف أو ينقص و لو دواء واحدا بعد تيقنه من سداد تشخيص حذقان لمرض أخيه، أوعز خاله للأم المسكينة بضرورة عرض "الطبيب" على فقيه مشهور بقريته، يقصده الناس من كل فج عميق ! يهابه الجن و يركع أمامه، و ما من مصاب بشر أشرس جن إلا و شفي على يديه !، فالجن يضرب المتعلمين على علمهم و تفقههم !!، و قد يكون الجن انتقل إليه من مريض...، و أعين الحساد لا تنام ! و من غير أن يوفر لها أية فرصة لاستعادة ما يقوله حذقان و بدأت تتذوقه في المدة الأخيرة حول "الخرافات" و مخاطرها، و الشعوذة و مهالكها و أسرار استفحالها، و الرابحون و الخاسرون من رواجها...، تابع الخال بحماس و إغراء حول زوجة جاره الفلاح الكبير المقعد و المنهك، الفاتنة، و " لا حياء في الدين" ! التي "ضربها" جن و أخذت تهذي بكلام فاحش، فعرضوها على الفقيه المذكور، وحضر هو العملية من بدايتها إلى نهايتها !، إذ بعد صراع ضروس مع الجن، طلب منه هو و ابنتها مغادرة الغرفة التي كانوا يتواجدون بها تجنيبا لهما لكل مكروه !، و أحكم إغلاق الباب كي لا يفلت منه ذلك الجن اللعين !، و بعد لحظة لم تكن بالطويلة، خرجت المرأة سالمة و على وجهها علامات استحياء، ربما خجلا مما كان يصدر منها من تصرفات ! بعد أن أحرق الفقيه الجن في النار !
اقتنعت الأم أو انساقت، و تجاهلت كل ما يقوله حذقان و كل محاولاته لعتقها، فهي ظلت لمدة طويلة لا تسمعه أبدا لانسياقها البغيض وراء فكرة أن كل ما يقوله إن هي إلا مشاعر غيرة من أخيه و محاولة اكتساب قيمة هو الآخر قبل الأوان !، حتى أنها اعتقدت أياما أن حذقان هو المرشح للجنون بغرقه في كل تلك الكتب و إغراق البيت بها كما غمز سذجان بذلك يوما.
وافقت أخاها، و سارع هو في الحين إلى إحضار سيارة من تلك التي تقصد البوادي، حمله خاله و هو شبه نائم تحت تأثير المهدئات، كما يحمل طفل طويل القامة في مهالك الاستبداد و المجاعات، وضعه في المقعد الخلفي و ركب إلى جانبه، و ركبت الأم في الجانب الآخر، و انطلقت السيارة في اتجاه القرية و فقيهها.
و بينما السائق يسابق الزمن للتخلص من الراكبين تجنبا لكل ورطة، فحال ثالثهم لا تبعث على الاطمئنان، و هو لا يتوفر على رخصة نقل، كانت الأم تتمزق بين ضم فلذة كبدها إلى كتفها الواهن، و الحيرة فيما ستجيب به حذقان الذي لا يقبل مطلقا بالتي هي فاعلته، و كذلك زوجته التي طمأنتها على كون الأدوية و المهدئات ستعطي أكلها، و أن لا خوف على سذجان، فحالته هي حالة كل من حرم جذوره من الانغراس في الأرض و يتوجع الوجع الكبير للتافه الصغير، فتجرفه الرياح كما تجرف أوراق الخريف في كل الاتجاهات ما دامت انفصلت عن أصلها...
و بينما الأم على حالها، توقفت السيارة، وصاح أخوها و هو يفتح الباب: "كل الأمور ميسرة، ها هو سيدي الفقيه واقف أمام بيته، سيتحقق المراد و نعود في أسرع وقت، قد نعود قبل أن يحضر حذقان إلى البيت يا أختاه !. نزل السائق و تعاونا مع الخال و الأم التي ظلت إلى جانب ابنها على جعله يقف على الأرض، فهو بدأ يفيق من آثار المهدئات و يحملق فيهم بعينين ذابلتين دون أن يتكلم. لم يكن بيت الفقيه بعيدا عن قارعة الطريق، و هو متميز جدا عن كل بيوت القرية، فهو أولا معزول عنها كلها، مطلية جدرانه بأناقة، و خاضع في بنائه لنظام. تحيط به أشجار منظم غرسها و بادية عليها علامات العناية، و بئر نظيف مغطى بالقرب من الباب. و الفقيه ببنيته القوية و لباسه التقليدي الأنيق يسرح بصره في قطيع أبقار و أغنام غير بعيد عن البيت. " هو قطيعه" يقول خال سذجان لأخته. و " كل تلك الأرض أرضه، زاده الله خيرا على خير بفعل بركته و عمله الصالح في مقارعة الجن". تقدموا باتجاه الفقيه و الخال يكاد يحمل ابن أخته رغم إبدائه القدرة على المشي، و استدار الفقيه باتجاههم و هو يفرك يديه. حياه الخال بتعظيم كبير، و كذلك فعلت أخته بعد أن رأت في وجهه الكبير النابض وجه المرحوم زوجها أيام شبابه و قوته...، و طمأنهما و هو يربت على كتف سذجان الصامت بأن "أمرهم مقضي" !، و ليتفضلوا إلى الغرفة المعزولة عن البيت، المفتوح بابها على أراضيه. دخلوا الغرفة، كانت نظيفة يغطي حصير جديد أرضيتها و عليه أفرشة واطئة. و لم تكن لها نوافذ. أمسك سذجان و أجلسه في ركن و أمر أمه و خاله بالجلوس في ركن آخر بعيد عنه، و أغلق الباب بعد أن أشعل شمعة. جلس إلى جانب سذجان بعد أن قرب إليهما إناء غريبا به بضع جمرات، بعثر عليها بخورا تصاعد منها دخان كثيف غطى كل الغرفة المغلقة و كاد يخنق سذجان العليل صدره من فداحة التدخين، شمر على ساعديه القويين كمن يستعد لمبارزة و هو يتمتم بكلام لم تفهم منه الأم شيئا و سبق لأخيها أن سمع نظيرا له عندما حضر "صرعه للجن" الذي سكن زوجة جاره المقعد، و لم يفهم منه هو الآخر شيئا. لعن الفقيه الإنس الحسود و الجن الخارج عن الطريق، وقفت الأم و اتجهت نحوه في خشوع و وضعت بالقرب من يديه أوراقا نقدية ثم عادت إلى مكانها كما أوصاها أخوها تماما. تظاهر الفقيه بعم الانتباه لما فعلته و تصاعد صوته و هو يمسك بإحدى يدي سذجان المستسلم له، و يتحسس ما بين أظافره و ما تبقى من لحم قليل على عظامها. سأل و هو ينظر في عيني سذجان : " هل أنت جني مسلم أم نصراني؟"، و واصل تمتمته، ثم أضاف كمن سمع الجواب : "ما دمت مسلما، فلك الاختيار، أن تخرج في الماء و تعلن التوبة، و إلا أخرجتك في النار و أحرقتك، لا شأن لك بهذا المسكين ! انظر إلى حال أمه، و خاله أيضا". أضاف بخورا على الجمرات و تصاعد دخان كثيف جعل الرؤية شبه مستحيلة، ثم تبت ظفر أصبعه الأكبر الذي يحرص على عدم تقليمه و الشبيه في صلابته بطرف حافر حاد أو رأس منجل، و غرزه عميقا بين أحد أظافر سذجان و ما تبقى من لحم على عظم أصبعه و هو يصبح :" سأحرقك، سأحرقك...، ها أنت تحترق !! خيرتك و لم تسمع !". صرخ سذجان صرخة من بتر أحد أعضاء جسمه دون تخدير،و قفز واقفا بعد أن خلص يده منه و هو يشعر و كأن انفجارا وقع في دماغه من شدة الألم في أصبعه و الذي امتد إلى كل جسده. اتجه نحو أمه و عانقها باكيا و هو يدعو لأبيه بالرحمة. قبل رأسها و يديها مرات عديدة، وقبل رأس خاله أيضا، ثم التفت إلى الفقيه الذي اتجه إلى الباب و فتحها في هدوء، وأجابه و هو ينظر إلى أحد أصابعه الذي انفصل ظفره عن لحمه و يقطر دما : " بل "سأخرج" منذ اليوم إلى الطريق الذي اجترحها حذقان، أنا بالفعل أكبر سنا منه، إلا أنه هو الآخر أكبر مني ! و يلزمني أن أتعلم منه، ما المانع في ذلك؟". و كان هذا أول سؤال غير مغلوط يطرحه سذجان في حياته و عليها. و أضاف الفقيه بدهاء بعد استيعابه جيدا لكل ما قاله عن هذا " الحذقان"، و لدلالات تقبيله لرأس و يدي أمه: " حمدا لله على سلامتك، ما كان ينبغي أن تنزل إلى هذا الحضيض...".
كانت الأم في حالة ذهول مطبق، لا تصدق الذي يجري أمامها و سذجان يدعوها للإسراع بالعودة إلى البيت. خرجوا من الغرفة و الأم تعد الفقيه ب"الذبيحة"، و الخال يمازح ابن أخته "الطبيب" حول طلباته له المتكررة أدوية و لوازم طبية بسيطة لم يف بها. عرجوا إلى الجهة الأمامية للبيت بعد توديع الفقيه، و على قارعة الطريق حيث تخلص منهم صاحب السيارة التي أقلتهم إلى هنا، كان حذقان و زوجته واقفين في هدوء، و حذقان يتأمل بيت الفقيه المميز عن كل بيوت القرية، و الأشجار المحيطة به في نظام، و مخزون التبن المحفوظ بعناية و إتقان، و قطيع أبقاره و أغنامه الذي يحاكي إلى حد ما ما رآه ببلاد "الملائكة" كما يتوهمها سذجان، و حضرته تلك النظرية المشهورة في تفسير أصل التفاوت بين الناس على أساس أن الذين سبقوا الآخرين في الذكاء استعبدوهم. أما هنا و الآن، فالذي يسبقهم هو الفقيه.... و كانت تبدو على حذقان علامات اطمئنان قبل خروج أمه و خاله و سذجان ، و كأن أخاه بين يدي فرويد جديد.. ! أمي هذه المرة...و يقصده حتى الطبيب !.و عوض التنويم المغناطيسي و استدراج المرضى للبوح بمقموعاتهم، يكتفي بصعقهم بفصل أظفارهم عن لحم عظامهم ليفيقوا من نومهم و يتخلصوا من أوهامهم و عقدهم و زائف أسئلتهم.