وقف صلاح كعادته إلى جانب الطريق وسط السوق ، عن يساره صالون حلاقة ، و عن يمينه بائع خضار ، وأمامه حمار يهش بذيله الذباب عن مؤخرته بهدوء قد ربط بحائط قديم متسخ يعج بالقاذورات . وضع صلاح على الأرض اسطوانة غاز قديمة متهرئة قد تنفجر في أي وقت .. وأخذ يمارس مهنته الجديدة بتجهيز القهوة ، ثم يلّف ويدور ليبيعها من الصباح إلى المساء حتى تنتفخ ساقاه لكثرة المشي ، وهو يصنع قهوة لذيذة بنكهة الهيل يجعلها تغلي على نار هادئة عدّة مرات ، إلى درجة أنها أعجبت الحاج سمير تاجر الجملة ، هو لم يحج ، ولكن الناس منحوه لقب حاج ربما لكثرة أمواله ، ومعروف عنه أنه لا يعجبه العجب أو الصيام في رجب .. وكثيرة هي المعارك الصغيرة التي تنشب بينهما من حين إلى آخر ، لأن الحاج سمير يرفض أحيانا أن يدفع إلى صلاح ثمن القهوة التي يشربها ، فيستشيط صلاح مغتاظا ، ثم ينهال بلسانه المبري على الحاج سمير بقائمة من الشتائم ، وأحيانا يسترسل فيعيرّه بفمه الواسع واصفا إياه بأنه مثل فوهة الزير ، فيهمّ الحاج سمير للحاق به ممسكا عصاه ، لكنه لا يستطيع بسبب مسمار اللحم الذي استوطن باطن قدمه ، لقد زهق صلاح من الحاج سمير حتى صار يتمنى أن يراه يطق ويموت أمام عينيه .. الحاج سمير قلبه يتمزق غضبا من صلاح ، لأنه اقتحم المخزن ذات يوم ليري الناس البضاعة التي يخبؤها أكواما مكدسة في مخزنه كي يرفع ثمنها أضعافا مضاعفة .
بالأصل كان صلاح عامل بناء ، وبسبب عدم دخول الأسمنت إلى غزة المحاصرة توقف عمله ، فاشتغل سائقا عند أحد أصحاب السيارات ، الذي طرده فيما بعد بحجة أن وجهه نحس ولا يجلب الكثير من النقود ، هذا رغم أن صلاح يحمل في الجيب السليم لسترته الممزقة حجابا يجلب الرزق ، وأمه تشعل البخور كل أسبوع لطرد الحسد .. بعد هذه الطردة تخلص صلاح من الحجاب ، مرجعا عدم توفقه إلى قلة بخته ، ومما زاد قناعته بذلك أمه التي تردد دائما على مسمعه أنه سيء الحظ ومتعثر بسبب إتقانه سبع حرف ، صحيح أنه يتقن حرفا كثيرة إلا أنها كلها متوقفة لأن الناس مخنوقة ومحبوسة في هذا السجن الكبير الممتد من القصف إلى الصمت .
مزاج صلاح اليوم مختلف عن بقية الأيام ، فالشيء الوحيد الذي يشغل باله هو كيفية الحصول على الدجاجة التي تطالبه بها زوجته من أسابيع ، حتى أطفاله الصغار وعددهم ثمانية صاروا يطالبونه بها بكل ما لديهم من قدرة على الإلحاح ، في الصباح يلّحون وفي المساء ، جميعهم متشوقون إلى أكلة مقلوبة أو أي أكلة مطبوخة بالدجاج ، مما جعل عضلات وجه زوجته تنكمش منقبضة و متقلصة عندما تراه ، وعابسة في وجهه عبوسا قل مثيله في وجه أنثى على مسرح هذه الدنيا ، وصارت تردّ عليه تحيته بفتور عند عودته في المساء فارغ اليدين ، وآخر مرة يوم أمس لم ترد عليه تحيته متصنعة انشغالها بفرم البصل ، إنما استقبلته بفم ملتوية منه الشفاه ، وسحنة مكشرة تقطر بالحزن ، وعينان يتطاير منهما الغضب .. وأكثرت من تأنيبه قائله له أنه قليل الحيلة ، وما فتئت تعيرّه بأخيها الذي يعمل مدرسا بوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين ، الذي يجلب الدجاج لبيته في كل يوم جمعة ، فلا يملك صلاح سوى أن يمرّ بأطراف أصابعه على شعر ذقنه غير المحلوق من أسبوع ، كأنه يبحث عن شيء مفقود على صفحة وجهه المليء بالبثور الصغيرة كحبيبات البرغل ، فيلجأ للصمت المقيت ، ويتدثر بالسأم ، مستسلما لغضبه المكبوت .
أخذ صلاح ينتظر غليان القهوة بأعصاب مشدودة و محروقة ، متأففا ، كأنه يحثها على الإسراع ، يمسح بجانب سبابته العرق عن جبينه و حاجبيه الكثين ، يدور حول اسطوانة الغاز ويطوف مكتف اليدين مرة ويسدلهما مرة .. يتوقف للحظات ، يتناوب ساقاه الرفيعان بتبادل حمل جسده النحيل كأنه يقف على جمر مستعر ، أحيانا يمسك بيديه رأسه وقد احمرت منه العينين ، لكثرة ما فركهما في هذا الجو المغبر ، وأحيانا يحك ذقنه بذهن شارد .
في هذه الأثناء لمح الحاج سمير قادما إليه ، لكنه استبشر خيرا ، لأنه لاحظ ابتسامة طفيفة ونسمة أمان يبثها وجهه الأبيض المكتنز باللحم والمشرّب بالحمرة .. عدا عن ذلك فإن الحاج سمير لم يوبخه بأي كلمة عندما رآه أول مرة في الصباح الباكر ، إنما حياه بوجه هاش .. لمّا وصل الحاج سمير عرض على صلاح أن ينقل له عددا كبيرا من صناديق عبوات ماء النار ، من أحد مخازنه البعيدة إلى مخزنه القريب ، مقابل أجر قليل .. راح مخ صلاح يحسب الأرقام ، يجمعها ويطرحها في عقله بمساعدة أصابع يديه ، فوافق بعدما تأكد من إمكانية شراء دجاجة بأجرة هذا العمل ، بعد أن يضيف إليه إيراد ما يبيعه من قهوة ، وربما يسعفه الحظ ليشتري كيلو تفاح إن بقي بعض النقود .. بينما هو ينقل الصناديق وهي تسيل لأنها غير محكمة الإغلاق صاح به بعض المارة ممن يعرفونه أو لا يعرفونه ..
- يا مجنون .. سوف تحرق جلدك .
- رائحتها تسبب الأمراض الخطيرة ! .
- ستموت !.
لكن صلاح لم يحفل بكلامهم .. وأخذ يحدث نفسه بأن كلامهم لا يجلب له الدجاجة أو حتى جناحها ، واستمر يعمل بجد ، لا يتوقف إلا للحظات بين حين وآخر كي يملأ رئتيه بالهواء ، ويمد عضلاته المرهقة بالقليل من الراحة ما يكفي لاستمراره بنقل الصناديق الثقيلة .
عندما انتهى من هذا العمل وحصل على النقود ذهب جريا ليشتري الدجاجة ، لكنه تفاجأ بارتفاع ثمنها ، وما قبضه من نقود لم تعد تكفي لشرائها .. لكن البائع وافق على بيعه الدجاجة مقابل تقسيط ما تبقى من ثمنها على ثلاث دفعات .. استلم الدجاجة وفي نفسه راح يسبّ التفاح ويوم التفاح واعتبره غير ضروري .
عاد صلاح إلى بيته بخطوات سريعة ، واثقة ، يحمل الدجاجة بوجه مفرود مطمئن ، استقبلته زوجته بفرح غامر ، وكادت أن تقبله ، لولا الخجل الذي دفعها للاكتفاء بأن تقرصه بخفة من خاصرته بتودد ، قائلة له بوجه ضاحك مبسوط القسمات ..
- يعطيك العافية .. الله يخليك .
- لقد ذقت المر من اجلها .
وضعت زوجته الدجاجة على الغاز لطهيها ، وأخذت تغني وتدندن بصوت حلو جذاب : " ذنبك إيه ذنبك بحبك ، هوه بعد الحب ذنب ... علشانه أموت أنا " ، لكن اسطوانة الغاز فرغت في الحال ، فخيم الوجوم والحزن على كل وجوه الأسرة .. ثم زعقت زوجته بحسرة بعد أن ضربت بكفها على صدرها ..
- لقد فرغت اسطوانة الغاز! واسطوانتك التي في السوق صغيرة لا تصلح .
- يا لها من مصيبة ! لا يوجد غاز في البلد .. و محطات الغاز مقفلة .
- لا تحزن ! سوف أقوم بطهيها عند الجيران .
ذهبت زوجته إلى الجيران حاملة الطنجرة بين يديها ، وقد ترامى إلى مسامعها صوت أحد أطفالها معبرا عن خشيته بأن يقوم الجيران بأكل الدجاجة .. لكن صلاح وبخه و نهره بحزم :
- عيب يا ولد ! هذه قلة أدب .
أعدّت زوجته طبخة مقلوبة شهية ، سال لرائحتها لعابه ، حين شمّ أنفه وشفط رائحتها المحببة التي تردّ الروح .. ما أن قلبت زوجته الطنجرة في الصينية حتى هجم عليها أولاده الثمانية وزوجته ، حاول وجاهد أن يدس جسده بينهم ، لكنه لم ينجح أمام هجومهم الكاسح .. وما هي إلا لحظات حتى ابتعد أولاده عن الصينية بعد أن أكلوها ومسحوها .. فراح صلاح يكشط ويأكل ما تبقى من أرز محروق في قاع الطنجرة ، ثم طلب من زوجته أن تجهز له مقلي طماطم مع قرن فلفل أخضر .
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
مزاج صلاح اليوم مختلف عن بقية الأيام ، فالشيء الوحيد الذي يشغل باله هو كيفية الحصول على الدجاجة التي تطالبه بها زوجته من أسابيع ، حتى أطفاله الصغار وعددهم ثمانية صاروا يطالبونه بها بكل ما لديهم من قدرة على الإلحاح ، في الصباح يلّحون وفي المساء ، جميعهم متشوقون إلى أكلة مقلوبة أو أي أكلة مطبوخة بالدجاج ، مما جعل عضلات وجه زوجته تنكمش منقبضة و متقلصة عندما تراه ، وعابسة في وجهه عبوسا قل مثيله في وجه أنثى على مسرح هذه الدنيا ، وصارت تردّ عليه تحيته بفتور عند عودته في المساء فارغ اليدين ، وآخر مرة يوم أمس لم ترد عليه تحيته متصنعة انشغالها بفرم البصل ، إنما استقبلته بفم ملتوية منه الشفاه ، وسحنة مكشرة تقطر بالحزن ، وعينان يتطاير منهما الغضب .. وأكثرت من تأنيبه قائله له أنه قليل الحيلة ، وما فتئت تعيرّه بأخيها الذي يعمل مدرسا بوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين ، الذي يجلب الدجاج لبيته في كل يوم جمعة ، فلا يملك صلاح سوى أن يمرّ بأطراف أصابعه على شعر ذقنه غير المحلوق من أسبوع ، كأنه يبحث عن شيء مفقود على صفحة وجهه المليء بالبثور الصغيرة كحبيبات البرغل ، فيلجأ للصمت المقيت ، ويتدثر بالسأم ، مستسلما لغضبه المكبوت .
أخذ صلاح ينتظر غليان القهوة بأعصاب مشدودة و محروقة ، متأففا ، كأنه يحثها على الإسراع ، يمسح بجانب سبابته العرق عن جبينه و حاجبيه الكثين ، يدور حول اسطوانة الغاز ويطوف مكتف اليدين مرة ويسدلهما مرة .. يتوقف للحظات ، يتناوب ساقاه الرفيعان بتبادل حمل جسده النحيل كأنه يقف على جمر مستعر ، أحيانا يمسك بيديه رأسه وقد احمرت منه العينين ، لكثرة ما فركهما في هذا الجو المغبر ، وأحيانا يحك ذقنه بذهن شارد .
في هذه الأثناء لمح الحاج سمير قادما إليه ، لكنه استبشر خيرا ، لأنه لاحظ ابتسامة طفيفة ونسمة أمان يبثها وجهه الأبيض المكتنز باللحم والمشرّب بالحمرة .. عدا عن ذلك فإن الحاج سمير لم يوبخه بأي كلمة عندما رآه أول مرة في الصباح الباكر ، إنما حياه بوجه هاش .. لمّا وصل الحاج سمير عرض على صلاح أن ينقل له عددا كبيرا من صناديق عبوات ماء النار ، من أحد مخازنه البعيدة إلى مخزنه القريب ، مقابل أجر قليل .. راح مخ صلاح يحسب الأرقام ، يجمعها ويطرحها في عقله بمساعدة أصابع يديه ، فوافق بعدما تأكد من إمكانية شراء دجاجة بأجرة هذا العمل ، بعد أن يضيف إليه إيراد ما يبيعه من قهوة ، وربما يسعفه الحظ ليشتري كيلو تفاح إن بقي بعض النقود .. بينما هو ينقل الصناديق وهي تسيل لأنها غير محكمة الإغلاق صاح به بعض المارة ممن يعرفونه أو لا يعرفونه ..
- يا مجنون .. سوف تحرق جلدك .
- رائحتها تسبب الأمراض الخطيرة ! .
- ستموت !.
لكن صلاح لم يحفل بكلامهم .. وأخذ يحدث نفسه بأن كلامهم لا يجلب له الدجاجة أو حتى جناحها ، واستمر يعمل بجد ، لا يتوقف إلا للحظات بين حين وآخر كي يملأ رئتيه بالهواء ، ويمد عضلاته المرهقة بالقليل من الراحة ما يكفي لاستمراره بنقل الصناديق الثقيلة .
عندما انتهى من هذا العمل وحصل على النقود ذهب جريا ليشتري الدجاجة ، لكنه تفاجأ بارتفاع ثمنها ، وما قبضه من نقود لم تعد تكفي لشرائها .. لكن البائع وافق على بيعه الدجاجة مقابل تقسيط ما تبقى من ثمنها على ثلاث دفعات .. استلم الدجاجة وفي نفسه راح يسبّ التفاح ويوم التفاح واعتبره غير ضروري .
عاد صلاح إلى بيته بخطوات سريعة ، واثقة ، يحمل الدجاجة بوجه مفرود مطمئن ، استقبلته زوجته بفرح غامر ، وكادت أن تقبله ، لولا الخجل الذي دفعها للاكتفاء بأن تقرصه بخفة من خاصرته بتودد ، قائلة له بوجه ضاحك مبسوط القسمات ..
- يعطيك العافية .. الله يخليك .
- لقد ذقت المر من اجلها .
وضعت زوجته الدجاجة على الغاز لطهيها ، وأخذت تغني وتدندن بصوت حلو جذاب : " ذنبك إيه ذنبك بحبك ، هوه بعد الحب ذنب ... علشانه أموت أنا " ، لكن اسطوانة الغاز فرغت في الحال ، فخيم الوجوم والحزن على كل وجوه الأسرة .. ثم زعقت زوجته بحسرة بعد أن ضربت بكفها على صدرها ..
- لقد فرغت اسطوانة الغاز! واسطوانتك التي في السوق صغيرة لا تصلح .
- يا لها من مصيبة ! لا يوجد غاز في البلد .. و محطات الغاز مقفلة .
- لا تحزن ! سوف أقوم بطهيها عند الجيران .
ذهبت زوجته إلى الجيران حاملة الطنجرة بين يديها ، وقد ترامى إلى مسامعها صوت أحد أطفالها معبرا عن خشيته بأن يقوم الجيران بأكل الدجاجة .. لكن صلاح وبخه و نهره بحزم :
- عيب يا ولد ! هذه قلة أدب .
أعدّت زوجته طبخة مقلوبة شهية ، سال لرائحتها لعابه ، حين شمّ أنفه وشفط رائحتها المحببة التي تردّ الروح .. ما أن قلبت زوجته الطنجرة في الصينية حتى هجم عليها أولاده الثمانية وزوجته ، حاول وجاهد أن يدس جسده بينهم ، لكنه لم ينجح أمام هجومهم الكاسح .. وما هي إلا لحظات حتى ابتعد أولاده عن الصينية بعد أن أكلوها ومسحوها .. فراح صلاح يكشط ويأكل ما تبقى من أرز محروق في قاع الطنجرة ، ثم طلب من زوجته أن تجهز له مقلي طماطم مع قرن فلفل أخضر .
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.